رواية طيف السلطان الحلقة السادسة والأخيرة بقلم قسمة الشبيني
رواية طيف السلطان الفصل السادسة والأخيرة
تم إسعاف يونس لكن لم يعلم الأطباء أن ما أصابه اليوم يصعب الشفاء منه .
غادرت طيف سريعا بمجرد إلحاقه بالمشفى لقد فعلت هذا إكراماً لأبيها لا له .. لم تعد للمنزل بل اتجهت إلى المقابر ووقفت أمام قبره تبكيه كأنه غادرها للتو .
بحث عنها سلطان فى المشفى لكنها اختفت وفشل فى العثور على أثرها أيضا . توجه وحكيم عائدين إلى منزلها الذى يقع بطريقهما المختصر لكنها لم تكن هناك أيضا ليعود للطريق وقد زادت هواجسه ونمت مخاوفه .
******
عاد سلطان للمنزل فى وقت الغداء ليخبر أمه كل ما حدث فيزداد إعجابها بهذه الفتاة التي لم تعرفها بعد وتصر على لقائها فى اليوم التالى مباشرة .
عادت طيف ليلا منهكة القوى لتغرق فى سباتها حتى استيقظت صباحا على طرقات الباب .
مسحت وجهها بكفيها ودون أن تتفقد مظهرها اتجهت إلى الباب ، فتحته ليطالعها وجه غريب لكن بشاشته مريحة .
ابتسمت تلك السمراء التى تقف ببابها متسائلة بود : كيفك يا بتى ؟
قطبت طيف جبينها بدهشة لعدم قدرتها على التعرف على الزائرة الودودة أو تذكرها لتنطق بصوت مبحوح : اهلا يا حجة عاوزة مين ؟
أجابت الزائرة بثقة : رايداك انت يا طيف .
أشارت إلى صدرها بإستنكار : انت تعرفينى ؟
اتسعت ابتسامة الزائرة : انا ام سلطان وهو واجف جريب وانى جولت له يهملنا لحالنا .
عادت تلك الخفقات بصدرها تنبئ بثورة قادمة بينما لم تبد طيف اى تأثر وهى تفسح الطريق بود : اتفضلى .. معلش البيت مش قد المقام .
تقدمت المرأة تستند لعكازين لتشعر طيف بالحرج وتسرع نحوها تساعدها حتى اجلستها .
تلفتت حولها بفزع هى لم تشتر اى طعام منذ وفاة أبيها واكتفت بتلك الأرغفة الجافة التى تقتات عليها .. كما أنها تملك ما تضايف به الزائرة .. تذكرت فورا المشروب الذى لا يخلو منه المنزل نهائيا وهى تتحدث بثقة : دقيقة واحدة هعملك شاى .
اتجهت نحو الركن المفترض كونه مطبخها ومن الجيد صغر المكان الذى ساعد على عدم ترك المكان لتتحدث بود : نورتينى والله .
تحديث المرأة : البقاء لله يا طيف ربنا يصبر جلبك الواحدة منينا بعد بوها بتبجى ريشة يلعب بيها الهوى .
دارت طيف تنظر لها : ونعم بالله .. بس انا مش فاهمة ريشة ازاى يعنى ؟
اومأت بإبتسامة شاحبة ثم قالت : سلطان حكى لي على كل حاچة .. اوعى تفكرى إن الولد ده هيرفع يده عنيكى .. العفش بيضل عفش مايهموش غير روحه .. واللى اتنزعت الرحمة من جلبه عمره ما يتغير .. هو وجعة بوه چت رحمة ربنا بيكى
ظهر الغضب على طيف وتحدثت بقوة : خليه يجى جمبى تانى وانا اجيب خبره واريح الخلق من شيطان هم فاكرينه ملاك .
ابتسمت المرأة : مين جال أكده !! وتضيعى عمرك على واحد مايسواش ؟ لاه يا بتى حتى بوكى الله يرحمه مايرضاش بإكده
جلست طيف فوق المقعد المجاور للموقد بحيرة تنظر نحو تلك المرأة التي ابتسمت مجددا : هو ماتشيليش همه لكن همى دلوك انت وجعدتك لحالك فى بيت بعيد عن العمار عرضه ليه ولغيره .. جعدتك اهنه ماترضيش حد واصل .
لم تجب طيف فهى لا تملك مكان يمكنها النزوح إليه ولا تقبل أن تنزل ببيت أحد أقاربها والذين تعلم جيدا رقة حالهم جميعا وضيق منازلهم مثلها تماما .
شردت قليلا لتنتبه لصوت زائرتها الذى علا قليلا : ها جولتى إيه ؟
هزت رأسها : نعم !!
عادت المرأة تتحدث : انى افهم فى الأصول زين ماهنعجدش دلوك لكن نطمن عليك چارنا
تساءلت طيف بدهشة : نعقد إيه ؟؟
ضحكت المرأة : انت ماسمعتيش حديتى خالص .
وضعت طيف الكوب الساخن فوق صينية متواضعة واتجهت نحوها لتجلس بجوارها فتقول : معلهش انت معذورة .. انى جولت إن سلطان ولدى رايدك فى الحلال وكنا متفجين ناچو جبل اللى حصل ده كلاته .. بس كله نصيب .. انى شوفت لك اوضة فى البيت اللى چارنا هى اوضة على السطح بس أمان ماتخافيش .
شعرت طيف بالهذيان ولم تجد ما تجب به على تلك المرأة التي أتتها صباحا تريد أن تأخذها من كل ما تملك وليس البيت هو ما يحزنها فراقه بل الذكريات .. لقد قضت عمرها كله فى هذا المنزل المتهالك الذى كان لها سترا ومأوى وملاذا .
عادت المرأة تتحدث : اتكلمى يا بتى بتفكرى فى إيه ؟
تاهت منها الكلمات لتفتح فمها عدة مرات بلا جدوى .. الغريب أن المرأة لم تتحدث مرة أخرى بل فتحت ذراعيها وقالت بود : تعى يا بتى .
وكأن هذه الدعوة هى ما كانت تنتظره منذ فقدت أبيها .. كانت بحاجة لمن يضمها واحزانها وتخبطها وحيرتها وكل الألم الذى يمزق صدرها .
احتوت تلك الغريبة فى لحظات ما عجزت هى عن التعبير عنه .
طال الوقت بها حتى شعرت أنها أثقلت على صدر تلك التى لم ترها إلا هذا الصباح ورغم ذلك لم تتذمر من تحمل تلك المشاعر التى عجزت هى عن التعبير عنها .. لم يحاول اى ممن خدمتهم طيلة عمرها أن يتفقدها أو يواسيها أو يرفع عنها الغربة والوحدة ..
تلك القرية التى تبكى على الذكريات بها !! أولئك الناس الذين قضت بينهم عمرها !!
رفعت رأسها اخيرا تكفف دموعها : حاضر انا هسيب البيت بس مش علشان خايفة من حد لكن علشان البلد دى بقت تخنقنى .. بكرهها وبكره ناسها .
ربتت فوق كفها وتفهمت تعليقها كل الأمور لوقت لاحق فهى تقدر التخبط الذى هى واقعة به ولن ترغمها على إتخاذ قرار مصيرى وهى بهذه الحالة .
جمعت طيف الملابس التى تملكها وجمعت أغراض أبيها أيضا وحملتهم لخارج المنزل قبل أن تدخل مجددا تساعد ام سلطان على الخروج ، حين خرجتا معا كان هناك يحمل كل ما أخرجته سابقا .
تقابلت الأعين لتصرخ اللهفة بالأشواق المنكرة والمستترة والخجلة من الإعلان عن وجودها .
تحرك ثلاثتهم نحو سيارة قريبة أتى بها سلطان فأمه عاجزة عن السير بشكل كبير .
لم يكن طريقهم طويلا ووصلوا لمنزل بالنسبة ل طيف فخم للغاية مكون من أربعة طوابق والأخير يحوى الحجرة التى ستسكنها .
دخلت الحجرة بصحبة صاحبة المنزل التى تساءلت : عجبتك الاوضة ؟
اومأت طيف : حلوة اوى بس أجرتها كام ؟
أجابت المرأة : مية وخمسين جنية علشان خاطر ام سلطان .
كانت طيف فى تلك اللحظة لا تملك مالا ولا تملك من تعتمد عليه لذا تنهدت واعلنت عن موافقتها على أن تبحث عن عمل بداية من اليوم .
أغلقت الباب وبعد ساعة واحدة قضتها فى تفريغ ملابسها وتنظيف الحجرة طرق الباب مجددا وكانت تلك المرأة تلهث بإرهاق لصعودها الدرج بحالتها الصحية تلك لتقول طيف : تعبتى نفسك ليه بس ؟؟ نادى عليا وانا اجيلك .
ابتسمت المرأة ونظرت للخلف فإذا بشابين يضعان فوق السطح موقدا غازيا للخبز واسطوانة أيضا . عادت بعينيها ل طيف وقالت : اشتريته بحر مالى وهتسدى تمنه بنص اللى ربنا يچود عليكى بيه ولما يكمل تمنه يبجى حلال عليك .. والطحين ده هدية منى .
اقترب الشاب الذي صعد للتو متسائلا : هنا يا اما ؟
أشارت له ليضع الچوال الذى يحمله ثم عادت تنظر لتلك التي تغلبها الدهشة : من الصبح بدى اشوفك نازلة بالعيش
أشارت بالعكاز : هبجى جاعدة فى الشباك ده .
كانت طيف جائعة لدرجة الإعياء لذا فضلت أن تعمل فورا حيث يمكنها تناول بعضا من الخبز الذى ستصنعه .
اكلت ثلاثة أرغفة من شدة جوعها قبل أن تشعر بتحسن .. هذه الحجرة فخمة تحوى صنبورا للماء لن تضطر لملء الماء وحمله مجددا . اغتسلت وارتدت جلبابا اسود وحملت خبزها متجهة إلى الطريق .
وقفت أمام الباب ونظرت نحو الشباك الذى أشارت له ام سلطان لتجدها هناك .. تلك الابتسامة المشجعة والتى تمنحها القدرة على المتابعة ، أشارت لها لتبدأ السير نحو الطريق .
كان الوقت عصرا وظلت حتى أرخى الليل ستارا اسود دون أن تنفد ارغفتها وكان هناك .. يراقبها لتشعر بالأمان .
اخيرا أنهت بيع حمولتها لتقفل عائدة ولم تصعد لغرفتها بل اتجهت إلى ام سلطان واقتسمت معها المال الذى جنته لكن منحتها ثلثيه واحتفظت بثلث فقط فهى لا تحتاج للكثير من المال ستحتفظ بما تبقى لتغير اسطوانة الغاز ويمكنها أن تتناول الخبز فقط لفترة أطول كما يمكنها الحصول على وجبة من الفول أو الفلافل حيث يعتبران وجبة متوفرة ورخيصة الثمن .
مرت الأيام وبدأت طيف تجمع مبلغا كافيا لدفع الإيجار ومتابعة الحياة وتناست ما حدث بالقرية دون أن تهمل زيارة قبر أبيها الذى لم يعد يربطها بهذه القرية سواه .
***
يجتمع شباب القرية بذلك المقهى الذى يجدون فيه الملذات المحرمة فى خيفة عن الأعين فتهوى بهم إلى البؤس دون أن يدرك أحدهم سبب بؤسه .
دخل من الباب ليجد من يقصده بأحد الأركان مستلذا بما يتجرعه وما يستمع إليه من فجور رفاقه .. كانت أمه محقة فهذا الوضيع جاهر بفجوره بعد أن كشفه أبيه ولم يعد يهتم سوى لملذاته .
كان يخاف أبيه فقط !!
الفكرة وحدها تدعو لاحتقاره .
اقترب سلطان بخطى ثابتة ووقف مستندا لعصاه ليسأله أحدهم : فى حاجة يا اخينا ؟؟
اقبل العامل نحوه مسرعا : انت مين ودخلت ازاى محدش هنا يعرفك
دار سلطان بعينيه فى المكان : انا مااعرفش الأشكال دى .
وجه عصاه لصدر ياسر الذى نظر له دون أن يتعرف عليه : انت اتعديت على حد يخصنى وانا هاخد حقى وقتى .
دفع ياسر العصى التى لم تتزحزح بغضب : اوعى يا جدع انت .. انت مش عارف انا مين ؟
اجاب سلطان بثقة : عارف طبعا .. ياسر ابن الشيخ يونس .. اوطى نفر فى الجيهة .
انتفض ياسر ورفاقه وبدأت مشاجرة كانت عصى سلطان تقوم فيها بدور البطولة وكان ترنح ياسر ورفاقه هو اعظم مساعد لهزيمتهم .
وقف سلطان بينهم بعد أن اسقطهم جميعا ليقول : الكلام ليك وللكل طيف السلطان تخصنى واى حد هيفكر يدوس على خيالها هجيبه تحت رجلى .
تحدث ياسر اخيرا : كل ده علشان بنت عبيد .. يا عم بالراحة على نفسك شوية الحكاية مش مستاهلة .
جذبه سلطان ليقف أمامه : انت قولت ايه ؟؟
تلعثم ياسر لتلقمه قبضة سلطان بعضا من دمائه .. دار سلطان على عقبيه ناظرا إلى العامل : انت شوفت حاجة ؟؟
هز الشاب رأسه نفيا ليغادر سلطان فهذا المكان يغلق بابه على كل ما يحدث بالداخل فليس من مصلحة صاحب المكان أو رواده أن يعلم من بخارجه ما يحدث فيه .
****
بعد عدة أيام
جلست طيف برفقة ام سلطان التى قالت : انت خلصت اللى عليكى دلوك الفرن حلال عليك .
تهلل وجه طيف فقد حصلت على مأوى ومصدر رزق واهم من ذلك حصلت على قلب حنون يحنو عليها ويهتم لكل تفاصيلها .
طرق الباب ليدخل سلطان الذى توقفت خطواته لتتعانق النظرات ، بدلت نظرها بينهما وابتسمت ثم تساءلت : ما تتچوزى الواد ده وتريحينى منيه .
نظر لها سلطان بصدمة : بدك ترتاحى منى يا اما ؟
ضحكت : ايوه عنديك مانع ؟
***
توجهت طيف فى الصباح التالى لزيارة قبر أبيها كما اعتادت وقفت بجواره تقص عليه ما استجد فى حياتها الخاوية وتحدثه عن سلطان وعن طلب أمه الذى تكرر مرارا دون ضغط .. ثم تحدثه عن مخاوفها من الزواج ومن العقبات التى قد لا تتمكن من تذليلها وهى بدون رعايته وامها .
غادرت بعد فترة تلاحظ اقتراب بعض الشباب .. هيأت نفسها لصد تحرشهم بها الذى هو مؤكد لها .. أصبحت بمحاذاتهم لتسمع همس أحدهم : امشى يا عم بعيد عن البت دى
رأته يجذب رفيقه الذى هم بالاقتراب منها لترهف السمع واحدهم يقول : دى بنت عبيد يا عم تعالى نتسلى عليها .
ليعلو صوت الشاب بفزع دون تعمد : دى طيف السلطان .. ده عدم ياسر العافية علشانها ومحدش قدر يقوله بتعمل ايه .
نظرت للأمام واشرق وجهها الذى عبر عن إشراق الأمان بصدرها . رفعت رأسها وسارت بشموخ .. لقد انتهت من عمرها المخاوف .
اتجهت فورا إلى ام سلطان لتعلن عن موافقتها التى أعلنت عنها العجوز بسرب من الزغاريد حلق من شباكها الذى طال صمته ليرفرف فى عنان السماء يحمل نبأ السعادة المرتقبة التى ستظلل بأجنحتها هذا المنزل قريبا .
***
بعد شهرين
دخلت طيف لغرفة حماتها التى تجلس بقرب الشباك : صباح الخير يا اما
نظرت لها ببشاشة معهودة منها ترى تفتح براعم السعادة بثناياها لتبتسم : صباح الفل يا مرت الغالى .. تعالى اجعدى چارى .
جلست طيف وقبل أن تبدأ حماتها حديثها جاء نداءه الناعس : طيف
ابتسمت أم سلطان : روحى شوفى چوزك وماتغبيش عليا
تحركت بخجل نحو غرفتهما حيث كان متسطحا بالفراش لم يزل اثر نعاسه أو أثرها هى .. أغلقت الباب برفق : وبعدين يا سلطان قولت لك بطل تنادى وانا مع امك بتكسف
رفع حاجبا واحدا : يعنى مااصبحش عليكى .. خلاص ابقى أصبح عليك قدام امى
كتمت شهقتها بكفها ليتحرك فيجذبها نحوه .. رفعت كفها محذرة : امى قالت لي مااغبش عليها .
تحركت شفتيه تقتطفان ما تصلا إليه من ينع قسماتها ليهمس بدفء : يعنى امى ماتهونش عليك وانا اهون ؟؟ يرضيكى انزل وقلبى ملهوف كده ؟؟ يرضيكى أقصى طول اليوم من غير ما ادوق حضنك ؟؟
دفعته بتمنع ليس بمانعه .. تعلم أن أمه لن تغضب لغيابها عنها مادامت برفقته بل لن تشير إلى غيابها من قريب أو بعيد .
لحظات وكانت تستزيد أشواقه لها التى لا تنتهى لتروى اشواقها له التى تنمو فعمله الشاق يمنعه عنها طيلة النهار وهى لم تكتف من فيض شغفه بها ولا تظن أنها ستفعل .
تمت بحمد الله.. اقرا ايضا رواية العاصم كاملة عبر دليل الروايات للقراءة والتحميل
- الفهرس (رواية طيف السلطان كاملة)