نوفيلا نوتفكيشن البارت التاسع 9 بقلم دينا ابراهيم روكا
نوفيلا نوتفكيشن الفصل التاسع 9
داخل منزل "زيدان" فرك المسكين أسفل رقبته يحاول تخفيف التشنج فيها، فقد عكف طوال الساعات الماضية على التفكير في خطوته التالية مع "ميرا" حتى وصل إلى حل يراه مناسبًا للوضع الحالي بينهما، ويرجو من الله أن تتقبله جلالتها.
تمتم ساخرًا وهو يقرأ الساعة المشيرة إلى الواحدة صباحًا مقررًا الإقدام في المخاطرة والاتصال بها ، رفع هاتفه متصلًا بها بعد أن جذب انفاس عدة استعدادًا للمعركة.
أتاه الرد سريعًا عكس ما توقع لكنه تدارك صدمته تجاه طاعتها الحرفية له بقوله المشاكس:
-حاسس أنك نمتي ونسيتي تستني مكالمتي زي ما قولتلك.
-اومال أنا برد عليك ازاي؟
سألت "ميرا" مغتاظة فكاد يستسلم لضحكاته مستمتعًا بالغيظ المتقطر من صوتها ضده، بكنه رد مصرًا على مشاكسته:
-لا مش مقتنع.
-الله ما قولت ما نمتش.
-أنتي بتتعصبي عليا؟
تعمد نطقها في خشونة مملوءة بالتهديد المبطن فلانت نبرتها المنفعلة وهي تؤكد له:
-والله لا اتعصبت ولا نمت!
-وأنا مصدقك يا روحي.
همس في حنو بالغ أثار جنونها ووصله صوت شهيقها المتقطع بالتأكيد تكبح صراخها، قبل أن تسأله في نبرة جافية:
-زيدان قول متصل عايز أيه؟
-أحبك وأنت فاهمني دايمًا.
استمر في استفزازها فقاطعه بطريقتها الحادة ونبرة المتهكمة محملة بمعنى عميق:
-أيوه فهماك وفهمتك بالطريقة الصعبة.
تحولت نبرتها من التحدي والتحامل عليه إلى أخرى ضعيفة يشوبها الحزن الذي انطلق كالخنجر إلى صدره فوجد نفسه يتنازل عن تصرفاته الصبيانية ويجاريها في جدية:
-فهمتي أيه؟
-فهمت تصرفاتك معايا سببها أيه وليه خدعتني طول الفترة دي.
-ليه؟
همس وقد أصابته وخزة طفيفة بين جنبات صدره ظنً منه إنها اكتشفت غرامه لها لكنها كالعادة فتحت فمها الصغير مقررة إمطاره بالمزيد من الهراء:
-عشان لما تمثل انك متجوزني في السر هتكسر عيني أنا وماما وتذلها قدام عيلتها.
-طيب ما انا لو هذل أمك كنت مثلت إني متجوزها عرفي، هلعب عليكي أنتي ليه؟
استني مترديش ... تصدقي وتأمني بالله يا شيخة أنا ما عارف اقولك أيه!
انهى جملته الساخرة بعد أن قاطع رغبتها في الحديث، لا يصدق أين أوصلها مجرى تفكيرها الغبي، فأجابته في عناد مؤكدة:
-مش لاقي حاجة تقولها عشان دي الحقيقة.
-يا غبية أنتي اللي طلبتي مساعدتي مش العكس، يعني أنا لا بخطط عشان أذل أمك ولا نيلة.
-أمال أيه هدفك من كل اللي بيحصل ده، فهمني!
اعتدل في جلسته عندما سمع صوت حركة في الخارج وانتظر ثوان يتأكد من عودة والده إلى غرفته للنوم من جديد قبل أن يستكمل:
-حلو نتكلم جد شوية، وعشان أنتي مش بتفهمي غير بلغة الحوارات والاتفاقات،
فأحنا هنلغي القديم نهائي وهنعمل أتفاق جديد.
اهتز صوتها الخافت وهي تتساءل متوترة:
-اتفاق جديد؟
-أيوه اتفاق جديد بشروطي أنا من الألف للياء،
وقبل ما تعترضي أفهمي إني بكلمك عشان اخد القرار معاكي بشكل ودي لأنك تهميني،
وإلا كنت اجبرتك عليه بشياكة وأسهل على نفسي الطريق.
-تقصد أيه؟
سالت سريعًا متأكدة ان كلماته تحمل تهديد كبير بين طياتها ورغمًا عنها أخذت تفرك أصابعها تحاول إخراج نفسها من تلك الورطة.
كاد يصيبها بأزمة صدرية حين أخبرها في لهجة واثقة:
-أقصد ان معاكي حرية الموافقة أو الرفض، وبما انك عارفة معنى الموافقة خلينا نتكلم عن الرفض شوية،
لأنك لو رفضتي بأي شكل من الأشكال، بكرة من النجمة اتفاقي هيكون مع أبوكي مش أمك،
هاه اتفقنا؟
تعمد الحفاظ على صلابة نبرته بينما يفرك رأسه يحاول محاوطة قلبه بغشاء صلب يعزل من خلاله تأثيرها وحبالها الوهمية المسيطرة على خفقاته، خاصة حين ساد الصمت بينما وتهيأ له صوت بكاءها الخافت قبل أن تردف موافقتها دون جدال ودون أن تخفي نبرتها المتألمة من قسوته:
-اتفقنا، قول شروطك يا زيدان؟
-هتقطعي علاقتك بشلة الشياطين اللي متعلقة بيهم نهائي.
-وصحابي أيه علاقتهم بالموضوع!
-صحابك هما أوس الموضوع والفساد في حياتك،
أنتي ازاي مش حاسه بالبير اللي بتغرقي فيه وأنتي معاهم؟
صمت برهة يبتلع ريقة يحاول استجماع هدوئه ليقنعها بما يجول في خاطره مستكملًا:
-ازاي مش حاسة بالغشاوة اللي على عينك وانتي وسطهم، ميرا أنتي إنسانه نقية طيبة وجواكي أصل وقيم مهما حاولتي تغيريهم مش هتقدري،
لكن معاهم أنتي بتناقضي نفسك وبتتغيري للأسوأ ودي مش علاقة طبيعية أو صحية.
-ارجوك يا زيدان ما تجبرنيش اتخلى عنهم مش هقدر هما كل اللي ليا في الحياة.
تمزق قلبه وهو يستمع لشهقات بكاءها وكأنها طفله حرمت من والديها لدرجة أنه فكر في التراجع إلا أن التراجع الآن سيسبب نتائج عكسية أسوأ من الحالية فأكمل يحاول تهدئتها بحديثه الحاني:
-طيب ممكن تهدي وتخليني أكمل، اعتبريها تجربة يا ستي، الغيهم من حياتك وخلينا نشوف هياخدوا وقت قد أيه قبل ما ينتبهوا على غيابك وهل هتفرقي معاهم ولا لا؟
أقولك، أسأليني ليه أنا بعمل كده؟
-ليه؟
خرج صوتها كالهسيس الخافت فرد بمنتهى الصدق:
-عشان لما كنت وسطكم وبشوف تعاملاتك معاهم، للحظة افتكرت انك انسانه مش متزنة نفسيًا بس بعد كده فهمت ان ده خلل سلوكي أكتر منه نفسي.
علا صوتها وسط بكائها تعترض بشدة كالمجنونة، وكأنه بقوله هذا أحيا خلايا الإنكار داخلها:
-أنا مش مريضة نفسيًا!
حاول جذبها نحو الاعيبهم الاستفزازية من جديد حتى يبعدها عن الهلع المشع من نبرتها:
-أولًا أنا مقولتش مريضة نفسيًا، قولت خلل سلوكي،
ثانيًا والأهم مفيش مريض نفسي هيقول أنه مريض.
-انت عايز توصل إني مجنونه واني مش طبيعية عشان تبرر أفعالك وخيانتك ليا.
هتفت في جنون وسط عبراتها متناسية والدتها التي يفترض بانها نائمة ولكن كلماته فتحت شقًا مغلقًا داخلها، شقًا مخيفًا تهابه وتخشى التطرق له وهو بكل وحشية يدس أنيابه فيه، لكنه تابع في هدوء:
-قولتلك التفكير مش من مميزاتك، أنتي حلوة وكل حاجة بس ياريت ما تفكريش تاني،
نرجع للاتفاق النقطة التانية والأهم دراستك...
قاطعه في لهجة صلبه متحجرة:
-مش بحضر محاضرات، بذاكر قبل الامتحانات وبس.
-جميل جدًا عشان من بكره الساعة تسعة هعدي عليكي تروحي معايا المطعم.
-ليه ؟
-عشان تستلمي مهمتك الجديدة.
أجاب مشاكسًا فاندفعت مستنكرة وهي تستقيم من فراشها تتجول في الغرفة:
-هتشغلني عندك قصدك؟
-الله جميلة أوي الجملة قوليها تاني كده!
تمتم بطريقته الاستفزازية مستهدفًا ازعاجها فقالت في غيظ وقد نفذ صبرها:
-زيدان ما تلعبش بأعصابي!
-لا يا ستي مش هتشتغلي عندي، بس هتكوني وزيرة السعادة.
-وده لأني مثال للسعادة وكده!
أخبرته ساخرة من وقاحته واستمراره في استفزازها لكنه أردف متعجبًا:
-الله ومش هتكوني سعيدة ليه؟
-ايوه صح ايه مش هيخليني سعيدة وفي واحد من يوم ما عرفته وهو مصمم يدمر حياتي ويلغي شخصيتي ويتحكم فيها لأنه ببساطه انسان سادي!
-سادي ... سادي سرور .. آه.. كنت بحبه أوي لحد ما بدأ يهبل، أنتي بتحبيه ولا أيه؟
صدح صوتها مزمجرًا من أعماقها لا شعوريًا توبخه:
-يا انسان يا مستفز، تصدق أنت منك لله.
-كلنا مننا لله يا روحي.
-زيدان ما تطيرش البرج الاخير من عقلي وفهمني ناوي على أيه؟
خرج صوتها متعجبًا بعيدًا عن الهلع السابق وقد نجح في سرق انتباهها لأمور أخرى فابتسم مغلقًا النقاش في سماجته المعتادة:
-لما أشوفك بكره يا روحي.
أغلق الهاتف دون انتظار لردها وعلى محياه ابتسامه واسعة يشعر بالرضا إنه قطع جزء كبير من مخططاته ولكن كيف يقنعها بالتخلي التام عن السوء في حياتها.
*****
في اليوم التالي هبط "زيدان" من السيارة بعد أن جذب حافظة أمواله ونظارته الشمسية ثم مال يطالع من زجاج النافذة "ميرا" المتذمرة والجالسة داخل السيارة تبثه بالنقم.
التوت شفتيه في ابتسامه ساخرة قبل أن يتجه نحو مقعدها فاتحًا لها الباب قائلًا في تهكم:
-عارف إني قولت ما تشغليش دماغك، بس مش ملاحظة أن كده زيادة عن اللازم؟
نظرت له شزرًا حاقدة على قدرته في جعلها تشعر بالسخف وعدم النضوج، قلبت عدستيها داخل عيناها وهبطت هي الأخرى متحركة قبله إلى داخل المطعم.
ابتسم لنفسه وهو يراقب كيف انطلقت دون انتظاره في غرور وكأنها تمتلك المكان، ترك لعيناه حرية المرور عليها كالماسح الضوئي يخزن كل تفاصيلها الخلابة، رغم إنها لم تتأنق كعادتها إلا إنه يراها مميزة في سروالها الأبيض وبلوزتها المحشورة داخله معطية لخلفيتها منظرًا خلابًا يخطف العيون.
اختفى المرح عن وجهه وشعر بالحرارة تسري في عروقه عندما تعلق نظرهُ بخصرها النحيل المتراقص دون رحمة بقلوب الرجال من حوله، فتحرك مسرعًا يمسك معصمها جاذبًا لها نحو مرحاض السيدات هامسًا من بين أسنانه:
-طلعي البلوزة من البنطلون.
-أفندم، هو استايلها كده.
-الاستايل ده تلبسيه هناك في لاس فيغاس لكن أنتي هنا في مصر، اعدلي هدومك وفوقي لتصرفاتك شوية وانتي معايا عشان أنا راجل خلقي ضيق.
دفعها للداخل رافضًا التنازل والتزحزح عن موقفه حتى تستجيب له، دبدبت قدمها في غضب ثم نظرت له شزرًا هاتفة:
-أوف منك أوف.
تحركت من أمامه ودلفت متذمرة لتعدل ملابسها، حرك رأسه لليمين واليسار في يأس من تقويم أفعالها الطفولية، واستدار يتفحص الزبائن يبعد أفكاره عن حماقاتها حتى طالت عيناه صديقه العابس من بعيد فناداه:
-كيرو تعالى.
اتاه متململًا يجر ساق أمام الأخرى فأردف "زيدان" في سلاسة:
-قولت لخطيبتك؟
حدق به "كيرو" بنظرات حادة باعثة للشك فسأل "زيدان" متعجبًا حاله:
-مالك يا بني بتبصلي كده ليه؟
-أصل كده زيادة عن الحد الصراحة، يعني أخويا وعديتها لكن خطيبتي اهوه ده اللي مش هسكت عليه أبدًا.
-أما أنت بني ادم براس بخاخة بصحيح، يعني عمال أقولكم عايز أعرف البنت على ناس محترمة ونضيفه وعملت فويس طويل عريض من بتوع البنات دول،
أفهمكم أهمية الموضوع بالنسبة ليا وانكم لازم تساعدوني غصب عن عينيكم لأنكم ببساطه أصحابي، وفي الآخر جاي تشك فيا، يا اخي يلعن ابو اللي ربط الحمار وسابك.
اخفض "كيرو" رأسه وقد نجحت كلماته المعاتبة في إحراجه فقال معتذرًا في نبرة خافته:
-طيب خلاص ما تقفش، هي جوا مع محمد ومراته.
-حلو أوي.
قطع حديثهم خروج "ميرا" التي تنقلت نظراتها بينهم في حرج فأشار لها "زيدان" بالتقدم أمامه.
تنهد عندما ظهرت معالم عدم الارتياح والتوتر فوق محياها، مفكرًا بأن اندماجها في أوساط جديدة ومختلفة عن ما عاصرته سيكون صعبًا مع طبيعتها الخائفة وشخصيتها المغلفة بحصون حديدية تحميها من شر وهمي تتوقعه من كل ما هو جديد أو بشري.
وصل لطاولتهم الخاصة في الزاوية مقررًا تحديث اللعبة وهو يراقب وجهها معرفًا إياها للجميع بابتسامة صادقة:
-أهلا يا جماعة منورين ...
ده محمد ونيللي مراته، وده كيرو ونانسي خطيبته،
ودي "ميرا" خطيبتي.
كادت تسقط من فوق المقعد قبل أن تستقر عليه ثم التفتت نحوه تحدق فيه بعيون واسعة مذعورة من تصريحه، فجاورها مربتًا على كفها يحثها على الهدوء أثناء تقبلهما مباركات الأربعة المنذهلون لكنه سعيد أنهم سايروا لعبته ولم يرموا بأسئلتهم الفضولية في حضورها.
مر وقت ليس بقليل على الجمع، انسجم فيه الجميع داخل أحاديث عفوية خفيفة أثارت ضحكاتهم مرات كثيرة، ولن ينكر انه كان يلتقط كالقناص كل حركة وشعور يفرض حضوره فوق ملامح ميرا وعيونها الخائفة.
يعلم انها شخصية مذبذبة شبه انطوائية تخاف من الاختلاط سوى مع أشخاص عايشتهم واندمجت معهم وربما هذا هو السبب الأكبر في شعورها بالاكتفاء الذاتي بحفنة الشياطين المدعون بأصدقائها.
راقب كيف تبدلت ملامحها من الخجل إلى الخوف والتردد كلما حاولت إحدى الفتاتان في افتعال حديث ودي معها، وقد تعمد اقتحام الحديث في كل مرة، شاكرًا في عقله أصدقائه الذين امتهنوا التحضر اليوم ولم يقتلعوا رأسه لانخراطه في الحديث مع سيداتهم.
مرت الساعات وتحرك الثلاث رجال لإنهاء بعض الأعمال وفي هذه الأثناء حاول "زيدان" مراقبة الوضع وعدم إزاحة عيناه عن "ميرا"، التي بدأ يسمع صوتها بين الحين والأخر بينهن، وحمد الله لوجود "نيللي" زوجة صديقه التي اثبتت إنها شخصية اجتماعية ودودة من الدرجة الأولى.
أما على الطاولة، تحركت رأس "ميرا" بين "نانسي ونيللي" تستمع لحديثهن المتواصل حتى القت عليها نيللي الضوء متسائلة في صوت لطيف يوازي لطافة ابتسامتها المشعة:
-وأنتي بتدرسي أيه يا ميرا؟
تصلبت لحظة تحاول ابتلاع ارتباكها بصعوبة لكنها انتهت تتحدث كبلهاء لم تجري حديثًا مع شخص عاقل من قبل، مجيبة في تلعثم:
-امم .. أنا.. في آداب إنجليزي ..
-أيه ده معقولة وأنا كمان.
أخبرتها "نانسي" في حماسة لا متناهية فاهتزت ابتسامه فوق فم "ميرا" متعجبة من حلقة التشابه بينهما:
-أيه ده بجد؟
-اه والله، وأي وقت تحتاجي اي حاجة قولي أنا كنت بذاكر لزمايلي أيام الكلية.
أخبرتها "نانسي " في ثقة وهي تلقي بخصلاتها خلف رقبتها بغرور، سارقة ضحكة من بين شفتي "نيللي" المشرقة دائمًا في ابتسامة رائعة، قطعها زوجها المتهجم الذي ظهر من العدم ثم مال على أذنها هامسًا بضع كلمات تستطيع سماع تحذيراتها من جسده المتشنج.
عضت "نيللي" على أثرها شفتيها في اعتذار مشاكس ثم حركت رأسه في موافقة ما ان استقام وتعلقت أنظاره المحذرة بها.
ابتسمت حين حرك زوجها رأسه بيأس من تعقلها ثم استدار للمغادرة، وجدت نفسها تشارك الفتاتان ضحكة بلهاء مكتومة لا تعلم سببها حتى تحدث "نيللي" مؤكدة:
-حقيقي استمتعت بوقتي معاكوا يا بنات لكن ياريت نقلبها نكد لأن على المعدل ده محمد مش هيجبني هنا تاني.
-غيورين أوي، شوفتي كيرو واقف هناك وكل ما اضحك يرميني بنظرات شريرة مش طبيعية.
هسهست "نانسي" ممازحة قبل أن تسأل "ميرا" من باب اشراكها في الحوار:
-زيدان مجنون معاكي شبهم مش كده.
ضاقت عيون "ميرا" تفكر في تفاصيل معاملة زيدان لها، وأحمر وجهها عندما تذكرت كيف اجبرها على تعديل ملابسها وكيف منعها من الاختلاط بغيره في غيابه فأومأت رأسها مرة مردده بابتسامه ساخرة:
-مفيش شبه زيدان في الجنون يا جماعة صدقوني، دي الزون بتاعته!
-زون أيه؟
صدح صوت "زيدان" من خلفهم، فاتسعت اعينهن لتخبره "نيللي" مسرعة دون تفكير:
-الفريندز زون.
انفرج فمه للحظات قبل أن تنتقل عيناه الناعسة والحانقة فوق "ميرا" ليخبرها في غيظ:
-مش في الفريندز زون أنا!
ضحكت الفتيات دون مقاومة ورغم سعادته برؤية هذا الاندماج والانسيابية الواضحة بين ثلاثتهن إلا أنه لم يستمتع بكونه محور اهتمامهن، فقاطعهن بينما ينظر لساعة يده:
-يلا يا ميرا عشان الوقت اتأخر.
-اوكيه.
همست ونظرت للفتاتين بملامح محبطة دليل على عدم رغبتها في المغادرة ثم ودعتهم قائلة:
-اتبسط معاكم يا بنات شكرا ليكم.
-هاتي رقمك الأول عشان نضيفك على جروب الدردشة، مش معنى انك هتمشي انك تقطعي علاقتك بينا،
احنا بنرغي طول اليوم.
ظهرت ابتسامة حقيقة صادقة على وجهها الصغير، وقبل أن تنطق برقمها سبقها "زيدان" يمليهم رقمًا اخر مختلف.
اختفت الابتسامة من فوق شفتاها في حزن لا تفهم سبب كذبته ورغبته في انقطاع الصلة بينهم فقد شعرت بالسعادة في قضائها الوقت معهن، تجمعت الدموع في مقلتيها ولكنها تحكمت فيها والتزمت الصمت، ووقفت تستقبل حرارة وداعهن بين الأحضان والقبلات المتبادلة.
استشعر "زيدان" التخبط المنبعث من ميرا وكأنها منتظرة أن تقع في خطأ ما يجبرهن على الركض هلعًا منها، كما ان تدخله الغريب بالتأكيد أثار تساؤلاتها وفضولها وهو سبب الحزن الغائر في عينيها.
في هذه اللحظة بالذات أحسها طفلة صغيرة تائهة وود فعليًا لو كان يملك الحق في ضمها إلى صدره والتربيت على شعرها اللامع قبل ان يغرق فيه أنفه وهو يحتويها بين ذراعيه في قوة، سعل هامسًا:
-يلا بينا، مع السلامة.
غادرا بعدها سريعًا وكان الصمت ملك الحوار طوال الطريق، ورغم تعجبه من صمتها المخيف إلا إنه لم يسأل خشية من الإجابة التي قد تلقي بتوقعاته وأماله المرتفعة في عرض الحائط، أوقف السيارة أمام مبناها وحين لم تتحرك من مكانها أو تتهيأ للهبوط تنهد ثم مال يستند بساعديه فوق المقود مردفًا:
-في أيه؟
رمقته نظرة أرادت بها ان تبدو قوية ولكنها عكست الحزن والعتاب داخلهما خاصة حين صرحت ما يجول في خاطرها:
-أنت ليه كدبت عليهم وادتهم رقمي غلط؟
ضرب كفه فوق جبهته مصدومًا من نسيانه أمرًا بغاية الخطورة كهذا مؤكدًا:
-مش معقول كنت هنسى حاجة زي دي.
مال يفتح رف السيارة المغلق أمام مقعدها مخرجا ظرفًا صغيرًا، فتحه في صمت ثم مد يده بكل انسيابيه يجذب هاتفها من بين أصابعها دون استئذان وساعده على ذلك جسدها المشنج في صدمه من تصرفاته، فجلست بلا اي رد فعل فقط فمها المفتوح يعبر عنها وعن ذهولها أثناء تغيره لشريحة هاتفها.
خرجت منها صرخة خفيفة وخرجت من صدمتها حين قبض على اصابعها يجبرها على لمس الشاشة وفتح قفل الهاتف.
-أنت بتعمل أيه، هات التلفون انا ما اسمحلكش انك تفتش في حاجتي.
-اهدي على نفسك، أنا بنفذ الاتفاق، بعمل بلوك لأصحابك من كل مكان في السوشيال.
أنهى جملته في اعتيادية وكأنه يخبرها بانه يتطلع على الساعة فحاولت جذب الهاتف منه هاتفة:
-هتستفاد أيه فهمني؟
-أنا مش هستفاد حاجة أنتي المستفيدة.
رد بطريقته الهادئة الاستفزازية فضربت كفيها فوق فخديها تكاد تجذب خصلاتها منه ومن عناده، قائلة:
-أنا مش عايزة استفاد، أنت حرفيًا بتدمر حياتي وبتخرب علاقاتي مع اهم ناس عندي.
-هنشوف أهم ناس عندك هيتصرفوا ازاي لما تغيبي عنهم ده لو حسوا اصلًا أنك غيبتي.
قال في نبرة متهكمة ثم أعاد هاتفها وقد انتهى من مهمته، راقب ارتعاشه شفتاها الطفيفة وهي تجذب الهاتف منه بعنف وحين حاولت التحرك للهبوط أوقفها قائلًا في حنو:
-أنا عايز مصلحتك، ومش ضدك أو بعاندك يا ميرا، ما تحطنيش في خانة الأعداء أنا عمري ما كنت عدوك.
-أنا مبقتش فهماك، شوية بتكون كويس، وشوية غريب وتصرفاتك أغرب.
لم تستطع كبح الحزن المحفور داخل قلبها نحوه فأسرع يجادلها ضاغطًا فوق أصابعها يسرق جام انتباهها لحروفه:
-لا يا ميرا أنا زي ما أنا، أنتي اللي شايله مني من يوم الموقف مع ليلو ومستنتيش تسمعي اللي حصل.
تنهدت ثم نظرت له في ضعف تحثه:
-أحكي أنا سمعاك.
حرك رأسه نافيًا في خيبة ويأس قبل أن يخبرها مؤكدًا:
-أنا مش هديكي مبررات يا ميرا، عارفة ليه؟
-ليه؟
همست في خفوت محموم بمشاعرها المختنقة فاستجاب لسؤالها على الفور:
-عشان أنتي مش عايزه لا تسمعي ولا هتفهمي ومهما قولت مش هتصدقيني.
أبعدت بصرها عن عيناه المثبتة لنظرها بصعوبة ثم قالت تحاول إفراغ مشاعرها ومخاوفها:
-مش هصدق عشان مش أول مرة تكدب يا زيدان وأخرها انهارده.
-كدبت في أيه قوليلي؟
حثها في عناد على التكلم عاقدًا ذراعيه بثقة أمام صدره متأكدة من براءته أمام هذا الاتهام، فدفعت نفسها لكبت خجلها وارتباكها فهي تتمنى سرًا إجابة معينه يهفو إليها قلبه من بين شفتيه حتى نطقت أخيرًا:
-انهارده مثلًا قولتلهم اننا مخطوبين.
-لا ثواني، أنا ليا مبررين للكلام ده، أولاً أنا مينفعش أبدا أدخل على صاحبي ومراته والتاني وخطيبته وأقولهم اعرفكم يا جماعة ميرا صاحبتي ولا أقولهم أنا عامل اني متجوزها عرفي!
دول ناس محترمة طبيعية مش زي الهلافيت صحابك اللي عايشين العربدة.
احمر وجهها خجلًا وقد أفحمها بكلماته الحقيقة فلا تستطيع تكذيب كلماته عن أصدقائها ورغم حبها الكبير لهم إلا أنهم منغمسون في أمور الدنيا أكثر مما ينبغي لكنها لن تعترف له بهذا أبدًا، انتشلها من افكارها صوته وهو يستكمل في جدية كبيرة:
-والمبرر التاني ... أنا هتجوزك فعلًا.
نجح هذا في إخراسها بضع دقائق طويلة، تابع "زيدان" كيف بدأت ملامح الخجل والارتباك تغزو ملامحها وتحركاتها، بينما حاول هو قتل ابتسامه مستلذه تحاول الارتسام فوق ثغرة حين سألت:
-تتجوزني وأنت مش بتحبني ازاي؟
-وأيه علاقة الجواز بالحب؟
غامت عيناها بثورة غاضبة فاقت ثورات الشعوب على الطاغية فقد دمر لتوه أمانيها وأحلامها الحمقاء التي كانت تنسجها داخل قلبها، حتى وهي في أشد لحظات غضبها وجنونها منه تتمنى سماعها، ثم انفجرت كأنبوب الغاز في وجهه مستهجنة:
-اومال هتتجوزني ليه لو مش بتحبني؟!
-أنا مش فاهم ايه علاقة الحب بموضوعنا،
ولا أنتي عايزة تعترفي بحاجة؟
سأل متعجبًا في مشاغبة وقد صدح في عقله جملة "يتمنعن وهن راغبات"، ثم لاعب حاجبيه بشكل مستفز نحوها حين غرقت في صدمتها فمدت أصابعها تقرص لحم ذراعيه في غل بشكل عنيف جعله يصيح متأوهً وهي تهتف في وجهه :
-مش هعترف لحد بحاجة ومش هتجوز حد مش بيحبني أنا!
-هتتجوزيني ورجلك فوق رقبتك يا روحي.
-يا مستفز.
تركها تهبط هذه المرة وراقب قدمها الصغيرة تتخبط في الأرض بقوة ولم يستطع إيقاف نفسه عن مناداتها مغيظًا لها:
-متنسيش هعدي عليكي الساعة تسعة يا روحي.
التفت له وكأنها ترغب في خلع حذائها والقاءه في وجهه، فأنطلق بالسيارة مبتعدًا عنها سعيدًا بالتخبط والجنون الذي يثيره داخلها فعلى الأقل ستجد منفذ وسبب أخر للتفكير بعيدًا عن الشياطين.
يتبع الفصل العاشر اضغط هنا