Ads by Google X

رواية و قبل أن تبصر عيناكِ الفصل الأول 1 بقلم مريم محمد

الصفحة الرئيسية

   رواية و قبل أن تبصر عيناكِ الفصل الأول بقلم مريم محمد غريب 


رواية و قبل أن تبصر عيناكِ الفصل الأول

كما يُقال الطيور تكبر لتغادر العشّ... ربما تنطبق تلك النظيرة على البشر أيضًا. لكنها أبدًا لا تمت لعائلة "الجزار" بصلة
حيث أنهم كبروا جميعًا، لكنهم لا يزالوا هنا ببيت العائلة.. اليوم هو الجمعة.. و كحال كل جمعة دون أن يتم إستدعاء نفرًا واحدًا... من تلقاء أنفسهم يجتمعون كلهم.. رجالًا و نساءً و أطفالًا بعد أداء الصلاة
حول مائدة الفطور الشعبية المعدَّة و العامرة بكافة أنواع المأكولات على مختلف الأذواق، فكلٌ قد أدلى بما يشتهيه لسيدة البيت الثانية و المسؤولة عن كل شيء هنا.. "هانم السويفي" إبنة النظير القاطن بمنطقةٍ مجاورة لا تبعد كثيرًا، و أيضًا الزوجة الأولى لكبير "الجزارين".. "سالم الجزار" شخصيًا
الكل يجلس في هدوء.. ينظرون إلى الطعام باشتهاءٍ.. لكن لا أحد يجرؤ على لمس أيّ شيء قبل مجيئ كبيرهم ...
فلم يمر وقت كثير إلا و ظهر أخيرًا.. في مشهد مهيب يلج"سالم" عبر بوابة مرتفعة مزدوجة... كان قد بدل جلبابه الأبيض ليرتدي عباءته السوداء ذات النسيج الحريري اللامع
لقد أتم الثامنة و الخمسون منذ أشهر قليلة.. لكنه و للدهشة لا يبدو عليه سنه أبدًا... لا زال قوي البنية.. شامخًا كجبلٍ... حتى الشيب لم يغزو إلى منابت رأسه الأمامية فقط.. رغم أنه يتاجر بالسموم، و الأعمال القذرة كلها كانت بالسنة له ميدانًا يلعب فيه بمفرده و يحكمه منذ زمنٍ طول.. كان الحفاظ على صحته البدنية و العقلية بالمقام الأول لديه.. ليس هو فقط... بل كان قانونًا قد سنَّه و طبقه على جميع أفراد عائلته
أذعنوا جميعًا خاضعين لمقولته الشهيرة التي تنص بالحرف "إحنا نسفَّر الناس كلها.. بس مانسفرش !" ...
تأهب الجميع للقيام له إحترامًا، لكنه أبقاهم بمجالسهم بإشارة من يده.. بينما يده الأخرى تمسك بسمبحةٍ و فمه يتحرك بالابتهالات الصامتة
جلس بمكانه متربعًا على رأس المائدة الأرضية، اضطر الآخرون للإنتظار لحظاتٍ إضافية... ثم أخيرًا رفع "سالم" رأسه و مرر نظراته على وجوه عائلته
شقيقه الأوسط "إمام" و أسرته المكوّنة من شابًا و فتاة حاضرين.. شقيقه "عبد الله" الذي يليه بالعمر حاضر هو و زوجته فقط.. إذ لعلة فيه قد حرما من نعمة البنين، لكنهما ظلا متمسكان ببعضهما رغم ذلك، و حتى اليوم لا يراهما أحد إلا متحابين مخلصين لبعضهما بعض
في صفٍ مقابل.. جلست أسرة "سالم" كتفًا بكتف، زوجته إلى جواره تمامًا، و أولادهم الأربعة متراصين أمامهما، ثلاثة ذكورٍ و فتاة صغيرة
و بالرغم من أنه لاحظ هذا منذ جلوسه.. لكنه إنتظر حتى تأكد، و بعد مرور الوقت الذي يسمح للأخير بالحلول أمامه... لم يحدث ذلك، فإذا به يرفع صوته ذي النبرات الصلبة قائلًا :
-أومال فين رزق يا ولاد ؟!
برز صوت "فاطمة" إبنة "إمام" مجيبة على سؤال عمها بصوتٍ متهلفٍ و عيناها كأنما تنبضان بقلوب الهيام :
-رزق رجع معاكوا من صلاة الجمعة و يدوب غير هدومه و نزل طوّالي يا عمي
عبس "سالم" و هو ينظر ناحيتها مرددًا :
-نزل طوّالي على فين يعني !!
تداخل صوت "مصطفى" إبنه الذي يلي "رزق" قائلًا بازدراءٍ بَيَّن :
-عنده ماتش يا حاج.. الكابتن رزق ماسك شعار "أبطالها لحد ما نبطلها" !
تجاهل "سالم" دعابة إبنه الحاقدة، ليبدي ردة فعل حانقة :
-أنا مش قلت 100 مرة الماتشات و الكلام الفاضي ده يتمنع من الحتة خالص.. إحنا فين هنا ؟!
غضن "مصطفى" عينيه و هو يتمتم لنفسه بغيظٍ :
-على أساس تقدر تقول الكلمتين دول قصاد المحروس !
إلتفت له "سالم" مستوضحًا :
-بتقول إيه يا مصطفى ؟!
قلب "مصطفى" تعبيرع بلحظة هاتفًا بابتسامة :
-و لا حاجة يا حاج.. بقول يعني مافيهاش حاجة. أهي منها رياضة و منها حاجة بتسلي رزق. إنت عارفه مالوش طقطان (صبر ) على حاجة !
تكلّف "سالم" الضيق و هو يهز رأسه بيأسٍ :
-مش عارف كيفه إيه في حاجة زي كده !!!
يرد إبنه الأصغر "حمزة" بمرحٍ لا يخلو من الحماس :
-كيفه يغلب طبعًا يابويا.. أصل الواد عجينة من ساعة ماتش الشهر إللي فات مش ناسيها لرزق و كان بقاله فترة يزن عليه ينزل ماتش تاني بس مش معاه
-أومال مع مين ؟
-إمبارح جابله واحد مِتع و جتة كده شكله يخوف. حطهم قصاد بعض قدام أهل الحتة على أساس يحط رزق قدام الأمر الواقع.. بس هو وافق عشان يجيب أخره المرة دي ! .. و قفز من مكانه مصفقًا بحماسة :
-و الله فكرتني يا حاج أما أقوم ألحق اللقطة الأولى.. دي بتبقى بالماتش كله ...
كانت هذه إشارة لسلوك أخيه الأكبر في اللعب، يراه البعض غريبًا، بينما البعض الآخر يراه مثيرًا و تكتيك لا يخطر على بال أحد
لم يكاد الولد البالغ من العمر تسعة عشر عامًا يقوم من مكانه إلا و جمده صوت أبيه الصارم :
-أقعد ياض إنت.. أنا مأذنتش لحد يقوم !!!
كنَّ "حمزة" في مكانه ثانيةً و هو يغمغم بتهذيب :
-أسف يا حاج !
تنفس "سالم" بعمقٍ و تمهل لحظةٍ، ثم رفع رأسه من جديد معلنًا :
-عندي كلمتين و كنت عاوز الكل يكون حاضر و يسمع.. بس هاقولهم دلوقتي و الحاضر يعلم الغايب عشان خلاص مافيش وقت
-خير يا حاج ! .. قالتها "هانم" و علائم الريبة تطفر على وجهها متواضع الجمال
رد "سالم" بايماءة صغيرة دون أن ينظر إليها :
-خير إن شاءالله.. أنا إمبارح بس بلغني خبر وفاة كوثر الوديدي مرات عمكوا ناصر الله يرحمه. الوفاة ماحصلتش إمبارح. كان بقالها شهرين و أخوها عزام الوديدي كان ساكت كل ده عشان مانطالبش ببنتها "ليلة" و تيجي تعيش وسطنا هنا.. إللي وصلني إنه كان عاوزها لإبنه الكبير و خاف نظهر في الصورة قبل ما الموضوع يتم ...
و ضحك مكملًا :
-مش عارف جاب الغشم ده منين.. مهما كانت ليلة دي لحمي و هي إللي باقيالي من ريحة أخويا. أهبل عزام ده. مايعرفش إني ببعت ناس تجيبلي أخبار بنت أخويا أول بأول
-طيب إتصرفت معاه إزاي ياخويا ؟!! .. قالها "إمام" باهتمامٍ شديد
نظر له "سالم" و قال بحزمٍ :
-عيب تسألني سؤال زي ده يا إمام. بقولك دارى علينا موت أخته. كان عاوز يعمل كل حاجة سوكيتي لأنه جبان و خايف مننا.. أنا يدوب بس رفعت سماعة التليفون و طلبته. قبل ما أقوله عايز ليلة رد و قال أجبهالك بشنطة هدومها لحد عندك يا معلم سالم. و فعلًا كمان شوية و هاتوصل إن شاء الله
تنفس "عبد الله" الصعداء و قال ببهجةٍ حقيقية :
-ده أحلى خبر سمعناه إنهاردة و الله يا سالم.. بس بعد إذنك طبعًا ليلة هاتقعد في شقتي. إنت عارف ماعندناش حد و لا شباب كبار. مافيش غيري أنا و عبير. هاتونسنا و في نفس الوقت هانراعيها كويس !
إبتسم "سالم" له و قال بطيب خاطر :
-أكيد يا عبده.. ما إنت عمها. و عبير ماتتخيّرش عنك. أنا متأكد إنكوا هاتاخدوا بالكوا منها و هي كمان هاتحبكوا أوي ...
ثم أشار بيده إلى الطعام و قال أخيرًا :
-كلوا بقى.. كفاية كلام أحسن الأكل يبرد !
_________
إستغرقت التحضيرات للماتش هذه المرة وقتًا طويلًا ...
لكن بقى أخر شيء و هو إقامة الحلبة بمنتصف الحارة الفسيحة.. تم هذا بسرعة و إنقسمت لطرفان، الخصم العملاق كما وصفه "حمزة" لأبيه يقف ليدهن جسمه بالزيت
يقابله في الجهة الأخرى "رزق الجزار" ...
كان مشغولًا بأداء تمرينات الصدر و الذراعين، بعد أن خلع كنزته الخفيفة، فتعرَّى جزعه العلوي تمامًا و ظهرت لياقته البدنية المبهرة للعيّان.. جسمه أبيض في الأصل، و لكنه الآن بدا برونزيًا محمّر من أثر الشمس الحارقة
خصيلات شعره الشقراء تلتصق بمقدمة جبينه، و تسيل من خلالها قطرات عرقه الساخنة، تعبر بين عينيه الزرقاوتان و أهدابه الناعمة، فتغزو أخيرًا لحيته الخفيفة و تترك ملوحة فوق شفاهه الدقيقة الوردية
ليسارع بتناول قنينة المياه من أحد الشباب الموالين له، يتجرع منها باستفاضة حتى أنهاها.. ثم يلقي بها فارغة خارج الحلبة و يلتفت فجأة نحو خصمه
على عكس الأخير لم يحاول أن يبدو مخيفًا، رغم مؤهلاته البدنية التي تعزز فكرة كهذه.. لكنه آثر دائمًا أن يبدو رائقًا، فلم يزيده ذلك إلا فتنة و بهاءً... "رزق الجزار" منذ نعومة أظافره حلو الطلعة و جميل الشكل.. إنه ذكر.. بل و صار رجلًا ذا سطوة و هيمنة بعد أبيه... حتى أنه أكبر إخوته.. لكنه من شدة وسامته كان النوعان رجالًا و نساءً لا يستطيعون إشاحة أبصارهم عنه.. و كأنه معجزة !
إشارة واحدة من يده... كان الجميع ينتظرها.. حتى تبدأ الجولة الأولى و تنفجر الصيحات المشعجة و الهتافات باسمه هو فقط
ثلاث ثوانٍ يتقاربا الطرفان في تأهبٍ ...
ليتصادما مرةً واحدة، بينما يرخي "رزق" ذراعيه و قبضتيه تمامًا تاركًا خصمه ينال منه كما يشاء.. حتى أنه سمح له برفعه في الهواء و إلقائه أرضًا بقسوة.. تم كل هذا بارادته، و كأنه كان يستعذب المعاناة و اللكمات التي أصابت وجهه و فتحت جروحًا دامية بشفته السفلى و أنفه و أسفل حاجبه الكثيف
لعل الشمس كانت تعمي عينيه قليلًا، إلا إن ذلك لم يمنعه من رصد وجه أبيه.. حيث كان يقف في شرفة منزلهم الكبيرة بين العائلة... جميعهم قد أطلوا ليشاهدوا البطل
بطل !
كيف يكون بطلًا و هو في هذا الوضع ؟!!!
على كلٌ... لم يستمر طويلًا.. بعد أن أخذ "رزق" كفايته من الضربات المنشودة... أطلق صيحة كأنما هي زئيرًا آدميًا.. كانت بمثابة الدفعة التي مكنته بسهولة من ركل الخصم في بطنه، ليتراجع الأخير للخلف منكفأ على ظهره
ينتصب "رزق" الآن قائمًا بقامته الضخمة..يمسح الدماء المنداحة من فمه بظاهر يده... بينما ينهض الخصم مستعدًا لإنهاء الجولة الأولى لصالحه
و لكن هيهات !
ها هو "رزق" يبتسم له بعذوبة وديعة و هو ينظر بعينيه مباشرةً... لا يمنح تلك الابتسامة لأحد عبثًا.. قلما يبتسم أصلًا.. و كثيرًا ما يُسقط الضحايا !!!
يشعر بموجة من الأدرنالين تندفع بشرايينه، لحظة التصادم الثانِ... مارس "رزق" عليه السحب بأنواعه و الرفع بأنواعه، و لعله أثناء تسديد بعض اللكمات أفقده قسمًا من أسنانه العلوية
و بعد مناورات و خطف و دخول من أسفل الذراع و الساق... سرعان ما إنتابه الملل.. فقرر أن يُنهي اللعبة الآن
في كلتا الحالتين كان الخصم قد إنتهى.. و صار يترنح كالسكارى... ليصطدم به "رزق" مرة أخيرة.. يرفعه فوق كتفيه العريضين في وضعية القوس و يدور به في الهواء
ثم أخيرًا يسقطه فوق الحلبة بعنفٍ قضى على بقايا وعيه، فيصيح "رزق" بغلظةٍ و هو يرفع قبضته الحديدية لأعلى معلنًا إنتهاء اللعبة و الفوز لصالحه و من الجولة الأولى
حوله الحشد الغفير من قاطني المنطقة و المناطق المجاورة يصرخون و يللهون باسمه.. الجميع يحتفي به، حتى أن البعض صعد إلى الحلبة ليحملونه فوق أكتافهم... لكنه لم يكن يعبأ و لا ينظر إلا صوب نقطة معيّنة
في ذلك المكان المرتفع قبالته، حيث لا يزال والده يقف، إزداد زهوًا و غرورًا عندما رآه يشمله بنظرات الفخر و الاعتداد ...
_________
-ضربة المعلم بألف !
-ما يجبها إلا رجالها يا زوّز !
كانت تلك الكلمات الاحتفالية التي سمعها "رزق" من فم أخيه الصغير و إبن عمه و صديقه المقرب "علي إمام الجزار"
تركهم بغرفته و سارع نحو الحمام ليغتسل بسرعة و يلحق بميعاد العمل الذي كلفه به أبيه، تسرب دمه بكمية وفيرة مع المياه أسفل الدُش.. لكنه خرج نظيفًا و لامعًا كعادته
ارتدى ملابسه المؤلفة من سروال جينز غامق و قميصًا فاتح محلول الأزرار من الأعلى.. مشط شعره للخلف و نثر عطره المفضل بغزارة.. و أخر شيء ليكمل هندامه علّق قلادته الثمينة المصنوعة من الذهب الأبيض في عنقه، و أرفق إلى معصمه الأيسر ساعته الذكية باهظة الثمن التي تتيح له قراءة ضغطه أحيانًا، و ما إذا تسارعت خفقات قلبه تطلق إنذارًا لتتبهه
كانت هذه طبيعته.. الاهتمام بنفسه و التأنق كما تعّود منذ صغره... لكن هذا كله ظنه البعض مفتعل لهدف الكيد فيهم.. و على رأسهم كان أخيه الأصغر منه بعامين.. و الذي هدف طوال عمره ليصير ندًا له، و لو أنه لا يبالي به مطلقًا
لم يكن "رزق" أبدًا سهل الإنقياض، و لم يسمح لأحد طيلة مدة مكوثه هنا بأن يجره إلى الفخاخ.. كان يقظ و فطن.. فطن كما كان يصفه جده الباشا !
يغادر "رزق" غرفته و يهبط للطابق الأرض، ذلك الطابق الذي اختارته جدته المسنّة كي ما تسكن فيه و تقضي به آخر أيام عمرها ...
كانت عادة لديه، قبل أن يذهب لأيّ مكان خارج البيت.. لا بد أن يدخل عندها أولًا و يّلقي نظرة عليها كنوعٍ من أنواع الاهتمام و الموّدة الحقيقية التي يكنَّها لتلك السيدة جزء إحسانها إليه في طفولته و صباه، فهي في وقتٍ من الأوقات حلّت بمكان أمه، عليه الأقرار بأن في وجودها كانت مرارة حرمانه من والدته أخف وطأة عليه
جدته الرائعة الطيبة ...
-دودي القمر ! .. صاح "رزق" و هو يطل برأسه عبر فتحة باب غرفتها
-صاحية و لا نايمة يا نينة ؟!!
كانت الغرفة مضاءة بنور شمس الظهيرة، و كان السرير يقع بركنٍ جانبي للغرفة.. قبل أن يتمكن من رؤيتها تمامًا وصله صوته المتحشرج :
-رزق ! تعالى يا حبيبي. خش إنت محتاج أذني يابني. قولتلك إنت الوحيد إللي تدخل عليا و تخرج براحتك
إبتسم لها "رزق" و ولج ماضيًا ناحيتها و هو يقول :
-عاملة إيه يا نينة.. فطرتي و أخدتي الدوا و لا لسا ؟!
بادلته جدته الابتسامة.. و تدعى "دلال" ...
كان يطيب لها الدلال كاسمها، و كان هو بالأخص يدللها كما كان يعشق النظر بوجهها رقيق الملامح رغم التجاعيد و الوبر بالذقن
أعطته يدها قبل أن يطلبها هو، فحنى رأسه ليطبع قبلة حانية فوق جلدها الطريّ المترهل.. سمع صوتها تاليًا يجيبه :
-أنا أول واحدة بصحى في البيت ده.. فطرت يا حبيبي و خت الدوا. تسلملي يا غالي
و رفعت كفها لتمسح على شعره و وجهه، لعلها خربت تسريحة شعره.. لكن لا مشكلة.. لتفعل هي فقط ما تشاء ...
-إنت روحت تشلفط وشك تاني يا رزق ؟!
ضحك "رزق" من الملاحظة التي أبدتها و الطريقة نفسها، ليجلس أمامه على طرف السرير قائلًا :
-روحت فين بس و شلفطت إيه يا دودي.. ده كان ماتش ملاكمة. لسا خلصان و كنت برا قصاد البيت
دلال بتذمرٍ : و الله ما أنا عارفة ملاكلة إيه دي إللي غاويها
-ملاكمة يا دودي ! .. صحصح لها ضاحكًا
أشاحت بيدها قائلة :
-أبصر زفت أنا هاحضر فيها دكتوراة.. المهم كسبت و لا لأ ؟!!
لا يزال يضحك من قلبه و هو يومئ لها :
- كسبت يا دودي. كسبت ..
و غمز لها ...
-إنتي ماسمعتيش الدوشة و لا إيه ؟
-ما إنت عارف سمعي بقى على أدي
رزق لائمًا : قولتلك مليون مرة تعالي أوديكي للدكتور. عارفة يا نينة.. مش هاتحسي إنك إتحركتي أصلًا. هاجبلك عربية إسعاف لحد هنا
دلال بإباء شديد :
-لا لا ياخويا.. حد الله بيني و بين الإسعاف و المستشفيات. أنا لو هموت يبقى هنا في سريري ماتبهدلش برا
تلاشت ابتسامته تمامًا و هو يقبض على يدها قائلًا بعتابٍ :
-إيه يا نينة الكلام ده.. بعد الشر عنك. موت إيه بس.. طيب خلاص زي ما تحبي. أنا هاجبلك الدكتور لحد هنا
لم تتسنى لها فرصة الرد عليه
إذ سمع بوضوح أصوات شجار بالحارة، ليعتذر منها فورًا و يسرع راكضًا إلى الخارج ...
°°°°°°°°°°°°°
استطاع أن يميّز من صوت النزاع بأن المتسبب فيه هي أنثى ...
هناك بالوسط.. وقفت سيارة باذخة، أمامها إحتشد الناس حول فتاةٍ يبدو من شكلها و مظهرها عدم إنتمائها لمنطقتهم، بل لم يكن بها ما يشير إلى تدنى المستوى من أيّ جانب
و لكن إسلوبها الفج الذي تعاملت به مع ذاك الشاب الهزيل ذو الملامح الإجرامية، أخبر عن إجادتها و خبرتها بالعالم الذي يحيط بها ...
--و رحمة أمي ما هاسيبك ألا في القسم يا حيوان ! .. كانت تلك العبارة على لسانها لا تردد غيرها
حتى جاء "رزق" مخترقًا الحشد، صار هو يمسك الشاب من ياقة، و هي تمسك بالأخرى، بينما يعلو صوته الخشن :
-قسم إيه يا شاطرة.. إنت فاكرة نفسك فين هنا. أصبري ليكي روقة ..
و صرف نظره إلى الشاب قائلًا :
-عملتلها إيه يالا ؟!
إندفعت الفتاة مجيبة بانفعالٍ شديد :
-الحثالة ده عاكسني و كان عاوز يحط إيده عليا.. و إنت تطلع مين أصلًا و إزاي تكلمني باللهجة دي. إنت ماتعرفش أنا مين.. طيب و رحمة أبويا و أمي هاتكون أخرتكوا إنهاردة إنتوا الجوز
رفع "رزق" حاجبه و صار يتأملها أكثر الآن.. لا ينكر جاذبيتها، و لكنه لم يستطع إمساك لسانه بعد أن تجرأت عليه، فقال بسخرية محقرًا من شأنها :
-إتكلمي على أدك يا حُرمة.. إنتي أصلًا كلك على بعضك مافكيش ألا آااا ...
و صمت بطريقة ايحائية و هو يشير بعينه صراحةً إلى فتحة فستانها العلوية ...
إنفجر الحشد ضاحكًا من نكاية "رزق" و تسديده المضبوط، بينما ألقت الفتاة بالشال الذي وضعته فوق كتفيها، فكثر عريها، و فردت ذراعيها و هي تطلق شهقة مغناجة، ثم صاحت بلهجة سوقية متقنة :
-لاااااااا يا حبيبي. مايغركش شكلي و لبسي. مش كل الطير يا بابا إللي يتاكل لحمه. أنا آه حرمة زي ما بتقول بس مش أي حرمة.. اسأل عليا ده أنا ممكن أقل منك و من إللي يتشددلك و لا تعرف تعمل معايا حاجة !!!
صعقها بنظراته المحتدمة، و رفع قبضته الضخمة مكوّرًا إياها و هو يقول بغلظة مهددًا :
-شيلوا البت دي من قدامي أحسن و الله أكسَّرلها وشها !
تبجحت عليه فورًا :
-بت في عينك يا سافل يا قليل الأدب. أديني وقفالك أهو.. وريني هاتكسَّرلي وشي إزاي !
لأول مرة بحياته كان سينأى عن التحضر و المبادئ التي نشأ عليها و آمن بها... إذ بلغ منه الغضب مبلغه و قرر أن يؤدب تلك الفتاة البذيئة بأقسى طريقة كما أحطت من شأنه أمام الجميع
و لكنه قبل أن يتخذ خطوة واحدة تجاهها جمده هتاف أبيه الحاد :
-رزق !
إلتفت له في الحال، فإذا بالأخير يقبل عليه مقطبًا وجهه بغضبٍ و هو يقول بصلابةٍ :
-إنت إتجننت.. هاتمد إيدك على ليلة. على بنت عمك

يتبع الفصل الثاني اضغط هنا
google-playkhamsatmostaqltradent