نوفيلا نوتفكيشن البارت السابع 7 بقلم دينا ابراهيم روكا
نوفيلا نوتفكيشن الفصل السابع 7
انغمس "زيدان" في العمل داخل مطعمه التي فوتت الحمقاء افتتاحه، متمنيًا اللهو عن افكاره التي تحتلها "ميرا" كليًا، صدح صوت "نوتفكيشن" من هاتفه وتلقائية امتدت اصابعه يفتحها املًا أن تكون أبواب الوصال قد فُتحت بينهما، تنهد وهو يطالع إشعار هو ليس المراد.
رمى هاتفه في إهمال فوق الطاولة، متسائلًا كيف احتلت "ميرا" حياته بإشعار صغير وتبقي قلبه متعلقًا بأخر، يريد إقناع عقله بأن اهتمامه بها انساني وانه لا يعشق الرمش الطائر من عينيها الحزينة، ولكن من سيخادع فمع مضي الأيام المنقطعة بينهما أصبحت حالته يرثى لها وكان كالمجنون لا يرى لها شبيهاً ولا يرغب عنها بديلاً.
صدح صوت "نوتفكيشن" جديد ورغم تأكده بأنه ليس منها إلا أن أصابعه تحركت دون تحكم منه كالمهوس الباحث عن الملاذ في هذا الصوت.
ربما عليه رمي مخاوفة مع الرياح والاتصال بوالدتها واخبارها بشكل مباشر بكل شيء عن سوء تصرفات ابنتها الغالية عساها تنتبه لوجود أبنه ضعيفة النشأة تترعرع تحت مسئوليتها لأنه ببساطة لن يقبل أن تُبعده الخائنة عنها مهما كان الثمن، كارهًا أنها استطاعت بكل جحود الابتعاد عنه طوال الخمس أيام الماضية.
ألقى بالقلم من يده وحدق بنظراته الحادة إلى جواره ليتصادم بنظرات صديقه "كيرو" المتعجبة فقال "زيدان" في هجوميه بلا سبب:
-مالك أنت كمان بتبصلي كده ليه؟
-فرحان بيك.
مال فم "كيرو" للجانب ساخرًا من تصرفات صديقه المتناقضة فاستمر "زيدان" في عناده ساخرًا:
-مبروك عقبالك .
عاد يعبث بالأوراق المبعثرة فوق الطاولة أمامه يحاول تجاهل كيرو القابع على يساره و "محمد" الجالس على الجانب الأخر منه والذي تدخل قائلًا:
-بلاش تدخل معاه في جدال يا كيرو ده راجل بارد.
-اه انتوا فاضيين وجايين تضايقوني مش كده، قوم انت وهو خدولكم لفه في المطعم ده، أنا مش شغال هنا وسط الحسابات عشان انتوا تدلعوا.
أشار بأصبعه بينهما منزعجًا من وجودهم أمامه في هذه اللحظة:
-بقولك أيه أنت هتطلع عفريتك علينا ليه، أنت تروح تخرب الدنيا وتيجي تطلعه علينا احنا، ده أنت معندكش دم!
-معنديش دم ليه ان شاء الله يا لايف كوتش عصرك وزمانك.
أجابه "كيرو" في حزم مقررًا إكمال حديث "محمد" :
-ايوة معندكش دم طبعا، لما تسيب حبيبتك مع صاحبتها الحرباية تسمم عقلها ناحيتك وأنت قاعد تتملعن علينا يبقى معندكش دم.
انكمشت ملامح "زيدان" مغتاظًا من ذكرهم حياته الشخصية التي في لحظة حزن باح بها لهما فهتف بهما مستنكرًا:
-اسكتوا أنتوا مش فاهمين حاجة، مش عشان في لحظة ضعف ونكد حكيتلكم عن حاجة هتذلوني بيها طول العمر.
-نذلك؟ طيب يلا بينا احنا يا كيرو واضح ان زيدان مجنون دلوقتي!
قال "محمد" وهو يستقيم للابتعاد فهتف فيه "كيرو" جاذبًا له معيده للجلوس مؤكدًا:
-يا عم صلي على النبي في قلبك كده ما تبقاش قموص!
-كيرو أنت مسيحي يا حبيبي.
ردد "محمد" يحاول السيطرة على ابتسامته الساخرة فأجابه كيرو سريعًا بابتسامته المشاكسة:
-ما تتهربش من الموضوع وصلى ع النبي، عشان صاحبك ده لازم يتربى.
-صاحبه ده قاعد قدامكم يا شوية رعاع.
جاءهم صوت "زيدان" المتهكم بسبب تصرفات كلاهما الطفولية، ولكنه لن ينكر انه يتصرف كالمجنون طوال الأيام الخمس الماضية.
فبعد أن دأب على مراسلة ميرا لثلاث أيام توقف تمامًا بعدها عن مراسلتها وقد شعر بمرارة الرفض في حلقه وانها ببرودها وتحجرها تهين كرامته التي اباحها أمام محبته لها.
بينما هي لا تهتم للدرجة التي تكفي كي تجيبه أو تتساءل عن أحواله، بعد ان كان يقضيا الشهور الماضية سويًا على الهاتف من الصباح وحتى المساء.
-بياعه!
تمتم لنفسه مستنكرًا تصرفاتها، متوعدًا لها وقد سئم اهماله لما يدور في حياته والاهتمام بها على حساب الجميع في حين انها لا تشعر بحجم معاناته معها.
-أنت لازم تاخد موقف لكن تسيبها منها للحرباية كده غلط صدقني.
تمتم "محمد" فهز "زيدان" رأسه في موافقة، يدرك ان اصدقائه على صواب فهو غارق في جلد الذات تاركًا للحرباء المتمثلة في "ريناد" مهمة سكب البنزين على النار و" ميرا" الحمقاء التي لا تستحق ذره حب من قلبه، تركت لها ذاتها ومشاعرها في استسلام كي تصب عليها نصائحها الخبيثة كالقطران الأسود مُحولة كافة مشاعرها لزيدان إلى كتلة من الجمود.
أخرجه من أفكاره السوداوية، صوت نباح كلب يسيطر عليه طفل صغير بسلسلة فضية، اتجه "كيرو" نحو الصغير الواقف بجوار والدته لا شك انه سيمنعهم من دخول المط....
لم يكتمل تفكيره وهو يراقب مصدومًا كيف جذب "كيرو" الصغير مودعًا السيدة التي تركته هو والكلب ورحلته.
عاد "كيرو" لهم بعد ان أشار للصغير بالجلوس على طاولة فارغة تجاور الحائط كي يحاول اخفاء كلبه الاسود العملاق أسفلها.
-لا مؤاخذه يا شباب أخويا الصغير هيقعد معانا شوية لحد ما أختي تخلص محاضرة وتيجي تاخده البيت، متقلقوش مش هتسمعوا صو....
ابتلع كلماته عندما علا صراخ فتاة مرت بجوار الكلب رغم انه لم يحرك ساكنًا، انتقل عقل "زيدان" إلى ميرا التي تخشى الكلاب بشكل جنوني وكيف صرخت مختبئة خلفه مره عندما صادفا كلبً صغير لا يتعدى حجمه حجم قدمها الصغيرة.
هز رأسه يخرجها من رأسه منزعجًا من اقتحامها المستمر لكيانه ثم هتف في "كيرو" مستنكرًا:
-يا عم روح شوف أخوك ده هيطفش الزباين.
-هعمل ايه يعني يا زيدان!
أتاه رد "زيدان" سريعًا وهو يدفع "محمد" للأسرع نحو الفتاة كي تهدأ ويقلل من ذعرها:
-روح ارميه في أي حته، احنا ناقصين!
ضرب كف فوق الأخر مغتاظًا من الفوضى وحالة الهرج التي دبت في أرجاء المكان بسبب الفتاة التي تقف أعلى أحد المقاعد ترفض الهبوط في وجود الكلب مع استمرار صراخها المرعب:
-لا طلعوني برا أنا عندي فوبيا من الكلاب.
كاد يبتسم فهو نفس المبرر التي رددته ميرا "فوبيا المخلوقات الرائعة" مجموعة من الحمقى لا يعملوا شيئًا عن الحب والوفاء، انقلب مزاجه ليصبح لاذعًا مثلما يحدث مع كل تفكير تكون هي محوره، طرق أطراف أصابعه فوق الطاولة غاضبًا، حتى تعلقت أصابعه في منتصف طريقها وقد لمعت عيناه الناعسة بفكرة جهنمية!
استقام راكضًا للخارج يبحث عن الصغير وتنهد في راحة عندما وجد الصغير ممسكًا كلبه بينما شقيقه الأكبر يزجره أمام المدخل.
-أيه ده في حد يزعق لطفل صغير كده يا شيخ اتقي الله ده الأطفال أحباب الله.
انفرج فاه "كيرو" في بلاهة ثم قال في نبرة عصبية:
-أنت عايز تجنني يا جدع أنت، مش أنت اللي قولتلي أسربه!
-ولد عيب، أيه اسربه دي، تعالى يا حبيبي أجبلك حاجة حلوة.
اتسعت عيون صديقه الذي مد ذراعه يوقف تقدمه من شقيقه ثم رمقه بنظرة مريبة متسائلًا:
-حاجة حلوة، أنت عايز ايه من الواد بالظبط ده أخويا!
بصق عليه "زيدان" بشكل وهمي وقد انكمشت ملامحه قائلًا في عجرفة:
-ما هو عشان أخوك هوجب معاك.
-لا مش عايز واجبات من حد!
تمتم منزعجًا من إصرار "زيدان" المفاجئ على اصطحاب شقيقه الأصغر معه إلى المجهول.
-وربنا لأوجب معاك يا كيرو في أيه!
ردد "زيدان" في إصرار غير قادر على منع ابتسامته المستفزة:
-ما تهرجش هتعمل ايه بيه!
قال وهو يشد ذراع أخيه من بين براثن "زيدان" الذي رد سريعًا أثناء تثبته بذراع الطفل الأخر والذي ظل يتنقل بأبصاره لليمين واليسار بين الصديقين:
-ياعم محتاجة ساعة والله عيب عليك عايزه في حاجة خاصة!
-حاجة خاصة ازاي، اللي انت بتقوله ده عيب وحرام يا بيه.
-اتلهي بقى وسيبني يا عم والله هرجعهولك سليم.
تأفف "زيدان" وهو يبتعد مع الصغير فهتف "كيرو" من خلفه:
-زيدان الواد لو حصله حاجة أمي مش هتدخلني البيت.
قذف كلماته في قوة يؤكد على مصيره الأسود ان مس شقيقه أي سوء وهو تحت مسئوليته.
-والله ما تقلق اعتبرني بفسحه عشان نفسيه الكلب اللي جاله صرع ده.
التفت يغمز لصديقه بابتسامة واسعة وثم اتجه الى سيارته مع الصغير الذي لا يتعدى الحادية عشر عامًا يخبره:
-كلبك متدرب يا حبيبي؟
-اه انا اللي مدربه بنفسي.
حرك "زيدان" رأسه في رضا، فاتحًا باب السيارة كي يستقلها الصغير والكلب، ثم سأل ما أن اتخذوا مقاعدهم:
-جميل جميل، بتحب الفلوس يا ريمون؟
-اه بحبها.
-جميل جميل، هتتبسط معايا أوي.
همس في سعادة بالغة وهو يشغل محرك السيارة وعقله ينسخ له الألاف السناريوهات التي ستقوده لأمرًا واحد.
*****
تململت" ميرا" في الفراش لا تزال غارقة في أحزانها ومشاعرها المضطربة فهي تارة تبكي من شدة حبها له وتارة تلعن أصدقائها الذين كانوا المحرك الأول في تهورها ووقعوها معه.
كانت عبراتها تلمع على وجهها دون شعور، فمشاعرها المتناقضة تجعلها مكتوفة الأيدي تخجل من معارضة أفكارها القاسية عن زيدان.
كانت مضغوطة من كمية الحقائق التي صفعتها دون هوادة، فقد اكتشفت انها كانت معلقه بحبال ذائبة تاركة لذاتها المرضية اختلاق تصورات تجمعها به غير حقيقة، ف "زيدان" لم يعترف يومًا بحبه لها ولم يخبرها بأكثر من تعلقه بها .. تعلق نابع عن الاعتياد والعشرة وليس نابع عن الحب.
تشفق على نفسها بسبب ضعفها فمع أول عقبة تصدعت حصونها الزائفة من حولها وعاد الزمن بها إلى أسوأ مراحل اكتئابها وكأن الحياة على وشك الانتهاء.
حمقاء .. أجل .. صدق زيدان حين أصر على تلقيبها بالحمقاء، فكيف كانت ستنجو حينما تنتهى الشهور القليلة الباقية على اتفاقهما؟
كيف تركته يسيطر على كل ذرة من كيانها وتركته يُهمش كل ما له قيمة في حياتها في سبيل إرضاءه وكيف كانت في طريقها بكل سذاجة إلى خسارة أصدقائها السبب الأول لاستعادتها زمام الأمور في حياتها وشعورها وكأنها انسانه.
تنهدت في حرارة لأنها ترغب في اقتلاع وجوده من حياتها وفي نفس الوقت لن تستطيع إكمال حياتها من دونه ودون دعمه المعنوي لها، فقد جعلها تدمن أفعاله واهتمامه المنصب عليها.
اهتمام زائف فكرت ساخرة وهي تتذكر كيف حكت لها "ريناد" أنه غادر ما ان علم بانهيارها وحزنها مقررًا تركها كي تهدأ لحالها دون أن يصر على مقابلتها أو التمسك بها، تركها تواجه الحقيقة القاسية وحدها وحتى مراسلاته توقفت ولم يصلها أي "إشعار" بعد ثلاث أيام.
لا تصدق وقاحته هو المخطئ في حقها والمتهم بالخيانة وهو الذي يهملها بكل تعجرف وغرور!
مسحت دموعها تكره هذا الشعور بالتشتت فهي أنثى تحب، تريده أن يبتعد عنها وفي نفس الوقت تريده أن يتمسك بها ويثبت حبه لها، أرادت أن يجبرها على الاستماع إليه فمنذ متى يستمع زيدان لغير ذاته المتعجرفة،
مما يؤكد لها نظريتها في عدم رغبته فيها كحبيبة من الأساس!
كان عليها معرفه أن هذا الشعور الطاغي بالسعادة ما هو إلا مؤشر على اقتراب النهاية، فمنذ متى تحدث الأشياء المميزة لأمثالها!
وقفت تتسلل نحو المرآه تتفحص انعكاسها الباهت، شفتاها الفاقدة للون الوردي، ووجنتها التي برزت عظمتها قليلًا بسبب فقدانها للشهية.
هي ليست جميلة وليست مبهرة وتعلم انها غير متزنة نفسيًا بشكل كامل ولكن الاعتراف بداية الطريق أليس كذلك؟
-أنا مني لله.
غمغمت بشكل غير مفهوم تود لو تشنق نفسها، لما كان عليها الانسياق وراء كلمات ريناد وقتها وفكرت في نسج هذه اللعبة السخيفة مع "زيدان"، أغمضت جفونها وهي تسترجع سبب رغبتها في ادعاء الزواج السري أمام أصدقائها.
***
جلست "ميرا" صامتة بشكل تام تشعر بالقلق على روان الباكية جوارها، ربتت على فخدها مره في حرج تدعي إلى السماء أن يأتي حازم سريعًا، فمما فهمته أن هناك مشاجرة كبيرة نشبت بين والد "روان" ووالدتها أدت إلي انهيارها وقدومها للهرب بينهم.
-كفاية عياط يا بنتي، حتى لو أطلقوا مش نهاية العالم.
رددت "ليلو" في تبلد ولا مبالاة فحدقتها "روان" غاضبة ثم هتفت في نيرةٍ مغتاظة:
-خليكي ساكتة محدش طلب رأيك.
-ليلو اهدي على نفسك، حازم على وصول ولو سمعك بتضايقها وهي في الوضع ده مش هيعديهالك.
-الله هو أنا اتكلمت، بقولكم أيه انا ماشيه.
قالت معترضة وهي تلملم أغراضها في حدة، فتحت الباب للخروج فكادت تصطدم في حازم المندفع داخل المنزل:
-اي هتوقعني، مش تحاسب.
زجرته "ليلو" لكنها لم تتوقف لسماع رده ولم يهتم هو بالرد من الأساس وذهب راكضًا لاحتضان "روان" هامسًا في حنو:
-ما تعيطيش يا قلبي!
-بابا وماما هيسيبوا بعض وحياتي هتدمر أكتر.
-حياتك مش هتدمر طول ما أنتي معايا، دي حياتهم هما وأنتي مش محتاجين حد فيهم!
تحركت "ميرا" للابتعاد حين أشارت لها "ريناد" بمرافقتها واعطاء الأثنان بعد الخصوصية، وقفت كلتاهن في الشرفة قبل ان تقاطعها ريناد مردفه:
-مش عارفة من غير حازم كانت هتعمل ايه، الواحدة فينا مش بتعرف تواجه الحياة من غير راجل يكون سند في حياتها.
أومأت "ميرا" رأسها لا تدري معنى الموافقة أو الرفض فهي لم تجرب هذا الشعور من قبل، قطع افكارها صوت "ريناد" المتعجبة:
-أنتي ازاي قادرة تكملي حياتك من غير ارتباط، أيه الوحدة والملل اللي في حياتك دول،
اتاري اوقات كتيره بحسك يا عيني مش قادره تفهمينا.
انتبهت حواس "ميرا" كلها لها وسألتها متوترة من احتماليه ارتكابها أي خطأ دون علم:
-قصدك أيه، هو أنا ضايقتكم في حاجة؟
-لا مش القصد، الفكرة أنك غريبة عنا، حاطه نفسك في شرنقه كده وكأنك مصره تبقي بعيده عننا.
اجابتها "ريناد" في سلاسة بعيون تحمل من الكثير من الخبث التي غفلت عنه "ميرا" المنغمسة في افكارها فتمتمت في خفوت وكأنها تحادث نفسها:
-الارتباط هيخليني اتأقلم معاكم أكتر
-مش بس كده، أنتي هتلاقي سند وسعادة وحد يشيل عنك همومك وينسيكي أن في مشاكل عائليه في ييتكم اصلا،
زي ما انتي شايفة بنفسك حازم وروان عاملين ازاي.
أردفت "ريناد" في ثقة مشيرة للداخل حيث يقبع حازم وروان المنغمسان في لحظتهما العاطفية، فقالت "ميرا" متلعثمة:
-بس حازم وروان اهاليهم عارفين انهم بيحبوا بعض من زمان، أنا هلاقي حد كده فين؟
-موجود وقريب أوي لكن أنتي اللي مش عايزه تبصي حواليكي وتدوري
انهت وسوستها في إصرار وغامت عيون "ريناد" في مكر تشعر باقتراب الانتصار تكاد ترى بعينيها انتقال امواجها الشيطانية وتسربها داخل عقل "ميرا".
-أدور؟
همست لنفسها ووقفت تطالع صفاء السماء في صمت وحيرة، تاركة لعجلة التفكير داخل رأسها مهمة الدوران بلا هوادة، وقد ظلت على هذا الحال من التفكير العميق طوال اليوم حتى حل المساء واوقعها حظها بالصدفة في منشور أطلقه أحد شباب مواقع التواصل الاجتماعي ومنه استنبطت فكرتها المتهورة بضرورة استئجار زوج سري بضعت أشهر تتباهى به أمام اصدقائها وتقنعهم بقدرتها على مواكبه عقولهم وأفعالهم.
***
خرجت من ذكرياتها بقلب مثقل بالهموم والأحزان وبكل تناقض العالم تحركت أصابعها لتلتقط احمر شفاها كي تطليه في حركة هستيرية فوق شفاها ثم لطخت منه القليل على وجنتيها وكأنها تعيد بها الدماء إلى وجهها الشاحب.
تحاول ابعاد افكارها عن غضبها الداخلي على الذات، فبالله كيف خدعت نفسها وظنت أنه أحبها مع وجود تلك الجميلات من حوله سواء في العمل أو رفيقات التواصل الاجتماعي.
كما يجب عليها الاعتراف بانها لم تكن ستستطيع الاستمرار في علاقة تلتفت فيها حول نفسها كل بضع ثوان خشية من بنات جنسها، ان كان زيدان لا يحبها ولا يراها مميزة هي لا تريد الاستمرار معه.
فالأمر سيكون أشبه بالموت باختلاف إنه سيتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد.
نكشت خصلات شعرها مزيله رباطها وتركته يزين ظهرها ثم اتجهت إلى المطبخ مقررة تحضير فنجان من القهوة عسى أن تنتهي نبضات الألآم النافرة في رأسها.
أوقفها جرس الباب فاتجهت متجاهلة خصلاتها المبعثرة في قلة ترتيب فاتحة الباب فوجدت طفل صغير أمامها، زادت من فتح الباب أكثر متسائلة في استغراب:
-نعم يا حبيبي؟
-أنتي ميرا؟
حركت رأسها في بلاهة تؤكد هويتها قبل أن تتسع عيناها في ذعر عندما ظهر كلب عملاق أسود من العدم، فشهقت عائدة بضع خطوات للداخل في سرعة بينما يتقدم الصغير للداخل مقتحم خصوصية منزلها بكلبه المتوحش المسيطر عليه بسلسلة فضيه صغيرة لم تنتبه لوجودها من قبل بين أصابعه فصرخت محذرة:
-لا لا أبعد الكلب ده عني، طلعه برا حالا!
-مقدرتش ده جايلك هدية من واحد واقف تحت!
-واحد مين أكيد في غلطه، روح قوله العنوان غلط وخد الكلب ده من هنا.
هتفت وهي تحتمي خلف أحد المقاعد القريبة منها فاستمر الطفل مؤكدًا:
-مقدرش لو مش عايزة الكلب يبقى تنزلي معايا تقولي لصاحب الهدية كده.
-حاضر يا سيدي هنزل بس أبعد الكلب ده الأول.
-روووي يلا...
وقف الطفل الماكر أمام كلبه كحاجز منتظرًا مرورها كي لا تغلق الباب خلفه وتخدعه فزفرت "ميرا" متذمرة فقد كانت تنوي فعل ذلك تمامًا.
لكنها تحركت على مهل لا تحيد بأنظارها عن الكلب النائم فوق بلاط منزلها حتى مرت من الباب في سلام راكضه للأسفل دون اهتمام انها لا تمتلك مفاتيح الباب أو انها ترتدي فستان قطني قصير بالكاد يلامس ركبتيها، فكل اهتمامها مُنصب فوق الطفل الهابط خلفها هو وكلبه المتوحش.
خرجت من البناية تبحث يمينًا ويسارًا عن الأحمق الذي أرسل لها وحشًا كهدية ثم تصلبت في مكانها لبرهة حين تلاقت عيناها بأعينه الناعسة ولاحظت "زيدان" المتكأ بذراعه في أريحيه فوق سيارته.
ارتسمت ابتسامة مغرورة فوق وجهه فقد كان واثقًا مائة بالمائة من نجاح خطته، قهقه عاليًا حين خرج منها صرخة صغيرة فركضت محطمه وضعها كتمثال حجري، مقتربة نحوه كي تحتمي فيه بشكل غريزي ما أن شعرت بوصول الكائن الرائع من خلفها.
نظر لها في تشفي مستفزًا إياها:
-أنا ممكن أخليكي تبوسي إيدي عشان أسامحك دلوقتي، بس مش هعمل كده عشان محترم!
-محترم!
أنت أكيد جرا في عقلك حاجة، باعتلي كلب يا زيدان، عايز تموتني؟!
-بذمتك من مكسوفة من نفسك، بقى الكلب البريء ده هيموتك،
يا ساتر على قلوب البشر!
ضرب كف على الأخر في استخفاف جلي من مشاعرها وخوفها فدفعته معترضة:
-أنا انسانة متوحشة يا سيدي واتفضل خد الكلب ده قبل ما أموتك أنا.
-هتموتيني من الضحك أكيد ما فيش حل تاني، نرجع لموضوعنا ممكن أفهم أنتي مقموصة مني ليه؟
-يا بجاحتك وكمان بتسأل بعد عملتك السودة.
قالت وهي تضحك ساخرة وتحدقه بعيون متحجرة تشع بمشاعر غيرتها، فأشار بيده نحو صدره وكأنه لا يصدق توبيخها له ثم ردد متعمدًا استفزازها:
-وأنتي أيه اللي يخليكي تضمني انها سودة مش يمكن حمرا؟
تأففت وكادت تزجر وقاحته ببعض الكلمات لكنه قاطعها مستكملًا في لامبالاة:
-هنسكت ونتكلم في المهم ولا هنهزر للصبح!
قال في تهكم متعمدًا الإمساك بمعصمها كتحذير صامت، فأبعدت يدها عنه مردفه في نبرة مغتاظة:
-بص يا مستفز الموضوع اللي كان بينا ده...
أشارت أصابعها بينه وبينها قبل أن تستكمل في نبرة أرادتها حادة ولكنها خرجت مهتزة متلعثمة:
-اعتبره منتهي وياريت نقفل الكلام فيه ونعتبر ان الاتفاق اللي يربطنا ببعض ملغي.
أنهت جملتها برأس مرفوع وأنف شامخ عاقدة ذراعيها في تحدي أمامها، فعكس "زيدان" حركة ذراعيها أمام صدره كناية عن قبوله التحدي وقد تحولت هالة المرح حوله لأخرى غامضة يشوبها السواد مستطردً:
-يعني اللي رابطنا اتفاق مش كده؟
-بالظبط كده، هو كان في حاجة أكتر من كده؟
أخبرته وهي تبلل شفتيها تدعو الله أن يحجب التمني ورغبتها في أن يعترف بحبه لها عنه وألا تنعكس في حروفها الحائرة.
شعر بوخزة في قلبه ولكنه رمى بالمنطق خلف ظهره وبعد أن جاء لاسترضائها أجبرته بكلماتها الاستفزازية وأسلوبها الغير مبالي على القسوة والعناد فأخبرها بنبرة جليدية:
-لا طبعا مفيش بينا حاجة غير اتفاق.
راقب كيف ارتبكت ملامحها لكنها قضبت جبينها تغلف وجهها بالقسوة مردفه:
-أكيد واهو أنتهى، وكل واحد يقدر يروح لحاله.
-أنتي غلطانة في نقطة واحدة، هو كلام يحترم وكل حاجة بس انا مش هحترمه لان نهاية الاتفاق في إيدي أنا.
ضاقت عيناها في تساؤل تشعر بالبلاهة غير مدركة معنى حديثه، فسألت:
-تقصد أيه؟
مال ثغره لأعلى وأقترب خطوة مؤكدًا في كبرياء:
-أقصد أنه صحيح أنتي اللي بدأتي اللعبة لكن النهاية أنا اللي هحددها، والصراحة اللعبة مسلياني ومش هنهيها دلوقتي،
يعني اتفقنا زي ما هو وشروطي زي ما هي ولو حصل غلطة منك ونستيهم هندمك ندم عمرك ما هتتخيليه!
انفرج فاهها في صدمة غير قادرة على تجميع رد مناسب على وقاحته لكنها استدركت نفسها هاتفة:
-أنت فاكر نفسك مين، أنت ولا حاجة بالنسبة ليا، اللعبة انتهت بشروطها ومن انهارده أنا هعمل اللي انا عايزاه محدش له حكم عليا.
-وماله جربي ونشوف، والبادئ أظلم يا روحي.
أعلن في لهجته الباردة المغلفة بالهدوء المستفز، فصرخت فيه غير مباليه إنها على الطريق:
-أنا أجرتك لغرض وانتهى، وحقك هيوصلك حالًا مُصر تضاقني ليه!
-أيه أجرتك دي، أنتي جيباني من سوق عكاظ ولا أيه،
لا أوزني كلامك بدل وديني ... هات يا ابني السلسلة دي....
قطع تحذيره موجهًا جملته الأخيرة للصغير جاذبًا منه سلسلة الكلب الذي قرر النباح ثم اتجه خلف "ميرا" الراكضة وهي تصرخ في هستيريا للأعلى تتوسل ابتعاده عنها حتى وقف في منتصف الدرج سامحًا لها بالهرب داخل جدران منزلها مزمجرًا بشكل جنوني ونفاذ صبر من وقاحتها!
-وابقي أكسري وكلامي وشوفي هعمل أيه يا ميرا عليا النعمة هعمل منك شوربة كوارع وأخلي كلاب الشارع تعمل حفلة عليكي.
هبط الدرجات في خطوات عنيفة ما أن أغلقت الباب وسمع صوت ارتطام ظهرها به، وقد فقد سيطرته كليًا على تصرفاته وجنونه حتى إنه لم يعد يبالي بسكان المبني أو الفضائح التي قد يفتعلها صراخه، حرك رأسه في خذلان وخيبة فعلى ما يبدو أن سكان البناية لن يهتموا حتى وان صرخ أحدهم "جريمة قتل"!
يتبع الفصل الثامن اضغط هنا