رواية ابتليت بعشقك الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم بسنت علاء
رواية ابتليت بعشقك الفصل الثاني والعشرون 22
اليوم التالي..
صباحًا..
من إن اطمئنت أنهم ابتعدوا عن القرية بمسافة مناسبة قالت بغضب كظمته بصعوبة مذُ البارحة
-: إذًا !! ما الذي فعلته مع محمد؟ أو بالأحرى عليّ القول ما الذي فعلته به ؟
رمقها بنظرة غير مكترثة بطرف عينيه قبل أن يعيد نظره نحو الطريق بدون رد ! ازداد غيظها لتزعق به بصوتها الرفيع
-: سيــــف !
-: نعم !
قالها ببرود لتكمل صياحها
-: أخبرني هيا ، ضربته ؟ هددته كما رجال العصابات !
فقد سيطرته ليضرب على المقود بقوة وهو يصيح
-: نعم لكمته وهددته ! ألديك مشكلة ؟ لقد تعدى على ممتلكات سيف الغمراوي أكنت تريدينني أن أصمت؟ أم ابتسم في وجهه!!
-: أهذا ما تراه فيّ حقًا !! مجرد شيء تملكه
قالتها بصياح ظهر جرحها جليًا فيه ليندم فورًا مدركًا غباءه !
قال بصوت أكثر رقة محاولًا تطييب خاطرها
-: أنت امرأتي يا سنابل ، زوجتي ... كيف أكون رجلًا إن رأيت أحدًا ينظر لك ولم أفعل شيئًا ! أشكري الله أنني لم أفقأ عينه اللعينة التي تمعن بها في كل جزء من جسدك !
كانت كلماته في آخرها تحولت إلى صياح قوي صم أذنيها ليتهند بقوة محاولًا ضبط نفسه
-: أنت أيضًا لم يكن عليك التزين هكذا ! لقد كان مظهرك ..... لقد كان مظهرك ....
تأفف بغيظ ضاربًا على المقود ثانية لتتكتف وهي تنفخ صائحة باستنكار
-:بحق الله لم أضع سوى أحمر شفاه وبعض الكحل ، ألم ترِ باقي النساء !
-: ومالي ومال باقي النساء ! لا تهمني سوى خاصتي !
قالها بنبرة خافتة لم تخل من الغيظ لكنها ... أرق قليلًا ! في النهاية لم يكن لها ذنب فيما حدث ... آه تبًا لتلك الرقة الغبية ! لم يكن يومًا رقيقًا مراعيًا لمشاعر أحد ! يشعر أنه أمام نفسه كالأبله وهو لا يجد تفسيرًا منطقيًا لما يحصل ! أما هي فأفرجت شفتيها عن ابتسامة خلسة وهي تنظر من نافذتها
مرت بضع دقائق من السكون قبل أن يسمع صياحها ثانية ويبدو أنها تذكرت شيئًا
-: و تلك الـ "أسماء" التي تعمدت إهانتي لأنها تحبك أنت ، منذ صغرنا تكرهني لأنها تعلم.....
كبحت لجام لسانها بصعوبة وقد تفوهت بما لا يجب التفوه به لينظر لها مبتسمًا بمشاكسة قائلًا باستمتاع
-: لأنها تعلم ماذا ؟
-: لا شيء !
صاحت وهي تتكتف زامة شفتيها لاعنة نفسها ألف مرة بداخلها....
كان في قمة استمتاعه لتوقعه ما كانت ستتفوه به ليقول بخفوت مشاكس
-: أتغارين ؟
شهقت بقوة وهي تتخصر في جلستها قائلة باستنكار مبالغ فيه يُظهِر العكس جليًا
-: أغار !! حقًا ! أنا أغار !! ، لا بالطبع كل ما فو الأمر هو أنني مغتاظة من تصرفاتها الطفولية ... فقط ... هذا ... كل .. شيء !
تقطعت كلماتها في آخرها مع خفوت صوتها لدرجة الهمس ليقهقه بصوته الجهوري وقد ساهمت قطعة الشوكولاتة في قلب مزاجه للنقيض بالفعل !
بعد مرور عدة دقائق سمع صوتها ماكرًا بعد أن استعادت هدوءها
-: أنا لست أغار ، فأنا لم أضرب شاب صغير لمجرد بضعة نظرات
مركزة نظراتها عليه تراقب خلجاته بحرص فها هو توتر ليفتح فاه ويغلقه ثم صاح بغيظ
-: أتقصدين أنني من أغار ؟ هه أنا أغار من ذلك الفتى ! كان فقط يحتاج من يعيد تربيته لكي يضبط إتجاه نظراته بعد ذلك !
صمتت مبتسمة مراقبة للطريق ليزفر بقوة ! تلعب حرب أعصاب معه ! تعري حقيقة شعوره أمام نفسه ! ممعنة في زيادة صورته بلاهة أمام حاله ! حسنًا ... هو سيعرف كيفية التعامل معها ، توعدها بهمس غير مسموع
"حسنًا يا سنابل لنرى من سيظفر!"
ليسرع بالسيارة مبتسمًا بمزاج رائق وهو يتخيل ما يمكن فعله ! سيستمتع حقًا مع قطعة الشوكولاتة......
**
نفس الوقت..
تعمل كما العادة وقد وجدت ملاذها في العمل ، ويشجعها أكثر غياب سيف عن المكتب مما هيأها نفسيًا لمقابلته ثانية ، كانت أصابعها تعزف نغماتها الخاصة على لوحة المفاتيح الخاصة بحاسوبها إلى أن قاطع مقطوعتها نغمة شذت باللحن !
نغمة صوت لم تتمنَ أبدًا سماعها الآن ... ولا في أي وقت !
كانت ياسمين ! تقف بكل صلف على باب المكتب مبتسمة ابتسامة غريبة ، ترسل لها نظرات منتصرة ، لكن مهزوزة !
تجمدت عينا شغف عليها وهي تتقدم بخيلاء كاذب لتجلس أمام المكتب قائلة
-: مرحبًا صديقتي !
أجبرت شغف نفسها على الابتسام بسخرية فقطعًا لن تظهر بمظهر الضعيفة أمامها ، أما ياسمين فأكملت غير معيرة لسخريتها أدنى اهتمام
-: اشتقت لكِ ، لا تنظري لي هكذا فقط نظراتك تقتلني
قالت جملتها الأخيرة متهكمة فاردة كفها على صدرها في حركة مسرحية ، لتكمل بعدها وقد تبخرت ابتسامتها ليحل محلها ملامح أكثر ... حقدًا ربما !!
-: أتعلمين ! لقد رميت بتهديدات حبيبك عرض الحائط وخاطرت فقط لآتي وآراك قبل رحيلي.....
وضعت قدمًا فوق الأخرى وكأنها غير مكترثة لشيء ، وكأنها تثرثر معها كأيام خلت
-: أتيت فقط لأرى تلك النظرة في عينيك ، لأرى هزيمتك ولأخبرك ألَّا تبدعي في رسم دور المظلومة لتدفني نفسك بداخله ، كما عهدتك ... ممثلة جيدة ، كل ما حصل كنتِ السبب الرئيسي فيه فلا تأتِ الآن لتكوني أنت الملاك البريء بطلة القصة ليسدل الستار بعدها مع تصفيق الجماهير !
ضربت بيدها على المكتب بينما لهجتها تلونت في آخرها بكل الحقد والغل و ... الكره !
جاهدت شغف للتحدث بنبرة هادئة محتفظة بجزء من ابتسامتها
-: من قال أنني أعيش دور المظلومة ؟ بل أعيش دور المنتصرة وأراه يليق بي !
لقد خلت حياتي من أحقر اثنين كانا يلوثناها أليس انتصارًا ؟
تبخرت ابتسامتها الدبلوماسية بالسرعة التي ارتسمت بها لتسألها بعدها بألم حاولت مواراته عبثًا
-: لن أعاتبك يا ياسمين فالحقارة تنبع من داخل الشخص ، لكني فقط سأسألك كيف استطعتِ مواراة مشاعرك وتمثيل عكسها !! لماذا؟ لماذا تنتقمي مني ؟ لماذا تؤذيني وأنا اعتبرتك أختًا قبل أن تكوني صديقة ، أدخلتك بيتي ، وثقت بكِ وآمنتك على كل أسراري و أدقها لتخوني الأمانة بطرفة عين ، لماذا ؟
دمعة ... دمعة غادرة متأثرة أوشكت على الانبجاس من زاوية عينيها إلا أنها قتلتها في مهدها ، لتصفق بعدها ياسمين في حركة مسرحية قائلًا بتشدق
-: ألم أقل لكِ ممثلة بارعة ، دمعتي على وشك النزول....
مسحت دموعًا وهمية وهي تمثل التأثر كما مثلت التفكير متسائلة
-: لكن ألا يسمى هذا عتابًا أم أنني مخطئة ؟
-: اعتبريه فضولًا لا أكثر
أشبكت كفيها ثم أكملت
-: كما تقولين إنه اللقاء الأخير ، فمن حقي أن أعرف ، تعرفين يا صديقتي أن فضولي كبير ولا يهدأ إلا بالمعرفة...
تصدع قناعها الواهي ليكشف عن وجهها الحقيقي فقد نهضت متوثبة تميل على شغف يفصل بينهما المكتب وهي تقول بفحيح كأن أشبه بصرخة احتضار وعينان ينطلق منهما الشرر
-: أحقًا لديك الجرأة لتسألي؟ ألا تخجلين من نفسك وأنت تمثلين هذا الدور !! ، لكنني سأخبرك ... سأخبرك يا شغف....
استقامت واقفة لتقول وسط صمت الأخرى التي تكبح دموعها
-: مذُ عرفتك وأنت تتعمدين إذلالي ، تتعمدين جعلي أشعر بالنقص ، بالدونية ، تذكرينني بفقري ويتمي ، تذكرينني بحالي متباهية بما وهبه الله لك....
ثم أخذت تدور في المكتب معددة على أصابعها ولهجتها تتلون بالحرقة شيئًا فشيئًا
-: ياسمين هيا نخرج للتسوق في أغلى متاجر البلد ، تلك التي لم أحلم تخطي عتبتها ، ياسمين هيا نذهب لمقهى **** الذي فيه سعر كوب من الشاي يكفي لإطعامي وعائلتي يومًا كاملًا ، ياسمين غيث تغير ، ياسمين لدي مشكلة رهيبة ... أبي يخاف علي من السفر خارج البلاد للسياحة ، ياسمين وجدت لكِ عملًا في شركة خطيبي ، عمل مغمور لتترقي بعدها كسكرتيرة له ، بالطبع فهذا هو مقامي ... خادمة لكِ وله ، ياسمين ، ياسمين ، ياسمين...
لم تتركي موقفًا واحدًا يمر إلَّا وقد كسرت ِ شيئًا بداخلي ، دائمًا ما تتعمدين ذلك ، في كل مرة كنتِ تسرفين في دفع النقود كأوراق اللعب ، في كل مرة جئت لبيتي وكنت أرى نظرة الاشمئزاز المخالطة للشفقة في عينيك ، كل مرة كنت تجلبيني لبيتك لأرى ذلك و ذلك .... الكثير والكثير من الجروح لي ولكبريائي و أنا صابرة ، لكن كان يجب الانتقام ، كان يجب الثأر لكرامتي الجريحة ، سنين وأنا انتظرك تغيرك ، سنين أوجه لك الرسايل المبطنة ، ارحمي من حولك قليلًا لكن لا فائدة
كان كلامها في آخره قد تحول لصراخ مذبوح وقد أسدل الحزن والوجع ستارهما على وجهها ، انهمرت دموعها كأنهار من نار تشق وجنتيها وهي تضرب صدرها بقبضتها ، موجوعة حد الموت لتذكر كل ذلك دفعة واحدة ، لتكمل بعدها بصوت مبحوح ناظرة بتشوش لتلك المتجمدة على كرسيها لا يتحرك بها سوى عينيها الحمراوتان الذارفتان للدموع بغزارة
-: لقد حاولت يا شغف ، حاولت دائمًا في البداية أن نكون محض صديقتان مقربتان ، أردتك صديقة وأختًا تحمل عني آلامي وتساندني لكنك بدلًا من ذلك كنتِ تثقلين كاهلي بما لا استطيع ، كنتِ تجعلينني أكره عيشتي و نفسي حتى بت أمقتهما ، حتى بت أخاف النظر في المرآة ، بت أزدري نفسي وأهلي وبيتي ، كله بسببك ، جعلتِ مني مسخًا لا يهمني سوى الارتقاء إلى طبقتك رغم يقيني باستحالة ذلك ! لم يكن هناك طريقة سوى التقرب من خطيبك ، هو الوحيد الذي سيرتقي بي إلى مجتمعكم المخملي ، كان مهووسًا بكِ ولابد من تخلصيه من هوسه ، كنت قد شارفت على الوصول لكن لا أعرف كيف كُشِفت ، على كلٍ أنا لن أسامحك ما حييت ، ما حييت يا شغف !
تهاوت جالسة على الكرسي وقد فرغت كل ما بجوفها ، أخرجت بضعة محارم ورقية من حقيبتها لتجفف بها دموعها بينما شغف قالت بصوت خفيض هادئ ، هادئ حد الوجع ، حد النار التي أُضرِمت بداخلها
-: هل انتهيت ؟
هزت الأخرى رأسها وهي تستعيد بعضًا من برود ملامحها لتكمل شغف
-: كل ما قلتيه أنتِ رأيتيه هكذا بسبب سواد قلبك ، بسبب الحقد المتأصل بداخلك ، لم يكن الفقر يومًا يعيب المرء ، لم يكن الفارق الاجتماعي ما يمنع الصداقة ويهدمها ، الأمر كله كان يرجع لك ... لقلبك ، إن كنت أحببتيني يومًا كنتِ ستتمنين لي الخير ، لم تكوني لتحقدي علي أبدًا ، كنتِ دائمًا صديقتي ولم آخذ حذري أو أضع حدًا في حديثي معك ، لكن على كل حال أنا آسفة !
كتمت شهقة موجوعة كانت تصارع للخروج بيدها لتكمل
-: آسفة لأنني لم أعلم بمعدنك منذ البداية ، آسفة لأنني وثقت بكِ ثقة عمياء ، آسفة لسذاجتي وغبائي ولكم أنا آسفة لنفسي حقًا ، أنا مغرورة و اعترف إلَّا أنني لم أكن يومًا عنصرية ، لم أكن يومًا محقرة لغيري ، لم أر أبدًا الفقر عيبًا وهذا ما رباني عليه أبي و أمي ،لكن لا يسعني سوى قول أرحلي يا ياسمين سامحك الله وقدرني على مسامحتك !
ابتسمت الأخرى بسخرية من جديد وهي تقف
-: منذ متى ذلك الإيمان والرزانة ! على كل أنا راحلة فقد أصبح مجتمعكم هذا يثير قرفي واشمئزازي ، كله مظاهر براقة والقلوب سوداء ، وأيضًا حبيبك قد حذرني من التواجد بالمدينة أو رؤيتك والاقتراب منك !
سأذهب لأحد أقاربي بقرية ما لأعيش هناك ، وحقًا لا أريد تذكر ما حدث ، الوداع يا صديقتي
قالتها بنبرة مريرة لتخرج لكن قبل أن تخطو قدمها عتبة الباب سألتها شغف بوجع
-: أحقًا لا يوجعك ضميرك ؟
-: ضميري !! نهشه الفقر بجملة ما نهشه....
قالت تلك الأخيرة بنبرة متهكمة تحمل في طياتها مرارة العلقم لترحل بعدها مخلفة طيفًا لذكريات عديدة ، كانت سعيدة ... لكنها الآن تشبعت بالمرارة ، بالفقد والخيانة ، رحلت تاركة شغف تنظر في أثرها وقد انفلت عقال دموعها فأفلت منها زمام السيطرة ، رغمًا عنها ورغم كل ما فعلته لازال ذلك الشعور المقيت يساورها بل يلازمها ... شعور الفقد ، الخواء وما أسوأهما ، ما أكثرهما إيلامًا حينما يجتمعا..
**
في المستشفي....
-: مرحبًا !
ابتسمت وهي تدخل لتلاقيها ابتسامته التي تعشق وهو يرد بخفوت
-: ويا ألف مرحبًا
-: كيف حالك اليوم؟
-: بخير طالما أرى ابتسامتك
اتسعت ابتسامتها مع تسلل اللون الأحمر إلى وجنتيها كالعادة فضحك بخفوت مضيفًا
-: وذاك الإحمرار الخلاب في وجنتيك المكتنزتين ، الشبيهتين بحبتين من الفراولة الشهية !
كانت ابتسامته تحولت للمشاكسة في أخرها لتضربه على كفه بخفة ناهرة إياه بنظرات تفتقر للجدية لكنه كان احتفظ بكفها في كفه لتتنهد بالقول
-: أيمكنني استعادة كفي ؟
-: أود تقبيله فقط سيدتي !
قال بنبرة خافتة مواريًا ألمه الذي بدأ بالنقصان قبل أن يرفع كفها لفمه يلثم باطنه في قبلة طالت وطالت و عيناه متعلقة بعينيها ، فلا هو يريد انتشاله من ذاك النعيم ولا هي تقوى على الاعتراض !
شعرت بنفسها تكاد تذوي من الخجل لتسحب كفها الذي ظل متشبثًا به ليقبل ظهره بخفة قبل أن يفلته مبتسمًا براحة ليتنهد هامسًا
-: آه ، ياللنعيم !
ابتسمت بخفر لتزول ابتسامتها سريعًا مخالطة لتنهيدة مثقلة بالهم !
قطب حاجبيه وهو ينظر إلى شرودها الكئيب ليسألها بعدها
-: ما الذي يشغل عقلك يا مالكة القلب !
لم تخف عليه حزنها فتنهدت ثانية بقوة أكبر والحزن باد على ملامحها
-: غيث !
-: ما به؟
سألها مقطبًا بقلق لتجيبه مهدئة من روعه
-: هو بخير ، لكنه يهملني تمامًا ، إهماله وتجاهله يوجعني جدًا !
فابتسم ابتسامة صغيرة ليقول بهدوء
-: ربما هو يحتاجك إلا أنه لا يستطيع المجيء ! اذهبي إليه يا مالكة القلب وعاتبيه ، اطمئني عليه وكوني بجواره فهو أخيك
فتحت فاها تهم بالكلام لكنه قاطعها مُصِرًا
-: ستذهبين يا ملاك
أمام نبرة الحزم في صوته رغم خفوته ، و رغبتها الملحة في رؤيته والشوق العارم له هزت رأسها موافقة ليبتسم هامسًا بوله
-: سأشتاق....
ابتسمت رغمًا عنها لتسرع بالخروج بدون رد والابتسامة تزين ثغرها و ثغره....
**
دخلت إلى المنزل تجر كرسيها بعدما ساعدها الحارس الذي أكد لها وجود غيث بالداخل في اعتلاء الدرجات القليلة أمام البوابة لتجد الظلام يخيم على البيت وكأنه مهجور ! ذهبت نحو مكبس الإضاءة وضغطت عليه لينير البهو ثم أخذت تنادي بأعلى صوتها
-: غيث !! غيــــــث ! هل أنت هنا ؟
احتاج منها الأمر عدة مرات ليخرج غيث من غرفته ملبيًا النداء !
لكنه لم يكن غيث ! كان شبح ، صورة واهية شفافة لما كان عليه أخيها !
تمعنت في النظر إليه وهو ينزل على الدرج بحركات بطيئة ميتة !
ذقنه غير المشذبة النامية أكثر من اللازم ، شعره الذي استطال مشعثًا بفعل أصابعه ، ثيابه المهلهة وكأنه لا يكترث لتبديلها ، السواد الذي يحفر تحت عينيه !
كانت باختصار حالته مذرية ! هذا ما حدثت به نفسها قبل أن يصل إليها مرحبًا بنبرة خافتة متسائلًا عن سبب قدومها لترد بصوت لم يخل من العتب
-: اشتقت إليك و أتيت لأراك يا أخي ، إن كنت لا تريد رؤيتي فأنا أريد...
ظهر الألم جليًا على ملامحه وهو ينفي برأسه ويفتح فاه محاولًا الكلام عبثًا ليغلقه ثانية !
فعلها عدة مرات ، يجاهد للنطق ، للشرح ، لوصف ولو أصغر جزء مما يشعر به ، مما يعانيه وهو هنا وحيدًا يناجي طيفها ، وهو لا يفعل شيئًا سوى التملي في صورها ، ملامة نفسه وسبها ، لعنها آلاف المرات !! كيف يشرح لها شعوره حينما يتجسد ما فعله أمام عينيه !
كان يُنهِش بأوجاعه ، يحترق كل ليلة بالذكريات دون أي خطوة تُذكر باتجاهها !
لم يستطع قول أي شيء ! فقط أراد البكاء وقد ذكرته ملاك بأمه لما بينهما من شبه قوي وواضح ليتهاوي أرضًا من فوره دافنًا رأسه في حجر ملاك المستعجبة من موقفه لينشج بقوة ، بصوت قطع نياط قلبها لتسيل دموعها لدموعه !
كان يطلق الآهات واحدة تلو الآخرى لعلها تبرد جوفه الذي يحترق لكن عبثًا !
غرست أصابعها في شعره تمسد فروة رأسه بلطف ، تهمس له بكلمات لم يدرِ كنهها لكنها ساهمت في تهدئته قليلًا....
بعد قليل و قد أنهى بكاءه ، كان يجلس بجوارها في البهو ، مسندًا مرفقيه إلى ركبتيه منكس الرأس بخزي مما فعله للتو ليسمعها تكرر سؤالها للمرة.... لم يعد يحسب في الحقيقة
-: ماذا حدث يا غيث ، حقًا لن أتركك إلَّا بعد أن أعرف !
ليتنهد هو بقوة ، تنهيدة مثقلة بهم بحجم الوجع ، يريد أن يحكي ، أن يشارك آلامه مع شخص يتعاطف معه ، مع شخص يخبره أنه لم يكن المخطئ الوحيد رغم استحالة ذلك ، يحتاج لدفعة من الثقة لعله يتشجع ويذهب لها ، لعله يتشجع ويرفع عينه لنفسه في المرآة قبل أن يرفعهما في عينيها....
-: ألم أخبرك يوم لقائنا بسامر يبدو أنني ارتكبت أكبر حماقة في حياتي ؟ حسنًا ! لقد ارتكبتها بالفعل !
سألته مقطبة بتوجس
-:أيتعلق الأمر بشغف
هز رأسه المنكس بقوة دليل على الموافقة ليقول بعدها بنبرة تشبعت حد الفيضان من الألم والوجع
-: ولا يتعلق بسواها ، شغف حياتي ، مركزها ، كل ما فيها ... حطمته ، بل هشمته ، كنت أكبر أحمق في الكون ، أعماني غروري وكبريائي عن رؤية الحقيقة الواضحة كما الشمس ، أعماني انتقامًا واهيًا عن سماع الصدق في نبرتها ، عن رؤيته في نظراتها !
كسرتها ، أهنتها ، عبت في شرفها الذي من المفترض أنه شرفي أنا الآخر ، بحق الله لقد ... لقد ضربتها بيداي هاتان !
أخذ يقهقه بقوة وهو ينظر لكفاه المبسوطين أمام عينيه ليكورهما وينهض ليضربهما أحدهما في الحائط بقوة قائلًا بحرقة
-: هذا من صفعها
ليضرب الآخر بغل أكبر
-: وهذا من شد شعرها
ليشير لنفسه بقوة صارخًا أمام أخته الباكية لكن لم تحاول ثنيه عما يفعله
-: وهذا الحقير الماثل أمامك هو من أهانها ، هو من قبلها عنوة كالساقطات في زاوية مكتبه محققًا لذة انتصار واهية لم تكن إلَّا خنجرًا إضافيًا يُغرز في قلبه ! ، لماذا تلك التعابير ؟ أجزعة أنت من مقدار حقارة أخيك وبشاعته !
ليذهب مترنحًا نحو مقعده كالسكير متمتمًا بنبرة مذبوحة
-: لديك الحق وكل الحق ، فأنا أيضًا مذهول من كم الحقارة المختزنة بداخلي ! مزدريًا نفسي حد الموت ، حد الموت حيًا كما أنا الآن
مرت دقائق من الصمت المهيب بعدها ، دقائق كانت استراحة لكلاهما مما قيل ليقول هو بعدها والابتسامة الساخرة تتربع على شفتيه إنما تحمل مرارة قلبه
-: لا تخجلي ولا تخشي من نعتي بكل الصفات التي تدور بخلدك أختاه ، فها أنا أنعت نفسي بها نهارًا وليلًا حتى حفظتها وآمنت بها !
ناظرها بنظرات غير مفهومة يغلب عليها الوجع
-: أتعلمين !! لم أكن أتخيل يومًا أن ينتهي بي المطاف هكذا ! ، رجل فقد حبيبته لوسوسة أنصت لها من الشيطان قصة قديمة مُثلِت وعرضت في عدد لا يسعني ذكره من المسلسلات والأفلام التي كنت أسمعها ضاحكًا بسخرية متغنيًا بعدم صدقها ! فمن ذاك الأبله عديم التحضر الذي لا يثق بزوجته ، أو حبيبته
ولم يكم ذلك الأبله سواي !
قهقه ثانية وهو يضرب صدره بقوة
-: المعضلة أنني لا استطيع مسامحة نفسي لأرجو سماحها ! ، أنا ... أنا لا أعرف ، لا أعرف حقًا !
كفكفت دموعها لتقترب منه بكرسيها مربتة على كتفه بحنو قائلة بابتسامة متألمة
-: أتعرف! وكأن الموقف يعيد نفسه ، أتذكر زياد في حالة مشابهة وهو يقص لي ما حدث في الماضي ، كان يعيش أضعاف ألمك ، لكنني سامحته .... أخيرًا سامحته بل أنا من أسعى لأخلصه من ماضيه ، لا أعلم حقًا ما مبرراتك لفعل ذلك بشغف ، لا أعلم ما الجنون الذي دفعك لارتكاب تلك الحماقة وبمعرفتي بشغف فهي لن تسامح بسهولة ، لكنه الحب يا أخي ، هو من يغير حساباتنا ومبادئنا ، هو من يحنث بقسمنا دائمًا ، أنت ندمت ... الأهم هنا ألَّا تيأس فما فعلته لا يغتفر ، أسع وراءها حتى تغفر وصدقني ليس مستحيلًا
رفع وجهه ونظر لها بنظرة شطرت قلبها ، كانت نظرته كالطفل الصغير ... غير مصدقة ، فرحة لكن في العمق هناك حزن دفين ، نظرة يملؤها الاستجداء كغريق يتعلق بأخر أمل في النجاة حتى لو كان قشة ضعيفة...
ابتسمت له وهي تومئ برأسها مشجعة ليهمس بعدها بندم جم
-: سامحيني أنت أيضًا ، أسف يا ملاك ، لم ولن أكون لك أخًا يستحقك ، لكن آمل أن يغطي زياد محلي إلى أن استعيدها ، وقتها حقًا سأعوضك ولك الحق في عدم تصديقي
ابتسمت بتسامح ملأ قلبها مذُ رؤيته هكذا
-: لا تقلق حبيبي ، كن بخير فقط ، واستعدها و أحرص على ألا تفعل ما فعلته ثانية و عندما ستعود ستجدني...
ابتسامة يملؤها الامتنان والحب الصادق شقت شفتيه المنحنيتان في حزن ليهمس
-: شكرًا ، حقًا من كل قلبي
ابتسمت بتأثر لتتحول ابتسامتها إلى متحمسة وهي تشجعه
-: هيا اذهب وأحلق ذقنك النامية تلك واستحم وهيا لتذهب لها لكن قبلًا أريدك أن توصلني إلى مكان ما
صعد سريعًا منفذًا ما طلبته ليتركها تنظر في أثره بابتسامة ، لكنها لا تستطيع منع ذاك القلق الذي ينهش في قلبها كالمرض الخبيث
**
شركة الهواري الهاشمي....
عصرًا....
حقًا هذا ما كان ينقصها !! لقد جاء ثانية واقفًا نفس وقفته على الباب !
أرسلت له نظرات لا مبالية كاذبة تحتوي على رسالة مبطنة بأن يرحل فحقًا لقد تعبت من التمثيل واصطناع اللامبالاة !
دخل إلى المكتب ليجلس أمامها لتصل رائحة عطره المفضل إليها دون أن تؤثر بها مثقال ذرة !
لم يتحدث ! اكتفى فقط بالنظر إليها مبتسمًا مما استفزها لتقول بنبرة غلب عليها الغيظ
-: ألا تفهم !! ألا تستوعب أنني لا أريد رؤيتك ولو صدفة !
هز رأسه علامة النفي مما زاد من غيظها ، لكنها حافظت على هدوئها المقيت لتسأل بهدوء
-: حسنًا ، ماذا تريد !
ليرد بنبرة ولهة متشربة حد الثمالة للندم
-: الغفران ، آتيك نادمًا مترجيًا الغفران يا فيروزية العينين عازمًا على نيله ولو طالت بنا السنوات ، ولو كنت ألفظ أنفاسي الأخيرة !
أجبرت نفسها على رسم ابتسامة ساخرة أصبحت رفيقتها لتقول بضحكة استخفاف
-: أحقًا ما تقول !! أي غفران !
معنى أنك تريد الغفران أي أنني غاضبة ، غير مسامحة ! ، ومعنى ذلك أنني أهتم !
لكن يؤسفني حقًا أن أخبرك بأنني لا أهتم ولا اكترث مثقال ذرة ! لقد محيتك وكل ما يتعلق بك من حياتي و لولا رابطة الدم لكنت غير جالسًا هنا الآن ... أمامي !
آلمه كلامها بل ضربه في مقتل بالرغم من عدم صدقه ، فالألم يظلل نظراتها ، العتب الموجوع يكسو كلامها ، قولها بأنها لا تهتم يظهر حجم اهتمامها !
رفع رأسه الذي نكسه في خضم كلامها ليقول بنبرة خافتة نادمة
-: شغف ، لا أرجو غفرانك في الحال ، ما فعلته لا يغتفر ، لا استطيع حتى مسامحة نفسي ، كلما أتذكر ينتابني القرف والازدراء من شخصي المقيت....
-: اووه ! مشاعر صادقة جيدة ، لكن ماذا تريد أيضًا يابن عمتي !
قالتها بنبرة ساخرة تمثل التأثر وداخلها يُنهَش بأوجاعها....
مال على المكتب نحوها ليقول بنبرة مذبوحة
-: آسف يا شغف ، أرجوك سامحيني ، أتوسلك حرفيًا أن تغفري أنا.....
شعر بأنه مقيد ، لسانه مشلول بإحساس يفوق الندم ... كره الذات ، احتقارها ربما ! نضبت الكلمات وجفت في حلقه ، لا يسعه التعبير عما بداخله ليكمل بهمس خافت خرج بصعوبة ابتلاع جمرة ملتهبة وهو يرجع للجلوس على مقعده
-: أموت في اليوم ألف مرة !
حافظت ليس من دون مشقة على ثبات نظراتها ونبرتها لتقول بصوت أضفت له كل ما في حوزتها من اللامبالاة وإن كانت كاذبة
-: آسفة ، شغف الهواري لا تعامل هكذا ويوم تعامل فإنها لا تغفر ولو بموتها ، أخبرتك عند صفعك لي بأن تتذكر هذا !
حسنًا ! يمكنك التذكر وأنت في طريقك لسيارتك ، الوداع !
لترجع بنظرها إلى شاشة حاسوبها واضعة كل تركيزها بها تاركة إياه فريسة تجاهلها الذي ينخر فيه من الداخل ، فريسة آلامه وندمه المتأخر ، لعلمه أن الندم لا يجدي ، لا يغير شيئًا...
لينهض قائلًا بخفوت مثقل
-: بل إلى اللقاء
ليرحل ، كما يرحل دائمًا ... تلاحقه أذيال خيبته ، نفسه تسخر منه على توقعاته التي تليق بفتى غر لم ير من الدنيا إلا جانبها الوردي ، لم يشعر بكسرة القلب وتحطمه !
عازمًا على عدم اليأس مقويًا نفسه ببضع همسات كمسكن غير مُجدٍ لأوجاعه تاركًا إياها توهم نفسها بالعمل متجاهلة قلبها الذي ينبض ألمًا و كأنه يضخ وجعًا يسري في أوردتها بدلًا من الدم ، لترجع رأسها بقوة على كرسيها متنهدة بقوة مانعة نفسها من البكاء ... حد البكاء !!
لِمَ يصر على إيلامها ! أتبتغي الكثير ! فقط تريد الراحة ! ألهذه الدرجة هي تبتغي المستحيل !!........
**
بعد أسبوع...
منزل القاضي...
رمت نفسها بين أحضانه وهي تبكي وتشهق بقوة لتسمع تأوهه الخافت فابتعدت من فورها
-: آسفة يا حبيبي آسفة يا ليتني كنت أنا ولا أنت يا قلب أمك !
قبل رأسها مبتسمًا وهو يحتضنها بحرص
-: بعيد الشر عليك أمي
لتتملص من أحضانه فجأة وتتكتف زامة شفتيها كطفلة صغيرة هاتفة
-: لكن لا ، أنا لا أسامحك ، هل استطعت يا زياد أن يحصل كل هذا بدون ان تخبرني ؟ لقد أفهمني غيث أنك خارج البلاد في سفرة عمل وأنك لن تستطيع مكالمتي ، هل هنت عليك كل هذا ! هل استطعت عدم سماع صوتي كل تلك الأيام ؟
احتج قائلًا
-: حدثتك يا أمي...
-: منذ أسبوع يا زياد وكذبت عليّ أيضًا ، لا ، لا أسامحك
التفت للناحية الأخرى مصممة عى موقفها ليذهب ويقف أمامها مقبلًا كفيها رغم ممانعتها الواهية ليقول بنبرة يعلم أنها تؤثر بها
-: آسف يا حبيبة زياد ، آسف يا روح زياد ، هيا أمي لقد رجعت من الموت أهذا هو استقبالك له !
انفجرت ثانية في البكاء تحتضنه بقوة فكتم تأوهه وهو يحتضنها بالمقابل مغمضًا عينيه مستنشقًا رائحتها التي اشتاق متمتعًا بأحضانها ووجودها بين ذراعيه ليخرجها بعد قليل مكفكفًا دموعها هامسًا
-: تعلمين أن دموعك توجعني صحيح ؟ ها أنا ذا سليم معافى أمامك فكفى حبيبتي أرجوك !
ابتسمت له لتستطيل وتقبله على وجنته قبل أن تلتفت لملاك التي تراقب الموقف بابتسامة حالمة لتحتضنها بقوة ، أجفلت الأولى في البداية لتسترخي بعدها في أحضانها لتشكرها السيدة بامتنان حقيقي
-: حبيبتي لولاك لا أدري ماذا كان يمكن أن يحصل لي ، لقد أنقذتِ حياته شكرًا لكِ...
اتسعت ابتسامو ملاك لتشد على كفيها قائلة
-: سيدتي ما فعلت لا يعد نقطة في بحر ما فعله زياد لأجلي ، صدقيني إن كان أحدًا يستحق الشكر فهو الله ثم زياد....
-: الحمد لله....
رددتها قبل أن يأتي زياد من خلفها ويجثو أمام ملاك المبتسمة مقبلًا كفيها لتحدجه بنظرات نارية واللون الأحمر يتسلل إلى وجنتيها ليتكلم محدثًا أمه
-: لقد أعادتني للحياة يا أمي ، قلبي أخيرًا عاد للحياة
ابتسمت أمه بأعين دامعة قبل أن تتمتم بشيء خافت لتذهب للمطبخ وتتركهما على راحتهما ليهمس هو
-: غدًا سننزع الجبيرة وبعد غد أول جلسة في جلسات العلاج الطبيعي...
هزت رأسها موافقة ليقول بعد أن قبل باطن كفيها ثانية
-: و أول الأسبوع القادم ، ستكون خطبتنا و عقد قراننا..
يتبع الفصل الثالث والعشرون اضغط هنا