رواية ابتليت بعشقك الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم بسنت علاء
رواية ابتليت بعشقك الفصل الخامس والعشرون 25
اليوم التالي صباحا..
أطفأ منبهه بحنق وهو يهب جالسا من نومته بعبوس ، فرك عينيه بقوة في محاولة بائسة ﻹزالة ذاك الصداع الذي يحتل رأسه منذ البارحة ، أو بالأحرى منذ ما حدث !
لم يذق طعم النوم ، كيف وهي قضت ليلتها في البكاء !
تقريبا ظل منتصف الليل يذرع الشقة جيئة وذهابا أمام غرفتها ، يستمع لشهاقتها ونحيبها ، وكلما مر يعبس أكثر حتى آلمته عضلات وجهه من تجهمها المنقبض !
أما ما جعله يود لكم نفسه حقا ، بل إشباعها ضربا هو تأثره اللعين !
لا يعلم ولا يفهم متى بات يتأثر بتلك الأشياء السخيفة ! متى أضحى يهتم بها وبكل تفاصيلها هكذا !
كيف يوجعه قلبه لبكائها وهو الذي يكره البكاء طوال عمره ، ويعتبره دلال زائف !
كيف و كيف و كيف !
أسئلة تطرق عقله تكاد تحطمه لكن ... بلا جواب !
لكن ربما أحيانا عدم وجود أجوبة لبعض اﻷسئلة يكون أفضل ! فالعقل يريد جوابا يرضيه أما القلب !... فربما لا يرضى !
نهض بتكاسل وهو يهز رأسه نافضا أفكاره المعتوهة ، متجها نحو الحمام ليغتسل ، لعل الماء يهدئ قليلا من ثورة عقله !
**
خرج من الغرفة بكامل أناقته كالعادة مستعدا للذهاب إلى العمل ، جال بنظره في أنحاء الشقة الهادئة ، يبحث عنها ، لكن ... لا أحد !
إتجه للمطبخ المنطفئ أنواره في محاولة أخيرة بعد أن بحث في كل أنحاء الشقة _إلا غرفتها_ ولم يجدها أيضا !
إتجه لغرفتها بخطوات نارية ليقرع الباب بعصبية بالغة لكن ... لا رد !!
مرتين ، ثلاثة و أربعة ! ولا حياة لمن تنادي !
استشرى قلقه وبلغ خوفه ذروته ، ليقفز لعقله فورا مشهدها وهي ممدة على الأرض بلا حول ولا قوة حينما كانت تعاني من الحمى !
فتح الباب بقوة هاتفا باسمها ، ناظرا بتلقائية إلى تلك البقعة من الأرض التي وجدها عليها المرة الماضية لكن أيضا ... لا أحد !
زفرة محترقة خرجت من رئتيه محملة براحة بقدر الغضب المشتعل ، عندما رفع عينيه ليجدها جالسة على الفراش !
كانت جالسة في منتصف الفراش تضم ركبتيها إلى صدرها ، شعرها منتثر حولها ، يغطي ظهرها وكتفيها ليستقر الفائض من طوله على الفراش حولها ، عيناها حمراوتان من كثرة البكاء ، تناظرانه بنظرات باردة ظاهرا معاتبة مجروحة باطنا...
خلب لبه مظهرها ، وكأن هالة من الجاذبية تحيطها ، ظل بضع دقائق ينظر إليها غير قادرا على النطق حتى نفض رأسه فجأة ليصيح ببلاهة
-: أين الإفطار يا سنابل !
لم تهتز بها شعرة جراء صياحه الهمجي ، بل ظلت تركز عيناها على عينيه بقوة دون رد !
كرر سؤاله ثانية بنبرة أكثر خفوتا ليلاقيه الصمت و كأنه يسخر منه....
-: هكذا إذا ؟
لم ينتظر ردا هذه المرة رغم نبرته المتوعدة ليأخذ نفسا عميقا قبل أن يقول
-: حسنا يا سنابل ، على راحتك !
ليخرج بعدها كالإعصار ، يرغي ويزبد بغيظ ، صافقا الباب خلفه كالعادة ، ليعتلي سيارته بقوة صافقا الباب هاتفا بغل مستنكر
-: كيف تجرؤ!!
أما هي فانتظرت سماع صوت الباب لتنهض متجهة إلى المطبخ تعد فطورها مرددة كلماته في الطريق ملقدة إياه بسخرية حانقة
-: حسنا يا سنابل ، على راحتك !
آآآه كم أنت أحمق !!
**
بعد قليل.....
شركة الهواري الهاشمي....
فتح الباب بقوة لتنتفض تلك الجالسة لرؤية هذا الثائر أمامها يكاد ينفث نيرانا من أنفه !
ألقى بسلام خافت لم تتجرأ للرد عليه وهو يدخل صافقا باب مكتبه تاركا إياها تنظر في أثره بتوجس !...
رمى نفسه على مقعده أمام المكتب وهو يضرب على المكتب بيده صائحا بخفوت
-: كيف تجرؤ !! كيف تجرؤ !
لينهض متوثبا ، يجول في المكتب كأسد حبيس ، يضم قبضتيه حتى لا يضرب و يكسر كل شيء في وجهه كما يريد !
-: تتجاهلني أنا ؟ تنظر في عيني بكل قلة حياء دون أن ترد ! تتحداني أنا !!
لم يدر أن صوته قد ارتفع ليصل لتلك الجالسة بالخارج ، لتقطب بغير فهم سرعان ما تحول إلى ابتسامة شقية !
يبدو أن زوجته المزعومة ليست بالهينة أبدا !
بينما كان هو مازال يدور ويدور حول نفسه ! يخرج هاتفه تارة يريد الاتصال بها ، تارة أخرى يكاد يخرج من المكتب ذاهبا إليها ليدق عنقها بيده !
ارتمى ثانية جالسا على مقعده ، يتنفس بعنف وعيناه تشردان بشر ، وسرعان ما تربعت ابتسامة متوعدة على شفتيه هامسا
-: أنت من جلبته لنفسك يا ... زوجتي العزيزة !
**
دخل إلى الغرفة و كله يرتعش ، لا يصدق حقا ما حدث !
هل بعد كل هذا أصبحت له ! ملكه ، في بيته !
هي تلك حبيبته من تجلس على فراشه مولية إياه ظهرها ، ترتدي فستانها الأبيض الذي طالما رافقه في أحلامه !
ظل واقفا بضع دقائق يدقق النظر في ظهرها ، يهاب الاقتراب ، لعلها تصبح محض وهم يصورله له قلبه المشتاق أو عقله الذي لا يفكر في سواها....
-: زياد ! هل ستظل تنظر لي هكذا كثيرا؟
قطب باستغراب !! ما له صوتها تغير ! يشبه صوت...!!!
لا ... لا ، هو سيفعل مثلما قالت ، لن يدع هواجسه تسيطر عليه !
أخذ يقترب ببطء حتى بات واقفا أمامها فاختلطت ابتسامته العاشقة ببعض الارتياح لرؤيتها ، ملاكه الخجولة لدرجة عدم قدرتها على رفع عينيها إليه ، وضع أصبعين تحت ذقنها يرفع وجهها إليه برقة مبتسما لعينيها المتهربتين من عينيه بخجل
-: أتخجلين مني؟
قالها بضحكة خافتة لترد وهي تنهض بارتباك مولية إياه ظهرها
-: بالتأكيد !
قطب ثانية ! وهو ينظر لها بتمعن ! ما باله اليوم لا يستطيع التمييز !
نفض رأسه و اتجه نحوها يديرها له من كتفيها لتكون صدمته !
ظل محدقا فيها بانشداه مشوب ببعض الخوف وقد أنزل كفيه من على كتفيها !
-: ما بالك يا حبيبي؟
لا ! غير معقول !! مستحيل ، مستحييل !!
إذا هي ! نبرة الصوت تؤكد له !
لكن كيف ! ملامحها تختلط مع ملامح ملاك بشكل مخيف حتى بات لا يعرف من تلك الماثلة أمامه !
أحس بالأرض تميد به ، بالتأكيد هو في حلم !
جلس على الفراش ، محدقا في الأرض غير مبصرا ! يحاول فصل الواقع عن الخيال ، لقد حذرته ملاك وقد كانت صادقة !
أحس بيدها على كتفه فرفع إليها عينيه مرتعشا برجفة خوف ، ليرى ما أكد مخاوفه !
قد كانت هي ، حياة !
حياة ترتدي فستان ملاك !
حياة معه في الغرفة بدلا من ملاك !
اليوم كان زفافه على حياة ! وليس ملاك !!!
أزاح كفها بقوة متسائلا بصياح مرتجف
-: أ.... أين .. ملاك؟
لتتحول ملامحها البريئة في ثانية إلى ملامح أكثر شرا ! ملامح ارتسم عليها التشفي والسواد بريشة فنان بارع لتقول بابتسامة شيطانية
-: ملاك ؟ قتلتها ، قتلتها كما قلتني يا زياد !
لتشير بيدها إلى بقعة على الأرض ، وقد كانت هناك ملاكه !
تسبح في بركة من الدماء ، ترتدي ملابس غير ملابسها !
ملابس يعرفها حق المعرفة ، ملابس لوثها هو بدم بريء طاهر !
هرع نحوها صارخا باسمها لكن قبل أن يلمسها باتت ... سرابا ، محض سراب !
اختفت حبيبته من عالم الأحياء و الأموات !
هكذا بكل بساطة !
صرخ بقوة صرخة شقت دياجير الليل كما شقت حنجرته !
-: ملاااااااااااااااك !
ذات الصرخة رددها وهو يهب جالسا على فراشه ، يتنفس بصعوبة بالغة ، تغطي دموعه وجهه و يتحسس جسده بيديه !
أخذ يلهث بقوة هامسا باسمها بين كل نفس و آخر !
بضع دقائق احتاجها حتى انتظم تنفسه هامسا لنفسه بصعوبة
-: حلم ، بل كابوس ، أفق يا زياد إنه كابوس
سمع طرقات أمه على بابه كالعادة فصاح بارتعاش وهو يضغط بسبابته وإبهامه على عينيه
-: أمي أرجوك ، لا تقلقي أنا... بخير ، كان كا..بوسا كالعادة
همت بالتكلم هاتفة باسمه إلا أنه قاطعها صائحا بجنون
-: أمي ، أرجوووووك !
تنهدت أمه بحسرة وهي ترحل قبل أن يمسك هاتفه كالمغيب يتصل بها !
رنين ، والآخر ، تحترق أعصابه مع كل رنين يسمعه دون رد ، حتى انتهت المكالمة !
بسرعة كرر الاتصال ثانية هاتفا بعصبية
-: هياااااا
لتستجيب إلى ندائه وتفتح الخط متسائلة بنعاس
-: ماذا هناك يا زياد؟
-: أأنت بخير ؟
سأل بخوف جم ، وهو يهب من فراشه ، يسير بعصبية في أرجاء الغرفة
-: ماذا بك يا زياد؟
قالتها بنبرة متيقظة قليلا وقد استقامت جالسة ليصلها صياحه الذي جعلها تبعد الهاتف عن أذنها بمفاجاة
-: اللعنة يا ملاك فقط أخبريني أنك بخير!
-: أ..أنا بخير ، أنا بخير
قالتها بسرعة وخوف لحالته ! ليتنهد هو براحة قبل أن يغلق المكالمة تاركا إياها تحدق في الهاتف بدهشة !
ليتهاوى جالسا أرضا ، صارخا بحرقة شاعرا بقلبه ينسحق وعقله يكاد ينفجر
-: ماذا تريدين مني ؟ ألا يكفي كل ما حدث ؟ ألا يكفي!!!
قال تلك اﻷخيرة بصرخة قوية بح صوته في آخرها و هو يدفن رأسه بين كفيه ليظل على تلك الحالة المتبقي من الليل ، يخشى النوم وقد بات أسوأ كوابيسه!!
**
بعد أسبوع.........
ينتظرها بارتعاش في مكتب خاله ، يهاب قلبه لقياها ثانية بعد أن تركها أسبوعا لتهدأ وتفكر في كلامه بروية !
لم يكن في حسبانه أن يأتي اليوم ! كان مقررا أن ينتظر أكثر لكن ... استبد به الشوق وعذبه ليجد نفسه منقادا دون إرادته واقفا أمام بابها يطلب مقابلتها....
أثناء شروده ... بها ، كانت قد دخلت لتقف أمامه كالجبل الشامخ بينما وقف هو صاغرًا ، شاخصا إليها يستجديها بنظراته ... كالعادة ، منتظرًا حكمها الذي سيكون بالرفض لكنه لا يكل ولا يمل ، يردد كلمات زياد في رأسه كل حين ، نعم هو مستعد للاحتمال ، مستعد لأي شيء يصدر منها فقط فلتسامح بعد كل هذا...
-: لقد أهلكني البعاد يا فيروزية العينين
قالها بإنهاك حقيقي ، نبرته المتهدجة الخافتة تلك لم تحرك بها إنشًا ... ظاهرا على الأقل ، بل ظلت واقفة أمامه بشموخ لتقول ببرود
-: إذًا
-: نحر قلبي الشوق ، تقرحت مقلتاي من الحنين ، أفبعد كل هذا لا تسامحين ؟ ألا ترحمين؟
وقد كانت هيئته تحكي ألف حكاية ، فقد كان شعره الطويل مشعثًا وكأن لم يمسه مشط منذ أيام ، ملابسه مبعثرة ، ذقنه غير مشذبه ، أما وجهه فكان حكاية أخرى ... كان لوحة فنية تعبر وبكل وضوح عن مأساة رجل مقهور قاهر لنفسه ، جانٍ مجني عليه و أوّاه من قهر الرجال ، أضناه البعاد ليقف وحيدا تتقاذفه رياح الندم..
-: لو بدلنا الأدوار ، مع ذكر كل الضرر الذي ألحقته بي من أذى نفسي ، جسدي ، إهانات متعددة ، الإعابة في شرفي ... شرفي أنا وكأنك لم تعرفني قط وكأنني لست ابنة خالك الذي رباك ... هل كنت لتسامح بهذه السهولة ؟ هل تريد تلك الخانعة التي تفعل بها ما يحلو لك لتجدها آخر الليل منتظرة إياك في الفراش متزينة كعروس تناديك ؟ لا لست أنا تلك وإن أردتها فابحث عنها خارجًا.....
رمت بكلماتها ثم التفت مولية إياه ظهرها ، تنهد بقوة ، كم مرة تعيد تلك الكلمات عليه ! لقد نفذت قدرته على الاحتمال ، قلبه يئن راجيا فقط إشارة ، لكنه لم ييأس وهو يقترب منها متحدثًا بخفوت بجوار أذنها
-: ألم يكفِ ما حصل لي ؟ ألم يحقق انتقامك ؟ لقد خسرت العديد من الأشياء في بعدك ، في العمل ، في الحياة ، خسرت نفسي يا شغف ، أصبحت رجل فاشل خاسر ، لا أفعل شيئًا سوى الجري خلفك بكل مكان مترجيًا سماح تبخلين به ، ألم يحن قلبك ولو قليلًا !
نبرته المقهورة لتلك الدرجة رغم عنها مزقت نياط قلبها ، مرارة حديثه آلمتها رغم كل شيء ، أطبقت عينيها بقوة ، تختزل الألم بين ضلوعها لتلتفت إليه بنظرات غير مسامحة .. نظرات قوية لكن ألين قليلًا وللحق ... أضعف قليلًا
-: صعب السماح يا غيث ، ما أن أنظر إلى وجهك حتى أتذكر كل شيء ....
ثم أخذت تعدد على يديها من جديد نبنبرة ظهر بها بكائها الوشيك ، تتفنن في تعذيبه كالعادة ، تعزف بكلامها مقطوعات على أوتار وجعه لتمزقها بسكين رفضها الحاد
-: أنت لم تثق بي ، لم تثق بي يا غيث!! أهنتني في شرفي ، يا الله أنت صفعتني !! صفعتني أنا لمرتين ...
قالتها باستنكار متألم وكأنها لم تستعب فعلته للآن ، فقال وهو يفرد كفيه بألم جم
-: أصفعيني لو ذلك سيريحك ، لو ستسامحيني بعدها أصفعيني
أخذت تنظر في عينيه تحاول إخفاء الألم من نظرتها عبثًا ليمسك هو كفها مشوحًا به ليهوي به على وجنته بقوة صائحًا بصوت مهزوز متقطع و عبراته تكاد تطفر من عينيه
-: أصفعيني شغف ، أصفعيني
كان في آخر كلامه قد تحول إلى صياح مذبوح من الأعماق وقد انفلت عقال دموعه دون أن يدري ، دمعت عيناها على الفور لرؤيتها حالته فأخذت تتراجع للخلف وهي تهز رأسها بتلك الـ "لا" التي تثير جنونه فتقدم نحوها بسرعة صائحًا وهو يهزها من كتفيها
-: كفاك رفضًا لقد هرمت ، أرحميني قليلًا !
ثم وقف أمامها بثبات وكأنه صنم من حجر ، وكأن كل ما حدث لم يحدث قائلًا بنبرة هادئة ، هادئة حد الموت وهو يسبل أهدابه
-: أصفعيني شغف
هزت أيضًا رأسها بالنفي ولم تدري كما هو أن دموعها كانت تنهمر على وجنتيها كما السيل ، فقال بألم مقطبا وهو يقرع على صدره
-: فرغي ألمك فيّ ، هنا ... أضربيني ، افعلي أي شيء يا شغف هيا أخبرك أصفعـ.....
ولم يكمل كلمته حتى هوى كفها على وجنته بقوة ، قوة آلمت قلبه ليس جسده لما تشبعت به صفعتها من قسوة وغل ، لم يكد يتكلم غير قادرًا على مغالبة دموعه ليجدها تضربه بقبضتيها بقوة على صدره وهي تنتحب بقوة غير واعية تقريبًا ، كل دمعة تسقط على قلبه تكويه كويا ، أطبق عينيه بمرارة لتنساب عبراته متمردة على حبس جفنيه المغلقين ، كان يبكي دون إرادة لحالتها وهي تضربه بقوة باكية هاتفة بكلام لم يفهم منه سوى "لماذا؟" ، خرجت منها ممتزجة ب "آآه" محملة بكل وجعها ، سؤالًا ميتًا من قلب يحتضر ممثلا البقاء ، تركها تفرغ كل شيء على صدره كما وعدها....
تضربه ، تسبه ، تشتمه وتلعنه هو حقير يستحق وأكثر ، يستحق كل ما يشعر به الآن !
بعد فترة انهارت على صدره تبكي ، تبكي غير واعية من الألم ، تتشبث به وتزيحه عنها ، تريده حد موت قلبها ، وترفضه حد موت كرامتها
فرغت القليل ليبقى الكثير ، الكثير جدًا.....
احتضنها بين ذاعيه بألم ، يود شق صدره ليدخلها بداخله لعلها ترتاح ، يود ضرب نفسه حتى الموت لما فعله بها وهي بريئة نقية ، أنقى منه وهو القذر ، هو الخائن ... خائن الحب والثقة ، شدد من احتضانها وهو يهمس في أذنها باحتراق
-: آسف ، والله أني آسف ، متمرمغ في الذنب من رأسي حتى أخمص قدميّ ، يغطيني الندم حتى العنق ، سامحيني حبيبتي سامحيني شغفي......
أخرجها من أحضانه ينظر إليها محاولًا رسم ابتسامة هاوية على شفتيه
-: أعرف أن دروب غفرانك طويلة ، لكن فقط أسمحي لي أن أخطو أول خطوة داخلها ، أفتحي لي الباب وأرحمي عاشقك ، أجعليني أعمل على تبديد كل ذكرى مؤلمة مبدلًا إياها بأخرى تحكي عن مدى عشقي لك
فنظرت له نظرة جمدت الكلام لتقع حروفه متكسرة عند قدميها هامسة بهدوء وكأن ما حدث لم يكن
-: وأين الثقة ؟ هل سأجلس منتظرة حدوث شيء كهذا ثانية لتقتلني حقًا هذه المرة !!؟
-: لا أقسم........
قال باندفاع لكنه لم يكمل عندما تركته ورحلت بهدوء تاركة طيفها يعذبه بهمستها الخافتة ليصيح بعذاب وراءها
-: آه ، لماذا يا شغف لماذا
ليتهاوى جالسًا على الأرض دافنًا رأسه بين كفيه ، يتأوه و يتأوه بألم لعله يقل لكن ... عبثًا
**
نفس الوقت....
دخل إلى المنزل زافرا بحنق وهو يخلع ربطة عنقه ملقيا إياها على الأريكة حيث رمى نفسه جالسا !
يجول بنظره في أرجاء الشقة كعادته مؤخرا ، الأنوار مطفأة ، الغرف باردة لا تنعم بدفئها ، يصعب عليه حقا الاعتراف بهذا حتى بينه وبين نفسه لكنه ... اشتاق !
اشتاق لمشاكساتهما ، لابتسامتها التي تشيعه و تلقاه بها ، لوجباتهما معا ، لكل تفاصيلها التي بات يغرق بها شيئا فشيئا ، كان يتشربها بنهم حتى الثمالة لتأت فجأة وتنزعها من عروقه بقسوة ليعاني هو وحيدا أعراض الانسحاب...
تعامله كطفل صغير متخيلة أنه سيرضخ لما تريده بالخصام والانقطاع عنه؟
حسنا ! هو على وشك الرضوخ بالفعل !
لكن ليس بسبب خصامها ... وإن كان أحد أقوى الأسباب ، إنما ﻷنه قد فكر كثيرا خلال هذا الأسبوع فوجد أنه كيف يسخر من تخلف بعض أهل قريته وخاصة فيما يخص التعليم ليأتي و يسير على نهجهم حرفيا في أول موقف يعترضه !
لها الحق هي في إكمال تعليمها و تحقيق ما حرمت منه تحت رحمة والدها !
كشر عن جبينه و رسم على وجهه العبوس وهو ينهض متجها إلى غرفتها يقرعها بقوة قبل أن يدخل دون إذن....
كانت جالسة تمشط شعرها ، لتتقابل نظراتهم في المرآة ، نظراته العابسة المحترقة مقبالة لنظراتها الباردة حد الاحتراق !
تعلقت عيناه لثوان بشعرها قبل أن يقول بهدوء ظاهري
-: انجزي ما تفعلينه و أنتظرك خارجا
لم ترد ليصيح قبل أن يهم بالخروج
-: و ستأت يا سنابل ، لمصلحتك ستأت
قال تلك الأخيرة بابتسامة خبيثة قبل أن يخرج واضعا يداه في جيب بنطاله.....
**
تركته منتظرا لبعض الوقت حتى كاد ينهض ليجرها من شعرها الذي تتهادى به معذبة إياه حتى رآها تطل....
استرخى في جلسته بلامبالاة متتبعا إياها بعينيه حتى جلست بجانبه على الطرف الآخر من الأريكة ، ظل يناظرها ببرود صعودا ونزولا على جسدها حتى احمرت وجنتاها بحنق قبل الخجل !
ابتسامة باردة تربعت على شفتيه وقد أقسم أن يخرجها عن برودها كما فعلت به طوال الأسبوع الماضي !
كادت وجنتاها أن تنفجران من الحنق وهي تزفر كل دقيقة ليعد في سره بعد حين، واحد ، اثنان ، ثلاثة.....
-: هل أخرجتني لتحدق بي بتلك الطريقة السافرة !!
اتسعت ابتسامته لصحة توقعاته وهو يراقب انفجارها بتلذذ واستمتاع ، عدة دقائق كانوا كافيين قبل أن يقرر أن يرحمها أخيرا قائلا بذات النبرة
-: إذا تخاصمينني أنا ؟ وتمتنعي عن الكلام معي لأسبوع كامل ! أتعاقبين طفلك!!
تكتفت ناظرة للأمام دون رد أيضا ليقلدها مع اختلاف ابتسامته التي تتسع شيئا فشيئا -: إذا عقاب بعقاب ، كنت سأوافق على طلبك إنما بعد ما فعلت......
لم يكد يكمل كلامه حتى وجدها بجانبه تكاد تلتصق به ، عيناها تلتمعان بأمل متعلقتان بعينيه ، ليتنحنح ويكمل محاولا عبثا إخفاء تأثره والذي ظهر فاضحا في حشرجة صوته
-: إنما بعد ما فعلت ، أظن أنني سأعيد التفكير !
أمسكت بساعده وهي تقول غير مصدقة
-: هل معنى هذا أنك وافقت أن أكمل تعليمي ؟
أزاح يداها المتشبثتان بساعده رغم رغبته الملحة في العكس قبل أن يكتف ذراعيه هاتفا بتهكم
-: كنت !
ارتسمت خيبة اﻷمل على وجهها وشفتيها تميلان بحزن ، لتصيح بغضب بعدها على الفور وهي تتخصر
-:لم يكن عليك الرفض من الأساس في بداية الأمر ! بالتأكيد ردة فعلي طبيعية إزاء فعلك !
قطب ليصيح بحنق مشوحا
-:مم مصنوعة أنت ؟ أتكونين أنت المخطئة لتأت وتتذمرين صائحة بكل عنجهية ! من أين لك كل ذلك الغرور يا صغيرة !!
-: لا تنعتني بالصغيرة !!
-: لا بل صغيرة
-: أخبرتك لااااا
صاحت بغيظ وقد نجح في حرق دمائها في تلك الدقائق، ليرجع بظهره على الأريكة في استرخاء صامتا لبضع دقائق يحتفل بنصره الصغير ، قبل أن يسمعها تهتف بصوت ظهر به يأسها وقنوطها جليا
-: حسنا ، أنا آسفة ! جيد هكذا !
اتستعت ابتسامته قبل أن يقول بتشدق
-: ولو أن اللهجة لا تنم عن أي اعتذار من قريب أو بعيد لكن حسنا ، تقبلنا اعتذارك يا صغيرة !
ألجمت لسانها وكظمت غيظها لاستفزازه ليقول بعد عدة دقائق من الحرق ﻷعصابها
-: إذا ، أريد منك بعض الأوراق لنقدمها للجامعة حتى تلحقي ببداية السنة الدراسية الجديدة !
لم تصدق ما تسمعه ! أحقا وافق بتلك السهولة بل ويطلب منها الأوراق أيضا !
دون وعي ارتمت بين ذراعيه محيطة عنقه بذراعيها في سعادة بالغة أعمتها عن التمييز هاتفة بفرح
-: شكرا سيف ، حقا شكرا !
أحدهم أصابه بصاعق كهربي ؟ ربما شعاع برق من السماء هبط عليه !
لم يجد تفسيرا منطقيا لتلك الرعشة التي اجتاحت جسده الضخم بلا رحمة جراء فعلة تلك الصغيرة الشقية !
أتلتصق به حقا ! بالفعل هي بهذا القرب أم أنها محض أوهام ! ذراعيها هاذان يحيطان بعنقه أم يخيل له !
ظل متجمدا لا يعرف ماذا يفعل !
أيضمها !!! لكنه لا يأمن لنفسه البتة !
لا يأمن إن ضمها إليه ألا يكسر أحد ضلوعها بين ذراعيه أو أن تخرج بكدمات زرقاء في جسدها !
أيزيحها عنه ! لا والله هذا ما لن يحدث أبدا !
أحمق بل غبي هو من يلفظ النعمة وهو ليس بكلاهما !
ظل معذبا بين حلاوة القرب و مرارته إلى أن أدركت نفسها وهي تخرج من بين أحضانه بخجل هاتفة باعتذار خافت ، ليتنحنح هو بارتباك مجيبا إياها وعيناه في الأرض
-: لا تعتذري ، ألم أخبرك من قبل ، اعتبرني كأبيك تماما !
ليتمتم بكلمات خافتة متجها لغرفته بسرعة مغالبا رغبته في نفي تلك الترهات التي تفوه بها فعلا لا قولا !
تاركا إياها وراءه تغلي من الغضب بعد انقشاع تلك السحابة الوردية التي كانت تحيط بها في عالم آخر ، عالم بدايته ونهايته بين ذراعيه وعلى صدره القوى إنما الحنون الدافئ رغم عدم فهمها إلى الآن كيفية اجتماع تلك الصفات سويا !
-: أبي ! أيها الأحمق عديم الإحساس ، ستعيش وتموت أحمقا كبيرا !
هتفت بخفوت تكاد تحترق من الغيظ قبل أن تتجه لغرفتها بخطوات حانقة إنما لا تستطيع كبح تلك الابتسامة التي تشق شفتيها دون إرادتها !
اللعنة على التناقضات التي تسببها في يا سيف ! هل أفرح الآن أم أحزن !!!......
**
بعد يومين
يجلس في غرفة المكتب كما باتت كل مقابلاتهم ، مسندا مرفقيه إلى ركبتيه بملامح جامدة وكأنها لصنم ، يحدق في نقطة وهمية شاردا في اللاشيء ، يعلم الله كم يتكبد من العناء ووجع القلب ليجلس تلك الجلسة ، اليوم جاء ليريحها من إلحاحه ، ليخط النهاية بيده هو كما تمنت!
رفع رأسه يشاهدها تدخل ، يتفرس في كل إنش فيها عن كثب ، يحاول الشبع من ملامح سيحرمها على نفسه ، أسدل وجعا مخفيا ستاره على وجهه ، كم يشق عليه بدء الحديث بينما هي تجلده بنظراتها الغير صابرة ، تتحاشى النظر إليه ! وكأنها لا تطيقه ولا تلك الغرفة المتشبعة برائحته ، تكلم أخيرا بتحشرج بعد صراع من ذاته
-: أجلسي شغف من فضلك
تكتفت ناظرة أرضا تهز رأسها بالرفض ، ناقمة هي ،ألا يفهم أنه بكل تلك الزيارات المتكررة يوجعها !
و يوجعها أكثر عدم قدرتها على الرفض ! لا تنكر الراحة التي اكتنفتها بعد مقابلتهم الماضية وقد فرغت شيئا من قهرها وكمدها ، لكن تبقى الذكرى منقوشة بجمر على القلب ، جمرات منطفئة لتضرم بها نارا شعواء رؤيته !
أسبل أهدابه مبتسما بمرارة لرفضها ، خيم الصمت لبضع دقائق قبل أن يقطعه قائلا ببحة باتت تلازمه
-: أسألك اليوم للمرة الأخيرة يا شغف ، أتسامحينني ؟
نظرت له مقطبة وكأنه يتحدث بالطلاسم ! وكأن هذا السؤال ليس الذي لم يلبث يفارق لسانه !
لكنها آثرت الصمت ، أحاطت نفسها بذراعيها تنتظر تتمة الحديث رغم تلك القبضة التي تعتصر قلبها
-: أرجوك يا شغف ، أريد إجابة واضحة الآن !
أخذت نفسا عميقا لترد بمماطلة
-: تحدثنا كثيرا في هذا اﻷمر و أنت تعرف رأيي جيدا !
أطرق ثانية لائذا بفقاعة من الصمت لبضع دقائق ، صمت يلفهما كان بمقدار كل الكلام ، أو كان أرحم !
كلاهما يخاف النطق ، يهاب الكلام ، يريد مد الزمن وإطالة الوقت حتى و إن كان متشبعا بألم يخترق صميم الروح....
-: أي أنك ترفصين مسامحتي ، صحيح؟
لماذا يا غيث ! لماذا توجعني وتوجع نفسك ! أتستلذ بالألم الذي تسببه لكلانا !!
لكنها وضعت حجر من الصوان على قلبها ، تقوي نفسها لتنطق بها وتنهي الأمر ، تتخلص من ألم متقطع للوصول إلى اﻷلم الأبدي !
-: نعم يا غيث ، صفحي صعب بل أقرب إلى المستحيل ، و أنت تعرف ، تشهد كل محاولاتك الفاشلة !
للحظة موجزو تملكته ... الشفقة !
شفقة على حالها ، على بحة صوتها الصارخة بالنفي ، على الحروف المتشبثة بشفتيها ترفض الخروج !
أحس بقلبه ينسحق ، ألم مضني يحفر في أعماقه السحيقة ، هوة سوداء تتسع شيئا فشيئا حتى تكاد تبتلعه !
ازدرد ريقه بصعوبة قبل أن يقول بتحشرج ، يبوح لها بلواعجه في آخر لقاء كحبيبة !
-: حسنا يا شغف ، و أنا أتيت اليوم كي أريحك !
شهيقا طويلا أخذه ليخرجه زفرة أطول وهو يكمل ملتزما الصمت بين الفينة والأخرى
-: أخبرتك بأنني أعلم بحجم ذنبي ، بأنني مستعد لتحمل العقاب ، موافق على تحمل وخزات أشواك دروب غفرانك ، لكن عندما تقبلي أن تمنحيني فرصة على الأقل !
غصة استحكمت حلقه عرقلت كلماته ، ابتلعها بصعوبة وهو يكمل بصوت منكسر إنما قوي حازم
-: كرامتي باتت تحاكي التراب مقاما ، دست على كبريائي كما قلبي بحذائي حتى أنال رضاك ، لم أفعل شيء في الأيام الماضية سوى الركض ورائك لاهثا راجيا السماح بكل طريقة ، وقبل أن تعترضي ، أعرف أنني فعلت بك المثل ، لكن ما فعلته أنا كان موقفا واحدا ، كسرا واحدا ، ووجع واحد ، إنما في كل مرة كنت تهينيني برفصك كان و كأن خنجرا يغرز في قلبي ، و انا احتمل ، لكن لكن إنسان طاقة و طاقتي لم تنفذ بعد وإنما روحي من هرمت ، أريد الاحتفاظ ببعض منها للعيش فقط !
يالوجعك يا قلب ! لماذا كل هذا الوجع ألم يكن هذا ما تريده !! إذا لماذا تشعره يمضي صك نهايتها بيده ، كل كلمة كانا تقتلها ، تسحق قلبها و تفتته !
والدموع في مآقيها تقهقرت للخلف بضعة سنتيميترات ولم تكد تتكلم حتى سمعته يكمل بصعوبة وهو يطرق برأسه
-: هذا لا يعني أنني سأتوقف عن حبك ، أو عن انتظارك في كل لحظة ، لا يعني أن قلبي ستسكنه سواك وتكون رفيقة لروحي غيرك و إنما ، حتى الوقت الذي تغفرين فيه سأبتعد ، سأبتعد حتى لا نسبب الألم لكيلنا كما قلت ، و سأنتظرك دائما و أبدا ، حتى و إن لم تأت ، سأنتظرك حتى ألفظ أنفاسي الأخيرة
هل هذه نهاية المطاف حقا !! أينهي ما بينهما بكلماته تلك !!
ألن يحتمل عقابها و نقمتها قليلا بعد ! والآن يأتي بكل وقاحة ويقول ما قاله !!
لم يمهلها فرصة للتكلم فقد كان رحل !
رحل إلى أمد غير محدد ، منفذا رغبتها الغبية !
تهاوت جالسة تحدق في الفراغ مبهوتة ، لم تذرف دمعة واحدة ، هل انتهى الأمر بالفعل!!
بينما كان هو في سيارته يسند راسه للمقود ، يسمح لدمعة واحدة بالانبجاس من زاوية عينيه ، قبل أن يرفع رأسه بعزم قاتلا إياها في مهدها ليدير السيارة هامسا لنفسه
-: هذا أفضل لكلينا..
يتبع الفصل السادس والعشرون اضغط هنا