رواية امرأة العقاب البارت الثاني عشر 12 بقلم ندى محمود توفيق
رواية امرأة العقاب الفصل الثاني عشر 12
منتظرة بغرفة المكتب الخاصة به لما يقارب ثلاث دقائق بالضبط ، جالسة على مقعد وثير بجانب المكتب واضعة ساق فوق الأخرى ، وبنظرها تتجول بين أرجاء الغرفة .. تتأمل أثاثها الكلاسيكي والرث بالنسبة لها ، حتى الوانها باهتة وتبعث طاقة سلبية في نفس الناظر إليها .. يبدو أن الزمن ترك آثاره حتى على المنزل فجعله كالقصور المتهالكة ، أو ربما هو ليس كالقصور المتهالكة هو بالفعل كذلك .. خالي من الروح والحياة ، منزل كئيب ومظلم ، يعطي انطباع من الخارج أنه مهجور ولا يسكنه بشر ! .
قطع جلسة تأملها في جدارن وأثاث الغرفة دخوله عليها وهو يقول بابتسامة تحمل القليل من الاستنكار :
_ معقول أسمهان هانم بنفسها في بيتي !
بقت بمقعدها دون أن تقف أو تتحرك حركة واحدة ، فقط تطلعت إليه بثبات انفعالي مميز وانتظرته حتى اقترب منها وجلس على المقعد المقابل لها هاتفًا بابتسامة سمجة :
_ قبل أي حاجة .. تحبي تشربي إيه ، دي أول مرة تدخلي فيها بيتي ولازم اضيفك
ملامح جامدة لم تتغير منذ دخوله ، تحدجه بها حتى الآن دون حتى ابتسامة بسيطة متكلفة ، وكيف تتكلف وهي لا تجيد الابتسام أساسًا ! .
أسمهان بلهجة حازمة :
_ أنا مش جاية اشرب يا نشأت .. هما كلمتين جاية اقولهم ليك وهمشي
رجع بظهره للخلف على مقعده يجلس باسترخاء متمتمًا بهدوء أعصاب مستفز :
_ وأنا سامعك ، اتفضلي
تجاهلت نظراته ولهجته وتصرفت بطبيعتها الجافة حيث قالت في أعين تنبع بشرارة الشر والوعيد :
_ هتخلي بنتك تبعد عن ابني واعتقد دي مش مهمة صعبة عليك .. زي ما اقنعتها تتجوزه هتقنعها إنها تطلق ، وإلا صدقني مش هتشوفها تاني
نشأت بنظرة كلها تحدي :
_ متقدريش يا أسمهان تلمسي شعرة واحدة منها .. عشان سعتها أنا اللي هاخد روحك ومش هعمل حساب لأي حاجة ، واظن كمان إن حتى إنتي عارفة أنا قد إيه راجل **** وممكن اعمل إيه ، ثانيًا لما تحبي تهدديني ببنتي كان المفروض تكون معلوماتك كاملة
أسمهان بزمجرة :
_ قصدك إيه !
انتصب في جلسته وقال بحدة تليق بصوته الرجولي :
_ قصدي إن ابنك اللي متمسك ببنتي ورافض يطلقها مش هي ، وطلب مني إني اديله المساحة عشان يحاول يصلح علاقته بيها تاني وتفضل بنتهم عايشة وسط باباها ومامتها
استشاطت غيظًا فور سماعها لتلك الكلمات وووقفت ثائرة وهي تهتف :
_ عدنان لا يمكن يقول حاجة زي ، بنتك متفرقش معاه بحاجة وهي اللي واضح أوي نيتها أيه من الجواز دي ، الصراحة مكنتش متوقعة إنها هتطلع نسخة حقيرة ومصغرة من أمها كدا
وثبت هو الآخر ثائرًا وصاح بها منفعلًا :
_ أسمهان الزمي حدودك واعرفي إنتي بتتكلمي عن مين ، الغل والحقد اللي في قلبك ده يكون بيني وبينك وتصفية حسابات لو حابة يبقى نصفيها مع بعض ، لكن بنتي خط أحمر
رمقته بنظرة ساخرة أخيرة قبل أن تردف بثقة :
_ انا قولت اللي عندي وإنت فهمتني
ثم استدارت واتجهت إلى خارج الغرفة بأكملها وتركته يشتعل بأرضه من الغضب .
***
داخل مقر شركة أل الشافعي .....
يجلس على مقعده أمام المكتب ويشاهد آخر تسجيلات كاميرات المراقبة على الحاسوب النقال ، وتقف بجواره ليلى التي تتابع كل التسجيلات الأخيرة ، وما لاحظه عدنان أن هناك تسجيلات محذوفة ترجع ليوم الثلاثاء .. منذ يومين بالضبط .
رفع نظره لليلى التي كانت تحدق بالحاسوب قاطبة حاجبيها باستغراب وقال بحزم :
_ في تسجيلات محذوفة !
سكتت لوهلة من الوقت تعيد تفاصيل يوم الثلاثاء في ذهنها بالكامل ، وفجأة لمعت عيناها وقالت مسرعة بحيرة :
_ أيوة صح .. في اليوم ده دخل مستر نادر المكتب ولما حاولت امنعه قالي إن داخل هيحط ملف مهم لحضرتك على المكتب عشان أول ما نرجع تشوفه .. وبعدها في آخر اليوم طلب مني يشوف التسجيلات بتاعت مكتب حضرتك
أظلمت عيناه بشكل مخيف وظل يتطلع إليها لبرهة من الوقت ، يحاول أن لا يدع الشك يتسرب إليه .. لكن كل ما يظهر أمامه من أدلة ، يشير إلى حقيقة واحدة ! .
عدنان بصوت غليظ ومريب :
_ متأكدة من الكلام ده يا ليلى !
ليلى بثقة تامة :
_ أيوة يافندم متأكدة .. حتى آدم بيه كان منبه عليا إن محدش يدخل مكتب حضرتك وأنت مش موجود وخصوصًا مستر نادر .. ولما حب يدخل وقولتله اللي قاله آدم بيه اتعصب ودخل غصب عني
مسح عدنان على وجهه بعدم استيعاب .. وهناك صوتًا في عقله يستمر بتأكيد ظنونه له ، لكنه لا يرغب بالإستماع أليه قبل أن يتأكد بنفسه .. وخصوصًا أن نادر من أقرب الأشخاص لديه ، فعقله يجد صعوبة في تصديق أنه قد يكون المتسبب في هذا ! .
تمتم بنبرة محتقنة :
_ إنتي عارفة اللي بتقوليه ده معناه إيه لو طلع صح
هزت راسها بإيجاب وتمتمت في خفوت :
_ أنا من رأى نتأكد الأول ، لأن ممكن يكون ملوش ذنب
استقام من مقعده واقفًا وتحدث إليها بلهجة صارمة ونظرة ثاقبة كلها قوة وجفاء :
_ لو اللي بنفكر فيه صح يبقى كل حاجة هتظهر أكيد ..
المهم انتي هتدخلي مكتبه وهتدوري على الملف ده وهتراقبي كل تحركاته الفترة الجاية في الشركة وهتبلغيني بكل تفصيلة تشوفيها .. بس من غير ما نخليه يحس نهائي إننا شاكين فيه
اماءت لها ليلى بالموافقة وقالت برسمية :
_ تحت أمرك
ابتعد من أمامها وتحرك باتجاه النافذة التي بطول الحائط ووقف أمامها واضعًا كلتا قبضتيه في جيبي بنطاله مردفًا بتفكير :
_ خلاص تقدري تتفضلي يا ليلى
تحركت نحو الباب بصمت تام وغادرت وتركته بين تساؤلاته التي تنهش عقله نهش ! .
***
في مساء اليوم .......
يقود سيارته في طريقه إلى قصر الشافعي ويضع هاتفه أمامه يجرى عدة اتصالات بجلنار حتى يطمئن عليها لكن دون إجابة ، يستمر الهاتف في الرنين وبلا جدوى ، مرة واثنين وثلاثة والنتيجة نفسها ، ضيق عيناه باستغراب ممتزج ببعض القلق .. وعقله لا يتوقف عن توقع السوء .
أدرك أن لا مجال لراحة تفكيره ونفسه القلقة سوى الذهاب والاطمئنان عليها بنفسه .. غير وجهة سيارته واستدار بها عائدًا إلى منزله الثاني .
بعد دقائق من القيادة السريعة توقف بالسيارة في المكان المخصص لها داخل المنزل ، وفتح الباب ثم نزل وقاد خطواته المضطربة نحو الباب الداخلي .
أخرج المفاتيح من جيبه ووضعها في قفل الباب فانفتح ، دخل ثم أغلقه خلفه بهدوء ونزع حذائه بجانب الباب ثم سار نحو الداخل .. كان الهدوء يهيمن على المنزل كله والأضواء خافتة ، فقط هناك صوت بسيط ينبعث من الصالون ، تمامًا كصوت التلفاز .. تحرك نحوه بخطوات طبيعية ، وإذا به يراها جالسة على الأريكة المقابلة للتلفاز وتستند بكلتا يديها على ذراع الأريكة واضعة رأسها فوق ظهر كفيها ونائمة ووساقيها المكشوفان للركبة تفرد جزء منهم بجانبها على طول الأريكة .
بقى متسمرًا مكانه للحظات يتطلع إليها بتمعن حتى أصدر تنهيدة حارة بارتياح واقترب منها بحذر ، ثم انحنى والتقط جهاز التحكم الخاص بالتلفاز واطفأه ، والتفت إليها ليعود وينحنى عليها قبل أن يمد إحدى ذراعيه أسفل منتصف ساقيها والآخر أسفل منتصف ظهرها ليحملها فوق ذراعيه ويسير بها إلى غرفتهم .
فتحت عيناها بخمول ورأت صورته مشوشة قليلًا بسبب نعاسها ، لكنها أدركت أنه هو ، ودون أن تشعر وجدت نفسها تلف ذراعيها حول رقبته وتنحنى برأسها تدفنها بين ثنايا رقبته هامسة بصوت ناعس وغير واعٍ دون أن تفتح عيناها :
_ بكرهك
انزل نظره إليها ، يرمقها مطولًا ثم يبتسم بساحرية وينحنى برأسه عليها هامسًا بمشاكسة :
_ قولتيها كتير أوي لدرجة إني بدأت أشك إن قصدك بيها العكس
سمعت همهمات خافتة بصوته الهاديء في أذنها لكنها لم تدرك أي شيء وكان النوم هو العامل الأكبر الذي يسيطر عليها الآن .
وصل بها إلى الغرفة واقترب من الفراش فانحنى ووضعها برفق شديد في المنتصف ، ثم جذب الغطاء ورفعه على جسدها يدثرها به جيدًا ، وكانت ردة الفعل التلقائية منها أنها ضمت الغطاء إليها أكثر في شعور طبيعي بالدفء .. جلس على حافة الفراش بجوارها ثم مد أنامله وأبعد خصلاتها عن وجهها الجميل ، يتأمل جمالها الساحري والمثير ، وبحركة لاشعورية منه نزلت أنامله بلمساتها إلى بشرة وجهها الناعمة يستشعر الاختلاف ، واستمرت لمساته في التنقل على بشرتها بعدم وعي .. لا يذكر متى كانت المرة الأخيرة التي اقترب منها فيها ولمسها دون أو يواجه نفورها الدائم لكل لمسه تخطها يده على جسدها ، لأول مرة منذ زواجهم روحه تطالب بها .. تتخبط في الأعماق مصرحة بشوقها إلى زهرة العُقاب التي تظهر له كل يوم مدى قسوتها ، يبدو أن انتقامها سيكون أشد مما توقعه .
تمعن ملامحها الهادئة يفحص إذا كانت آثار تحسسها من فاكهة الموز لا تزال على وجهها أم لا ، كان هناك تورم بسيط لا يلحظ بعيناها وكذلك شفتيها الوردية ، بالعادة هي تمتلك شفاه صغيرة وناعمة كالأطفال ، لكن تورمها بفعل الحساسية جعلها منتكزة تثير الفطرة الطبيعية ، اشاح بوجهه للجهة الأخرى يبعد نظره عنها بعدما احس بدنو استسلامه وضعفه أمامها .. وبتلك اللحظة تحديدًا صدع صوت رنين هاتفه فانتفض في جلسته ومد يده بجيبه مسرعًا ليخرجه ويكتم الصوت حتى لا يوقظها .
استقام وسار مبتعدًا قليلًا عن فراشها يجيب على الهاتف :
_ أيوة يافريدة
وصله صوتها وهي تأن من الألم وتقول بنبرة متوجعة :
_ تعالى ياعدنان بسرعة .. أنا تعبانة أوي آاااه
أجابها فور سماعه تأوهاتها المرتفعة :
_ حاضر .. مسافة الطريق وأكون عندك .. هجيب الدكتور معايا
فريدة برفض مسرعة :
_ لا لا متجبش الدكتور .. تعالى إنت بس
_ طيب
انهى معها الاتصال واندفع مغادرًا الغرفة وقبل أن يرحل ، توجه إلى غرفة صغيرته والقى نظرة عليها وهي نائمة في فراشها ثم دثرها بالغطاء جيدًا وانصرف .
***
ظلت ممسكة بالهاتف بعدما انهت الاتصال معه وهي تحدق أمامها بغل وتتمتم بشر يظهر في نظراتها :
_ يلا خلينا نشوف هيروح يقعد عندك إزاي يابنت الرازي .. مبقاش أنا فريدة إما خليته واحدة واحدة هو بنفسه اللي يطلقك
ذهبت وانضمت إلى فراشها وتدثرت بالغطاء تستعد لتمثيل دور المريضة عند وصوله حتى تكتمل كذبتها ! .. مرت دقائق طويلة قاربت على الساعة وهي بانتظاره وعيناها معلقة على ساعة الحائط ، وها هي تسمع صوت خطواته المميزة تقترب من الغرفة أخيرًا ، فهرولت وعدلت من وضعية نومها وامسكت بمعدتها ورسمت على محياها علامات الألم والتعب ، وبعد ثواني انفتح الباب وظهر هو من خلفه .. تعمدت عدم النظر إليه واغمضت عيناها وهي متكورة بفراشها ! .
اقترب منها مسرعًا وجلس بجوارها على الفراش ممسكًا بيدها وهاتفًا بقلق :
_ مالك يافريدة ؟
أجابته بخفوت :
_ كنت تعبانة وكان جسمي كله متكسر ومعدتي كانت بتآلمني أوي
مد يده إلى جبهتها يتحسس حرارة جسدها فوجدها طبيعية ، أردف بريبة :
_ حرارتك مش عالية !
فريدة بتوضيح مضيفة القليل من البهارات على كذبتها :
_ الحرارة ممكن تكون من الداخل .. بس أنا اخدت علاج قبل ما إنت تيجي وبقيت كويسة شوية الحمدلله
_ علاج إيه ده ! .. وإزاي تاخدي حاجة من نفسك يافريدة !
كانت جملته تحمل الانفعال والاستياء فردت هي عليه بهدوء :
_ متقلقش ياحبيبي أنا متعودة باخده دايمًا لما بتعب كدا
رمقها بنظرة مطولة ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله وهم بالاتصال بالطبيب ، فأمسكت بيده وقالت وهي تعتدل جالسة :
_ أنا بقيت كويسة شوية صدقني مش مستاهلة دكتور ، لو كنت تعبانة أوي زي قبل ما تيجي كنت هخليك تكلمه
تفحص معالم وجهها لثواني ثم انزل الهاتف مستسلمًا ، ومد يده إلى وجنتها يملس عليها بحنو هامسًا :
_ طيب اتعشيتي ولا لسا ؟
هزت رأسها بالإيجاب ثم لفت ذراعيها حول رقبته وقالت بدلال أنوثي :
_ أنا آسفة عارفة إني ضايقتك كتير الأيام اللي فاتت مني .. وكنت غلطانة ، بس وعد كل اللي حصل ده مش هيتكرر تاني ووعد إني هرجع فريدتك وحبيبتك تاني وهعوضك عن فترة الخلافات اللي كانت بينا دي
ابتسم بلؤم يليق به ثم استطرد بجملة غير متوقعة تمامًا :
_ فريدة هو إنتي تعبانة بجد ؟!
استغربته واستقرت بعيناها نظرة حائرة .. حتى فهمت ما يرمي إليه فقررت أخيرًا آثر الحقيقة ، وقالت بهمس به لمسة خبيثة :
_ الصراحة لا .. بس بما إننا يعتبر كنا متخانقين فمكنش في طريقة اخليك تيجيلي بيها غير دي للأسف ، وأعتقد إن إنت كنت عند جلنار مش كدا ؟
_ إنتي من إمتى بقيتي تغيري منها !
فريدة بنظرة شرسة :
_ من وقت ما بدأت أحس إنها بقت تشاركني فيك فعلًا
مالت شفتيه لليسار في ابتسامة مداعبة ثم انحنى عليها يهمس أمام وجهها ببحة رجولية مثيرة :
_ خلينا نفترض إن كلامك صح .. هل ده هيغير حاجة
تصنعت عدم الفهم وعزمت على أن تكون الليلة هي ليلتهم ، وتبادر هي ببدأها :
_ يعني !
تمتم بعين تلمع بوميض الرغبة :
_ يعني بحبك يافريدتي
ليلة أخرى .. ستكون فيها معه جسد فقط بلا روح ، تستغل الفرص المعطاة لها حتى تحافظ على زواج لا تريده سوى للمصلحة ، تظهر الحب والوفاء لزوج وتطعنه بشرفه في الظهر ، ورغم كل هذا تتقرب منه كأسلوب منحدر منها حتى تمنعه عن التفكير بغيرها ، وتظل هي المهيمنة والآمرة ولا ينهدم ما قامت ببنائه لسنوات ! .
***
في تمام الساعة الثالثة فجرًا ......
صدع صوت رنين هاتفها على المنضدة الصغيرة المجاورة لفراشهم .. فوثبت كمن لدغه عقرب والتقطت الهاتف مسرعة وكتمت صوت الرنين حتى لا يستيقظ ، القت عليه نظرة دقيقة وقد كان متسطح على ظهره واضعها كلتا كفيه أسفل رأسه ونائمًا عاريًا الصدر .. دققت النظر في وجهه أكثر لتتأكد من انغماسه في النوم ، ثم تسللت من الفراش بحذر شديد كلص والتقطت الروب الطويل ترتديه فوق قميص النوم القصير .. جذبت الهاتف معها وسارت على أطراف أصابعها إلى خارج الغرفة حتى تجيب على الهاتف .
بمجرد ما أن فتحت الباب وخرجت ، فتح هو عيناه دفعة واحدة كالذئب المترصد لفريسته ، بقى معلقًا نظره على السقف للحظات وانفتح فمه قليلًا بانحناءة مرعبة ولسانه بدأ يسير على ضروسه العلوية في عينان حمراء كالدم ، ونفس ثائرة على وشك أن تعلن قيام عاصفتها المدمرة .. يستمع إلى همهاتها القادمة من الخارج وهي تتحدث في الهاتف ويزداد ثورانه .
مد يده إلى الغطاء وأبعده بعنف عن جسده ، ثم استقام من الفراش وتحرك باتجاه الباب ، رآها تقف على مسافة قصيرة من الغرفة مولية ظهرها للباب .. تحرك نحوها في خطوات من شدة هدوئها وترصدها لم تشعر به ، ولحسن حظها أنها كانت تنهي اتصالها مع نادر بعدما كان يخبرها بأمر هام يخص الملفات الذي أخذها من مكتب عدنان .
أنهت معه الاتصال واستدارت بجسدها حتى تعود إلى الغرفة ، لكنها اصطدمت به كحائط منيع يقف بظهرها تمامًا .. أصدر شهقة كانت أشبه بصرخة وارتدت للخلف في زعر ، تتطلع إلى هيئته المرعبة ونظراته القاتلة التي يرمقها بها ، كأنه نام شخص وأستيقظ آخر ! .. أين اختفت نظرات الدفء والعشق التي أمطرها بها طوال ليلتهم منذ ساعات ، ازدردت ريقها بخوف واضطراب حقيقي هذا المرة .
عدنان بصوتًا كان كافي لبث الزعر في نفسها :
_ كنتي بتكلمي مين ؟
نزلت بعيناها إلى الهاتف الذي بيدها تلقي نظرة مرتبكة عليه ثم عادت بنظرها إليه وقالت متلعثمة في كذبة كانت سخيفة جدًا هذه المرة :
_ دي .... دي لميا بتكلمني تسألني عن حاجة
رفع حاجبه مستنكرًا كذبتها :
_ في الوقت ده !
فريدة بتوتر ملحوظ :
_ آه ما إنت عارف إنها قريبة جدا مني ومش بتعرف تعمل حاجة غير لما تاخد رأى الأول
تحرك حاجبيه باستهزاء في شكل مثير للأعصاب ثم مد يده حتى يجذب الهاتف من يدها لكنها ضغطت عليه بتلقائية كنوع من الرفض ، لكنه باغتها بصرخته العنيفة بها :
_ هاتي الزفت ده
أرخت عضلات يدها عليه فجذبه من يدها وفتحه لكن ظهرت شاشة ادخال الرقم السري أولًا ، فرفعه أمام وجهها وهتف بحدة :
_ افتحيه
مدت يدها وفتحته وهي تقول بغضب امتزج باضطرابها :
_ هو في إيه بظبط ياعدنان ما تفهمني !
_ هنفهم كلنا دلوقتي في إيه
فتح آخر المكالمات وقام بالاتصال على آخر رقم في قائمة الاتصالات ، بسط الهاتف في المنتصف بينهم وفتح مكبر الصوت ، ينتظر الرد .. أحست هي بأنها ستفقد وعيها وانفاسها انسحبت في رئتيها من الخوف ، يبدو إنها وصلت لنهاية الطريق ، ظل صوت الرنين يعلو صوته في أذنها كالبرق وهي تدعو ربها أن لا يقوم نادر بحركة متسرعة ويجيب .
انتهى الرنين دون رد فحدقها بنظرة مميتة وقال :
_ إنتي مش لسا كنتي بتكلميها برضوا .. مبتردش ليه
_ معرفش يمكن دخلت الحمام .. بعدين أنا عايزة افهم إنت إيه اللي بتعمله ده
كانت كلمات اندفاعية منها وهي تسحب الهاتف من يده ، لكنه باغتها بحركة مفاجأة منه وهو يجذبها من ذراعها ويضغط عليها بقسوة هامسًا بنبرة دبت الرعب في أوصالها :
_ اللي حصل بينا من كام ساعة ده .. كان برغبة مني عشان أتأكد من حاجة وأتأكدت ، حابب أقولك إن الحصانة بتاعتك خلصت يافريدة واستنفذتي كل الفرص اللي ادتهالك
كلمات كلها مبهمة لا يُفهم منها سوى شيء واحد ، أنها أصبحت على الهاوية ، وأن النهاية المحتومة تقف على أعتاب الباب .
هل كان كل الحب والحنان الذي امطرها به في ليلتهم ، متصنعًا حتى يحقق مبتغاه المجهول ! .. كيف ؟!!! ، لا تفهم شيء من الذي يحدث سوى أنه شك بل وأصبح شبه متأكدًا من خيانتها له ! .
***
تجلس بجوار ابنتها في فراشها الصغير وتملس على شعرها بحنو ، حتى تخلد للنوم .. بعدما كثرت اسألتها التي لم تجد لها إجابة حول غياب والدها منذ مساء الأمس .
بينما هي فهناك بعض التفاصيل تتذكرها ، جميعها كان موجود بها بالأمس .. لا تتمكن من التذكر جيدًا لكن هناك صور بعقلها له وهو يحملها ويتجه بها للغرفة ، تتذكر أنها رأت وجهه وابتسامته وهو يحملها ، وبعد ذلك لا يوجد اي شيء بذاكرتها .. ظنته حلم عندما استيقظت من النوم في صباح اليوم التالي ، لكن كيفية وصولها إلى الفراش وهي كانت نائمة على الأريكة أمام التلفاز بالخارج ، هذا ما جعلها تتأكد من أنه جاء في المساء .
ألقت نظرة دافئة على صغيرتها التي خلدت للنوم بعمق ، ثم انحنت عليها وطبعت قبلة رقيقة على جبهتها واستقامة واقفة لتغادر الغرفة بهدوء شديد .. وصلت إلى غرفتها ورفعت يدها تنزع المشبك الذي تثبت به شعرها .. همت بالدخول للفراش حتى تنام ، لكن صوت الباب وهو ينفتح سمرها مكانها .. ظلت ثابتة مكانها تستمع إلى خطواته ، معتقدة إن وجهته الأولى ستكون إليها كالعادة ، لكن ما أصابها بالتعجب أن صوت خطاه توقف ولم يدخل للغرفة .. رفعت حاجبها بحيرة ثم استدارت واتجهت بخطا قدماها الناعمة إلى الخارج .. رأته يجلس على الأريكة بالصالون ويرجع برأسه للخلف إلى الحافة العلوية من ظهر الأريكة مغمضًا عيناه ، لم تكن علامات التعب أو الإرهاق بادية على وجهه .. بل أخرى كلها غضب وحنق ويحدق في السقف بفراغ كالذي ارهقه التفكير فلم يعد يعرف بماذا يفكر أكثر ! .
صوت في ثناياها ألح عليها أن تُقبل عليه وتسأله مالذي به ، لكنها قتلت ذلك الصوت وفضلت التجاهل ، وكانت على وشك أن تستدير وتعود لغرفتها لكن همسته القوية باسمها أوقفتها بأرضها :
_ جلنار
ظلت مكانها لا تلتفت له ولا تجيب عليه ، فقط تنتظر منه أن يستكمل جملته .. فخرج صوته مستكملًا :
_ تعالى عايز اتكلم معاكي شوية
ردت ببرود وعدم اكتراث :
_ أنا تعبانة وعايزة انام .. تصبح على خير
أنهت جملتها وتحركت نحو غرفتها ، بينما هو فاستشاط غيظًا وبلحظة هب ثائرًا من مكانه واندفع خلفها كالوحش .. جذبها من ذراعها إليه قبل أن تخطو قدماها الغرفة ، أصدرت شهقة مفزوعة ووجدت نفسها تستدير إليه وتصطدم بصدره بفعل جذبته العنيفة ، وخرج صوته متحشرجًا في عينان ملتهبة :
_ خدي هنا أنا بكلم نفسي
لكمته في صدره بشراسة الأنثى الناعمة وصاحت به مغتاظة وهي تحاول الإفلات من بين براثينه :
_ عايز إيه .. ابعد عني !
عدنان بصيحة رجولية :
_ إنتي اللي عايزة إيه بظبط فهميني !
جلنار بتحدٍ وعصبية :
_ إنت عارف أنا عايزة إيه كويس
لحظة عابرة ممن الصمت مرت حتى استكمل صياحه المرتفع بها منفعلًا :
_ وأنا قولتلك مليون مرة انسى الطلاق ده نهائي
اردفت جازة على أسنانها بغيظ في خفوت :
_وطي صوتك البنت نايمة
انتقل بنظره إلى باب غرفة ابنته ثم جذبها من ذراعها خلفه ودفعها لداخل الغرفة ثم دخل هو واغلق الباب فصرخت به بسخط عارم :
_ إنت مش طبيعي والله
_بالعكس أنا لغاية دلوقتي طبيعي وهاديء أوي معاكي كمان ، بس شكلك مش هتخليني استمر في الهدوء ده كتير
اندفعت نحوه ثائرة حتى وقفت أمامه مباشرة شبه ملتصقة به وغمغمت في غل :
_ أعمل ما بدالك ياعدنان .. وبرضوا هطلق طالت أو قصرت هتطلقني غصب عنك
ضحك بازدراء منها فاستكملت هي :
_ بعدين مش احنا كنا متفقين إننا هنطلق
_ ده كان قبل ما تاخدي بنتي وتهربي بيها
_ وفرق إيه دلوقتي
انحنى عليها يهمس أمام وجهها تمامًا في نبرة مثلجة :
_ مفرقش حاجة بس أنا غيرت رأى ومش هطلق
تلألأت العبارات في عيناها بحرقة وألم من بطش وقسوة ذلك الظالم ، لوهلة احست بضعفها أمامه وأن لا يسعها شيء سوى استخدام قواها الضعيفة مقارنة بقوته الجسمانية الضخمة .. فغارت عليه تلكمه في صدره بشراسة صائحة به في صوت مبحوح وعينان تلمع بالعبارات :
_ إنت واحد حقير .. ومتستهلش إيه حاجة في يوم عملتها عشانك .. عايز كل حاجة تكون ليك وحدك ، متملك ومغرور ومش بتتقبل أخطائك .. إنت أناني ياعدنان ، بتحب فريدة وفي نفس الوقت عايز جلنار تكون معاك ، مفكرتش في مرة إيه احساس فريدة أو احساسي أنا .. عارف ليه عشان إنت مبتفكرش غير في نفسك ، مش معنى إنها وافقت على إنك تتجوز عليها وإنت فهمتها قد إيه بتحبها يبقى خلاص هي تقبلت الفكرة بصدر رحب ، لا يمكن يكون في ست تتقبل فكرة إن جوزها يتجوز عليها .. وأنا رغم إني مش بحبك بس فكرة إني على الرف بتقتلني صدقني احساس الست إنها في خانة الاحتياط بيوجع أووووي ، وأنا استحملت الاحساس ده كتير ومش هقدر استحمل اكتر من كدا
استهدفت بكلماتها الهدف ، لم تخطأ في حرف واحد .. لكن أخطأت في الوصف .. بقدر جفاء وحدة الكلمات بقدر ما وصلت لأعمق نقطة من قلبه ، خرجت هذه الخناجر من فمها بالوقت الخطأ .. في وقتًا كان يحاول هو لملمة شتات نفسه المبعثرة بعد الوساوس التي تنهش عقله نهشًا منذ مساء الأمس وهو يفكر بأفعال زوجته المريبة ، محاولًا إسكات الصوت الوحيد الذي يتردد في ذهنه منذ إيام ( خيانة .. خيانة .. خيانة !! ) ويرفض حتى مجرد التفكير في فكرة لعينة كهذه ، جاءت زهرته وواجهته بحقيقته التي يحاول التغافل عنها وزادت من سوء الوضع ، لكن حتمًا أن أنانيته تضمر خلفها أحد الأسباب الحقيقية الذي يرغب باحتفاظه بها لنفسه .
تنهد الصعداء بعبث وغمغم أخيرًا بنظرة تائهة يؤكد لها تصورها عنه :
_ عندك حق ، ولو تمسكي ببنتي ومراتي بالنسبة ليكي أنانية فأنا معنديش مشكلة في كدا
تطلعت إليه بدهشة من اعترافه الصريح بتمسكه بها ، وأحست أن لسانها قُيد فلم تتمكن من الرد عليه ، فقط تابعته وهو يبتعد عنها ويتجه إلى الحمام .
***
يمسك بيده كأس من الڤودكا ويرفعه لفمه فيبتلعه دفعة واحدة ويعود ويملأ الكأس من جديد ، على الجهة المقابلة له يجلس أحد أصدقائه أمامه يتابعه بعيناه في سكون .. حتى خرج صوته أخيرًا بحنق :
_ ما كفاية يانادر شرب بقى
قهقه الآخر بصوت مرتفع وتمتم :
_ أنا النهاردة في أسعد أيام حياتي .. الصفقة اللي ليه سنين ابن الشافعي شغال عليها كل يومين وتكون ليا أنا ، ووقتها هقف اتفرج عليه وهو مقهور على الملايين اللي خسرها
_ وإنت واثق في فريدة أوي للدرجة اللي تخليك مطمن إنها متقولش لعدنان حاجة عنك
ضحك نادرًا ساخرًا وأجابت بثقة تامة :
_ مين فريدة !! .. إنت عبيط يالا تقوله إيه ، هتقوله إن أنا اللي سرقت الملفات ولا إن هي اللي ساعدتني وادتني مفتاح المكتب .. ولا بقى هتقوله إنها بتخونه معايا ! ، متقلقش من فريدة
هتف صديقه بابتسامة ساخرة :
_ والله شكلها هي اللي هتجيب اجلك
تجاهل نادر جملته وهتف بجدية :
_ قولي عملت إيه مع الرجالة واللي اتفقنا عليه
رد في هدوء مبتسمًا بشر :
_ يومين بالظبط وتسمع الأخبار
لاحت ابتسامة جانبية شيطانية على ثغره وهو يلتقط كأس آخر من الڤودكا ويرد بمكر :
_ وأنا مستني
***
في بصباح اليوم التالي .......
ترجلا من سيارة أجرة أمام مقر المعرض .. ونزلت سهيلة أولًا ثم تبعتها مهرة ، التي بعد محاولات مرهقة وكثيرة من كل من صديقتها وجدتها وافقت على أن ترتدي بنطال ضيق من اللون الأسود يعلوه كنزة بيضاء قصيرة وفوقها بالطو من اللون الجملي طويل ، ورفعت شعرها لأعلى ذيل حصان ، وارتدت حذاءها الرياضي المعتاد .
نظرت لصديقتها أولًا قبل أن تتطلع للمعرض وقالت بخنق :
_ يارب تكوني مبسوطة وأنا مش طايقة اللبس الملزق اللي عليا ده
كانت سهيلة ترتدي رداء طويل من اللون الوردي وتترك الحرية لشعرها ، وعيناها معلقة على بوابة المعرض من الخارج تتأمل منظره الفخم ، وقالت تجيب على مهرة بقرف :
_ ده جزاتنا أننا عايزين نخليكي بنت .. إنتي مش شايفة العربيات والأشكال النضيفة اللي داخلة وخارجة دي ، لازم ناجي متشيكين يابت
مهرة بتأفف :
_ معلش احنا اللي أشكال زبالة .. اخلصي بقى خلينا نخلص من أم الطلعة المنيلة دي
تحركا باتجاه الباب لكن الحارس اوقفهم يمنع دخولهم قبل رؤية التذاكر الخاصة ، فأخرجت سهيلة من حقيبتها الكلاسيكية التذاكر ومدتها إلى الحارس الذي التقطها وحدق بالتذاكر ثم بهم لثواني يتحفص هيئتهم التي تختلف عن جميع زوار المعرض اللذين من الطبقة المخملية ، لكنه أفسح لهم الطريق للعبور وبمجرد عبورهم قبضت مهرة على ذراع سهيلة وقالت بغيظ من نظرات الرجل لهم :
_ إنتي جبتي التذاكر دي منين يابت .. مشوفتيش الحارس بيبصلنا إزاي
سهيلة بعدم مبالاة :
_ ما يبص براحته .. خليكي فريش يامهرة احنا جايين نتفرج .. بعدين عيب تسأليني سؤال زي دي ، صحبتك مش سهلة برضوا
لم تتجادل معها كثيرًا فهي ليست في مزاج للنقاش سترافقها فقط وتستمتع كما قالت ثم تعود لمنزلها ..
بمجرد دخولهم إلى ساحة المعرض ، دارت سهيلة بنظرها في جميع الزوايا الممتلئة باللوحات الفخمة والحوائط المطلية بطلاء بني فاتح لامع .. والأضواء تحيط بكل جزء في المكان وبجانب كل لوحة مصباح داخل الحائط يعكس الضوء على اللوحة فيظهر جمالها وتفاصيلها أكثر .
بينما مهرة فكانت نظراتها معلقة على الزوار ، أناس من عالم آخر تمامًا كالذي يشاهدونهم بالأفلام والمسلسلات ، الرجال يرتدون حلل سوداء ويتجولون في أرجاء المكان يتفحصون اللوحات ، نساء مرتدية ملابس تكشف أكثر ما تستر ، وأحذية الكعب التي في قدم كل امرأة تصدر أصوات مزعجة .
خرج صوتها ساخرًا متمتمة :
_ هو ده افتتاح معرض ولا مصيف !
على الجانب الآخر كان آدم يتجول بين كل الزبائن ويتحدث مع هذا دقيقة ومع ذاك أثنين في وجه بشوش ، بينما عدنان فكان يقف مع أحد رجال الأعمال المهمين أمام إحدى اللوحات التي نالت إعجابه وعزم على شرائها ويتحدث معه بقليل من الرسمية حول أمور متنوعة تخص العمل والمعرض واللوحات .
ظهرت من مقدمة المعرض جلنار وهي ترتدي رداء طويل من اللون الفيروزي ولديه أكمام سميكة تنزل عند منتصف أكتافها .. مما جعل الجزء العلوي من جسدها شبه مكشوفًا بداية من أكتافها حتى مقدمة صدرها التي لا تظهر داخلها ، لفتت أنظار الجميع إليها بهيئتها المثيرة وهم يتطلعون إليها بإعجاب ملحوظ .
أما صغيرتها فكانت ترتدي فستان يشبه امها قليلًا لكن اللمسة الطفولية اضفت عليه شكلًا مختلفًا أكثر رقة ، ظلت واقفة بجوار أمها تبحث بنظرها عن عمها وأبيها فلمحها آدم أولًا ، اتسعت ابتسامته لنهاية شفتيها واتجه إليها مسرعًا ، لتقبل هي عليه ركضًا .. انحنى عليها وحملها على ذراعيه يمطرها بوابل من قبلاته الحانية .
آدم محدثًا أياها في مشاكسة :
_ اتأخرتي يا هنون عليا وكدا المفاجأة قيمتها هتقل
زمت الصغيرة شفتيها بعبوس وقالت وهي تشير إلى أمها بحنق :
_ دي ماما مش أنا اللي اتأخرت
قهقهت جلنار عالية بينما هو فنظر لزوجة أخيه وقال بعذوبة :
_ عاملة إيه ياجلنار ؟
جلنار بمداعبة ونظرة سعيدة :
_ عايز الحقيقة ، فرحنالك بشكل لا يوصف .. مبروووك وعقبال نجاح كتير أوي جاي أن شاء الله يافنان
ضحك آدم والتفت برأسه حوله في شيء من الخوف المزيف وهتف مشاكسًا :
_ مجهزلك مفاجأة بمناسبة الافتتاح .. بس من غير ما يحس عدنان تاخديها وعلى البيت عدل ، عشان ده مجنون وممكن يتخانق معايا أنا
غمزت له ضاحكة وتمتمت بمرح وحماس :
_ متقلقش اطلع إنت بس بالمفاجأة وملكش دعوة بالباقي
كانت نظرات أسمهان وفريدة معلقة على جلنار ونظراتهم الحارقة لو كان بإمكانها إخراج النار لحرقت جلنار بأرضها .. تتابع أسمهان ضحكاتها وتبادلها أطراف الحديث مع ابنها بعفوية وتلقائية وهي تشتعل غيظًا ، بينما الآخرى فكانت تحدجها بأعين كلها وعيد ونقم .
أبعد عدنان نظره بتلقائية عن الرجل الذي يبادله أطراف الحديث ليقع نظره عليها ، التقطت عيناه فستانها الضيق والمكشوف من الأعلى ، شعرها المنسدل بانسايبة جزء منه على ظهرها والجزء الآخر على كتفها ، عيون الجميع متعلقة عليها يأكلونها بنظراتهم أكلًا .
أظلمت عيناه بشكل مخيف ونيران الغيرة تأججت في صدره ، كان سيندفع إليها كالثور الهائج لكنه تمالك أعصابه لعدم ملائمة المكان والوقت لما يود فعله بها الآن .. نظر إلى الرجل وقال بصوت محتدم :
_ استأذنك لحظة ياسامي بيه
هز رأسه الآخر بالموافقة وقال باحترام متبادل :
_ اتفضل أكيد
سار نحوها وعيناه لا ترى شيء سوى هدفه ، لدرجة أن من سيتطلع إليه ويرى وجهه سيصاب بالصدمة من مظهره المريب ، في تلك اللحظة انتهي آدم من حديثه معها وابتعد بهنا عنها قليلًا .
التفتت هي برأسها في عفوية على الجانب فوجدته مندفع نحوها ووجهه يشع بشرارة الغضب ، وقفت بثبات تام حتى وصل إليها وانحنى عليها يهمس في أذنها بصوت متحشرج محاولًا تمالك أنفعالاته :
_ إيه اللي لبساه ده !
قد عزمت على ارتداء هذه الفستان عمدًا حتى تشعله بالنيران كنوع من الكيد ، ردت عليه ببرود :
_ فستان !
عض على شفاه السفلى ونقل نظره في حركة سريعة بين الزوار ثم هتف بغيظ مكتوم :
_ مش عايز استعباط .. إنتي لبستي ده بالعند فيا يعني رغم إني الصبح منبه عليكي إنك متطلعيش بلبس مكشوف
جلنار بابتسامة سمجة ومستفزة :
_ وأنا اعند معاك ليه ياروحي .. كل ما في الحكاية إني بحب الفستان ده وشكله حلو عليا عشان كدا لبسته ، ودي مش أي مناسبة فكان لازم البس اجمل حاجة
كور قبضة يده يجاهد في التحكم بنفسه ثم رد عليها بوعيد حقيقي كله سخط :
_ ماشي ياجلنار حسابك معايا في البيت أنا هربيكي كويس
نظرت إلى الرجل الذي كان يقف معه ولاحظت أنه بين آن والآخر ينظر بتجاههم فقالت ببرود متعمد وهي مبتسمة بشماتة :
_ روح ياحبيبي عيب تسيب الراجل مستنيك كدا
نظرة مطولة بينهم كانت نارية منه وثلجية منها ، تنضج بالوعيد منه وغير مبالية منها .. حتى قطعت النظرة هي عندما تركته وابتعدت متجهة إلى اللوحات حتى تشاهدهم .
***
ظلت مهرة واقفة أمام إحدى اللوحات لدقائق طويلة ، تحاول فهم المعنى الفني من وراء لوحة عبارة عن تداخل الون وتزاحمها بشكل غير مفهوم فتظهر في النهاية في شكل لوحة فنية ! .. أين الفن في مزج الون مختلفة بشكل عشوائي ، لو كان هذا يسمى الفن فما اسهله .
تتطلع إلى اللوحة تارة من جهة اليسار وتارة من اليمين هاتفة لنفسها بتفكير :
_ أيوة فين المغزي برضوا .. ماهو أنا عايزة الاقي سبب مقنع يخليني ادفع فلوس في لوحة الشوارع دي
_ لوحة إيه !!!
انتفضت بأرضها على أثر الصوت الذي أتاها من ظهرها والتفتت فورًا بكامل جسدها فقابلت نفس الشاب الوسيم أو التركي كما وصفته ! .. والغريب أن للمرة الثالثة تقابله بمحض الصدفة ! .
تصنعت الثبات وقالت بشموخ :
_ افندم
آدم بنظرة قوية :
_ إنتي كنتي بتقولي إيه دلوقتي على اللوحة !
التفتت برأسها إلى اللوحة ورجعت برأسها إليه لتقول بثقة معبرة عن رأيها :
_ بقول إنها لوحة شوراع
أشار إلى لوحته بدهشة وهتف يعيد جملتها بنبرة مستاءة من إهانتها له بمعرضه وأمامه :
_ دي لوحة شوراع !
مهرة بقرف وعدم إعجاب :
_ أيوة فين الفن فيها .. دي شبه شارع السوق عندنا لما بيكون يوم الخميس وتفضل ماشي وسط خلق الله مش شايف حد ولا عارف إنت فين
مسح آدم على وجهه بغيظ وهتف :
_ إنتي بتقولي إيه !! .. وبعدين إزاي دخلتي أصلًا
ردت عليه مهرة في نبرة فظة وبغطرسة :
_ وإنت مالك دخلت إزاي هو كان معرض اهلك .. بعدين مالك محموق أوي كدا على اللوحة شكلك دفعت فيها الفلوس ومرضيوش يرجعهالك ، أنا قولت برضوا والله لوحة زي دي خسارة فيها ربع جنية
انحنى عليها أدم وهمس بنظرة مشتعلة ونبرة محذرة :
_ بت انتي احترمي نفسك أنا مش عايز أقل ادبي عليكي .. يعني جاية معرضي وبتغلطي في لوحتي وكمان بتقلي ادبك عليا
رمشت بعيناها عدة مرات تستوعب ما سمعته ، معرضه ولوحته ! .. ظلت تتلتفت برأسها بين اللوحة وبينه حتى قالت أخيرًا بذهول :
_ دي لوحتك إنت !!!
_ آه تخيلي
عادت تلقي نظرة متفحصة على اللوحة ثم عادت له وهمست بخفوت وجدية كان ملحوظ في نبرتها :
_ هو إنت عندك حالة نفسية .. يعني اهلك كانوا لا مؤاخذة بيضربوك إنت وصغير فطلعت معقد ، أصل أنا أعرف عيل عندنا في المنطقة كان عنده توحد وحالته شبهك كدا ، فكان أهله بيدوله كراسة الرسم ويفضل يشخبط بالالوان بس .. لدرجة أنهم شكوا أنه ملبوس و....
أوقفها عن الكلام وصاح بها منفعلًا :
_ بس إيه العبط اللي بتقوليه ده !
_ ده مش عبط دي دراسات نفسية .. نصيحة مني الحق نفسك قبل ما الحالة تتدهور
جز آدم على أسنانه وقال :
_ إنتي قولتيلي اسمك إيه ؟!
_ مهرة
_ طيب يامهرة برا
تنهدت الصعداء وقالت باستسلام في وجه متأثر :
_ طيب خلاص تصدق صعبت عليا .. هشتريها منك بس مش هدفع فيها اكتر من خمسة جنية وكترت عليها الصراحة
ابتسم آدم بسماجة وقال في نبرة فظة :
_ شرفتيني يامهرة واتمنى تكون آخر مرة نتقابل فيها
ألقت عليها نظرة ساخرة وهي تلوى فمها ثم قالت وهي تبتعد عنه :
_ كل الغرور دي على حتة اللوحة دي .. امال لو رسمتلك كام لوحة تاني كنت هتعمل إيه هتمشي تدوس على الناس برجلك
تابعها بعيناه وهي تبتعد متجهة إلى خارج المعرض بأكمله ، ونظراته كلها استغراب من هذه الفتاة التي تظهر له بكل مكان .. التفت برأسه وتطلع إلى لوحته وبتلقائيًا ضحك عندما تذكر محادثتهم وكلماتها ، ولا يمكنه إنكار أنها فتاة مسلية ! .
***
لمحت جلنار فريدة التي تقف وتتلفت حولها كأنها تتأكد من عدم متابعة أحد لها ، ثم أجابت على الهاتف بمكان بعيد عن أنظار الجميع وبعد لحظات قصيرة أنهت مكالمتها واتجهت إلى خارج المعرض بأكمله .. ضيقت جلنار عيناها بحيرة واحست أنها تخطط لشيء شيطاني كعادتها ، ووجدتها فرصة مناسبة حتى تعرف مخططها وتستغله في تحقيق انتقامها .
وقفت وأشارت إلى ابنتها أن تأتي إليها ثم اندفعت إلى الخارج فورًا دون أن يلاحظها أحد باستثناء آدم الذي لمحها وهي تنصرف على عجلة ومعها الصغيرة .
- تابع الفصل التالي عبر الرابط: (رواية امرأة العقاب كاملة) اضغط على أسم الرواية