رواية للقدر اقوال اخري الفصل الثاني بقلم فاطمة مصطفي وايمان جمال
رواية للقدر اقوال اخري الفصل الثاني
كانت الصدمة مِن نصيبه حين استمع لاسم رجل آخر يخرج مِن فمها، ليشتعل الغضب في مقلتيه ناهرا ما بداخله مِن غضب وغيرة، وهو يهتف متسائلًا بحدة:
= وائل مين يا رحمة؟
لم تكن الصدمة مِن نصيبه وحده، بل كانت مِن نصيب تلك المسكينة التي وقعت في موقف لا تحسد عليه، لتخفض أنظارها عنه متفادية نظراته الغاضبة تلك، تحاول إيجاد رد مناسب لتلك الورطة.
حتى ضربت برأسها فكرة، لترفع نظرها إليه، ثم تحدثت بنبرة جاهدة لجعلها ثابتة:
= ده أخويا الله يرحمه.
نظر لها بشك قد اتضح على ملامحه جيدًا وهو يتساءل:
= بس إنتِ معندكيش أخوات.
توترت نظراتها التي أخفضتها عنه مجددًا قبل أن تردف بتلعثم:
= ل … لا عندي أ … أخويا … أخويا في الرضاعة، كان نفسه أوي يحضر فرحي.
رفعت يديها لتزيل دموعها الوهمية؛ حتى تلقي بأدلتها على صحة حديثها أمامه، لتنجح في جعل الصدق يسلك طريقه إليه، ليرفع يده مربتًا فوق كتفها وهو يقول بابتسامة حنونة:
= الله يرحمه يا رحمة، أكيد هو في مكان أحسن دلوقتي.
أومأت له بهدوء عكس ما بداخلها مِن غضب قد غلفها مِن ذاتها؛ على كذبها عليه، ولكنها لا تستطيع البوح عمّا بقلبها وخاصة الآن.
اضطرت أن ترفع نظرها إليه حين هتف بنبرة هادئة وهو يفتح باب السيارة الخاص به:
= طيب، يلا اتفضلي، وصلنا.
ليترجل هو أولًا مغلقًا الزر الذي يتوسط سترته وهو يتجه نحو الباب الخاص بها؛ ليفتحه لها، بينما هي كانت تحدق في تلك البناية الفخمة حديثة الطرز التي تضم العديد مِن الشقق السكنية والتي توقفا أسفلها.
ليقطع هو تأملها بجمال تصميم تلك البناية حين فتح لها الباب؛ يحثها على النزول؛ لتخطو بقدميها خارج السيارة وهي تتمسك بفستان عقد قرانها البسيط والجميل الذي أصرّ هو على انتقائه؛ ليناسب ذوقها.
كانت تتشبث به بقوة؛ خائفة مِن ذلك الندم الذي يأكلها مِن الداخل، ومِن ذلك الشيء المقبلة عليه، لا تعرف إن كانت تفعل الصواب أم أنها تغوص في مشاكل أخرى.
التفتت على نداء خالد الذي تمتم بهدوء:
= حاولي نبقى طبيعيين قدام عمر.
أومأت له بصمت، فابتسم لها قبل أن يتقدم أمامها مفسحًا الطريق لها بالصعود، لتنظر له بابتسامة وهي تقارن بينه وبين ذلك الـوائل الذي تركها تصعد بمفردها.
وصلت رحمة بصحبته لباب شقتهم بعد رحلة صعودهم الصامتة في ذلك المصعد الواسع الذي بدا لها وكأنه ضاق عليها، وكاد يخنقها رغم أنها اعتادت على المصاعد؛ بسبب سكنها، ولكن ربما وجوده بجانبها هو ما يسبب لها كل هذا.
تابعته بعيناها وهو يقوم بفتح الباب بالمفتاح الخاص به، فتقدمها للداخل؛ لتتبعه بخطوات بطيئة مترددة؛ خوفًا مِن تلك الذكرى التي ما زالت تراودها، رغم مرور عامين عليها إلّا أنها لم تستطع نسيانها أبدًا.
عادت إلى واقعها على صوت إغلاق الباب، والذي قام به خالد بعد ذهاب المربية التي كانت بصحبة صغيره الذي اندفع نحو رحمة معانقًا إياها هاتفًا بسعادة:
= مس رحمة.
جثت على قدميها أمامه، تحتجزه بين ذراعيها، معانقة إياه بحنان قبل أن تبتعد مقبلة وجنتيه بحب وهي تقول بابتسامة:
= حبيب مس رحمة، وحشتني أوي.
ليبتسم لها الصغير وهو يتمتم ببراءة:
= وإنتِ أكتر يا مس.
قرصت وجنتيه بلطف، وما زالت تلك الابتسامة الحنونة تزين ثغرها قبل أن تتفاجأ بسؤاله:
= كدا يا مس مش هتسيبينا تاني خالث، ثح؟
ضحكت بخفة على نطقه، لتكرر خلفه بنبرة مرحة وهي تقرص وجنته:
= ثح يا عمَري.
قفز عمر فرحًا وهو يهتف بسعادة:
= أخيرًا!
التفت إلى والده، ثم أردف قائلًا:
= أنا بحب مس رحمة أوي يا بابا.
جثى على قدميه أمام الصغير بعد أن كان واقفًا يتابعهم بابتسامة حنونة، ليحدثه بهدوء:
= وهي كمان بتحبك أوي يا عمر.
صمت لبرهة كانت كفيلة لتحول نبرة سؤاله إلى الجدية:
= وبعدين إنتَ مش عندك مدرسة الصبح؟ إيه اللي مسهرك لحد دلوقتي؟!
عقد الطفل حاجبيه بتعجب مِن حديث والده وهو يجيبه:
= مدرسة إيه يا بابا؟ بكرا الجمعة ومفيش مدارس، وبعدين أنا عاوز أسهر انهارده.
أومأ له خالد بهدوء قبل أن يردف قائلًا:
= طيب إيه رأيك تدخل تنام دلوقتي، وبكرا أخدك إنتَ ومس رحمة، ونخرج خروجة حلوة، ونروح الملاهي؟
قفز الصغير فرحًا قبل أن يلقي بنفسه بين أحضان والده؛ معانقًا إياه بقوة وهو يهتف بسعادة:
= موافق طبعًا.
قبّل خالد رأسه بحنان وهو يبعده قائلًا بابتسامة:
= طيب، يلا على أوضتك بسرعة.
أومأ الصغير، ثم ألقى بتحية المساء قبل أن يركض نحو غرفته مغلقًا إياها خلفه.
بينما التفت خالد إلى رحمة بعدما اختفى الصغير خلف الباب؛ ليحدثها بهدوء:
= اتفضلي.
أشار لها نحو إحدى الغرف؛ ليتقدمها إلى ذلك الباب قبل أن يفتحه؛ ليدلف أولًا، بينما دلفت هي بخطواتها المتوترة، متفحصة الغرفة بنظراتها الزائغة، لتنتفض بخفة وقد وصل توترها أضعاف حين استمعت لصوت إغلاق الباب خلفها.
لم تجرؤ على رفع نظرها، أو الالتفات نحوه، بل ظلت مخفضة رأسها أرضًا؛ تحاول التحكم بتلك الرجفة التي سارت على سائر جسدها فور أن شعرت به يقف أمامها مباشرة يتابعها بنظراته المتفحصة وهي تقبض فوق ثوبها بقوة؛ لتزيد مِن ضغطها فوقه وهي تستمع إليه يقول:
= رحمة، بصيلي.
رفعت عيناها ببطء؛ لتواجهه بنظراتها المشتتة، ليتنهد بهدوء قبل أن يكمل حديثه:
= بصي يا رحمة، أنا عارف إن ظروف جوازنا مكنتش مناسبة بس …
قاطعته وهي تهتف بخفوت متوتر:
= أنا آسفة.
ضاقت المسافة بين حاجبيه وهو يسألها بتعجب:
= على إيه؟
أجابته بنبرتها الخافتة، وبنفس النظرات التي لم تلقَ ثباتًا بعد:
= لإني أنا اللي حطيتك في الموقف السخيف ده قدام عيلتك، حقيقي أنا آسفة.
ارتفعت يديه؛ لتحاوط كتفها، ليتجمد جسدها تلقائيًّا مِن لمسته المفاجئة وهي تستمع إليه يتحدث بابتسامة:
= بالعكس، إنتِ مش غلطانة، لولا إن عمر أصر مكنش كل ده هيحصل، بس في النهاية هو حصل، وأنا عاوزك تعرفي إن ده بقى بيتك، يعني ليكِ كامل الحرية هنا، كل اللي عاوزه منك إنك تخلي بالك مِن عمر، ده اللي يهمني.
خرجت حروف تلك الكلمة نابعة مِن قلبها قبل عقلها:
= شكرًا.
ابتلعت لعابها بتوتر قبل أن تكمل؛ محاولة إخراج حروفها ثابتة:
= شكرًا على كل اللي عملته معايا، ومتقلقش عمر في عينيَّ.
كان رده بنظرة مبهمة، لم تفهمها رغم أنها حاولت طويلًا إلّا أنها لم تستطع، لتكتفي بابتسامتها البسيطة حين تحدث هو مجددًا:
= طيب، أنا هروح أغير هدومي في الحمام، وإنتِ خدي راحتك هنا.
اكتفت بإماءة بسيطة قبل أن تتابعه بعيناها وهو يختفي خلف باب المرحاض؛ لتتنهد بارتياح واضعة يدها فوق ذلك الذي أخذت ضرباته تزداد محاولة تهدئته قليلًا، لتنجح بالفعل بعد محاولات عديدة مطمئنة نفسها بأن كل شيء على ما يرام.
اتجهت نحو المرآة؛ لتخلع حجابها الملفوف بعناية، لتنسدل خصلاتها الحريرية الطويلة فوق ظهرها؛ ليكون ستارًا مِن الحرير الأسود الناعم.
زفرت بضيق وهي تنظر لانعكاسها بالمرآة، لم تكن لتتوقع يومًا أن يحالفها الحظ لتخوض هذه التجربة مجددًا، ولكن مع شخص أفضل، شخص احترمها منذ أن قابلته، رغم أنها لم ترَ معاملته لها كزوج إلّا أنها قد أعطت لقلبها القليل مِن الأمان بتلك الكلمات التي طمأنها هو بها منذ قليل، لتقرر منح هذه التجربة فرصة أخرى؛ لعلها تكون أفضل مِن سابقتها.
أمسكت بثوبها ترفعه قليلًا وهي تتجه نحو الخزانة؛ لتخرج منها شيئًا ترتديه، ولحسن حظها قد وجدت شيئًا مناسبًا لترتديه أمامه، لتتنهد بارتياح قبل أن تشرع في ارتدائه.
مرت دقائق معدودة منذ أن خرج هو مِن المرحاض؛ لينشغل بهاتفه، بينما جلست هي تتابعه بنظرات قد عادت إلى سابق عهدها، يملؤها التوتر الذي أصبح أضعاف مضاعفة؛ فرؤيته ممسكًا بهاتفه هكذا قد أعادت عليها تلك الذكرى القاسية حين تركها زوجها بسبب رسالة قد أُرسلت إليه في ليلة كهذه، رغم مرور عامين على تلك الذكرى إلّا أنها لم تستطع تخطيها بعد.
زفرت بغضب قد بدأ يستولي عليها وهي تنتفض واقفة على قدميها متجهة نحوه وهي تهتف بضيق:
= مش كفاية بقى؟!
التفت إليها يطالعها بنظرات مندهشة مِن هذا الغضب الذي اتضح عليها، والذي لا يوجود له مبرر في اعتقاده.
تنحنحت باحراج قبل أن تصحح ما قالته مردفة بخفوت:
= أنا قصدي يعني كفاية تليفونات، إنتَ مِن ساعة ما خرجت وإنتَ ماسكه، فأنا بقول ننام أحسن، أنا جهزتلك السرير.
أنهت جملتها وهي تشير نحو الفراش، ولكن رغم تعجبه مِن حديثها إلّا أنه أخرج نبرته هادئة كهدوء ملامحه:
= طيب، روحي إنتِ نامي على السرير، وأنا هنام هنا على الكنبة.
رمقته بنظرات مستنكرة قبل أن تقول باعتراض:
= بس ده …
قاطعها وهو يستلقي فوق الأريكة مسندًا رأسه إلى ذراعه وهو يلتفت إليها قائلًا بابتسامة مانعًا إياها مِن إكمال أي حديث بينهما:
= تصبحي على خير.
ألقى بجملته، ثم أغلق عينيه متداعيًا النوم، لتتنهد بتعب متجهة نحو الفراش؛ لتحتله بجسدها مغلقة عينيها؛ تستدعي النوم الذي أتاها بإحدى كوابيس الماضي.
كانت جالسة بشقة والدها التي أصبحت سجينتها بعد ذلك اليوم المشئوم؛ لتتخذها ملجأ مِن هؤلاء الذين ينهشون في عرضها بلا رحمة، يتحدثون وكأنها جديدة عليهم، لا يعرفونها ولا يعرفون كيف تربت، يهينونها وكأنهم لا يعرفون عائلتها، وكم أنهم محترمين، والجميع كان يحبهم، لا أحد يظن أبدًا أن الخطأ منه هو، مِن ذلك الزوج الذي هرب مِن زوجته ليلة زفافهم؛ تاركًا الناس يلوثون شرفها بكلماتهم المسمومة، لم يفكر بمظهرها أمامهم وهي تخرج مِن شقة الزفاف، ولم تكن لتكمل بها ساعة على الأقل عائدة إلى شقتها بفستان زفافها الذي تلوث بدموعها وسط أنظار الجميع المحتقرة لها، لم يسألها أحد ماذا حدث، أو كيف حدث، فقط هاجموها بكلماتهم القاسية ملوثين قطعة النور بداخلها دون وجه حق، حتى خروجها بفستان الزفاف وذلك الوقت القصير الذي قضته بشقة زوجها لم يجعلهم يشكون بأمر آخر، ولكن فقط بمجرد أن رأوه ذاهبًا صدقوا ما جاء بمخيلتهم مهينين فتاة طاعنين إياها في شرفها.
لتظل هي بهذه الشقة التي قضت بها طفولتها، ولم تجف دموعها مِن فوق وجنتيها حتى انتفضت فجأة على صوت جرس الباب الذي صدح صوته يشق سكون المكان.
لتقف على قدميها متجهة سريعًا نحو الباب؛ تفتحه بعدما وضعت حجابها، لتتفاجأ بصاحب العمارة التي تقطن بها، الآن يقف أمامها بملامحه المتجهمة، لتبتلع لعابها بتوتر وتتساءل بتعجب:
= خير يا عم فرج؟ في حاجة؟
= هنتكلم على الباب كدا يا رحمة؟
ألقى بهذا السؤال بنبرة جامدة جعلت القلق يدب في أوصالها، لتفسح له المكان وهي تقول:
= لأ ازاي؟ اتفضل.
دلف إلى الداخل؛ متجهًا نحو أقرب مقعد قد قابله، لتتبعه رحمة بعدما تركت الباب مفتوحًا؛ حتى لا تكون معه بمفردها، ليتابع حركتها بنظراته الساخرة وهو يقول:
= غريب، وإنتِ مِن إمتى بيهمك كلام الناس علشان تسيبي الباب مفتوح؟!
رفعت عيناها إليه وقد بدأ الغضب يتأجج بداخلها، لتحدثه وهي تحاول كتمان ما بداخلها:
= دي الأصول يا عم فرج.
_ لا وإنتِ بتعرفي في الأصول أوي.
تساءلت هي وقد اندمج غضبها بصدمة:
= قصدك إيه؟
أجابها بنبرته الساخرة:
= قصدي إن واحدة زيك باعت شرفها بالرخيص مستحيل تعرف يعني إيه كلمة أصول.
انتفضت رحمة واقفة قابلته وقد وصل غضبها إلى أقصاه قبل أن تهدر به بعنف:
= اخرس، قطع لسانك، إنتَ اتجننت يا راجل؟! إنتَ جاي تتبلى عليّ؟!
وقف فرج قابلتها وقد انتقل غضبها إليه، ليهدر بغضب مماثل:
= اتجننت! آه، ما أنا هستنى إيه مِن واحدة زيك ماشية تبيع لحمها للي يدفع أكتر؟ أنا مبتبلاش عليكِ يا ست رحمة، أنا بقول اللي الناس كلها بتقوله واللي علشانه جيت انهارده.
نظرت إليه بتساؤل قبل أن يكمل وهو يرمقها باستحقار:
= أنا جيت انهارده؛ علشان أبلغك إن ابني هيتجوز في الشقة دي، يعني بهدوء تلمي هدومك وتغوري مِن هنا أحسن ما أطلعك منها بالبوليس.
ارتسمت الصدمة فوق ملامحها وهي تتساءل:
= طيب أنا هروح فين؟
أجابها بلا مبالاة، وما زال يرمقها بنظراته المستحقرة:
= ميخصنيش، المهم يومين وتسيبي الشقة بالذوق بدل ما تطلعي بحكم محكمة، سلام يا … يا آنسة رحمة.
ألقى بجملته، ثم خرج تاركًا خلفه جسدًا بلا روح، ألقت بجسدها فوق المقعد تنظر أمامها بضياع، لا تعرف ماذا ستفعل، أو أين ستذهب، الجميع هنا أصبح يحتقرها، لا يوجد مَن يقف بصفها، أو ينصفها، هي حقًا يجب أن تذهب، ولكن إلى أين؟ هي لا تعرف مكانًا آخر لتذهب إليه، لا يوجد لديها أحد لتستنجد به؛ الجميع خذلها وتركوها وحيدة، إذًا ماذا ستفعل الآن؟
بدأت تبكي بشدة وهي تُلقي بالكثير مِن الدعوات على وائل، ذلك الذي خذلها، وجعل مِن شرفها علكة على كل لسان.
= وائل مين يا رحمة؟
لم تكن الصدمة مِن نصيبه وحده، بل كانت مِن نصيب تلك المسكينة التي وقعت في موقف لا تحسد عليه، لتخفض أنظارها عنه متفادية نظراته الغاضبة تلك، تحاول إيجاد رد مناسب لتلك الورطة.
حتى ضربت برأسها فكرة، لترفع نظرها إليه، ثم تحدثت بنبرة جاهدة لجعلها ثابتة:
= ده أخويا الله يرحمه.
نظر لها بشك قد اتضح على ملامحه جيدًا وهو يتساءل:
= بس إنتِ معندكيش أخوات.
توترت نظراتها التي أخفضتها عنه مجددًا قبل أن تردف بتلعثم:
= ل … لا عندي أ … أخويا … أخويا في الرضاعة، كان نفسه أوي يحضر فرحي.
رفعت يديها لتزيل دموعها الوهمية؛ حتى تلقي بأدلتها على صحة حديثها أمامه، لتنجح في جعل الصدق يسلك طريقه إليه، ليرفع يده مربتًا فوق كتفها وهو يقول بابتسامة حنونة:
= الله يرحمه يا رحمة، أكيد هو في مكان أحسن دلوقتي.
أومأت له بهدوء عكس ما بداخلها مِن غضب قد غلفها مِن ذاتها؛ على كذبها عليه، ولكنها لا تستطيع البوح عمّا بقلبها وخاصة الآن.
اضطرت أن ترفع نظرها إليه حين هتف بنبرة هادئة وهو يفتح باب السيارة الخاص به:
= طيب، يلا اتفضلي، وصلنا.
ليترجل هو أولًا مغلقًا الزر الذي يتوسط سترته وهو يتجه نحو الباب الخاص بها؛ ليفتحه لها، بينما هي كانت تحدق في تلك البناية الفخمة حديثة الطرز التي تضم العديد مِن الشقق السكنية والتي توقفا أسفلها.
ليقطع هو تأملها بجمال تصميم تلك البناية حين فتح لها الباب؛ يحثها على النزول؛ لتخطو بقدميها خارج السيارة وهي تتمسك بفستان عقد قرانها البسيط والجميل الذي أصرّ هو على انتقائه؛ ليناسب ذوقها.
كانت تتشبث به بقوة؛ خائفة مِن ذلك الندم الذي يأكلها مِن الداخل، ومِن ذلك الشيء المقبلة عليه، لا تعرف إن كانت تفعل الصواب أم أنها تغوص في مشاكل أخرى.
التفتت على نداء خالد الذي تمتم بهدوء:
= حاولي نبقى طبيعيين قدام عمر.
أومأت له بصمت، فابتسم لها قبل أن يتقدم أمامها مفسحًا الطريق لها بالصعود، لتنظر له بابتسامة وهي تقارن بينه وبين ذلك الـوائل الذي تركها تصعد بمفردها.
وصلت رحمة بصحبته لباب شقتهم بعد رحلة صعودهم الصامتة في ذلك المصعد الواسع الذي بدا لها وكأنه ضاق عليها، وكاد يخنقها رغم أنها اعتادت على المصاعد؛ بسبب سكنها، ولكن ربما وجوده بجانبها هو ما يسبب لها كل هذا.
تابعته بعيناها وهو يقوم بفتح الباب بالمفتاح الخاص به، فتقدمها للداخل؛ لتتبعه بخطوات بطيئة مترددة؛ خوفًا مِن تلك الذكرى التي ما زالت تراودها، رغم مرور عامين عليها إلّا أنها لم تستطع نسيانها أبدًا.
عادت إلى واقعها على صوت إغلاق الباب، والذي قام به خالد بعد ذهاب المربية التي كانت بصحبة صغيره الذي اندفع نحو رحمة معانقًا إياها هاتفًا بسعادة:
= مس رحمة.
جثت على قدميها أمامه، تحتجزه بين ذراعيها، معانقة إياه بحنان قبل أن تبتعد مقبلة وجنتيه بحب وهي تقول بابتسامة:
= حبيب مس رحمة، وحشتني أوي.
ليبتسم لها الصغير وهو يتمتم ببراءة:
= وإنتِ أكتر يا مس.
قرصت وجنتيه بلطف، وما زالت تلك الابتسامة الحنونة تزين ثغرها قبل أن تتفاجأ بسؤاله:
= كدا يا مس مش هتسيبينا تاني خالث، ثح؟
ضحكت بخفة على نطقه، لتكرر خلفه بنبرة مرحة وهي تقرص وجنته:
= ثح يا عمَري.
قفز عمر فرحًا وهو يهتف بسعادة:
= أخيرًا!
التفت إلى والده، ثم أردف قائلًا:
= أنا بحب مس رحمة أوي يا بابا.
جثى على قدميه أمام الصغير بعد أن كان واقفًا يتابعهم بابتسامة حنونة، ليحدثه بهدوء:
= وهي كمان بتحبك أوي يا عمر.
صمت لبرهة كانت كفيلة لتحول نبرة سؤاله إلى الجدية:
= وبعدين إنتَ مش عندك مدرسة الصبح؟ إيه اللي مسهرك لحد دلوقتي؟!
عقد الطفل حاجبيه بتعجب مِن حديث والده وهو يجيبه:
= مدرسة إيه يا بابا؟ بكرا الجمعة ومفيش مدارس، وبعدين أنا عاوز أسهر انهارده.
أومأ له خالد بهدوء قبل أن يردف قائلًا:
= طيب إيه رأيك تدخل تنام دلوقتي، وبكرا أخدك إنتَ ومس رحمة، ونخرج خروجة حلوة، ونروح الملاهي؟
قفز الصغير فرحًا قبل أن يلقي بنفسه بين أحضان والده؛ معانقًا إياه بقوة وهو يهتف بسعادة:
= موافق طبعًا.
قبّل خالد رأسه بحنان وهو يبعده قائلًا بابتسامة:
= طيب، يلا على أوضتك بسرعة.
أومأ الصغير، ثم ألقى بتحية المساء قبل أن يركض نحو غرفته مغلقًا إياها خلفه.
بينما التفت خالد إلى رحمة بعدما اختفى الصغير خلف الباب؛ ليحدثها بهدوء:
= اتفضلي.
أشار لها نحو إحدى الغرف؛ ليتقدمها إلى ذلك الباب قبل أن يفتحه؛ ليدلف أولًا، بينما دلفت هي بخطواتها المتوترة، متفحصة الغرفة بنظراتها الزائغة، لتنتفض بخفة وقد وصل توترها أضعاف حين استمعت لصوت إغلاق الباب خلفها.
لم تجرؤ على رفع نظرها، أو الالتفات نحوه، بل ظلت مخفضة رأسها أرضًا؛ تحاول التحكم بتلك الرجفة التي سارت على سائر جسدها فور أن شعرت به يقف أمامها مباشرة يتابعها بنظراته المتفحصة وهي تقبض فوق ثوبها بقوة؛ لتزيد مِن ضغطها فوقه وهي تستمع إليه يقول:
= رحمة، بصيلي.
رفعت عيناها ببطء؛ لتواجهه بنظراتها المشتتة، ليتنهد بهدوء قبل أن يكمل حديثه:
= بصي يا رحمة، أنا عارف إن ظروف جوازنا مكنتش مناسبة بس …
قاطعته وهي تهتف بخفوت متوتر:
= أنا آسفة.
ضاقت المسافة بين حاجبيه وهو يسألها بتعجب:
= على إيه؟
أجابته بنبرتها الخافتة، وبنفس النظرات التي لم تلقَ ثباتًا بعد:
= لإني أنا اللي حطيتك في الموقف السخيف ده قدام عيلتك، حقيقي أنا آسفة.
ارتفعت يديه؛ لتحاوط كتفها، ليتجمد جسدها تلقائيًّا مِن لمسته المفاجئة وهي تستمع إليه يتحدث بابتسامة:
= بالعكس، إنتِ مش غلطانة، لولا إن عمر أصر مكنش كل ده هيحصل، بس في النهاية هو حصل، وأنا عاوزك تعرفي إن ده بقى بيتك، يعني ليكِ كامل الحرية هنا، كل اللي عاوزه منك إنك تخلي بالك مِن عمر، ده اللي يهمني.
خرجت حروف تلك الكلمة نابعة مِن قلبها قبل عقلها:
= شكرًا.
ابتلعت لعابها بتوتر قبل أن تكمل؛ محاولة إخراج حروفها ثابتة:
= شكرًا على كل اللي عملته معايا، ومتقلقش عمر في عينيَّ.
كان رده بنظرة مبهمة، لم تفهمها رغم أنها حاولت طويلًا إلّا أنها لم تستطع، لتكتفي بابتسامتها البسيطة حين تحدث هو مجددًا:
= طيب، أنا هروح أغير هدومي في الحمام، وإنتِ خدي راحتك هنا.
اكتفت بإماءة بسيطة قبل أن تتابعه بعيناها وهو يختفي خلف باب المرحاض؛ لتتنهد بارتياح واضعة يدها فوق ذلك الذي أخذت ضرباته تزداد محاولة تهدئته قليلًا، لتنجح بالفعل بعد محاولات عديدة مطمئنة نفسها بأن كل شيء على ما يرام.
اتجهت نحو المرآة؛ لتخلع حجابها الملفوف بعناية، لتنسدل خصلاتها الحريرية الطويلة فوق ظهرها؛ ليكون ستارًا مِن الحرير الأسود الناعم.
زفرت بضيق وهي تنظر لانعكاسها بالمرآة، لم تكن لتتوقع يومًا أن يحالفها الحظ لتخوض هذه التجربة مجددًا، ولكن مع شخص أفضل، شخص احترمها منذ أن قابلته، رغم أنها لم ترَ معاملته لها كزوج إلّا أنها قد أعطت لقلبها القليل مِن الأمان بتلك الكلمات التي طمأنها هو بها منذ قليل، لتقرر منح هذه التجربة فرصة أخرى؛ لعلها تكون أفضل مِن سابقتها.
أمسكت بثوبها ترفعه قليلًا وهي تتجه نحو الخزانة؛ لتخرج منها شيئًا ترتديه، ولحسن حظها قد وجدت شيئًا مناسبًا لترتديه أمامه، لتتنهد بارتياح قبل أن تشرع في ارتدائه.
مرت دقائق معدودة منذ أن خرج هو مِن المرحاض؛ لينشغل بهاتفه، بينما جلست هي تتابعه بنظرات قد عادت إلى سابق عهدها، يملؤها التوتر الذي أصبح أضعاف مضاعفة؛ فرؤيته ممسكًا بهاتفه هكذا قد أعادت عليها تلك الذكرى القاسية حين تركها زوجها بسبب رسالة قد أُرسلت إليه في ليلة كهذه، رغم مرور عامين على تلك الذكرى إلّا أنها لم تستطع تخطيها بعد.
زفرت بغضب قد بدأ يستولي عليها وهي تنتفض واقفة على قدميها متجهة نحوه وهي تهتف بضيق:
= مش كفاية بقى؟!
التفت إليها يطالعها بنظرات مندهشة مِن هذا الغضب الذي اتضح عليها، والذي لا يوجود له مبرر في اعتقاده.
تنحنحت باحراج قبل أن تصحح ما قالته مردفة بخفوت:
= أنا قصدي يعني كفاية تليفونات، إنتَ مِن ساعة ما خرجت وإنتَ ماسكه، فأنا بقول ننام أحسن، أنا جهزتلك السرير.
أنهت جملتها وهي تشير نحو الفراش، ولكن رغم تعجبه مِن حديثها إلّا أنه أخرج نبرته هادئة كهدوء ملامحه:
= طيب، روحي إنتِ نامي على السرير، وأنا هنام هنا على الكنبة.
رمقته بنظرات مستنكرة قبل أن تقول باعتراض:
= بس ده …
قاطعها وهو يستلقي فوق الأريكة مسندًا رأسه إلى ذراعه وهو يلتفت إليها قائلًا بابتسامة مانعًا إياها مِن إكمال أي حديث بينهما:
= تصبحي على خير.
ألقى بجملته، ثم أغلق عينيه متداعيًا النوم، لتتنهد بتعب متجهة نحو الفراش؛ لتحتله بجسدها مغلقة عينيها؛ تستدعي النوم الذي أتاها بإحدى كوابيس الماضي.
كانت جالسة بشقة والدها التي أصبحت سجينتها بعد ذلك اليوم المشئوم؛ لتتخذها ملجأ مِن هؤلاء الذين ينهشون في عرضها بلا رحمة، يتحدثون وكأنها جديدة عليهم، لا يعرفونها ولا يعرفون كيف تربت، يهينونها وكأنهم لا يعرفون عائلتها، وكم أنهم محترمين، والجميع كان يحبهم، لا أحد يظن أبدًا أن الخطأ منه هو، مِن ذلك الزوج الذي هرب مِن زوجته ليلة زفافهم؛ تاركًا الناس يلوثون شرفها بكلماتهم المسمومة، لم يفكر بمظهرها أمامهم وهي تخرج مِن شقة الزفاف، ولم تكن لتكمل بها ساعة على الأقل عائدة إلى شقتها بفستان زفافها الذي تلوث بدموعها وسط أنظار الجميع المحتقرة لها، لم يسألها أحد ماذا حدث، أو كيف حدث، فقط هاجموها بكلماتهم القاسية ملوثين قطعة النور بداخلها دون وجه حق، حتى خروجها بفستان الزفاف وذلك الوقت القصير الذي قضته بشقة زوجها لم يجعلهم يشكون بأمر آخر، ولكن فقط بمجرد أن رأوه ذاهبًا صدقوا ما جاء بمخيلتهم مهينين فتاة طاعنين إياها في شرفها.
لتظل هي بهذه الشقة التي قضت بها طفولتها، ولم تجف دموعها مِن فوق وجنتيها حتى انتفضت فجأة على صوت جرس الباب الذي صدح صوته يشق سكون المكان.
لتقف على قدميها متجهة سريعًا نحو الباب؛ تفتحه بعدما وضعت حجابها، لتتفاجأ بصاحب العمارة التي تقطن بها، الآن يقف أمامها بملامحه المتجهمة، لتبتلع لعابها بتوتر وتتساءل بتعجب:
= خير يا عم فرج؟ في حاجة؟
= هنتكلم على الباب كدا يا رحمة؟
ألقى بهذا السؤال بنبرة جامدة جعلت القلق يدب في أوصالها، لتفسح له المكان وهي تقول:
= لأ ازاي؟ اتفضل.
دلف إلى الداخل؛ متجهًا نحو أقرب مقعد قد قابله، لتتبعه رحمة بعدما تركت الباب مفتوحًا؛ حتى لا تكون معه بمفردها، ليتابع حركتها بنظراته الساخرة وهو يقول:
= غريب، وإنتِ مِن إمتى بيهمك كلام الناس علشان تسيبي الباب مفتوح؟!
رفعت عيناها إليه وقد بدأ الغضب يتأجج بداخلها، لتحدثه وهي تحاول كتمان ما بداخلها:
= دي الأصول يا عم فرج.
_ لا وإنتِ بتعرفي في الأصول أوي.
تساءلت هي وقد اندمج غضبها بصدمة:
= قصدك إيه؟
أجابها بنبرته الساخرة:
= قصدي إن واحدة زيك باعت شرفها بالرخيص مستحيل تعرف يعني إيه كلمة أصول.
انتفضت رحمة واقفة قابلته وقد وصل غضبها إلى أقصاه قبل أن تهدر به بعنف:
= اخرس، قطع لسانك، إنتَ اتجننت يا راجل؟! إنتَ جاي تتبلى عليّ؟!
وقف فرج قابلتها وقد انتقل غضبها إليه، ليهدر بغضب مماثل:
= اتجننت! آه، ما أنا هستنى إيه مِن واحدة زيك ماشية تبيع لحمها للي يدفع أكتر؟ أنا مبتبلاش عليكِ يا ست رحمة، أنا بقول اللي الناس كلها بتقوله واللي علشانه جيت انهارده.
نظرت إليه بتساؤل قبل أن يكمل وهو يرمقها باستحقار:
= أنا جيت انهارده؛ علشان أبلغك إن ابني هيتجوز في الشقة دي، يعني بهدوء تلمي هدومك وتغوري مِن هنا أحسن ما أطلعك منها بالبوليس.
ارتسمت الصدمة فوق ملامحها وهي تتساءل:
= طيب أنا هروح فين؟
أجابها بلا مبالاة، وما زال يرمقها بنظراته المستحقرة:
= ميخصنيش، المهم يومين وتسيبي الشقة بالذوق بدل ما تطلعي بحكم محكمة، سلام يا … يا آنسة رحمة.
ألقى بجملته، ثم خرج تاركًا خلفه جسدًا بلا روح، ألقت بجسدها فوق المقعد تنظر أمامها بضياع، لا تعرف ماذا ستفعل، أو أين ستذهب، الجميع هنا أصبح يحتقرها، لا يوجد مَن يقف بصفها، أو ينصفها، هي حقًا يجب أن تذهب، ولكن إلى أين؟ هي لا تعرف مكانًا آخر لتذهب إليه، لا يوجد لديها أحد لتستنجد به؛ الجميع خذلها وتركوها وحيدة، إذًا ماذا ستفعل الآن؟
بدأت تبكي بشدة وهي تُلقي بالكثير مِن الدعوات على وائل، ذلك الذي خذلها، وجعل مِن شرفها علكة على كل لسان.
يتبع الفصل الثالث اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية للقدر اقوال اخري" اضغط على اسم الرواية