رواية طيف السلطان الحلقة الرابعة 4 بقلم قسمة الشبيني
رواية طيف السلطان الفصل الرابع
شعرت بالأمان للمرة الأولى منذ أمد بعيد ، منذ تناول منها العصى بصمت و أشار لها لتتابع طريقها ثم غاب عن ناظريها لكنها تعلم أنه هناك ..
كم هو شعور ممتع أن تشعر بشخص مهتم لأجلها هى .. وهى قد اعتادت تهميش الجميع والحياة أيضا .. كانت أوقاتا تظن أنها لا ترى للأعين وأن هؤلاء الناس لا يرونها إلا وقت حاجتهم لعملها الذى يسخرونها فيه لقاء القليل من المال .
كثيرا ما رأت اسمها مطابقا لحياتها ؛ طيف لا يرى ولا يشعر أحد بوجوده .. تسير بين الناس لا تتربص بها سوى الأعين الجائعة لجمالها والذى مهما حاولت اخفاءه يراه من يشتد جوعه لها .
للمرة الأولى تقطع هذا الطريق وتتمنى ألا ينتهى فقط لتشعر أنها بعنايته لفترة أطول .
كادت أن تصل لتدور على اعقابها تبحث بعينيها عنه لتراه على مقربة منها ، بادلها ابتسامة صافية لم تر مثلها على وجه رجل منذ الأزل .. رأت بعينيه نقاء لم تره بعينى رجل غير أبيها .. استشعرت بقربه طمأنينة لم تشعر بها مطلقا .
هل يمكن أن تشعر بكل هذا وهى قد رأته منذ ساعات ؟؟
كيف ومتى تبدلت مشاعرها تجاه الرجال ؟؟
ربما لأنه أول من رأت من الرجال !!
تقدمت نحو منزلها المتهالك بنفس مطمئنة ولم تنظر للخلف فهى تثق أنه لازال هناك .
**************
دخل سلطان للمنزل الهادئ كالعادة ليتجه نحو غرفة أمه ، فتح الباب وأطل عليها وكانت على نفس وضعها الذى لم يعد يتغير سوى فى مرات معدودة .
تقدم نحوها بمرح : السلام عليكم .. عاملة إيه يا حجة
نظرت نحوه براحة : عليكم السلام يا نور عيني .
وضع الطعام أمامها لتمسك الأرغفة متسائلة : انت چايب العيش ده منين ؟
ابتسم سلطان : خابر إنه هيعچبك .. واحدة بتبيعه على الطريق .
اقتطعت قطعة ورفعتها تشم رائحتها لتبتسم ثم تضعها بفمها فورا .. أستلذت المذاق : تسلم يدها .. ابجى هات لى منها علطول .
اتسعت ابتسامة سلطان : بس كده من عنيا .. دوجى السمك كمان .
هزت رأسها رفضا : لاه هات لى حتة چبنة من الزلعة .
ابتسم واسرع يلبى رغبتها بل وشاركها وجبتها التى طلبت .. تذكر فورا تلك الوجبة التى كانت فى الماضى لأياما عديدة كل ما يملكون .. أصبحت اليوم تشتهيها الأنفس وتتمناها احيانا .
************
دخلت طيف لتتجه نحو أبيها فورا : مش هتصدق يا أبا اول مرة فى حياتى اكسب مبلغ كبير كده .. انا لازم النهاردة اعملك فرخة .
ابتسم عبيد بضعف : فرخة مرة واحدة !! لا يا بنتى وفرى الفلوس هتنفعك وانا هاكل شوربة خضار زى كل يوم وانت نامى شوية انت سهرانة اغلب الليل
انتفضت واقفة : لا هتاكل شوربة فراخ و انا هنزل السوق اجيب دقيق هجيب فرخة معايا .
غادرت من جديد بعد استراحة قصيرة وعادت مسرعة .. أعدت الطعام الفاخر الذى لا يتناولاه سوى على فترات متباعدة ثم خلدت للنوم سريعا فهى أمامها ليلة طويلة .
كانت ليلتها تشابه البارحة لكنها اليوم تعمل بحماس اكبر فقد وثقت فيما ستجنى من ربح بفضل تلك الأرغفة .
***************
اغمض سلطان عينيه أمام فرشته يبغى بعض الراحة بعد يوم مهلك .. تراءت صورتها خلف اجفانه المغلقة ليفتح عينيه وينظر إلى حيث كانت جالسة منذ ساعات .
عاد يرخى اجفانه مبتسما مرحبا بصورتها التى تعلن الاستيلاء على تفكيره فلا يملك إلا استسلاما غير مشروط .
*****************
وقف فى الصباح التالى أمام بضاعته يراقب موقع ظهورها الذى شعر أنه تأخر لكنه يشعر ببعض الراحة لوجود نمر الذى يرمقه بنظرات منكسرة منذ ظهر صباحا .. اقترب منه حكيم متسائلا : مالك يا سلطان ؟ سرحان من ساعة ما رجعت .
رفع سلطان عينيه نحوه : ابدا مش سرحان هات قهوة يا حكيم .
اقترب حكيم برأسه منه : مش البت طيف اتأخرت ؟
نهره بعينيه : إيه البت دى ما تحترم نفسك يا حكيم
اعتدل حكيم ضاحكا : امال هى واد !! لما تتجوز هقولها يا ست طيف .. مبسوط يا سيدى ؟
زفر سلطان : حكيم انت فاضى شكلك وانا مش رايق روح هات القهوة
هز حكيم رأسه أسفا وتحرك نحو القهوة لتظهر أمامه تسير بخطى ثابتة لينتفض قلبه : ولا اقولك بلاش . بلاش .
تحركت عينيه معها وهى تراقب الطريق لتعبر نحو القهوة التى ستقف بجوارها . رفعت كفها بالتحية ليهلل حكيم بلا مناسبة : صباح الخير يا طيف .. اتأخرت كده ليه ده واحد واخد عيش امبارح سأل عليك ؟؟
وضعت حمولتها بسلاسة : معلش كله نصيب .. كنت بملى ميه واطمن على ابويا .
نظرت نحوه بطرف خفى : يسعد صباحك يا سلطان .
لانت ملامحه فورا : وصباحك يا طيف .. امى عجبها العيش اعملى حسابنا كل يوم .
تهلل وجهها الظاهر له وقلبها الخفى عنه دون أن تحمل نفسها عناء معرفة سبب تلك النبضات القوية وهى تجيب بهدوء : بس كده من عنيا الاتنين .
لم يتحرك عن مقعده الذى وضعه منذ الصباح الباكر بالقرب من المكان الذى جلست به أمس ليكن على مقربة منها قدر الاستطاعة .. ورغم أنه حفظ تلك القسمات فى سويعات بالأمس لم يمنعه ذلك من استراق النظر عله أغفل أحد تفاصيل براءة وجهها الذى أسلم قلبه رايته لها فور رؤيتها وقبل أن يعلم أنه قد يحظى بقرب منها .
شرد سلطان فى يوم امس .. حين ظهرت طيف على الاتجاه المعاكس من الطريق .. أسرته تلك البراءة بملامحها .. تساءل فور ظهورها عن سبب تواجد مثلها على قارعة الطريق الذى لا يخلو من الوجوه القاسية والقلوب الأشد قسوة .
وحين رأى هذا الهمجى يتعرض لها أسرته مرة أخرى بتلك القوة التى رأها تتحداه بها رغم أنها ليست ندا له .
المرأة القوية ..
صورة مبهرة أشعلت حواسه ليسمع حوارها مع حكيم عن الزواج .. لم يهتم سوى بأنها غير متزوجة اما رفضها الزواج فمجرد فكرة يسهل تغيرها .
عاد من شروده على صوت أحد زبائنه ليتحرك مبتعدا عنها ببدنه فقط .
**************
تحرك ياسر نحو باب المنزل لتوقفه أمه : يا بنى رايح فين وانت تعبان كده ؟
نظر لها مدعيا الهدوء : هتمشى شوية وراجع .. ما تخافيش عليا انا راجل مش بت لكل حركة بسؤال يا اما !؟
ربتت فوق صدره بحنان : يابنى مش قصدى .. انا خايفة حد يتعرض لك ما انت ياسر ابن الشيخ يونس وبردو مطمع للحرامية .. اديك شايف راسك لسه مافكتش الرباط .
تقلصت ملامحه : جرى إيه دى حادثة ممكن تحصل لأى حد ؟؟ مش حكاية علشان كل شوية نتكلم فيها .. انا ماشى .
غادر فورا لتضرب كفيها بحزن : اكيد عين وصابتنا لازم ابخر واطلع حاجة لله
تحرك ياسر فورا نحو منزلها ، سينزل بها أشد انتقام ويطيح بها .. ستأتيه ذليلة خاضعة يمن عليها .
اخترق الزراعات نحو المنزل الوحيد القابع بتلك البقعة .. أولئك الفقراء البؤساء تتنافر منازلهم عن بعضها بفضل أصحاب الأراضى الذين لا يدخرون جهدا لتشريدهم كلما سنحت لهم الفرصة . هو نفسه سيفعل ذلك بعد أن يستلم اراضى والده ..
نفخ بضيق وهو يتذكر ما يقوم به والده تجاه هؤلاء المتطفلين برأيه .. تلك الفتاة وأبيها ومنزلهما البائس يحتلون ارض أبيه الذى لم يمانع ذلك ..
وصل ليطرق الباب بكل ما بقلبه من أحقاد تجاه تلك التى تجرأت ورفضته بل وتطاولت عليه أيضا واصابته تلك الإصابة التى ستجعله يذكرها مدى الحياة ويكرهها لمدى الحياة ايضا لكن تلك الكراهية ستكون النيران التى يحرقها بها ولن يكتفى بنيلها .. لم يعد ذلك خيارا متاحا لها بعد فعلتها الشنيعة تجاهه .. بل لم يعد نيلها مقصده الأول سيدهسها بقدمية حتى تنزوى كرامتها المزعومة وتزهق روح مقاومتها الشرسة ثم لن يبذل جهدا لنيلها فستكون متاحة له ومن بعده للجميع .
وقف متأففا بضيق لدقائق حتى فتح أبيها الباب وهو يستند لإطاره بضعف . احتلت الدهشة ملامح الرجل : ياسر بيه ؟؟ اتفضل اهلا وسهلا .
وقف ياسر مكانه ونظر ل عبيد بغضب : اتفضل فين ؟ انا ادخل الزريبة دى ؟؟ اففف
شعر الرجل بحرج شديد وظهر عليه ذلك ليبدأ ياسر تسديد نصاله السامة : بص يا عبيد انا جيت لك على السكت اهو يا تحوش بنتك عنى يا افضحها
قاطعه عبيد بلهفة : بنتى ؟؟ مالها طيف جرى منها حاجة ؟
سكنت احقاده قليلا وهو يرى كلماته تأتى بما تمنى فيتابع : انا مش هكدب واقول ماكنتش معاها مرتين تلاتة لكن ده طيش منى مش اكتر لكن ترمى بلاها عليا وتفكر انى ممكن اتجوزها ادفنهالك تحت رجلك .. انا ياسر ابن الشيخ يونس كبير الناحية وكل البنات يتمنوا إشارة منى ..
عاد عبيد يقاطعه بأنفاس لاهثة ووجه شاحب : كنت معاها ازاى يعنى ؟؟ انت قصدك ايه ؟؟
اجاب ياسر بنفس الحدة : هو ايه اللي ازاى هتستهبل ؟؟ زى اى راجل وست وبعدين فكرها انى ماكنتش اول واحد يعنى تتلم بدل ما يلمها القبر .. انا حذرتك انت راجل كبير وغالى على ابويا لكن لا انت ولا هى اغلى منى فى ساعة العشة دى تنهد على دماغكم .. انا ماشى .
وتحرك مغادرا وقد رأى أثر كلماته ليبتسم بخبث فبعد ساعات سيعلم بمقتل تلك الفتاة أو على أقل تقدير نزوحها وأبيها عن البلدة .. لن يضطر أن يواجه نظراتها القوية المتشفية مجددا ولن يفعل .
أغلق عبيد الباب وقد أختنق صدره .. بدأ السعال يهاجمه بضراوة .
طيف !!
لا لن يصدق ادعاء هذا الفاجر .
طيف !!
تعالت وتيرة الألم ليرفع رأسه نحو السماء التى تظهر له من سقف منزله المهترئ .. أعين باكية وقلب ذبيح توجها إلى السماء بينما عجز لسانه عن النطق لتسارع أنفاسه التى بدأت تشق صدره ..
يتبع الفصل الخامس اضغط هنا
- الفهرس (رواية طيف السلطان كاملة)