رواية عبث باسم الحب الفصل الخامس 5 بقلم الكاتبة رحمة سيد
نوفيلا عبث باسم الحب الفصل الخامس 5
في الشقة المستأجرة في مرسى مطروح..
كان مروان جالسًا على الأريكة يضع قدم فوق الاخرى ومُتكئ بظهره للخلف يشاهد التلفاز، وفي يده طبق به "فشار" يتناوله في تسلية، منتظرًا إنتهاء "رهف" التي كانت تستحم في المرحاض..
مر وقت ليس بقليل ورهف لم تنتهي، فنهض مروان ليطرق باب المرحاض في هدوء وهو يسألها:
-إيه يابنتي كل دا لسه مخلصتيش؟
وفي الوقت نفسه، كانت رهف ساقطة على أرضية الحمام؛ فبعد أن مر الوقت دون أن تشعر به وهي تستحم بالماء السخن، ملأ الدخان اركان الحمام وقل الاكسجين، فبدأ يداهمها دوار قوي نجح في زلزلة ثباتها وإسقاطها أرضًا بلا حيلة؛ تحاول إلتقاط أنفاسها بصعوبة وهي تسعل عدة مرات وقد شعرت أن الهواء إنحسر تمامًا من رئتيها، حاولت تحريك جسدها لتنهض او حتى أن تنادي على مروان، ولكن الدوار مع نقص الاكسجين كانا أقوى منها..
فظلت كما هي منهكة القوى، بعينين زائغتين شاحبتين كبشرتها التي بدت وكأن الحياة إنعدمت منها...
لحظات مرت وهي تكتشف أن الهواء الذي كانت تتنفسه دون أي عناء او حساب؛ ما هو إلا نعمة كبيرة حُرمت منها في تلك اللحظات، وبدأت تحس أنها في مواجهة مباشرة مع الموت... أن تلك الدقائق هي الدقائق الاخيرة وتنتهي رحلتها في تلك الدنيا.
سمعت طرقات مروان على الباب وسؤاله، وجاهدت لتنطق، ولكن النطق كان بالنسبة لها بمثابة طيران طير مكسور الجناح لأعلى برج!
وكل محاولاتها لم ينتج عنها سوى همهمة بسيطة مكتومة بالطبع لم تصل لمروان..
فعاد مروان يطرق الباب مرة أخرى مناديًا إياها وقد بدأ القلق يُطلق جنوده بين أركان قلبه:
-رهف انتي سمعاني؟ اتأخرتي كده لية؟
وأيضًا لم يجد رد، فصاح مُحذرًا عساه يجد رد:
-رهف أنا هكسر الباب وهدخل.
وحين خاب أمله بإيجاد رد، بدأ يدفع الباب بعنف في محاولة لكسره والدخول، وبعد عدة محاولات نجح في كسر القفل وفتح الباب، وما إن فتحه حتى نال منه هذا المنظر الذي صفعه غارزًا في قلبه هلع حقيقي لم يسبق له الشعور به!
ركض نحو رهف التي قد بدأت تفقد الوعي بالفعل، وأمسك "البُرنس" ليجعلها ترتديه ويريطه على جسدها بإحكام، ثم حملها بسرعة وهو يناديها بصوت مذعور:
-رهف؟ رهف ردي عليا ؟ رهف سمعاني ردي عليا.
بدأ يسعل هو الآخر من تراكم الدخان في المكان لدرجة الاختناق، وخرج حاملًا رهف راكضًا نحو الفراش بسرعة ليضعها عليه، ثم جلس جوارها ووضع ذراعه أسفل رأسها، يهزها بقوة ويضرب برفق على وجنتيها في محاولة لجعلها تستعيد وعيها وحروفه تحمل قسطًا واضحًا من الخوف والقلق:
-يا رهف، رهف فوقي، رهف!
إنتفاضة عنيفة فزعة أصابت قلبه حين فشل في الحصول على استجابة، رباااه وكأن قلبه سيتوقف عن النبض من كثرة الهلع الذي هاجمه وجعل كل خلية فيه تضج بالفزع..!
ولكنه لم يقطع الأمل بل ظل يحاول ويحاول إلى أن بدأت تفتح عيناها والوعي عاد لينثل خيوط الظلمة التي كانت تبتلعها.
بدأت تتنفس بصوت مسموع بينما هو شبه ابتسامة وُلدت على شفتيه حين أشرقت بُنيتاها من جديد من بين جفنيها المغلقين، وظل يردد في لهفة:
-ايوه اتنفسي، خدي نفس بالراحة.
وبالفعل مرت الدقائق ورهف تلتقط أنفاسها، حتى بدأت أنفاسها تستقر، بينما مروان يحتويها بين ذراعيه الفولاذيتين، يمسح بأطراف أصابعه على جانب وجهها وخصلاتها المبلولة في حنو شديد..
ثم خرج صوته دافئًا متسائلًا ولم يخلو من القلق:
-بقيتي أحسن دلوقتي يا حبيبتي؟
اومأت رهف مؤكدة برأسها في إرهاق دون أن تنطق، ولم تكن في حال يسمح لها بالتركيز في كلمته التلقائية التي هربت متسللة من قلبه الذي كان مُحاط بغشاوة عقلية حاجبة لمشاعره.
بعد مرور نصف ساعة...
انتهى مروان من مساعدة رهف في ارتداء ملابسها كاملة، وقد بدأت الحياة تغزو وجهها الذي بدا منذ لحظات كأرض قاحلة خالية من أي معالم من معالم الحياة؛ وعاد وجهها ليزهر شيئًا فشيء.
ولكن لم تكن قد نجت كليًا من بين براثن الدقائق الموحشة التي عاشتها منذ قليل فقد كانت على عتبة الموت حرفيًا...
أمسك "مروان" بذقنها برقة ليرفع وجهها نحوه هامسًا في نبرة عذبة يشاكسها محاولًا إخراجها من تلك الحالة:
-كده تقلقيني عليكي يا غزالة.
ابتسامة شاحبة نوعًا ما ارتسمت على ثغر رهف التي راحت تهمس مرددة خلفه:
-غزالة؟!
فأومأ مؤكدًا، وعيناه تلتقي بعينيها البُنية الواسعة، يذوب في جمال النظر لهما، ثم هتف بصوت يتدفق منه العاطفة:
-اول ما ببص لعنيكي بتفكرني بالغزالة، واسعة ولونها شبه القهوة وفيها حاجة غريبة بتشدني وبتخليني عايز أفضل باصص ليها بس.
لمعت عيناها وهي تحدق به، لن تنكر تلك الرفرفة من قلبها الذي إنتعش وذلك الغزل يسقط عليه كقطرات مياه بعد قحل ليرويه.
وراحت تقول بعدها في رقة:
-مع إن لونها مش مميز وعادي جدًا.
-إنتي أي حاجة فيكي مميزة يا غزالة، انتي كلك مميزة.
تمتم بها بنبرة رجولية عميقة ذبذبت دواخلها دون أن يفكر حتى، بدا وكأنه مسلوب الإرادة على لسانه وقلبه، وكأن صعقة الصدمة منذ قليل حررته من سطوة السيطرة العقلية التي كان عليها، وجعلته يدرك الوقت الذي يضيع هباءًا دون أن يستثمر كل ثانية منه في صنع هالة من السعادة لهما.
فخرجت حروفها مطلية بالخجل وهي تشيح بعينيها عنه:
-شكرًا.
إنتبه مروان بعدها لحالة التيه التي انتباته، فأراد تغيير الجو، فعاد ليرفع ذقنها مرة اخرى ولكن هذه المرة تبدل الوهج الذي كان يُنير عيناه بآخر عابث ماكر عرفته مؤخرًا بينما يردف:
-بس بقولك إيه، هو مش المفروض الحالات اللي زي كده بيعملولها تنفس صناعي.
ثم ضرب على جبهته في حسرة مصطنعة:
-اااخ ازاي فاتتني دي!؟
نظر لها مضيقًا عيناه كأنه يتفحصها، والعبث يتقافز من مقلتاه أردف:
-أنا حاسس كده إنك تعبانة ولازملك تنفس صناعي.
فهزت رهف رأسها بسرعة نافية تخبره وقد تخضبت وجنتاها في خجل:
- أنا ؟ لا أنا كويسة خالص، كويسة جدًا.
-والله ما يحصل لازم اعملك تنفس صناعي، كله الا الضمير والإتقان دا أنا في الإتقان معنديش يامه ارحميني.
قالها في شقاوة وهو يمسك رأسها مُقربًا إياها منه فضحكت هي من أعماق قلبها مدركة محاولته لإخراجها عن طور تلك الحادثة المهيبة، ثم همست بنعومة أسرت قلبه:
-مرواااان بطل استغلال بقا.
ضحك هو الآخر وهو يجذبها لأحضانه مقبلًا قمة رأسها بحنان، ثم أخذ يتمتم بضجر وبراءة مصطنعة:
-يااااه على نفوس البشر، انا عايز اساعدك واديكي من نفسي الغالي وانتي تقوليلي استغلال، فعلًا خيرًا تعمل شرًا تلقى!
****
بعد مرور أسبوع...
أسبوع كان من أحلى الأسابيع التي مرت على كلاهما، كان لون جديد زاهر طُبع على كم هائل من السواد، كان راحة بعد مشقة وهناء بعد تعاسة..!
أسبوعان أثبتـا لرهف أنها لم ترى كل ما يخبئه القدر لها، فقط رأت القاسي منه، ولم تكن تدري أن السعادة والقسوة جزءان غير منفصلان، فأنت لن تنال وجهًا واحد منهما.
ووصلا لدرجة من التواصل النفسي والعاطفي كبيرة لدرجة أنها أصبحت تتلهف لكل لقاء عاطفي جديد يزرع فيها نبتة ود جديدة نحو مروان..
كما أنها أصبحت ممتنة بشكلٍ ما لإصرار مروان على اصطحاب بعض "قمصان النوم" معهم!
كانا داخل احدى القرى السياحية في مطروح، تحديدًا في كافيه أمام حمام السباحة، كانت رهف جالسة مُتكئة للخلف بأريحية تزيد إلتصاقها بظهر المقعد، تستمع بالجو المشمس الرائع، بينما مروان جالس جوارها هو الآخر مرتخي الملامح يرتدي نظارته الشمسية...
وفي نفس الوقت كانت سيدة ثلاثينية تمر من أمامهم ذات جسد ممشوق ترتدي ملابس تظهر أكثر مما تخفي، محددة تقاسيم جسدها بوضوح، وكان مروان بالصدفة البحتة يدير رأسه نحوها ناظرًا نحو "النادل" باحثًا عنه، فاعتقدت رهف أنه يلاحق تلك السيدة بعينيه مستمتعًا بالتغزل الصامت في جسدها الأبيض الواضح، فشعرت بشيء وكأن سن إبرة يُغرز بمنتصف قلبها يدفع داخلها سائل حارق جعل دمائها تغلي "بالغيرة"!
تغضنت ملامحها تلقائيًا وهي تتابعه، قابضة على ملابسها بأظافرها وكأنها تجاهد نفسها حتى لا تنهض وتمزق جسد تلك الشمطاء السعيدة بعرض جسدها للجميع..!
تجهل كهن ذلك الشعور الذي يهاجم دواخلها لأول مرة فارضًا سيطرته عليها حتى جعلها فاقدة للسيطرة على نفسها وتصرفاتها...
ولكنها ترجمته أنه حمائية طبيعية بالنسبة لإمرأة ينظر زوجها لأخرى وهي جواره..
حين نظر مروان نحوها لاحظ ملامحها المقلوبة تعكس الغضب الذي يتماوج داخلها، فسألها في استغراب:
-مالك يا رهف؟
عقدت رهف ذراعيها وأجابته من بين أسنانه بنبرة جافة كادت تكون حادة:
-مالي يعني؟ مليش منا مرزوعه قدامك اهوه عملت إيه؟!
زاد استغرابه اضعافًا من لهجتها الهجومية ومن ثم راح يردد ساخرًا:
-لا ابدًا وشك بس عامل خناقة على الضيق كده.
فاعتدلت جالسة على المقعد تسأله في تحفز غريب للشجار ونفث كل الغضب الذي يعتمل بصدرها في وجهه:
-أنت قصدك إيه بقا؟ إني نكدية صح؟
-انتي؟ لا خالص!
تمتم بها مروان في سخرية مطلية بالبراءة الزائفة، فلوت رهف شفتيها مغمغمة بغيظ يحلق في سماء عينيها:
-يا سلام عليك يا بحر الفرح يا ترعة المرح يا هرمون السعادة.
ضحك مروان وهو يضرب كف على آخر، وقال من بين ضحكته الخفيفة:
-طب أنا هسيبك عشان شكلك مجنونة دلوقتي، وهروح أطلبلك لمون.
وكاد يستدير بجسده للخلف بحثًا عن النادل وحيث تقبع تلك الشمطاء الشبه عارية، فهتفت رهف بسرعة وبلهجة إجرامية:
-لو جدع لف بقا ناحيتها تاني عشان تكون أخر لفة في حياتك.
للحظة لم يستوعب مروان ما نطقت به وأعتقد أنها قد جُنت، ولكن حين انتبه لصيغة المؤنث التي تمركزت وسط حروفها، ومن ثم لمح بطرف عيناه السيدة القاطنة خلفه، ادرك أخيرًا أنها بالفعل جُنت؛ ولكن بجنون الغيرة... ومَن غيره يدرك جيدًا هذا الشعور الناري بالتملك، جذب نفسًا عميقًا متذوقًا نشوة هذا الشعور وكأن أحدهم أطلق مفرقعات بين ثنايا روحه.
لم ينكر تلك السعادة والغرور الذكوري الذي اجتاح صدره حين أدرك أنها تغار، أنه بدأ يجني ثمار معاملته الطيبة الدافئة لها في أشد اوقات حياتها حرجًا.
قطع شروده صوت رهف الأجش وهي تخبره:
-قوم نمشي من هنا.
فسألها مشدوهًا:
-نمشي من هنا نروح فين؟!
هزت رأسها وبرأس حجرية لا تقبل سوى الموافقة، أردفت:
-نروح أي حتة غير هنا، أنا عايزه أمشي دلوقتي حالًا.
لم يكن يملك مروان سوى الموافقة فأومأ برأسه موافقًا على مضض:
-حاضر ياستي.
أوقف الرجل المخصص بتوزيع الكراسي وما شابه ذلك، ليتنحنح قبل أن يخبره بهدوء:
-لو سمحت عايزين نغير مكانا.
اومأ الرجل ثم سأله بنبرة دبلوماسية:
-تحت أمرك يا فندم، تحب حضرتك تروح فين؟
رد مروان بحروف مغموسة بالمكر الرجولي وهو ينظر نحو رهف بطرف عيناه، وابتسامة حملت نفس المكر كانت تنازع جدية شفتاه:
-أي حتة مفيهاش ستات عشان مراتي بتغير.
تجمدت رهف مكانها لوهله، وتمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها حين رمى النادل نظرة خاطفة نحوها ضاحكًا ثم عاد ينظر لمروان قائلًا:
-تمام يا فندم.
نبهه مروان بنفس الهدوء بعدها:
-بس معلش لو هنتعبك، شوفلنا حتة هادية كده متكونش زحمة.
-تحت أمرك، اتفضلوا معايا في مكان هادي جدًا ولسه مفيش رجل خالص فيه.
تشدق العامل بهذه الجملة وهو يتحرك سابقًا مروان الذي نهض ممسكًا بكف رهف التي كانت عاقدة الحاجبان في حنق كالأطفال غير راضية تمامًا عن كل ما يحدث.
وبالفعل أوصلهم العامل لهذا المكان، ولم يكن به سواهم تقريبًا وبعض العاملين؛ نظرًا لأن الوقت لازال مبكرًا.
غادر العامل، فاقترب مروان بكرسيه من رهف التي كانت تنظر أمامها بعند متجاهلة إياه وكأنها لم تكن تحترق بالغيرة منذ قليل وتتلهف للشجار معه..!
ليلكزها بكتفه في خفة مشاكسًا إياها:
-بتغيري يا غزال.
فنظرت رهف نحوه بسرعة متابعة في استنكار شديد:
-أنا ؟ لأ طبعًا وأنا هغير ليه يعني؟ وهو أنا عشان سكت قدام الراجل خلاص اتثبتت عليا !!
فعاد مروان ليلكزها في كتفها مرة اخرى بابتسامة واسعة يستوطنها الخبث:
-بتغيري، عليا الطلاق بالتلاتة أنتي بتغيري.
ضربت رهف كفًا على كف، وبابتسامة ساخرة مهزوزة تخفي أسفلها رجفة متوترة من الحقيقة المُكبلة بتلك السخرية! استطردت:
-لا اله الا الله، ما الطبيعي لما يكون جوزي عينه زايغه وماشاء الله عليه لازم أخد رد فعل ولا هبقى قرطاسه؟!
ثم نهضت قائلة في استهجان وضيق مصطنع بينما هي في الحقيقة تهرب منه بعدما ضربته بجملتها الأخيرة دون أن تعطيه فرصة الرد والتي هي متأكدة أنها ستفحمها:
-أنا رايحة الحمام وراجعة.
وبالفعل اختفت من أمامه بسرعة متوجهه نحو المرحاض والذي لم يكن بعيدًا عن مكان جلوسهم..
كان مروان جالس مكانه، ولكن فجأة من العدم فرقعت بعقله فكرة عبثية جعلت عيناه تلمع وهو ينهض ليتوجه خلف رهف نحو المرحاض الذي دخلته، وقف أمام المرحاض حيث عاملة النظافة التي تكون جالسة أمامه، فأخرج حفنة من الأموال من جيبه، وأعطاهم لها وهو يربت على كتفها مرددًا بابتسامة ودودة:
-ربنا يقويكي ويديكي الصحة يا أمي.
فبادلته الابتسامة بأخرى مشابهة:
-تسلم يابني الله يخليك.
-استأذنك بس لو ينفع أدخل لمراتي اللي لسه داخله دي عشان تعبانة شوية، ولو ينفع متدخليش حد عقبال ما نخرج خمس دقايق بس؟!
غمغم بها مروان مضيقًا عيناه في براءة خادعة وشيء من التوسل.. بينما السيدة كانت ترمقه بنظرات متوترة مهزوزة في تردد:
-لو حد جه ممكن يحصلي مشكلة.
هز مروان رأسه نافيًا بسرعة يحاول طمأنتها:
-لا صدقيني مش هنطول اصلًا هي عشر او خمس دقايق مش اكتر.
فأومأت موافقة على مضض، ثم همست تحذره في توجس:
-خمس دقايق او عشر دقايق بالكتير ماتطولوش بالله.
اومأ مروان مؤكدًا برأسه وهو يتحرك متوجهًا لداخل المرحاض ثم أغلق الباب خلفه، وجد رهف تقف أمام المرآة تتفقد هيئتها، وما إن رأته حتى إتسعت عيناها تهتف بعدم تصديق:
-مروان انت بتعمل إيه هنا أنت اتجننت؟
بدأ مروان يقترب منها بخطى بطيئة متعمدة ويردد بحروف هادئة في ظاهرها ومُغطاه بفرو الذئب الماكر في باطنها:
-لأ انا ماتجننتش، في ناس تانية هي اللي الغيرة جننتها، تعرفيهم؟
كانت تعي جيدًا أنه يقصدها هي، ولكنها هزت كتفاها تقول في براءة تامة:
-أعرفهم؟ لا خالص، أنت تعرفهم؟
أصبح أمامها مباشرةً، فأكد لها بابتسامة ذات مغزى:
-إلا أعرفهم، دا أنا أعرفهم أوي.
نظرت رهف نحو الباب وكادت تتحرك تنوي الخروج، او بمعنى أصح الهرب من حصاره الذي أصبح وشيك، وهي تردف بجدية وابتسامة خفيفة مصطنعتان كأنها تساير طفل:
-طب نخرج من هنا دلوقتي وبكره هنعرفهم أنا وأنت وناهد وكلنا.
وفجأة كان مروان يقترب أكثر فتراجعت هي للخلف تلقائيًا حتى إلتصقت بالرخام الذي يقبع أسفل مرآة المرحاض، ومروان يمد ذراعاه جوارها مستندًا عليه، يحشر جسدها بين جسده الصلب من أمامها والرخام من خلف..
اقترب بوجهه قليلًا من وجهها، وعيناه السوداء التي اشتعلت بها لمعة متوهجة تشبه اشتعال شمعة متقدة في الظلمة، تحدق في بُنيتاها المهزوزتان في ارتباك وهي تتمتم:
-مروان أبعد أنت بتقرب كده لية!
وحين لم يبتعد أكملت بسرعة وبنبرة مرتابة:
-مروان أحنا في مكان عام وممكن حد يدخل فجأة والله أبعد بقا.
أمسك مروان بوجهها الذي كان يتحرك في الاتجاه المعاكس وكأنها تراقب الباب خشية من دخول أي شخص، ولكنها في الحقيقة كانت تهرب... تهرب من الاحتراق بشعلة تلك الشمعة المتوهجة في عينيه!
ثم همس أمام وجهها يسألها بنبرة عميقة تحمل تساؤلات عدة مُبطنة في هذا السؤال الظاهري:
-بتغيري عليا؟
هزت رأسها نافية، ثم ردت تخبره بحروف متشنجة من الارتباك الزائد الذي سيطر عليها وهو مقترب منها هكذا أكثر من اللازم:
-آآ أغير إيه قولتلك مش غيرة بس آآ....
قاطعها حين عاد يكرر ضاغطًا على كل حرف:
-بتغيري يا رهف.
فنفت من جديد في عناد:
-مش بغير يا مروان.
-وأنا قولت بتغيري يا رهف.
تشدق بها في حنق طفولي غاضب، وقبل أن تنطق مجادلة من جديد كان يتابع متوعدًا:
-ويكون في علمك بقا احنا مش خارجين من هنا قبل ما تقولي الحقيقة، ويا أنا يا أنتي يا رهف يا بنت ام رهف.
إتسع بؤبؤيها في ذهول ومن ثم تشدقت في رفض قاطع وكأنه فقد عقله:
-لا طبعًا، أحنا لازم نخرج حالًا ماتنساش كمان إن دا حمام سيدات، وبعدين على فكره أنا قولتلك الحقيقة أنت اللي مش عايز تقتنع.
أقترب منها أكثر كالسابق بعد أن ارخى حصاره قليلًا، ليداعب أنفها بأنفه وهو يقول بنبرة صبيانية:
-هما ماقالولكيش وانتي صغيرة إن الكداب بيخش النار ولا إيه يا غزالة؟!
ابتلعت ريقها بتوتر، تلعن كونها شفافة بتلك الطريقة أمامه وكل أوراق كذبها مكشوفة دون حاجز !!...
إنتبهت حين رفع مروان يده وبإبهامه كان يتلمس شفتاها ببطء مُذيب لكل خلية فيها مهتزة أصلًا من اقترابه الحميمي، فأغمضت عينيها وقد إرتجفت تلقائيًا وهي تشعر بشيء لاهب يداعب مكنونات قلبها ودقاته قد وصلت عنان السماء، بينما هو يهمس بصوت عابث في ظاهره مثخن بالعاطفة:
-ومش بس هنفضل هنا، لا دا أنا ممكن أبوسك دلوقتي حالاً عشان يبقى فعل فاضح في مكان عام.
حاولت رهف لملمة شتاتها المبعثرة من هجومه العابث العاطفي، تهمس له في توسل عاقدة ما بين حاجبيها:
-لا يا مروان بالله عليك خلينا نخرج ونتفاهم في البيت.
-عظيم يمين ما يحصل، هتعترفي يعني هتعترفي، وعلى فكره بقا أنا معنديش مانع أنا أساسًا مجرم والفضايح مابتهمنيش!
غمغم بها مروان في إصرار شديد جعلها تدرك أن لا محالة من الإقرار بهذا الاعتراف..
فعضت على شفتيها والفكرة تجيء وتذهب بعقلها، فأمال مروان رأسه قليلًا يسألها ببرود كاذب يشتعل من الحماس:
-هااا ماسمعتش ردك؟
-أيوه بتنيل أغير، إرتحت؟
زمجرت بها في نفاذ صبر، تتلفظ أخيرًا ذلك الاعتراف المحبوس بين شفتاها، فاتسعت ابتسامة مروان المُهللة، ولم يتردد أن يكافئ شفتيها على هذا الاعتراف الذي فعل الأفاعيل بقلبه، فمال نحوها بحركة مباغتة يلثم شفتيها في قبلة قصيرة عميقة، قبلة أحست هي بالشغف الذي يتفجر منها فلم تكن تملك سوى حلاوة الشعور بها، قبلة كانت كختم ميثاق أقرته هي لتوها وختم عليه هو باللاتراجع...!
ابتعد بعد ثوانٍ يهمس بنفس الابتسامة الواسعة الراضية:
-يسلملي الغيران.
**
اليوم التالي..
خرج كلاً من " مروان" ورهف للتنزه والاستمتاع في احدى المناطق التي يغلب عليها الطابع البدوي، فقد كانت عبارة عن حلقات مخيمة، وكان هناك عدد كبير من الأناس متواجدين في نفس المكان..
كان مروان محيطًا برهف التي كانت تراقب العروض المقدمة بابتسامة هانئة مستمتعة تستمد الدفئ من حضنه، ولا يختلف وضع مروان عنها كثيرًا..
وبعد وقت قليل نهضت رهف تخبر مروان في هدوء:
-أنا هروح الحمام وجايه يا مروان.
اومأ لها مروان برأسه ثم سألها:
-تحبي أجي معاكي ؟؟
فنفت برأسها وردت بهدوء:
-لا لا مفيش داعي هو مش بعيد اصلاً وانا مش هطول.
-تمام.
وبالفعل غادرت رهف متوجهه نحو المرحاض، ابتعدت مسافة قليلة عن مروان، ولكن قبل أن تصل وقفت متصنمة مكانها حين وقعت عيناها على أخر شخصية تتمنى رؤيتها حاليًا..
وفي نفس الوقت، بمجرد أن رآهم مروان نهض بسرعة متوجهًا نحوهم و..
يتبع الفصل السادس اضغط هنا