رواية ابتليت بعشقك الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم بسنت علاء
رواية ابتليت بعشقك الفصل الرابع والعشرون 24
استيقظت متململة بانزعاج من صوت هاتفها برنينه الملح ، أمسكت بالهاتف لتجد إسم زياد يضيء الشاشة فاستقامت جالسة وهي تفتح الخط غير واعية كليا بعد
-: زياد ماذا هناك ؟
ليصلها صياحه الذي كاد يصم أذنها وهو يذرع مكتبه جيئة وذهابا
-: ماذا هناك !! أوتسألين حقا !!
هناك أحمق يسمى زوجك يتصل بك منذ البارحة دون رد حتى كاد يقتله القلق !!
فركت عيناها مقطبة ، متفاجئة من صياحه لتتذكر ما فعله البارحة !!!
عبست بغيظ ليغزو اللون الأحمر وجنتيها ، هل يجرؤ حقا على الصياح بعدما فعله !! لكن قبل أن تهم بتقريعه كان يسأل بنفاذ صبر
-: أين أنت؟
جاوبت تلقائيا بخفوت عابس
-: على الفراش !
سمعت تنهيدة محترقة من الطرف الآخر قبل أن يقول باقتضاب
-: حسنا ، أنا آت....
ليغلق الخط ... في وجهها !! تاركا إياها تحدق بوجوم بالهاتف لثوان قبل أن تنزل من الفراش باحثة عن غيث بعينيها في أرجاء الغرفة قبل أن ترى الحمام موصدا يتصاعد منه البخار فنادته
-: غيث ، زياد قادم هل ستأتي لمقابلته معي؟
-: لا يا ملاك ، آسف أنا مجهد قليلا
بالرغم من صوت المياه الذي يغطي على صوته إلا أن نبرته الميتة كانت واضحة ، تنهدت بهم وهي تذهب لغرفتها لتستعد لمقابلة ... زوجها !
**
بعد قليل..
متجهة إلى الغرفة ببطء ،ابتسامة انتصار طفولية مرتسمة على وجهها لتركها له منتظرا إياها لبعض الوقت !
فتحت الباب لتحط نظراتها عليه في جلسته المتحفزة وهو يهز قدمه بعصبية ، جلست عابسة زامة شفتيها على مقعد بجوار الباب لينهض ويجلس على المقعد المجاور لها ، مسندا مرفقيه إلى ركبتيه
-: هل يمكنني أن أعرف لماذا لم تردي على مكالماتي ؟
-: كنت نائمة !
ردت ببساطة ومازالت محافظة على عبوسها ليكمل بانفعال ناظرا لها
-: كنت نائمة وأنت ترفضين مكالماتي التي لم تتوقف على هاتفك الخاص بالعمل ﻷنني وجدت الهاتف الآخر مشغول بمكالمة!!
كنت نائمة أم كنت تتحدثين في الهاتف؟
كان كلامه في آخره قد تحول لصياح وقد اسقام واقفا ، يريد ضمها ، بل يريد أن يفتح صدره ويضعها بالداخل ، له وحده ، وفي نفس الوقت يريد إشباعها ضربا لتلك اللحظات المرعبة وهو يتخيل ما قد حل بها ويمنعها من الرد ، الكثير والكثير من الفجائع التي اختلقها عقله كانت ستجعله يجن وهو يقاوم بكل قوته لكي لا يذهب إليها فجرا حتى رد عليه غيث وطمأنه !
سمع صوتها الهادئ ، المعاتب
-: ﻷنني لم أرد الرد ، و ... هاتفي ، استعاره مني غيث ﻹجراء مكالمة خاصة به ، شيء آخر ؟
برودها يكاد يعصف به !
عبوسها و اختفاء ابتسامتها التي تشرق دنياه يكاد يجعله يجن !
رجع للجلوس بوضعيته الأولى متسائلا بوجوم
-: ولماذا لم تريدي الرد ؟
انتفخت اوادجها لتصيح مشوحة بانفعال
-: ﻷنه ليس ﻷنك أضحيت زوجي رسميا يحق لك أن تفعل ما ... ما فعلته ، لا يحق لك المجيء الآن والصياح في وجهي ﻷنني لم أرد على الهاتف ، لا يحق لك أي مما فعلته !
احمرت وجنتاها من شدة الغيظ ، لقد أوجعها حقا غضبه و صياحه بها !! هل سيتغير فور عقد القران ليصبح ذلك المتحكم المتسلط الذي أمامها ! هل سيصيح بها مؤنبا كل حين بسبب أو بدون!
كان يحدق بها باستنكار لما تقول!!
ربما هو انفعل قليلا لكن هذا جراء خوفه ، مجرد التفكير للحظة أنه يمكن أن يفقدها كفيل بقتله حيا ! قال مقطبا بألم وهو ينظر أرضا
-: لقد ... كنت خائفا عليك ، خيل لي في بداية اﻷمر أنك تتدللين ، أو ربما غاضبة لما حدث ، لكن مبالغتي في الاتصال دون رد منك فقط ... جعلني ... أقلق !
كانت تحترق من الغضب فلم تشعر بخوفه الذي ينهشه ، خوف من الفقد ، من انتقام إلهي بها ، لترد بكلمة واحدة باردة وهي تتكتف
-: حسنا
-: فقط .. حسنا !!
قال مقطبا وهو يدقق النظر بها ، يشعر بتلك الوخزات تغزو صدره من جديد جراء صياحه لتقابله بإيماءة أكثر برودا !!
تنهد بقوة يزيح عن صدره ذلك الشعور الأحمق الذي يكتنفه ، صمت بضع دقائق يستعيد هدوءه ليحاول رسم ابتسامة فاشلة
-: غاضبة ؟
ابتسمت بتهكم لسؤاله الساذج أو الذي يتصنع السذاجة
-: و مم سأغضب !!
ابتسم حقا تلك المرة ، ابتسم بحنان وهو يراقب ملامحها العابسة التي تنفي قولها
-: أيمكنك الجلوس بجانبي سيدتي ؟
هزت رأسها رافضة على الفور لتقف متجهة للباب ، تهم بالخروج ، لكنه كان أسرع منها فسرعان ما وجدته يقف حائلا بينها وبين الباب هاتفا بابتسامة ماكرة
-: إلى أين ؟
تكتفت وهي تزفر بضجر مزيف
-: إلى غرفتي ، هل يمكنني المرور ؟
اتسعت ابتسامته وهو يهز رأسه نفيا ، زفرت بحنق أكبر وهي تحاول تخطيه دون جدوى لترجع للجلوس خائبة ، سبقها من جديد وهو يجلس على كرسيها لتحدجه بنظرات نارية اختلطت بزفرة أطول تقطر غيظا وهي تذهب لتجلس على الأريكة !
لم تكد تجلس حتى وجدته بجوارها ، يشكل بذراعاه طوقا وهميا حولها يمنعها من الهروب قائلا بجدية
-: أيمكننا التحدث كناضجين ؟
-: وهل هناك شيء يحدث ضد نضجك المزعوم ؟ لماذا !! أين عدم النضج في صياحك بي دون سبب مقنع فور استيقاظي من النوم لتأتي وتكمل ما بدأته بعدها ؟
قالتها بسخرية ليتنهد وهو يقترب منها أكثر قائلا بملامح متألمة
-: لقد رأيت ... كابوسا ، يتعلق بك!
قطبت حاجبيها ناظرة له باستغراب ليكمل مسترسلا
-: لا أريد ذكر التفاصيل ولا تذكرها ، لكن كل ما كنت أريده فقط هو سماع صوتك والتأكد من أنك بخير....
تبخر حنقها و غضبها ، ليطفو حنانها على السطح ، حنان ممتزج بالشفقة على حال طفلها الملاحق بهواجس ماضيه ، الخائف حد الموت من فقدها !
سمعته يكمل وهو يتحاشى النظر إليها
-: أعرف أنني انفعلت ، و أغضبتك ، آسف يا مالكة القلب لكن حقا كان دون إرادتي...
تنهد بقوة ليكمل
-: و بالنسبة للبارحة ، أعلم أنني ربما صدمتك لكنني صدمت ذاتي ، لم يكن في حسباني أي مما حدث ، فقط كانت فرحتي أكبر من أن يستوعبها عقلي وقلبي ، احتجت دليلا دامغا ﻷثبت لهم فعلا وليس قولا أنك أصبحت لي ، إلا أنك انتقمت لهذا منذ البارحة بتلك ال.... صفعة ، حسنا ، لكن يتوجب علي القول أنني في حقيقة لست آسفا ... و لست نادما فقد كان هذا.....
شقت الابتسامة العاشقة فمه في نهاية كلامهه متذكرا تلك الدقائق من النعيم فقاطعته بخجل سيفتك بها قبل أن يسترسل في حديثه أكثر
-: كفى ، كفى أرجوك ، على العموم هذا ... لن يتكرر .. ثانية
اكتفى بابتسامة لا تنم عن شيء لتكمل بجدية
-: أما بالنسبة ﻷشباحك التي لم تتخلص منها بعد ، فهذا أمر آخر لنا حديثا مطولا به
هز رأسه موافقا وقد شردت عيناه ليجبر نفسه على الابتسام بعدها قائلا
-: إذا ، هل سامحت عاشقك سيدتي ؟
هزت رأسها نفيا بقنوط وهي تتكتف راجعة لعبوسها مبعدة عيناها عن مرمى نظراته ليهمس بجوار أذنها
-: قليلا فقط !
مازالت على رفضها الصارم ليقترب أكثر متسائلا
-: كيف السبيل إلى السماح ؟ قبلة أخرى ربما ؟
حدجته بنظرة نارية اختلطت بتلك النيران التي تنبعث من وجنتيها ليضحك مقهقها ، ليمسك بكفها مقبلا باطنه بعمق ، يعرف تأثير تلك الحركة عليها جيدا فهو يشعر بارتعاشتها كلما قام بها ، لثمه ثانية عدة مرات هامسا بالأسف بين كل قبلة و أخرى حتى سحبته وهي تزفر بحنق تداري خجلها ، اقترب منها أكثر ليهمس بجوار أذنها
-: كفى دلالا يا مالكة القلب ، فالقلب يكاد يذوي منتظرا نظرة الرضا ليستعيد نبضه
تنهدت بقوة علامة اليأس وهي تلتفت له رافعة سبابتها بتحذير
-: لا صياح
-: لا صياح
أكد على كلامها وهو يومئ مبتسما
-: ولا ... قب..لات
خفت صوتها جدا وتلجلجت عند نطقها للكلمة فاتسعت ابتسامته مشاكسا إياها
-: اممم ، لا أدري لكن سأحاول
ضربته على كفه والابتسامة تشق تغزو شفتيها رغما عن أنفها ليتأوه واضعا يده على قلبه هاتفا بجذل
-: أرقص أيها القلب فقد رضت عنك ملكتك....
ابتسامة صغيرة زينت ثغرها لتطرق برأسها والخجل يتآكلها جراء كلماته التي تسكر قلبها العاشق ، ليمسك بكفها من جديد مبتسما
-: حسنا وقد نلنا السماح ، هل نذهب للجلسة التي تأخرنا عليها بالفعل ؟
أومأت موافقة وهي تتذكر جلسة علاجها التي نسيتها تماما في خضم ما حدث متعجبة من تذكره واهتمامه بكل ما يخصها بتلك الطريقة...
ذهبت معه كفها بكفه ، قلبها معه لكن عقلها شارد يعمل بلا هوادة ... كيف ستخلصه من أشباحه !!!
**
نفس الوقت.....
شركة الهواري الهاشمي....
-: حسنا يا شغف ، جيد جدا
قال برضا وهو يدقق في الأوراق بيده معجبا بتطورها الشديد في العمل منذ أن عادت من جديد ، فقد تقدمت بشكل غريب أذهله شخصيا !
شكرته بخفوت وخرجت ليحدق في أثرها شاردا ، لا ينكر أنه أدرك أن مشاعره نحوها لم تتخط إعجاب فتى بصديقته في الجامعة !
انجذاب بحت لجمالها الفريد وعينيها الساحرتين ، لتلك الهالة التي تحيطها من الغرور والثقة
وكأنه كان يريد أن يثبت لنفسه أن بداخلها شيء آخر غير ما تظهره....
كان غاضبا ، ناقما ، نعم !
فمن هي لترفض سيف الغمراوي !
خيل له أن جرحه كان حبا لكنه اكتشف فيما بعد أنه لم يكن سوى جرح لكرامته ، فقد رفض لأول مرة من أول إمرأة أحس نحوها بشيء من الإعجاب!
خامره شعور بالاندهاش متشرب بارتياح عميق بعد تلك المصارحة مع نفسه ، لكن مصارحة ناقصة فهو لم يذكر صاحبة الفضل في كل هذا !
اختبار جديد وضع به ومن الصعب ، بل من المستحيل اجتيازه !
لا......
شق سكون مكتبه الشارد صوت هاتفه فأخرجه من جيب بنطاله لينظر مقطبا لاسمها الذي يضيء الشاشة !
-: سنابل ! ماذا هناك ؟
قال بقلق ليتراءى لمسامعه نبرتها المترددة
-: مرحبا سيف !
التزم الصمت مقطبا لتكمل متنهدة بتردد
-: كيف هو العمل ؟
-: سنابل ! قولي ما عندك
زعق بغضب قلق لتخبره متلعثمة كطفلة في العاشرة
-: كنت ... هل ... هل يمكنك أن تأتي لي بمثلجات الشوكولاتة وأنت آت؟
ألقت بكلماتها بسرعة مبعدة الهاتف عن أذنها ، تغلق عين وتفتح الأخرى بتوجس....
أما هو فكان محدقا أمامه ، ترتسم على وجهه إمارات العته !
أتكلمه حقا لتطلب مثلجات !! و بالشوكولاتة!!
كيف للشوكولاتة أن تأكل شوكولاتة ؟
انبثق ذلك السؤال الأخرق في عقله من العدم حتى كاد يلكم نفسه !
زفرة طويلة حانقة من ذاته قبلها ليكرر كلماتها ببطء
-: مثلجات الشوكولاتة!
همهمت بمعنى "نعم" ليطبق عينيه بيأس ، طفلة!! لقد تزوج طفلة في ثوب إمرأة ... مهلكة !
نجح ليس من دون مشقة في التحكم بأعصابه ليكمل بهدوء أثار ريبتها
-: حسنا ، حسنا يا سنابل ، إلى اللقاء
ليغلق الخط تاركا إياها تحدق في الهاتف بتوجس غير مدركة للابتسامة الحيوية التي شقت فمه هامسا باستنكار طفيف
-: بالشوكولاتة يا قطعة الشوكولاتة!!
**
منتصف النهار.....
أوقف السيارة أمام المنزل لكن يبدو أنها لم تنتبه ، فهي شاردة للأمام طوال طريق العودة متجاهلة إياه تماما !
قبض على كفها ليرفعه لفمه لاثما ظاهره وباطنه هاتفا بتساؤل
-: يا مالكة القلب أين أنت ؟
نظرت له مقطبة لتجيبه بخفوت
-: هنا ، أنا هنا
قطب حاجبيه هو الآخر متسائلا بعدم فهم
-: ماذا هناك ملاك ؟
تنهدت بقوة وهي تلتف لتصبح مقابلة له قائلة بهدوء
-: متى ستعيش حياة عادية يا زياد ؟
ازداد انعقاد حاجبيه لتكمل بحزم
-: متى ستتخلص من أشباح ماضيك ، متى ستعطي نفسك فرصة للنسيان ؟ متى سترتاح أخبرني !
خناجر هي كلماتها تغرزها في قلبه بلا رحمة ، لكن كيف ينسى ! كيف يعيش وهو قتلها ! كيف ينزع صدى كلماتها من أذنيه !!
حاول رسم ابتسامة فاشلة أوجعت عظام فكه
-: لن ارتاح إلا بقربك...
تنهدت وهي تغلق عينيها وتضغط عليهم بأصابعها ، يماطل كي لا تتطرق للأمر ، لكن لا ... يجب وضع حد لما يحصل
-: زياد أرجوك ، يجب أن تغفر لنفسك ، يجب أن تفهم أن لكل إنسان أخطاء مهما كان حجمها فهي خطيئة ، الله يسامح ويغفر هل أنت لن تغفر لنفسك ما غفره الله لك ؟
ألا يكفي سنوات من الندم و الموت حيا للتكفير عن ذنبك من وجهة نظرك ؟ ألا يكفي توبتك إلى الله ، تكفلك بعائلتها سرا ! ماذا تنتظر بالله عليك أخبرني
تقلصت ملامحه بألم وهو يشيح بوجهه للناحية الأخرى ، ملاكه البريئة ترى الدنيا وردية مثلها ، لا تدري حجم السواد بداخله ، لا تشعر بحجم العطب بداخله ، بروحه المجبولة بذنب أبدي لن يفارقها....
ظل صامتا ناظرا إلى الفراغ ، تعاوده تلك الذكريات السوداء لتنحر في قلبه نحرا ، نادته متسائلة بخفوت لينظر لها هاتفا بانفعال
-: لا يمكنني النسيان يا ملاك ، فما حدث ليس بشيء ينسى ، ذنب عظيم ينخر في عظامي ، نار تسري بعروقي عند تذكري ما كنت عليه ، ما فعلته ، ربما هي ماتت بعد ما حصل لكن هناك شيء بداخلي يخبرني أنني السبب ، ماتت بحسرتها على طفلها ، على نفسها ، لحب أهدته ﻹنسان وضيع لم يصنه بل أراقه أرضا ليختلط بدمائها ، ببساطة لا استطيع نسيان زياد الماضي ﻷنه هنا ، بالداخل ، لم ولن يختفي ﻷنه أنا ، أفهمت ؟؟
كان يقرع على صدره بقوة في نهاية كلامه الذي تحول لصياح متحشرج ، يراقب الدموع الملتمعة في عينيها معذبا ذاته بنظراتهما المعذبة المتألمة له...
قبضت على كفه بقوة هاتفة بألم
-: يجب أن تفهم أنت ، كون أن الذنب الأكبر يقع على عاتقك لا يعني أنها معفية منه ، هي أيضا أخطأت ، يا زياد الله ستار غفور ، رحيم بنا نحن عبيده الخطائين ، و أنت تبت وندمت ، يجب أن تحيى لا أن تعيش ميتا
تنهد بقوة وهو يسند رأسه على المقود ، تكاد العبرات تطفر من عينيه ، كل ما قالته صحيح لكن العلة به هو....
لكنه يجب أن يحاول على اﻷقل ، ﻷجلها وليس ﻷجله ، فهو لن يضيعها بعد أن باتت له ولو بموته....
رفع رأسه من على المقود يتأملها بعشق مبتسما بهدوء ، قطبت وهي تتسائل بتوجس
-: ما تلك الابتسامة
-: أنظر إلى نعمة كبيرة لا أستحقها ، فماذا فعل زياد العبد الفقير إلى الله حتى يمن عليه بنعمة مثلك يا مالكة القلب !
توترت نظراتها كالعادة لتسبل أهدابها لدقيقة قبل أن ترفع نظرها إليه بحزم رافعة سبابتها لكنه قاطعها بنبرة تقطر حنانا
-: سأحاول يا مالكة القلب ﻷجلك ، و سأستطيع ﻷن لدي ملاكا تزيل بنقائها سوادي شيئا فشيئا
ابتسمت له بامتننان وفرح ليكمل بصفاء
-: حسنا ، سأصعد لغيث الآن
أومأت برأسها بحماس ليترجل من السيارة ويتجه لها ممسكا بيدها ليصعدا سويا ، تواري هي قلها ويواري وجعه هو......
**
دلف إلى الغرفة بدون استئذان كعادته ليجد غيث مضطجعا على الفراش ينظر للسقف بنظرات تائهة ليلقي عليه نظرة خاوية ويشيح بوجهه عنه....
تقدم نحوه ليجلس على الفراش بقوة لاكما غيث في ذراعه بمشاكسة ليزيح الآخر قبضته قائلا بخفوت
-: أخرج يا زياد
-: لا
رد بابتسامة سمجة ليتنهد غيث قبل أن يستقيم جالسا ، يناظره ببرود بل بالأحرى بنظرات ميتة لم يعد فيها من الحياة شيئا ، فما قيمة حياته تلك التي يعيشها بدونها !
-: تبدو جميلا و أنت هكذا ، شبح رجل يمكث في ملاذه يذوي منتظرا الاحتضار بطيب نفس ، يربط حياته بامرأة هو لا يفعل ما يكفي لاستعادتها ، جميل أيضا إضرابك عن الذهاب للعمل تاركا كل شيء يحترق بلا اكتراث !
اخترق اﻷلم نظرات غيث وهو يقابل نظرات زياد التي لا تقل صرامة عن نبرته المؤنبة ، لم يستطع النطق بحرف فكل ما يقوله صحيح ليكمل زياد وهو يدفعه بخفة في صدره
-: يا رجل ، أذهب لها بدلا من جلستك هذه ، تحمل الرفض مرة و اثنتين ومليون حتى ترضى ، أنت لم تخبرني بما فعلته لكن مهما كانا عظمته لن يكون أعظم من ذنبي....
ازدرد ريقه ليقول بتحشرج
-: لن تسامح يا زياد ، لقد تعبت و أنا أرجو غفران ميئوس منه ، ندمت و الله ندمت لكنها لن تسامح ، أنا أدرى بها...
-: منذ متى تطلب سماحها ؟ شهر ، شهرين ؟ إن كنت رجلا ، شجاع بما فيه الكفاية للاعتراف بأخطائك والاعتذار عنها ، تمتلك ما يكفي من الحب الذي يجعلك لا تمل من طلب السماح فاذهب لها الآن ، ستقابلك بالرفض ، الرفض الذي سيشعل عزيمتك ولن يثبطها
كان غيث يطبق عينيه بألم ، لقد توجعت كرامته من الرفض لكن أولم يهنها ! ألم يعاملها كالساقطات ... يرجع ويخبر نفسه أنه يستحق ، يستحق كل ما حصل وسيحصل له ....
انطلقت منه همسة خافتة موافقة ليبتسم زياد بنصر متمتما ببضع كلمات قبل أن يخرج تاركا إياه يحضر كلمات ستلاقي الرفض
**
ليلا......
منزل الهواري....
ينتظرها في مكتب والدها ، يفرك يديه بتوتر كطالب يقابل حبيبته للمرة الأولى حتى انفتح الباب بقوة لتطل هي ، حبيبته ومعذبة قلبه
-: أرى أن وجهة نظري لم تصلك بما فيه الكفاية البارحة!
قالت بحنق خفي وهي تدخل ، تختلس النظر إليه في جلسته الهادئة رغما عنها...
نهض ليقف أمامها قائلا بهدوء
-: لا لم و لن تصلني
تنهدت بقوة وهي تجلس ، متحاشية النظر إليه تواري عن ذاتها قبله تلك الفوضى التي خلفتها كلماته في أعماقها السحيقة منذ البارحة ، تنكر بكاءها طوال الليل وكأنه لم يكن....
جلس على بعد مسافة مناسبة منها ليقول بهدوء
-: لنتكلم بجدية يا شغف ، أرجوك فقط أريدك أن تعلمي أن كل إنسان يخطئ ، و أنا لست ملاكا ، اعترف ، اعترف انني كنت غبيا ، أحمقا ، لكن كم مرة علي الاعتراف بهذا ؟ كم مرة علي أن اعتذر ﻷنال السماح ؟ دروب غفرانك أنهكت قلبي العليل يا فيروزية العينين ، و القلب يحتضر منتظرا نظرة...
كلامه يقطر وجعا على قلبها ، هو المريض العليل بحبها ، مريض في علته شفاؤه
يطلب فقط نظرة ، أيطلب الكثير؟
يطلب الغفران ، الحياة التي لا تسوى بدونها...
-: و أنا أيضا لست ملاكا ﻷغفر !
قالت بانفعال متألم باسطة كفيها بقلة حيلة لتكمل بهدوء كاذب مموهة ألمها
-: غيث ، يجب أن تفهم أن علاقتنا لم تقم على أسس صحيحة منذ البداية ، في الحقيقة لم نكن نفعل شيئأ سوى جرح بعضنا ، كان الحب يغشي أعيننا عن رؤية الحقيقة لكن كفى ... أنا لن احتمل أكثر ولست مستعدة لكسر قلبي من جديد أو المتبقي منه ، لن استطيع النسيان ولن استطيع الغفران....
تنهدت بقوة وهي ترتمي جالسة تعذب نفسها بالنظر للونه الذي امتقع وعيناه التي تحمل من الجرح والألم ما يكفي ويفيض لكلاهما ، بينما هو أحس بقلبه ينسحق ، وجع أخرق يخترق صميم روحه ليمزقها إربا !...
انطلق منه تأوها خافتا من العمق وهو يتفرس في وجهها لائذا بفقاعة من الصمت ، عيناها ما فتئتا تفشيان ما يحتدم بداخلها ، يصرخان له بأن كل هذا كذب ، بأن كل كلمة توجعه بها ، و كل رفض ، هو صدد ﻷلمها وجرحها ، لكن كيف يفهمها أنه تغير ، أنه في بعدها عنه أضحى غيث آخر ، لا يرجو من الحياة سواها ، فقط لتعطه فرصة ليرمم قلبها وقلبه ، قال أخيرا بهدوء يحمل في طياته الكثير
-: تريدين البعاد ؟ هو لك إذا ....
وقعت عليها كلماته وقع الصاعقة !
موجة كاوية عبرت جسدها لتصعقه ... ألم يكن إذا ما تريده ! إذا لماذا تكتنفها تلك الحرقة الحمقاء ! لماذا تشعر بتحطم حطام قلبها !
والدموع في مآقيها رفعت عينيها تنظر إليه ، تنتظره أن يكمل ، أن يكتب بيده كلمة النهاية ، فأكمل وهو ينهض متوثبا واضعا يده على صدره
-: لكن قبلًا ! جدي لي حلًا !
اختنق صوته ليخترقه ألم مضني هاتفًا بحرقة
-: جدي لي حلًا في بعادك ، أخبريني كيف أبدأ ! صفي لي وصفة النسيان !
أعطني دواءً لوحشة الروح ووجع القلب ! اقتلعي ذاتك من قلبي و انزعي شذاك من رئتيّ ! بددي مذاق إسمك على شفتيّ !
فكي أغلال قلبي الأسير لعينيك وحرريه ، احجبيهما عن خيالي ، اهدمي منزلهما بوجداني ، كل تفصيلة من تفاصيلك حفظتها كإسمي انزعيها من قلبي و عقلي ، كل ذكرى ... في كل مكان ... كل ضحكة صافية ... كل شرود لعينيك غرقت فيه ولم أنج !
جدي أمًا بديلة لذلك اليتيم بداخلي !
جدي حلًا لحضورك الطاغي في الغياب !
لشيطان طيفك الذي يحوم حولي في صحوي قبل نومي !
طيبي جراحي ، أعيدي إلي ابتسامتي ، رممي قلبي الذي هُدِم ... ولك
الرحيل إن فعلت كل هذا !
ارتسمت على وجهه ابتسامة تقطر ألمًا كما كلماته مسترسلًا
-: باختصار ، أن أحييتني من الموت بسواك فهو لك !......
ليخرج كالاعصار الذي خلفته كلماته بها مواريا دموعه التي التمعت في عينيه جراء نظراتها المبهوتة !
لتحدق في أثره فور خروجه ، تشعر بنار تضظرم في كيانها تحرق أحشائها ، وبدون مقدمات كانت تشرع في النحيب كالأطفال ، أخذت تشهق وتبكي حتى هدها التعب فتهاوت جالسة أرضا تضم نفسها ، تتنفس بعمق ذرات الهواء التي مازالت تعبق برائحته لعلها تبث السكينة بداخلها ...
دخل والدها ليجدها على هذا الوضع فهرع يجلس بجوارها يحتضنها دون كلام فدست نفسها في حضنه أكثر لتعلو وتيرة بكاءها هاتفة من وسط شهقاتها
-: ماذا أفعل يا أبي ، يشن علي الحرب بقوة و أنا .. لن احتمل كسرة أخرى ، سأموت أقسم أنني سأموت...
شدد والدها من احتضانها وهو يطبق عينيه بوجع لحال ابنته وابنه
-: شششش ، إهدئي حبيبتي وكل شيء سيكون على ما يرام
أخذت تبكي مفرغة مل ما بداخلها من وجع حتى خفت صوت بكاءها تدريجيا لتنام في أحضان أبيها.....
**
نفس الوقت......
دخل إلى المنزل يحمل تلك الحقيبة الصغيرة التي تحوي ... مثلجاتها !
نهضت تتجه نحوه ونظراتها مركزة على يده ، رحبت به بخفوت ووقفت منتظرة ليبتسم بتهكم طفيف يشوبه بعض العبث والمشاكسة وهو يتجه نحو الأريكة ليجلس بأريحية محتفظا بالمثلجات في يده...
ظل كثيرا على هذا الوضع حتى طفح بها الكيل لتقف أمامه بقامتها الضئيلة متخصرة بعبوس
-: هل نسيت مثلجاتي ؟
هز رأسه نافيا بذات الابتسامة لترفع كتفيها بغيظ
-: إذا ، أعطني إياها يا سيييف
و أواه من تلك ال "سيييف" المتدللة من قبل شفتيها الشهيتين....
اتسعت ابتسامته ليقول بمماطلة
-: حسنا ، لكن بعد العشاء
ضربت بقدمها أرضا في احتجاج ثائر هاتفة باستنكار
-: ما هذا الاستبداد !
رفع كتفيه علامة بقلة حيلة لتتجه نحو المطبخ بخطوات نارية تعد له العشاء الذي يطلبه.......
**
بعد العشاء...
تأكل بتلذذ واستمتاع مغلقة عينيها بين الفينة والأخرى بينما يمسك هو بالمثلجات خاصته التي لم يمسها فيما يراقبها وابتسامة _وياللعجب_ حنونة تعتلي ثغره !
تتناقض أفكاره مع ابتسامته فلا تمت للحنان بصلة !
ترى كيف يكون مذاق الشوكولاتة من شفتيها !
الأمر شبيه بكعكة شوكولاتة محشية بالشوكولاتة الذائبة !
أنهتها باستمتاع لتنظر له مبتسمة بامتنان
-: شكرا جزيلا سيف ، كان مزاجي سيئا وكنت بحاجة للشوكولاتة لتحسينه
عقد حاجبيه ليسأل باستهجان
-: ما الذي يعكر مزاجك؟
نظرت له بدون رد آملة أن تعبر لغة العيون عن مكنونات صدرها، تريد أن تلكمه بقوة ، ألا يعلم حقا ما يعكر مزاجها بل حياتها كلها ! ألا يشعر بها ولو قليلا ؟
تنهدت بقوة أخيرا لتقول كاذبة
-: لا شيء ، فراغ فقط
لتتلجلج و يعتلي تردد شديد ملامحها وهي تقول
-: لذلك.... كنت أريد ... أن أكمل ... دراستي!
أخذ ثوان كما عادته ليستوعب مقصدها ، يتفرس في ملامح وجهها يبحث لأي أثر للمزاح بها !
تكمل دراستها ! أي تذهب للجامعة ، تخرج كل يوم وتختلط بغيره ! من إناث و .... ذكور!!!!!
اضطرمت نار غير مفسرة الأسباب بداخله ، حمم وبراكين تلك التي تأجحت بداخله جراء كلماتها المتلبكة بكل براءة !
-:لااااااا
دون وعي انطلقت منه تلك الصيحة لتنتفض في جلستها ليكمل هو بصياح أعلى وهو يهب من مجلسه
-: دراسة!! أي دراسة ! أنا أرفض و بقوة !
همت بالكلام وهي تعبس ليقاطعها هاتفا
-: لا نقاش في هذا الموضوع يا سنابل ، اعتبريه قد أغلق من قبل أن يفتح ، تصبحين على خير
ليتركها ويدخل غرفته كالإعصار ليرتمي على الفراش بقوة مغتاظا .... دراسة !! هل جنت !!!
يتبع الفصل الخامس والعشرون اضغط هنا