رواية طيف السلطان الحلقة الخامسة 5 بقلم قسمة الشبيني
رواية طيف السلطان الفصل الخامس
أنهت بيع أرغفتها جميعا وصرت نقودها الغالية التى فاقت أمس لتبدإ جمع متعلقاتها استعدادا للرحيل .. اقترب منها فورا : انا جاى اوصلك .
ابتسمت له وهى تستشف مشاعره القلقة من نبرة صوته لتجيب بثقة : ماتخافش عليا .. انا افوت فى الحديد ..خليك جمب فرشتك
اتسعت ابتسامة سلطان وهو يؤكد بثقة : عارف يا طيف بس عاوز اطمن عليك بنفسى .
نظرت أرضا ليظهر تخضب وجهها الذى يزيدها فتنة ويزيده انبهارا ، فهم أنها تخجل من صحبته لها .. كما أنها محقة فى ذلك ..
تسربت بشاشته وهو يتراجع : ماشى يا طيف بس خلى بالك من نفسك .
حملت وعائها الخاوى وعادت تبتسم وهى تتجاوزه ليدور مع خطواتها مراقبا مغادرتها .. عبرت الطريق لتغيب عن ناظريه دون أن تغيب صورتها عنه .
اقترب منه حكيم الذى كان يراقبهما معا طيلة اليوم .. وقف بمحاذاة سلطان الذى لم ينتبه له ليبتسم هو شاعرا بالراحة لأجل صديقه .. دفعه بكتفه ليلتفت له : فى حاجة يا حكيم ؟؟
اجابه مبتسما : ايوه فى حاجة ضاعت منك ماتخافش طيف هتجبها معاها الصبح .
قطب جبينه ليضحك حكيم : يا عم يا تروح وراها يا تروح وراها بردو هههههه
وكزه سلطان ليضحك مغادرا فيوقفه : خد بالك من الفرشة على ما اتغدى مع امى وارجع .
************
دخلت طيف للمنزل بوجه بشوش وقلب راض لينقلب حالها بلحظة واحدة وهى ترى أبيها منكبا على وجهه أرضا .
ألقت ما تحمله واسرعت تتفقده بفزع : أبا .. مالك يا أبا ؟؟ أبا رد عليا ..
كان شاحبا وقد خلا صدره من أنفاسه .. هزته مرات ونادته مرات أخرى لكنه لم يعد قادرا على إجابتها .. ضمته لصدرها وهى تصرخ ألما انشق له هذا الصدر الذى يرفض التخلى عن الجسد الذى بلى .
ظلت تبكى لا تعلم كم مر عليها من وقت .. لكنها فى النهاية حملته لفراشه كما اعتادت فى سنواته الأخيرة التى كان رفيقه فيها المرض العضال .. نظرت لوجهه نظرة أخيرة وغادرت فورا نحو مسجد القرية لتسأل شيخ المسجد عن اللازم فعله فهى رغم أن الحياة قد طحنت عظامها شقاءا إلا أن مصيبة الموت تدركها لأول مرة فحين غادرت أمها كانت اصغر من أن تعى ذلك .
عادت بعد وقت يرافقها الشيخ ورجلان من القرية قام الأخير بطلبهما .. دخلا لغرفة أبيها البالية يتفقدوه ثم أعلنوا لها ما كانت ترفض تصديقه وتتمنى أن يكون وهما من نسج خيالها .
طلب شيخ المسجد الطبيب الشرعى للقرية ليستخرج تصريحا للدفن ثم سمعته يطلب من صاحبيه العودة للمسجد والاتيان بلوازم الغسل والكفن لتنتفض وتضع بين يديه كل ما جمعت من مال .. حاول الرجل أثناءها عن ذلك ليفشل فيرضخ لها بقلب متألم للحال الذى ستؤول إليه .ورغم أنها تعلم أنها تفقد مع هذا المال مقومات الحياة إلا أن هذا لن يدفعها لتقبل تصدق أحدهم على أبيها بالكفن .
***********
وضع بكف أمه كوب الشاى الذى تشربه بعد الغداء يوميا لتبتسم له بود .. جلس بالقرب منها يشرب كوبه أيضا لتتساءل : مالك يا سلطان ؟
حاول أن يبتسم : ولا حاچة يا أما أنا بخير .
شردت ببصرها عنه : خابرة انك بخير بس كن حاچة نجصاك ؟
نظر لها لتعد بنظرها نحوه فتتابع : مأنش الأوان تتچوز يا سلطان ؟
ابتسم مرغما فها هي أمه ترى دواخله كما كانت تفعل طيلة عمره .. نظر أرضا ثم نظر لها : كانك زهجتى من سلطان يا أم سلطان
ضحكت لتبرز تجاعيد وجهها التى يعشق .. كل خط من تلك الخطوط شاهد على ألم تحملته ، على ايامها السعيدة ، على كفاحها الطويل .
ارتشفت بعضا من كوبها لتنظر نحوه بحنو منتظرة افصاحه عن مكنون قلبه ولم يطل انتظارها فقد تحدث فورا : اسمها طيف .. بتبيع عيش على الطريج .. شوفت دارهم امبارح شكلهم ناس على كد حالهم .
تابع حديثه عن رؤيته طيف وعما حدث بالأمس دون أن تغب بشاشة أمه لوهلة ودون أن تهتز ثقة عينيها التى تخترق رأسه .
اخيرا تحدثت بعد أن صمت منذ لحظات : ابجى جولها ونروحوا نخطبوها الراچل الزين مايبصش لحرمة مش حلاله يا سلطان .
*************
مر الوقت عليها سريعا لتجد الرجال يحملون جسد أبيها بعد تكفينه إلى المسجد . كان وقت الصلاة ونودى لصلاة الجنازة فاجتمع أهل القرية أجمع لتشيع أبيها الذى رحل عنها فى غفلة منها .
بعد دفنه غادر الجميع وحاول إمام المسجد أن يعيدها للمنزل لكنها رفضت وظلت واقفة أمام قبره بإجلال حتى رحل الجميع لتبدأ تحدثه وكأنه أمامها .
لم تحص الوقت الذي قضته بجوار القبر لكنها شعرت بالخدر يسرى ببدنها من شدة الإجهاد .. نظرت نحوه نظرة أخيرة مودعة وغادرت تجر قدميها جرا .
كانت أطول لياليها على الإطلاق .. استمعت لحفيف الأشجار وأصوات الحشرات حتى الحيوانات الضالة شاركتها ليلتها الحزينة التى غاب عنها البشر أجمع .
سكبت احتراقها دمعات ناعية أبيها وحياتها التى ستتشح بالسواد مستقبلا .
كانت تعانى بوجوده مرات وستعانى بغيابه ألاف المرات .
رأت الشمس تشق قلب الظلام معلنة عن يوم جديد وما الجديد ؟؟
الجديد أنها زادت وحدة ..
زادت غربة ..
زادت بؤسا ..
**************
بعد يومين..
وقف سلطان يتأكل قلبه قلقا ، ثلاثة أيام لم ير طيفها .. اقترب حكيم شاعرا بالأسف لأجل صديقه الوفى ، ربت فوق كتفه ليلتفت له بأعين فزعة كما كانت منذ غيابها : وبعدين يا سلطان ؟؟ ما انت عارف بيتها تعالى نروح نعرف على الأقل حصل ايه ؟
ردد سلطان : خايف يا حكيم .. أول مرة فى حياتى اخاف بالشكل ده .خايف تكون فى ضيقة ومحتجانى جمبها وخايف اروح اقول لابوها إيه !!
تنهد حكيم : نصاية ونروح ولو على ابوها انت كنت هتحدد معاد وتروح تخطبها .. قوله الكلمتين دول وخد منه معاك تاخد الحجة وتروح . استنى شوية وجاى .
غاب حكيم وظل هو بين أفكاره المتوحشة التى تمزقه بين براثن الاحتمالات التى يراها سوداوية ومقبضة .
***********
طرق بابها لترفع رأسها المثقل بالهم والحزن عن وسادة أبيها التى تضمها منذ رحيله ، تحركت بتثاقل ؛ لابد أنه إمام المسجد جاء يحاول منحها مالا لا تحتاجه وسترفضه ورغم ذلك لم ينقطع عن المحاولة .
فتحت الباب لتطالع وجها بغيضا بأعين تلمع شماتة وتصرخ حقدا .
تخصرت تنظر له بتحدى : انت ماحرمتش من بطحة راسك يا ابن الشيخ يونس ؟ ولا فكرت ابويا مات انكسرت وهتقدر عليا ؟
عقد ذراعيه وحاجبيه : ابوك مات والدور عليك يا طيف ومش هسيبك غير لما اخلص منك حقى وبعدين ادهسك برجلى زى الحشرة .
علا صوتها : حقك !! حق إيه يا واطى يا خسيس دا انا اللى ليا حق هاخده من حباب عينيك .
ضحك ياسر على غير عادته ونظر بعينيها مباشرة ونفث احقاده : انا قولت لابوكى انك مرفقانى وبترمى عليا علشان اتجوزك .. انا قتلته ودلوقتي حالا هكسرك واقتلك .
اتسعت عينيها فزعا وضربت صدرها وظلت عينيها متعلقة بعينيه لحظات .
****
اقترب سلطان برفقة حكيم الذى يتلفت حوله مستنكرا المكان ، مد سلطان ذراعه ليتوقف حكيم بينما يهمس سلطان متسائلا : مين اللي واقف مع طيف ده ؟؟
اقتربا بحذر ليهمس حكيم : سلطان فى واحد تانى مستخبى هناك اهو .
نظر سلطان بالاتجاه الذى أشار إليه حكيم ليرى شخصا يقف يستمع للحوار بين طيف وهذا الغريب الذى أشعلت كلماته نيرانا بصدر سلطان لن تخمد إلا بدماء هذا الحقير .
عاد حكيم يهمس : انت مستنى إيه ؟ بينا نلحقها من الواطى ده .
هز سلطان رأسه : ده عاوز اللى يلحقه منها .
وفى اللحظة التالية قفزت طيف متخطية فرق الطول بينها وبين ياسر لتمسك برأسه الذى انخفض معها بتلقائية لوهلة قبل أن يحاول المقاومة لكنها كانت اسرع منه وقفزت فوق ظهره لتتمكن منه اكثر صارخة : انا هشرب من دمك .. موتك على أيدى النهاردة يا ابن الشيخ ..
لوح بذراعيه للخلف محاولا امساك ملابسها أو إسقاطها لتصرخ وتغرز أسنانها برقبته ليصرخ هو فورا .
سقط شيئا ما بالقرب لتتجه الأنظار جميعها إليه ، صرخ ياسر وألجمت الصدمة طيف لينفلت من قبضتها مع تقدم سلطان وحكيم نحو الرجل الذي سقط .
كانت عينيه شاخصة وانفاسه لاهثة .. يعانى اختناقا واضحا ليرجوه ياسر : بابا رد عليا .. قوم معايا قوم
حاول رفعه ليحول رفض الشيخ دون ذلك ويتحدث بألم : يا خسارة تربيتى فيك .. هو ده العلام اللى اتعلمته .. تنهش اعراض الخلق وتجور عليهم .. ربنا ينتقم منك .. اه .. اه .. غور من وشى ..اه .. انا متبرى منك .. اه .. قالوا لى فى المركز إنك عارف اللى ضربك .. اااه .. ماكنتش فاكرك .. اااه
جلس حكيم : بالراحة يا عم خد نفسك بالراحة ماتخافش هنوديك مستشفى .. ايدك معايا يا سلطان .
لكن سلطان اكتفى بالوقوف فى الخلفية فهو إن اقترب اكثر سيطبق على رقبة هذا الحقير حتى يلفظ أنفاسه
رفعت عينيها الباكية نحوه لتذبح دمعاتها قلبه فينعى دموعها بدمائه .
لم ير السواد الذى اتشحت به بل رأى السواد الذى يلتهم روحها مهددا بتدنيس براءة تصدعت من كثرة لطمات الحياة .
اقترب متناسيا كل ما يحدث ليقف أمامها مباشرة : ماتخافيش هو فى دار الحق واحنا فى دار الباطل .. هو عرف كل حاجة ماتضيعيش تربيته ليكى يا طيف .. ماتضيعيش عمره
وأضيع حقه
تساءلت بقهر ليشير بإبهامه للخلف : حقه ربنا ماسابوش .
نظرت نحو يونس لتصمت وهى تراه يعانى ولا احد قادر على مساعدته .. رأت صورة أبيها حين عانى أيضا لكنها لم تكن بالجوار .
علا صوتها : هاته يا حكيم بسرعة الوحدة عشر دقايق أنا عارفة الطريق من هنا .
حمله حكيم وسلطان بينما ظل ياسر موضعه عاجز عن اللحاق بأبيه الذى أعلن أمامها تبرأه منه
يتبع الفصل السادس والأخير اضغط هنا
- الفهرس (رواية طيف السلطان كاملة)