رواية للقدر اقوال اخري الفصل الخامس والأخير بقلم فاطمة مصطفي وايمان جمال
رواية للقدر اقوال اخري الفصل الخامس والأخير
ترجلت مِن سيارة الأجرة بعدما أعطته بعض المال؛ ليذهب فور أن أغلقت الباب تاركًا إياها في تلك المنطقة المنعزلة ولا يوجد بها أي شخص.
سارت قليلًا والخوف قد تملك منها؛ لتقبض على حقيبتها تستمد منها القوة الوهمية وهي تسير حيث وصف لها في مكالمته صباحًا حتى وصلت إلى مكان به الكثير مِن العمارات تحت الإنشاء ولا يوجد بها عمّال.
ابتلعت ما بجوفها بصعوبة فور أن وقعت عيناها على بسمته الماكرة التي كان يتابعها بها حتى توقفت أمامه؛ ليستقبلها بنبرته الساخرة قائلًا:
= يا أهلًا بمدام رحمة، وأنا أقول المكان نوّر ليه؟
تأففت رحمة بضيق؛ فهي تريد التخلص مِن هذه المقابلة سريعًا؛ حتى تستطيع العودة قبل عودة خالد من عمله.
رفعت نظراتها ترمقه بغضب قبل أن تحدثت قائلة:
= إنتَ عاوز إيه تاني؟ مش كفاية اللي عملته؟!
زفر وائل بملل، ثم تحدث بلا مبالاة:
= بقولك إيه؟ أنا مش جايبك هنا علشان تعاتبيني، أنا جايبك؛ علشان محتاج منك خدمة، وبعدها مش هتشوفي وشي تاني.
التمعت عيناها بلهفة فور أن استمعت لجملته الأخيرة؛ لتتساءل بلهفة بها لمحة رجاء:
= عاوز إيه؟ وأنا مستعدة أنفذلك اللي إنتَ عاوزه بس تحل عني.
عادت الابتسامة الماكرة تغزو وجهه مجددًا وهو يتحدث بنبرة خبيثة:
= المحروس جوزك …
تتعمد ترك جملته معلقة؛ ليتشتت تفكيرها في محاولة لفهم مقصده قبل أن يدب القلق في أوصالها وهي تتساءل:
= ماله؟
أجابها بنفس النبرة، وتلك الابتسامة التي توترها ما زالت تعتلي شفتيه:
= هو داخل مناقصة مع ناس حبايبي، أنا بقى عاوزك تجيبيلي نسخة مِن ورق المناقصة اللي جوزك مجهزه وبس، شُفتِ بسيطة ازاي؟
اتسعت حدقتيها بصدمة قد احتلت ملامحها فور أن وقع حديثه على أذنيها؛ ليكون كصاعقة ضربت عقلها تشله عن التفكير.
رفعت عيناها له فور أن استوعبتك مدى حقارة هذا الشخص الذي أمامها وملامح الغضب تعتلي وجهها بوضوح؛ لترمقه بنظرات استحقار وهي تهتف بغضب:
= إنت أقذر إنسان شفته في حياتي، إنت إيه؟ مش مكفيك اللي عملته فيّ زمان جاي دلوقتي وتخرب حياتي! عاوزني أخون ثقة جوزي؟!
زفر وائل بضجر بدأ يستولي عليه مِن حديثها المتكرر؛ ليتشدق بضيق:
= يوه، إنتِ مبتزهقيش؟ كل شوية اللي عملته اللي عملته؟! عملت إيه لزنك ده؟
تطلعت إليه بصدمة دامت للحظات قبل أن تهتف بغضب حارق:
= عملت إيه؟! أقولك أنا عملت إيه، سبتني يوم فرحي ومشيت، ومهتمتش حتى لكلام الناس، ولا لشرفي اللي بقى على كل لسان، أنا اضطريت أسيب البيت والمكان كله وأمشي، إنتَ دفعتني تمن غلطة إنتَ ارتكبتها.
زفر عدة مرات محاولًا التحكم بأعصابه؛ حتى لا يخسر ذلك المال الذي سيأتيه مِن خلف تلك الحمقاء؛ ليهتف بسخرية مِن حديثها:
= بقولك إيه؟ إنتِ هتعمليهم عليّ؟! أنا أساسًا كنت شاكك فيكِ؛ واحدة سابت خالها ورجعت تقعد في شقة أبوها بعد ما بقت على سن جواز، ليه؟ ها؟! أنا أقولك ليه، علشان تلف على حل شعرها حلو، وأهو تعيش أيامها وتقضيها، وأكيد وقّعتِ خالد مدكور وهددتيه بالفضيحة لو ما اتجوزكيش، وأهو تلمي قرشين ينفعوكِ، ودلوقتي جاية تعملي عليّ دور الشريفة!
لم تشعر بنفسها إلّا وهي ترفع يدها؛ لتسقطها فوق وجنته في صفعة مدوية دوى صداها في ذلك الفراغ المحيط بهم؛ لتقتص منه لشرفها الذي لوّثه بأفعاله قبل كلماته، شعرت أنها اقتصت لكرامتها التي دعسها بحذائه؛ ليكسرها ظنًّا منه أنها ستخضع، ولكن هيهات؛ ستريه مَن تكون ولن ترحمه.
ارتفع صوتها تهتف بغضب ليدوي في الفراغ الذي يملأ المكان:
= اخرس يا حيوان، أنا أشرف منك ومِن الزبالة اللي تعرفهم، وإذا كان على خالد أنا أفضّل إنه يعرف الحقيقة على إني أخونه بالطريقة القذرة اللي زيك دي.
رفع نظراته؛ ليطالعها بغضب شديد قد اعتلى قسمات وجهه؛ ليجعله كوحش كاسر يكاد يفتك بها بنظراته المرعبة وهو يتحسس وجنته أثر تلك الصفعة قائلًا:
= آه يا زبالة، بتمدي إيدك عليّ! والله لأندمك على اليوم اللي اتولدتِ فيه.
رفع يده ينوي انزالها فوق وجنتها؛ كَـرَد على ما فعلته؛ لتعود هي اللي الخلف بذعر، وعيناها مثبتة فوق يده التي تكاد تصفعها.
وضعت يدها أمام وجهها سريعًا؛ تتفادى تلك الصفعة التي طال انتظارها وأكثر ما أثار تعجبها هو صمت وائل؛ لترفع يدها عن وجهها ببطء قبل أن تشهق بفزع وهي تستمع إلى صراخ وائل الذي ارتفع يملأ المكان فور أن تلقى تلك اللكملة التي أطاحت به أرضًا.
وقفت تنظر لذلك الذي يرمق ذلك المتألم بغضب حارق بصدمة قد اعتلت ملامحها بوضوح؛ لتخرج حروف اسمه حروف شهادة تنطقها بروح تُسلب مِن جسدها الذي يُزف إلى الموت:
= خالد!
لم يستمع إليها، بل كل نظره كان معلقًا على ذلك الحقير المرمي أرضًا يتأوه بألم، وذكرى يده التي كادت أن تصفعها ما زالت تتردد في ذاكرته؛ لينحني فوقه يكيل له اللكمات وسط ذهول رحمة التي صُدمت مِن رؤيته الآن.
ابتعد عنه بعدما فقد الوعي مِن كثرة الضربات التي تلقاها؛ ليرمقه بنظرات احتقار قبل أن يلتفت إلى تلك التي انتفضت فور رؤيتها لنظراته الشرسة؛ لتحاول الحديث فخانتها حروفها؛ لتهرب تاركة إياها في مواجهة هذا الأسد الغاضب.
أطبق على معصمها بقوة جعلتها تصرخ بألم، ولكنه لم يبالِ؛ ليسحبها خلفه، ثم فتح باب السيارة ليدفعها إلى الداخل، بينما اتجه إلى مقعد السائق؛ ليعتليه بصمت دام طوال طريق عودتهم.
حاولت الكلام مرارًا، ولكن تعابير وجهه المتجهمة جعلتها تصمت مجبرة لحين رؤية ردة فعله والتي استنتجتها مِن نظراته الغاضبة التي تقسم أن يطلقها عليها ستقتلها حتمًا.
وصلت السيارة أسفل البناء؛ ليترجل منها تبعته هي في صمت؛ لتتم رحلة الصعود في صمت تام حتى وصلا إلى شقتهم؛ ليفتحها بمفتاحه، ثم دلف ليغلق الباب بعد دلوفها الصامت، ليلقي بمفاتيحه فوق الطاولة؛ لتصدر صوتًا جعلها تنتفض في مكانها وهي تتراجع للخلف خطوات قليلة؛ حتى تتفادى نظراته الشرسة قبل أن تستمع لصوته الذي خرج كفحيح أفعى تبث سمها؛ لتقتل أي ذرة شجاعة بداخلها:
= مين ده يا رحمة؟
حاولت الكلام؛ لتبرر له، فخرجت حروفها خافتة متلعثمة:
= خالد ممكن …
هدر بغضب جعلها تنتفض في مكانها بذعر:
= ردي عليّ، مين الحيوان ده؟ وتعرفيه منين؟
أخفضت نظراتها عنه؛ تحاول استجماع شتات نفسها حتى لا تسقط تلك الدموع الحبيسة بداخلها بالتحرر؛ ليجبرها هو على التحرر، تسيل على وجنتيها مستنجدة برحمته حين قبض على معصمها بقوة وهو يجذبها نحوه؛ لتكون قابلته قائلًا بغضب وغيرة عمياء:
= انطقي يا رحمة، متجننيش.
أجابته رحمة بألم في محاولة للتخلص مِن قبضته:
= ده يبقى طليقي.
خفّت قبضة يده فوق معصمها، ولكنه لم يتركها، بينما اعتلت الصدمة قسمات وجهه في محاولة لاستيعاب ما هتفت به للتو، ولم يأخذ الأمر منه ثواني حتى استوعب جيدًا هذا؛ ليغلف الهدوء ملامحه وهو يسحبها إلى غرفته؛ حتى لا يتجمع السكان بالخارج على صوتهم؛ ليدخل مغلقًا الباب خلفه، ثم دفعها؛ لتجلس على الفراش، بينما سحب هو إحدى الكراسي؛ ليجلس قابلتها، ثم تحدث بجمود عكس ما بداخله مِن غيرة تكاد تفتك به:
= إنتِ اتجوزتيه إمتى؟ وليه سبتيه؟
رفعت نظراتها عن معصمها الأحمر أثر قبضته القوية فوقه، قد حاولت الانشغال به لكنها لم تستطع، لتلتقي بعسليته التي سادها السواد القاتم؛ لتعكس لها ما يشعر به الآن، تخبرها أن الكذب في هذه الحالة لن يكون في صالحها.
تنهدت بتعب؛ لتخرج نبرتها خافتة مصحوبة بحزن يعكس ما بداخلها مِن ألم وهي تقص عليه ما حدث منذ تلك الليلة حتى اليوم الذي التقت به، بينما كان يستمع إليها بملامح مبهمة حاولت فهمها، ولكنها كانت مُهمّة صعبة عليها.
أنهت حديثها ليعم الصمت المكان، أخفضت هي نظرها؛ لتتفادى تلك النظرات المبهمة؛ فهي تعبت مِن المحاولة، بينما تابعها هو بتلك النظرات وكلامها يدور بعقله للحظات مرت عليها كالدهر، حتى تفاجأت به يقف على قدميه متجهًا إلى الخارج بصمت ومنه إلى خارج المنزل كليًّا تاركًا إياها تعاني مِن فقدانه بعدما شعرت بحبه وحنانه أخيرًا.
^_______________________^
جلست تضم ركبتيها إليها تحاوطهم بذراعيها وهي تنظر أمامها بشرود أصبح يلازمها منذ تلك الليلة التي تركها بها وذهب دون حتى أن يلقي بأي كلمة عتاب، ومنذ ذلك الوقت وهو يتجاهلها تمامًا، مهما حاولت الحديث كان يتركها؛ ليتمدد فوق الأريكة مريحًا ذاته مِن عناء اليوم، متجاهلًا تذمرها على نومه عليها؛ ليكون التجاهل سيد علاقتهما طوال الأسبوعين المنصرمين.
حمدت الله كثيرًا أن عمر كان عند جدته حينها؛ حتى لا يرى مظهر والده الذي كان مرعبًا حتى عليها.
حتى أن وائل لم يحاول الاتصال بها منذ ذلك اليوم، وهذا ما أقلقها؛ فربما يحيك شيئًا؛ لينتقم مِن خالد على ما فعله به، ولكنها لم تجرؤ على السؤال؛ حتى لا تزيد المسافات بينها وبين زوجها أكثر.
انتفضت بخفة فور أن فُتح باب الغرفة؛ ليدلف إلى الداخل بملامحه المرهقة؛ ليتجه فورًا إلى المرحاض؛ ليأخذ حمّامه الدافئ الذي يساعده على الراحة كعادته طوال الأسبوعين الماضيين.
لتقرر هذه المرة التحدث معه حتى وإن غضب عليها؛ فهي قد عزمت على إنهاء معاملته الجافة اليوم وبأي طريقة.
انتظرت فترة ليست بطويلة حتى خرج وهو يجفف شعره بالمنشفة، بينما يرتدي ملابس النوم الذي ظن أنه سيحصل عليه فور خروجه، ولكنه لم يدرِ عن تلك التي كانت له بالمرصاد.
ألقى المنشفة فوق الكرسي، ثم اتجه نحو الأريكة؛ ليعتليها كعادته، ولكنه وجدها تجلس فوقها بأريحية وهي تنظر إليه بملامح هادئة منتظرة طلبه منها بأن تبتعد عن مكان نومه بلهفة.
ولكنه خالف توقعاتها حين اتجه نحو الفراش بهدوء تام تاركًا إياها تنعم بالأريكة كما تشاء، فلم يأخذ الأمر منها ثواني لتستوعب ابتعاده هذا، فاندفعت نحوه تمسك بيده موقفة إياه قبل أن يعتلي الفراش.
ليزفر بضجر وهو يلتفت إليها ينوي إبعادها، ولكنه تفاجأ بها تتحدث بغضب طفولي لا يليق بحالتهم أبدًا:
= في إيه يا عم إنتَ؟ شايفني شجرة قدامك؟! على فكرة أنا بني آدمة زيي زيك، لولا بس ربنا فتحها عليك وطولت شوية، لكن أنا بردو إنسانة بتكلم زيك.
تطلع إليها بدهشة للحظات يحاول استيعاب كلماتها الخرقاء وهو يكبت ابتسامته بصعوبة قبل أن يحاول إبعاد يدها المتمسكة به بقوة؛ ليزفر بضجر وهو يقول:
= عاوزة إيه يا رحمة؟
أخفضت نظرها إلى الأسفل بخجل محاولة إيجاد الكلمات المناسبة لهذا الموقف حتى تحدثت أخيرًا بنبرة خافتة:
= أنا آسفة يا خالد، إنتَ ليك حق تزعل، بس أنا خبيت عليك؛ علشان كنت خايفة.
عقد حاجبيه بتعجب مِن حديثها وهو يتساءل:
= خايفة مِن إيه؟
أجابته بحزن قد غلّف قلبها منذ زمن:
= خايفة متصدقنيش زي ما عيلتي مصدقتش، خايفة تسيبني زي ما همّ سابوني، وقتها صدقني كنت هموت يا خالد.
وضع يده أسفل ذقنها؛ ليرفع غابتها إلى ذهبيته سالبًا أنفاسها تمامًا وهو يتحدث بهدوء معاتبًا إياها:
= بس أنا مش ظالم أو تفكيري قديم علشان أكون زيهم، همّ مفكروش يسمعوكِ؛ علشان همّ خلاص اقتنعوا بفكرة واحدة ومش عاوزين يعرفوا الحقيقة، أنا مش كدا يا رحمة، وأظن إنك قضيتِ معايا وقت كويس يعرفك شخصيتي كويس.
أومأت له بملامح حزينة وهي تخفض نظرها مجددًا قبل أن تتحدث بحزن:
= إنتَ معاك حق، وأنا كنت ناوية أقولك كل حاجة، وكنت هتقبّل ردة فعلك حتى لو كانت البعد، أحسن مِن إني أنفذ اللي كان طلبه مني.
ابتسم خالد بخفة وهو يرفع وجهها إليه مجددًا؛ ليحدثها بنبرة حنونة:
= وأنا كنت واثق فيكِ يا رحمة، ومتقلقيش أنا مش زعلان منك، كل اللي كان مضايقني إنك خبيتِ عليّ واحنا لازم نبني علاقتنا على الثقة، كان لازم تثقي فيّ وتصارحيني بكل حاجة، ممكن؟
أومأت له بابتسامة واسعة قد غزت وجهها لتنيره مجددًا، ثم تحدثت قائلة:
= أوعدك إني مش هخبي عنك حاجة تاني …
قطعت حديثها وهي تتذكر ذلك المدمر كما لقبته، تتساءل بقلق قد غلّف سعادتها:
= بس وائل هنعمل معاه إيه؟ ده مش هيسكت بعد اللي إنتَ عملته فيه.
تنهد خالد بهدوء، ثم أجابها ببساطة:
= مش هيقدر يعمل حاجة؛ لإنه ببساطة بقى في السجن.
ضاقت المسافة بين حاجبيها لتتساءل بتعجب:
= سجن! ليه؟
أجابها خالد بنفس النبرة:
= كلمت ناس حبايبي في الداخلية، وطلبت معلومات عنه، وطلع إنه ناصب على ناس كتير، ويعتبر أنا عملت خدمة للوطن، وسلمته للبوليس، ومش هياخد أقل مِن 15 سنة سجن.
شهقت بخفة واضعة يدها فوق ثغرها تحاول استيعاب ما قاله وهي مَن ظنت أن الله يعاقبها، اتضح أنه أنقذها مِن بلاء كادت أن ترمي نفسها به، كم كان الله رحيمًا بها حين أنقذها منه ومِن قذارته، لتحمد الله بداخلها كثيرًا تشكره على إنقاذه لها.
رفعت نظرها إلى خالد ترسم ابتسامة واسعة على ثغرها قبل أن تتحدث بسعادة:
= إنتَ مش عارف إنتَ ريحت قلبي ازاي، بجد شكرًا يا خالد.
اقترب منها قليلًا؛ ليفصل تلك المسافة بينهما مخفضًا وجهه؛ ليكون قابلتها وهو يتساءل بمكر:
= في واحدة بردو تشكر جوزها؟!
اعتلى التوتر ملامحها، لتبعد نظراتها عنه وهي تشعر بحرارة وجنتيها التي كساها اللون الأحمر مِن شدة خجلها بقربه.
لتبتعد خطوة إلى الوراء وهي تحاول تجميع شتات نفسها قبل أن تتساءل محاولة تغيير الموضوع:
= هو إنتَ عرفت توصلّي ازاي؟
ابتسم خالد بخفة؛ ليجيبها على سؤالها متقبلًا تغيرها هذا حتى لا يخجلها أكثر:
= رجعت مِن الشغل بدري وشفتك وإنتِ نازلة، فاستغربت؛ إنتِ مقولتليش إنك خارجة، فمشيت وراكِ لحد ما وصلتِ، وبعدين الباقي إنتِ عارفاه.
أومأت له بخفوت قبل أن يتحول بدهشة وهي تتابعه يتجه نحو الأريكة يعتليها؛ ليغمض عينيه واضعًا معصمه فوقهم ليستعد للنوم وهو يتحدث بتعب:
= جهزي نفسك؛ علشان هنروح مشوار مع بعض بكرا.
كادت أن تسأله عن هذا، ولكن انتظام أنفاسه الذي دلّ على وقوعه أسيرًا للنوم الذي انتشله مِن تعب اليوم هو مَن جعلها تتراجع؛ لتتركه يرتاح تاركة لمخيلتها العنان في تخمين ما سيحدث في الغد.
^_______________^
أخذت نفسًا عميقًا تحاول به تهدئة ضربات قلبها التي أخذت تدق بعنف عن المعتاد وهي تترجل مِن السيارة؛ لتقف في مقابل هذا المنزل الذي رفض استقبالها مِن قبل.
تنقلت بأنظارها بين هؤلاء الأشخاص الذين فور دخولها إلى هذا المكان، ولم تتركها أعينهم؛ منبهرين بهذا الغناء الذي بدا عليها وهي التي ذهبت تمسك بحقيبة نصف ممتلئة؛ لتبتلع ما بجوفها بتوتر شديد قد بدا على ملامحها البيضاء؛ لتظهر ما بداخلها بوضوح.
انتفضت بخفة فور أن شعرت بيده التي أمسكت بخاصتها؛ لتلتفت إليه بنظراتها الخائفة؛ ليطمئنها بنظراته الهادئة وابتسامته الحنونة وهو يجذبها خلفه إلى ذلك البيت الذي أصبحت تبغضه وبشدة، سارت معه كالمغيبة، وكيف لا وقد تملكتها الدهشة مِن نظرات الجميع إليها؛ فهي ليست نظرات بغض أو استحقار كنظراتهم لها حين ذهبت، بل نظرات غريبة لأول مرة تراها بأعينهم وهذا ما أثار دهشتها.
دلفت معه بخطوات بطيئة؛ لتتوقف حين توقف هو، يدق جرس الباب منتظرًا خارجه قليلًا، تشبثت به أكثر؛ محاولة بث الطمأنينة بداخلها لوجوده بجانبها، ولكن كل هذا قد ذهب إدراج الرياح فور أن فُتح الباب؛ ليطل منه آخر شخص قد تود مواجهته الآن.
زادت مِن ضغط يدها فوق يده فور أن التفت إليها هذا الرجل الذي يبدو أنه في نهاية عقده الخامس، يطالعها بصدمة قد اعتلت قسمات وجهه بوضوح؛ لتخفض نظرها محاولة كبت دموعها؛ تعد نفسها للاستماع إلى إهانته لها وعتابها عن القدوم إلى هنا بعد ما حدث، إلّا أنها تفاجأت به يجذبها مِن بين يدي خالد؛ ليعانقها بحنان واشتياق وهو يهتف بابتسامة واسعة:
= رحمة، وحشاني أوي يا بنتي.
تجمدت في مكانها، وقد شلّت الصدمة تفكيرها لتصبح كالدمية التي أصبح يحركها كما يشاء.
أهذا هو نفس الرجل الذي طردها مِن منزله دون أن يستمع لبكائها أو لتوسلاتها؟! أهذا هو نفس الرجل الذي غلّفت القسوة قلبه؛ ليرميها خارج منزله؟! يدعوها بمجلبة العار عليهم! لا، بالتأكيد ليس هو؛ فهذا الحنان الذي يعانقها به الآن بالتأكيد مزيف؛ لوجود زوجها معها … زوجها الذي لا تعرف لمَ أحضرها إلى هنا أو كيف عرف هذا المكان مِن الأساس.
كادت أن تبعده هي بنفسها، ولكنه أنقذ نفسه حين أبعدها، وما زالت الابتسامة تزين ثغره؛ ليتجه نحو الباب يفتحه على مصرعيه وهو يدعوهم للدخول متجهًا نحو الداخل؛ يزف خبر مجيئهم إلى عائلته، بينما أمسك خالد بيد رحمة وهو يجذبها خلفه، لكنها توقفت متخشبة في مكانها وقد أبت الدخول إلى هذا المنزل مجددًا.
وقد اتضح له هذا مِن نظراتها النافرة التي لاحظها بعينيها حين التفت إليها؛ ليقابل ذلك النفور بنظراته المشجعة وهو يحثها بنظراته على الوثوق به واتباعه، لتمتثل في النهاية إلى طلبه، تخطو داخل هذا المنزل بخطوات بطيئة مترددة بعد عامين مِن تركه.
جلس كلًّا منهم في غرفة الصالون التي أُعدت جيدًا؛ لاستقبالهم بعد ترحاب حار مِن عائلة هذا الرجل بتلك الغائبة عنهم، لتنقل هي أنظارها بينهم بدهشة شديدة وقد أصابها الفضول في معرفة سر هذا التغير الغريب؛ فآخر مرة قد تواجدت هنا تلقّت كميّة إهانات لم تحصل عليها يومًا؛ بسبب ظنهم السوء بها، والآن يعاملونها بتلك الطريقة التي لم ترها حتى وهي تعيش معهم في هذا المنزل! حقًا هناك سر في هذا الأمر ويجب أن تعرفه.
التفتت نحو خالها المدعو بـ«محمود» ثم تساءلت بجدية مقاطعة حديثهم المرح معهم والذي اندمج به خالد:
= في إيه يا خالي؟ مالك؟ طريقتك متغيرة ليه عن آخر مرة؟! مش عوايدك تدخلني بيتك بعد اللي حصل.
صمت محمود وهو يخفض نظره إلى الأسفل باحراج منها؛ فهي محقة في أي شيء تفعله معه بعد ما فعله معها.
بينما رمقها خالد بنظرات غاضبة؛ ينهرها عن تلك الطريقة التي تحدثت بها مع خالها، ولكنها لم تهتم بها بل صبّت كل تركيزها على محمود الذي تحدث بعد فترة صمت قصيرة مخرجًا نبرته خافتة بها ندم واضح:
= أنا ظلمتك يا رحمة، ظلمتك وافتريت عليكِ، وسيبتك في أكتر وقت كنتِ محتجاني فيه، بس ربنا رجعلك حقك وخدهولك مِن كل حد ظلمك.
تطلعت إليه بدهشة قد زادت أضعافًا بعد ذلك الحديث الذي تفوه به، ليكمل هو بنبرة حزينة قد غلفها الندم بعدما لاحظ نظرات التساؤل بعينيها:
= عم وائل عرف يوصله بعدما هرب مع بنته، بعدما فضل سنة يدور عليهم وفي الآخر لقاهم وراح أخد بنته، ورفع قضية خلع على وائل، فهو مسكتش وجه هنا الحارة وعملّها فضيحة، وقال قدام الناس كلها إنها هربت معاه في ليلة الفرح بس عمه وقتها مرضاش يديهاله بردو، وكسب قضية الخلع متعرفيش ازاي، ومِن ساعتها ومشفناش وش وائل ده خالص، بس كل الناس عرفت براءتك يا رحمة، ومِن وقتها وأنا بدور عليكِ لحد ما الباشمهندس الله يكرمه اتصل عليّ مِن يومين وقالّي إنكم جاينلي انهارده، متصدقيش فرحتي كانت عاملة ازاي لما عرفت إنك اتجوزتي، وإن ربنا انتقم مِن وائل ده.
يا إلهي كم أنّ الله رحيم بعباده، قد عوضها بصديقتها حين بحث عن السند في المحنة، ثم خالد حينما احتاجت لمَن ينقذ شرفها مِن أن يكون علكة على لسان الآخرين، والآن صدفة قد جعلت الجميع يعلم ببراءتها، حقًا إن الله كان كريمًا جدًّا معها.
«فالحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه.»
ارتسمت ابتسامة بسيطة فوق وجهها فور أن هتفت زوجته وابنتيه بالإعتذارات الكثيرة طامعين في كرمها حتى تسامحهم، بينما تحدث خالها باعتذار وهو يخفض نظره بخجل؛ لتلتفت إلى زوجها تأخذ منه المشورة في هذا القرار؛ ليقترب منها هامسًا لها بابتسامة بسيطة:
= المسامح كريم، خليكِ اسم على مُسمى يا رحمة.
أومأت له بخفة قبل أن تقف على قدميها؛ لتتجه نحو خالها تجلس بجانبه، ثمّ أمسكت بيده تقبّلها باحترام قبل أن ترفع نظرها إليه تحدثه بصدق:
= وأنا مقدرش أزعل منك يا خالو، ده إنتَ الخير والبركة بردو.
أدمعت عيناه بدموع الندم قبل أن يستقبلها بين أحضانه بحنان قد نافس حنان الأب في مقامه، وقد غلفته السعادة بمسامحتها، يشكر الله على وجود فتاة كرحمة بحياته.
بينما تنهدت هي بارتياح لكرم الله عليها، وحصولها على هذا الحنان الذي اشتاقت إليه كثيرًا؛ تاركة الماضي بكل جوارحه خلفها؛ بادئة صفحة بيضاء سيخططها مستقبلها بحروف ذهبية تلمع بسعادتها التي بدأت مِن هذا اليوم.
^__________________^
مرّ أسبوعان على تلك الأحداث، كانوا مِن أجمل أيام حياتها حقًا؛ كانت تقضي أوقاتًا جميلة مع خالد وعمر وعائلة خالد وسمية تلك الفتاة التي اتضح أنها ألطف ما يكون، وقد أخذت مِن المرح نصيبًا كبيرًا، إلّا أنّ عيبها الوحيد هو التسرع في أخذ القرارات وهذا ما يُغضب البعض.
*في إحدى الأيام*
عاد خالد مِن العمل مساءً بعد أن أنهى أعماله ليتفاجأ بالظلام الدامس الذي كان يغلف المنزل، هتف باسم رحمة أو عمر، ولكن لم يجيبه أحد، لينتابه القلق متجهًا سريعًا نحو مقبس الكهرباء؛ ليضيئه قبل أن يلتفت خلفه بفزع على صوت صراخ عمر ورحمة اللذان هتفوا بسعادة:
= كل سنة وإنتَ طيب.
تنهد خالد بارتياح فور رؤيتهم سالمين أمامه، لتنتابه الدهشة فور رؤيته لتلك الطاولة المزينة تعتليها كعكة بالكريمة كما يحبها هو، بينما وقف خلفه عمر ورحمة متابعين تقدمه نحوهما بابتسامة واسعة.
توقف أمامهما وهو ينظر إلى كل هذا بدهشة، ثم رفع نظره إليهما متسائلًا:
= إيه ده كله؟! أنا عيد ميلادي لسة بكرا.
ضحكت رحمة بخفة وهي تلتفت نحو عمر الذي طالعها بابتسامة قبل أن يجيب على سؤال والده:
= الساعة دلوقتي 12 يا بابا، واحنا حبينا نكون أول ناس تقولك كل سنة وإنتَ طيب، ثم إن بكرا في بارتي كبيرة وكل عيلتنا معزومين.
رمقهما بعدم تصديق وابتسامة سعيدة تغزو ثغره، لتمسك رحمة بالسكين تمدها إليه وهي تحدثه بابتسامة:
= اتفضل، يلّا طفي الشمع وقطع التورتة.
تحدث عمر سريعًا بعدما أمسك خالد بالسكين:
= ومتنساش تتمنى أمنية.
أغمض خالد عيناه لثواني قبل أن يفتحهما مخرجًا أنفاسه؛ لكي يطفئ كل الشموع التي أشعلتهم رحمة فور إضائته للأنوار.
ليصفق له الاثنين قاضين وقتًا ممتعًا معًا قبل أن يستأذن عمر متجهًا نحو غرفته؛ لينعم بنوم هادئ، بينما اصطحب خالد زوجته إلى غرفتهم التي فور أن أغلقها خلفهم حتى حررت رحمة نفسها مِن قيد ذلك الروب الذي كانت ترتديه فوق ثياب نومها؛ لتزيحه عنها ملقية إياه فوق الفراش، وليتها لم تفعل.
فقد تجمد في مكانه فور أن وقعت عيناه على ذلك الفستان الأحمر الذي كانت ترتديه أسفل الروب؛ والذي يظهر أكثر ما يخفي، ليبتلع ما في جوفه بصعوبة محاولًا إشاحة نظره عنها، ولكنها لم تكن تنوي على خير حينما نادته بصوتها الناعم تجبره على النظر إليها؛ ليتجه نحوها كالمسلوب حتى توقف أمامها وقد أيقن أن الليلة لن تمر على خير، ولمَ لا؟! فهو له كامل الحرية الآن، وهي مَن دعته بحديثها ونظراتها التي أظهرت بداخلهم عشقها له، لتسلبه مِن هذا الواقع هاربة به إلى الخيال الجميل.
خرجت حروف كلماته بمكر جعل مِن وجنتيها كتلتين مشتعلتين وهو يحاوط خصرها مقربًا إياها منه:
= واضح إنك ناوية تخاوي عمر الغلبان ده.
ابتسمت بخجل مخفضة نظرها وهي تحدثه بارتباك محاولة التخفيف مِن رهبة الموقف:
= خالد، هو إنتَ اتمنيت إيه؟
وضع يده أسفل ذقنها؛ ليرفع عيناها إليه سالبًا ما تبقى مِن أنفاسها؛ لتنظر إليه كالمغيبة وهي تستمع إلى رده:
= اتمنيتك يا رحمة، اتمنيت تفضلي معايا لآخر أيامي، وكل ما أكبر كل ما حُبك يكبر معايا … بحبِك.
وكأن فراشات العشق قد طارت خصيصًا مِن قلبها؛ لترفرف بسعادة قد اكتسبتها مِن كلمته التي جعلتها ترفرف بسعادة بين تلك الفراشات؛ لتردف بكلمة كانت كفيلة لتوحي ما بداخلها مِن عشق:
= بحبَك.
استند بجبهته فوق خاصتها متنهدًا بارتياح فور أن استمع إلى تلك الأحرف التي خرجت كسنفونية موسيقية جميلة اللحن؛ ليردف قائلًا بعشق قبل أن يسلبها إلى عالمه الخاص:
«كان الطريق إليك صعبًا، ولكنه لم يكن مستحيلًا، أنا ممنون للقدر الذي ألقى بكلمته الأخيرة؛ ليجمع قلبين قد طال فراقهما.»
سارت قليلًا والخوف قد تملك منها؛ لتقبض على حقيبتها تستمد منها القوة الوهمية وهي تسير حيث وصف لها في مكالمته صباحًا حتى وصلت إلى مكان به الكثير مِن العمارات تحت الإنشاء ولا يوجد بها عمّال.
ابتلعت ما بجوفها بصعوبة فور أن وقعت عيناها على بسمته الماكرة التي كان يتابعها بها حتى توقفت أمامه؛ ليستقبلها بنبرته الساخرة قائلًا:
= يا أهلًا بمدام رحمة، وأنا أقول المكان نوّر ليه؟
تأففت رحمة بضيق؛ فهي تريد التخلص مِن هذه المقابلة سريعًا؛ حتى تستطيع العودة قبل عودة خالد من عمله.
رفعت نظراتها ترمقه بغضب قبل أن تحدثت قائلة:
= إنتَ عاوز إيه تاني؟ مش كفاية اللي عملته؟!
زفر وائل بملل، ثم تحدث بلا مبالاة:
= بقولك إيه؟ أنا مش جايبك هنا علشان تعاتبيني، أنا جايبك؛ علشان محتاج منك خدمة، وبعدها مش هتشوفي وشي تاني.
التمعت عيناها بلهفة فور أن استمعت لجملته الأخيرة؛ لتتساءل بلهفة بها لمحة رجاء:
= عاوز إيه؟ وأنا مستعدة أنفذلك اللي إنتَ عاوزه بس تحل عني.
عادت الابتسامة الماكرة تغزو وجهه مجددًا وهو يتحدث بنبرة خبيثة:
= المحروس جوزك …
تتعمد ترك جملته معلقة؛ ليتشتت تفكيرها في محاولة لفهم مقصده قبل أن يدب القلق في أوصالها وهي تتساءل:
= ماله؟
أجابها بنفس النبرة، وتلك الابتسامة التي توترها ما زالت تعتلي شفتيه:
= هو داخل مناقصة مع ناس حبايبي، أنا بقى عاوزك تجيبيلي نسخة مِن ورق المناقصة اللي جوزك مجهزه وبس، شُفتِ بسيطة ازاي؟
اتسعت حدقتيها بصدمة قد احتلت ملامحها فور أن وقع حديثه على أذنيها؛ ليكون كصاعقة ضربت عقلها تشله عن التفكير.
رفعت عيناها له فور أن استوعبتك مدى حقارة هذا الشخص الذي أمامها وملامح الغضب تعتلي وجهها بوضوح؛ لترمقه بنظرات استحقار وهي تهتف بغضب:
= إنت أقذر إنسان شفته في حياتي، إنت إيه؟ مش مكفيك اللي عملته فيّ زمان جاي دلوقتي وتخرب حياتي! عاوزني أخون ثقة جوزي؟!
زفر وائل بضجر بدأ يستولي عليه مِن حديثها المتكرر؛ ليتشدق بضيق:
= يوه، إنتِ مبتزهقيش؟ كل شوية اللي عملته اللي عملته؟! عملت إيه لزنك ده؟
تطلعت إليه بصدمة دامت للحظات قبل أن تهتف بغضب حارق:
= عملت إيه؟! أقولك أنا عملت إيه، سبتني يوم فرحي ومشيت، ومهتمتش حتى لكلام الناس، ولا لشرفي اللي بقى على كل لسان، أنا اضطريت أسيب البيت والمكان كله وأمشي، إنتَ دفعتني تمن غلطة إنتَ ارتكبتها.
زفر عدة مرات محاولًا التحكم بأعصابه؛ حتى لا يخسر ذلك المال الذي سيأتيه مِن خلف تلك الحمقاء؛ ليهتف بسخرية مِن حديثها:
= بقولك إيه؟ إنتِ هتعمليهم عليّ؟! أنا أساسًا كنت شاكك فيكِ؛ واحدة سابت خالها ورجعت تقعد في شقة أبوها بعد ما بقت على سن جواز، ليه؟ ها؟! أنا أقولك ليه، علشان تلف على حل شعرها حلو، وأهو تعيش أيامها وتقضيها، وأكيد وقّعتِ خالد مدكور وهددتيه بالفضيحة لو ما اتجوزكيش، وأهو تلمي قرشين ينفعوكِ، ودلوقتي جاية تعملي عليّ دور الشريفة!
لم تشعر بنفسها إلّا وهي ترفع يدها؛ لتسقطها فوق وجنته في صفعة مدوية دوى صداها في ذلك الفراغ المحيط بهم؛ لتقتص منه لشرفها الذي لوّثه بأفعاله قبل كلماته، شعرت أنها اقتصت لكرامتها التي دعسها بحذائه؛ ليكسرها ظنًّا منه أنها ستخضع، ولكن هيهات؛ ستريه مَن تكون ولن ترحمه.
ارتفع صوتها تهتف بغضب ليدوي في الفراغ الذي يملأ المكان:
= اخرس يا حيوان، أنا أشرف منك ومِن الزبالة اللي تعرفهم، وإذا كان على خالد أنا أفضّل إنه يعرف الحقيقة على إني أخونه بالطريقة القذرة اللي زيك دي.
رفع نظراته؛ ليطالعها بغضب شديد قد اعتلى قسمات وجهه؛ ليجعله كوحش كاسر يكاد يفتك بها بنظراته المرعبة وهو يتحسس وجنته أثر تلك الصفعة قائلًا:
= آه يا زبالة، بتمدي إيدك عليّ! والله لأندمك على اليوم اللي اتولدتِ فيه.
رفع يده ينوي انزالها فوق وجنتها؛ كَـرَد على ما فعلته؛ لتعود هي اللي الخلف بذعر، وعيناها مثبتة فوق يده التي تكاد تصفعها.
وضعت يدها أمام وجهها سريعًا؛ تتفادى تلك الصفعة التي طال انتظارها وأكثر ما أثار تعجبها هو صمت وائل؛ لترفع يدها عن وجهها ببطء قبل أن تشهق بفزع وهي تستمع إلى صراخ وائل الذي ارتفع يملأ المكان فور أن تلقى تلك اللكملة التي أطاحت به أرضًا.
وقفت تنظر لذلك الذي يرمق ذلك المتألم بغضب حارق بصدمة قد اعتلت ملامحها بوضوح؛ لتخرج حروف اسمه حروف شهادة تنطقها بروح تُسلب مِن جسدها الذي يُزف إلى الموت:
= خالد!
لم يستمع إليها، بل كل نظره كان معلقًا على ذلك الحقير المرمي أرضًا يتأوه بألم، وذكرى يده التي كادت أن تصفعها ما زالت تتردد في ذاكرته؛ لينحني فوقه يكيل له اللكمات وسط ذهول رحمة التي صُدمت مِن رؤيته الآن.
ابتعد عنه بعدما فقد الوعي مِن كثرة الضربات التي تلقاها؛ ليرمقه بنظرات احتقار قبل أن يلتفت إلى تلك التي انتفضت فور رؤيتها لنظراته الشرسة؛ لتحاول الحديث فخانتها حروفها؛ لتهرب تاركة إياها في مواجهة هذا الأسد الغاضب.
أطبق على معصمها بقوة جعلتها تصرخ بألم، ولكنه لم يبالِ؛ ليسحبها خلفه، ثم فتح باب السيارة ليدفعها إلى الداخل، بينما اتجه إلى مقعد السائق؛ ليعتليه بصمت دام طوال طريق عودتهم.
حاولت الكلام مرارًا، ولكن تعابير وجهه المتجهمة جعلتها تصمت مجبرة لحين رؤية ردة فعله والتي استنتجتها مِن نظراته الغاضبة التي تقسم أن يطلقها عليها ستقتلها حتمًا.
وصلت السيارة أسفل البناء؛ ليترجل منها تبعته هي في صمت؛ لتتم رحلة الصعود في صمت تام حتى وصلا إلى شقتهم؛ ليفتحها بمفتاحه، ثم دلف ليغلق الباب بعد دلوفها الصامت، ليلقي بمفاتيحه فوق الطاولة؛ لتصدر صوتًا جعلها تنتفض في مكانها وهي تتراجع للخلف خطوات قليلة؛ حتى تتفادى نظراته الشرسة قبل أن تستمع لصوته الذي خرج كفحيح أفعى تبث سمها؛ لتقتل أي ذرة شجاعة بداخلها:
= مين ده يا رحمة؟
حاولت الكلام؛ لتبرر له، فخرجت حروفها خافتة متلعثمة:
= خالد ممكن …
هدر بغضب جعلها تنتفض في مكانها بذعر:
= ردي عليّ، مين الحيوان ده؟ وتعرفيه منين؟
أخفضت نظراتها عنه؛ تحاول استجماع شتات نفسها حتى لا تسقط تلك الدموع الحبيسة بداخلها بالتحرر؛ ليجبرها هو على التحرر، تسيل على وجنتيها مستنجدة برحمته حين قبض على معصمها بقوة وهو يجذبها نحوه؛ لتكون قابلته قائلًا بغضب وغيرة عمياء:
= انطقي يا رحمة، متجننيش.
أجابته رحمة بألم في محاولة للتخلص مِن قبضته:
= ده يبقى طليقي.
خفّت قبضة يده فوق معصمها، ولكنه لم يتركها، بينما اعتلت الصدمة قسمات وجهه في محاولة لاستيعاب ما هتفت به للتو، ولم يأخذ الأمر منه ثواني حتى استوعب جيدًا هذا؛ ليغلف الهدوء ملامحه وهو يسحبها إلى غرفته؛ حتى لا يتجمع السكان بالخارج على صوتهم؛ ليدخل مغلقًا الباب خلفه، ثم دفعها؛ لتجلس على الفراش، بينما سحب هو إحدى الكراسي؛ ليجلس قابلتها، ثم تحدث بجمود عكس ما بداخله مِن غيرة تكاد تفتك به:
= إنتِ اتجوزتيه إمتى؟ وليه سبتيه؟
رفعت نظراتها عن معصمها الأحمر أثر قبضته القوية فوقه، قد حاولت الانشغال به لكنها لم تستطع، لتلتقي بعسليته التي سادها السواد القاتم؛ لتعكس لها ما يشعر به الآن، تخبرها أن الكذب في هذه الحالة لن يكون في صالحها.
تنهدت بتعب؛ لتخرج نبرتها خافتة مصحوبة بحزن يعكس ما بداخلها مِن ألم وهي تقص عليه ما حدث منذ تلك الليلة حتى اليوم الذي التقت به، بينما كان يستمع إليها بملامح مبهمة حاولت فهمها، ولكنها كانت مُهمّة صعبة عليها.
أنهت حديثها ليعم الصمت المكان، أخفضت هي نظرها؛ لتتفادى تلك النظرات المبهمة؛ فهي تعبت مِن المحاولة، بينما تابعها هو بتلك النظرات وكلامها يدور بعقله للحظات مرت عليها كالدهر، حتى تفاجأت به يقف على قدميه متجهًا إلى الخارج بصمت ومنه إلى خارج المنزل كليًّا تاركًا إياها تعاني مِن فقدانه بعدما شعرت بحبه وحنانه أخيرًا.
^_______________________^
جلست تضم ركبتيها إليها تحاوطهم بذراعيها وهي تنظر أمامها بشرود أصبح يلازمها منذ تلك الليلة التي تركها بها وذهب دون حتى أن يلقي بأي كلمة عتاب، ومنذ ذلك الوقت وهو يتجاهلها تمامًا، مهما حاولت الحديث كان يتركها؛ ليتمدد فوق الأريكة مريحًا ذاته مِن عناء اليوم، متجاهلًا تذمرها على نومه عليها؛ ليكون التجاهل سيد علاقتهما طوال الأسبوعين المنصرمين.
حمدت الله كثيرًا أن عمر كان عند جدته حينها؛ حتى لا يرى مظهر والده الذي كان مرعبًا حتى عليها.
حتى أن وائل لم يحاول الاتصال بها منذ ذلك اليوم، وهذا ما أقلقها؛ فربما يحيك شيئًا؛ لينتقم مِن خالد على ما فعله به، ولكنها لم تجرؤ على السؤال؛ حتى لا تزيد المسافات بينها وبين زوجها أكثر.
انتفضت بخفة فور أن فُتح باب الغرفة؛ ليدلف إلى الداخل بملامحه المرهقة؛ ليتجه فورًا إلى المرحاض؛ ليأخذ حمّامه الدافئ الذي يساعده على الراحة كعادته طوال الأسبوعين الماضيين.
لتقرر هذه المرة التحدث معه حتى وإن غضب عليها؛ فهي قد عزمت على إنهاء معاملته الجافة اليوم وبأي طريقة.
انتظرت فترة ليست بطويلة حتى خرج وهو يجفف شعره بالمنشفة، بينما يرتدي ملابس النوم الذي ظن أنه سيحصل عليه فور خروجه، ولكنه لم يدرِ عن تلك التي كانت له بالمرصاد.
ألقى المنشفة فوق الكرسي، ثم اتجه نحو الأريكة؛ ليعتليها كعادته، ولكنه وجدها تجلس فوقها بأريحية وهي تنظر إليه بملامح هادئة منتظرة طلبه منها بأن تبتعد عن مكان نومه بلهفة.
ولكنه خالف توقعاتها حين اتجه نحو الفراش بهدوء تام تاركًا إياها تنعم بالأريكة كما تشاء، فلم يأخذ الأمر منها ثواني لتستوعب ابتعاده هذا، فاندفعت نحوه تمسك بيده موقفة إياه قبل أن يعتلي الفراش.
ليزفر بضجر وهو يلتفت إليها ينوي إبعادها، ولكنه تفاجأ بها تتحدث بغضب طفولي لا يليق بحالتهم أبدًا:
= في إيه يا عم إنتَ؟ شايفني شجرة قدامك؟! على فكرة أنا بني آدمة زيي زيك، لولا بس ربنا فتحها عليك وطولت شوية، لكن أنا بردو إنسانة بتكلم زيك.
تطلع إليها بدهشة للحظات يحاول استيعاب كلماتها الخرقاء وهو يكبت ابتسامته بصعوبة قبل أن يحاول إبعاد يدها المتمسكة به بقوة؛ ليزفر بضجر وهو يقول:
= عاوزة إيه يا رحمة؟
أخفضت نظرها إلى الأسفل بخجل محاولة إيجاد الكلمات المناسبة لهذا الموقف حتى تحدثت أخيرًا بنبرة خافتة:
= أنا آسفة يا خالد، إنتَ ليك حق تزعل، بس أنا خبيت عليك؛ علشان كنت خايفة.
عقد حاجبيه بتعجب مِن حديثها وهو يتساءل:
= خايفة مِن إيه؟
أجابته بحزن قد غلّف قلبها منذ زمن:
= خايفة متصدقنيش زي ما عيلتي مصدقتش، خايفة تسيبني زي ما همّ سابوني، وقتها صدقني كنت هموت يا خالد.
وضع يده أسفل ذقنها؛ ليرفع غابتها إلى ذهبيته سالبًا أنفاسها تمامًا وهو يتحدث بهدوء معاتبًا إياها:
= بس أنا مش ظالم أو تفكيري قديم علشان أكون زيهم، همّ مفكروش يسمعوكِ؛ علشان همّ خلاص اقتنعوا بفكرة واحدة ومش عاوزين يعرفوا الحقيقة، أنا مش كدا يا رحمة، وأظن إنك قضيتِ معايا وقت كويس يعرفك شخصيتي كويس.
أومأت له بملامح حزينة وهي تخفض نظرها مجددًا قبل أن تتحدث بحزن:
= إنتَ معاك حق، وأنا كنت ناوية أقولك كل حاجة، وكنت هتقبّل ردة فعلك حتى لو كانت البعد، أحسن مِن إني أنفذ اللي كان طلبه مني.
ابتسم خالد بخفة وهو يرفع وجهها إليه مجددًا؛ ليحدثها بنبرة حنونة:
= وأنا كنت واثق فيكِ يا رحمة، ومتقلقيش أنا مش زعلان منك، كل اللي كان مضايقني إنك خبيتِ عليّ واحنا لازم نبني علاقتنا على الثقة، كان لازم تثقي فيّ وتصارحيني بكل حاجة، ممكن؟
أومأت له بابتسامة واسعة قد غزت وجهها لتنيره مجددًا، ثم تحدثت قائلة:
= أوعدك إني مش هخبي عنك حاجة تاني …
قطعت حديثها وهي تتذكر ذلك المدمر كما لقبته، تتساءل بقلق قد غلّف سعادتها:
= بس وائل هنعمل معاه إيه؟ ده مش هيسكت بعد اللي إنتَ عملته فيه.
تنهد خالد بهدوء، ثم أجابها ببساطة:
= مش هيقدر يعمل حاجة؛ لإنه ببساطة بقى في السجن.
ضاقت المسافة بين حاجبيها لتتساءل بتعجب:
= سجن! ليه؟
أجابها خالد بنفس النبرة:
= كلمت ناس حبايبي في الداخلية، وطلبت معلومات عنه، وطلع إنه ناصب على ناس كتير، ويعتبر أنا عملت خدمة للوطن، وسلمته للبوليس، ومش هياخد أقل مِن 15 سنة سجن.
شهقت بخفة واضعة يدها فوق ثغرها تحاول استيعاب ما قاله وهي مَن ظنت أن الله يعاقبها، اتضح أنه أنقذها مِن بلاء كادت أن ترمي نفسها به، كم كان الله رحيمًا بها حين أنقذها منه ومِن قذارته، لتحمد الله بداخلها كثيرًا تشكره على إنقاذه لها.
رفعت نظرها إلى خالد ترسم ابتسامة واسعة على ثغرها قبل أن تتحدث بسعادة:
= إنتَ مش عارف إنتَ ريحت قلبي ازاي، بجد شكرًا يا خالد.
اقترب منها قليلًا؛ ليفصل تلك المسافة بينهما مخفضًا وجهه؛ ليكون قابلتها وهو يتساءل بمكر:
= في واحدة بردو تشكر جوزها؟!
اعتلى التوتر ملامحها، لتبعد نظراتها عنه وهي تشعر بحرارة وجنتيها التي كساها اللون الأحمر مِن شدة خجلها بقربه.
لتبتعد خطوة إلى الوراء وهي تحاول تجميع شتات نفسها قبل أن تتساءل محاولة تغيير الموضوع:
= هو إنتَ عرفت توصلّي ازاي؟
ابتسم خالد بخفة؛ ليجيبها على سؤالها متقبلًا تغيرها هذا حتى لا يخجلها أكثر:
= رجعت مِن الشغل بدري وشفتك وإنتِ نازلة، فاستغربت؛ إنتِ مقولتليش إنك خارجة، فمشيت وراكِ لحد ما وصلتِ، وبعدين الباقي إنتِ عارفاه.
أومأت له بخفوت قبل أن يتحول بدهشة وهي تتابعه يتجه نحو الأريكة يعتليها؛ ليغمض عينيه واضعًا معصمه فوقهم ليستعد للنوم وهو يتحدث بتعب:
= جهزي نفسك؛ علشان هنروح مشوار مع بعض بكرا.
كادت أن تسأله عن هذا، ولكن انتظام أنفاسه الذي دلّ على وقوعه أسيرًا للنوم الذي انتشله مِن تعب اليوم هو مَن جعلها تتراجع؛ لتتركه يرتاح تاركة لمخيلتها العنان في تخمين ما سيحدث في الغد.
^_______________^
أخذت نفسًا عميقًا تحاول به تهدئة ضربات قلبها التي أخذت تدق بعنف عن المعتاد وهي تترجل مِن السيارة؛ لتقف في مقابل هذا المنزل الذي رفض استقبالها مِن قبل.
تنقلت بأنظارها بين هؤلاء الأشخاص الذين فور دخولها إلى هذا المكان، ولم تتركها أعينهم؛ منبهرين بهذا الغناء الذي بدا عليها وهي التي ذهبت تمسك بحقيبة نصف ممتلئة؛ لتبتلع ما بجوفها بتوتر شديد قد بدا على ملامحها البيضاء؛ لتظهر ما بداخلها بوضوح.
انتفضت بخفة فور أن شعرت بيده التي أمسكت بخاصتها؛ لتلتفت إليه بنظراتها الخائفة؛ ليطمئنها بنظراته الهادئة وابتسامته الحنونة وهو يجذبها خلفه إلى ذلك البيت الذي أصبحت تبغضه وبشدة، سارت معه كالمغيبة، وكيف لا وقد تملكتها الدهشة مِن نظرات الجميع إليها؛ فهي ليست نظرات بغض أو استحقار كنظراتهم لها حين ذهبت، بل نظرات غريبة لأول مرة تراها بأعينهم وهذا ما أثار دهشتها.
دلفت معه بخطوات بطيئة؛ لتتوقف حين توقف هو، يدق جرس الباب منتظرًا خارجه قليلًا، تشبثت به أكثر؛ محاولة بث الطمأنينة بداخلها لوجوده بجانبها، ولكن كل هذا قد ذهب إدراج الرياح فور أن فُتح الباب؛ ليطل منه آخر شخص قد تود مواجهته الآن.
زادت مِن ضغط يدها فوق يده فور أن التفت إليها هذا الرجل الذي يبدو أنه في نهاية عقده الخامس، يطالعها بصدمة قد اعتلت قسمات وجهه بوضوح؛ لتخفض نظرها محاولة كبت دموعها؛ تعد نفسها للاستماع إلى إهانته لها وعتابها عن القدوم إلى هنا بعد ما حدث، إلّا أنها تفاجأت به يجذبها مِن بين يدي خالد؛ ليعانقها بحنان واشتياق وهو يهتف بابتسامة واسعة:
= رحمة، وحشاني أوي يا بنتي.
تجمدت في مكانها، وقد شلّت الصدمة تفكيرها لتصبح كالدمية التي أصبح يحركها كما يشاء.
أهذا هو نفس الرجل الذي طردها مِن منزله دون أن يستمع لبكائها أو لتوسلاتها؟! أهذا هو نفس الرجل الذي غلّفت القسوة قلبه؛ ليرميها خارج منزله؟! يدعوها بمجلبة العار عليهم! لا، بالتأكيد ليس هو؛ فهذا الحنان الذي يعانقها به الآن بالتأكيد مزيف؛ لوجود زوجها معها … زوجها الذي لا تعرف لمَ أحضرها إلى هنا أو كيف عرف هذا المكان مِن الأساس.
كادت أن تبعده هي بنفسها، ولكنه أنقذ نفسه حين أبعدها، وما زالت الابتسامة تزين ثغره؛ ليتجه نحو الباب يفتحه على مصرعيه وهو يدعوهم للدخول متجهًا نحو الداخل؛ يزف خبر مجيئهم إلى عائلته، بينما أمسك خالد بيد رحمة وهو يجذبها خلفه، لكنها توقفت متخشبة في مكانها وقد أبت الدخول إلى هذا المنزل مجددًا.
وقد اتضح له هذا مِن نظراتها النافرة التي لاحظها بعينيها حين التفت إليها؛ ليقابل ذلك النفور بنظراته المشجعة وهو يحثها بنظراته على الوثوق به واتباعه، لتمتثل في النهاية إلى طلبه، تخطو داخل هذا المنزل بخطوات بطيئة مترددة بعد عامين مِن تركه.
جلس كلًّا منهم في غرفة الصالون التي أُعدت جيدًا؛ لاستقبالهم بعد ترحاب حار مِن عائلة هذا الرجل بتلك الغائبة عنهم، لتنقل هي أنظارها بينهم بدهشة شديدة وقد أصابها الفضول في معرفة سر هذا التغير الغريب؛ فآخر مرة قد تواجدت هنا تلقّت كميّة إهانات لم تحصل عليها يومًا؛ بسبب ظنهم السوء بها، والآن يعاملونها بتلك الطريقة التي لم ترها حتى وهي تعيش معهم في هذا المنزل! حقًا هناك سر في هذا الأمر ويجب أن تعرفه.
التفتت نحو خالها المدعو بـ«محمود» ثم تساءلت بجدية مقاطعة حديثهم المرح معهم والذي اندمج به خالد:
= في إيه يا خالي؟ مالك؟ طريقتك متغيرة ليه عن آخر مرة؟! مش عوايدك تدخلني بيتك بعد اللي حصل.
صمت محمود وهو يخفض نظره إلى الأسفل باحراج منها؛ فهي محقة في أي شيء تفعله معه بعد ما فعله معها.
بينما رمقها خالد بنظرات غاضبة؛ ينهرها عن تلك الطريقة التي تحدثت بها مع خالها، ولكنها لم تهتم بها بل صبّت كل تركيزها على محمود الذي تحدث بعد فترة صمت قصيرة مخرجًا نبرته خافتة بها ندم واضح:
= أنا ظلمتك يا رحمة، ظلمتك وافتريت عليكِ، وسيبتك في أكتر وقت كنتِ محتجاني فيه، بس ربنا رجعلك حقك وخدهولك مِن كل حد ظلمك.
تطلعت إليه بدهشة قد زادت أضعافًا بعد ذلك الحديث الذي تفوه به، ليكمل هو بنبرة حزينة قد غلفها الندم بعدما لاحظ نظرات التساؤل بعينيها:
= عم وائل عرف يوصله بعدما هرب مع بنته، بعدما فضل سنة يدور عليهم وفي الآخر لقاهم وراح أخد بنته، ورفع قضية خلع على وائل، فهو مسكتش وجه هنا الحارة وعملّها فضيحة، وقال قدام الناس كلها إنها هربت معاه في ليلة الفرح بس عمه وقتها مرضاش يديهاله بردو، وكسب قضية الخلع متعرفيش ازاي، ومِن ساعتها ومشفناش وش وائل ده خالص، بس كل الناس عرفت براءتك يا رحمة، ومِن وقتها وأنا بدور عليكِ لحد ما الباشمهندس الله يكرمه اتصل عليّ مِن يومين وقالّي إنكم جاينلي انهارده، متصدقيش فرحتي كانت عاملة ازاي لما عرفت إنك اتجوزتي، وإن ربنا انتقم مِن وائل ده.
يا إلهي كم أنّ الله رحيم بعباده، قد عوضها بصديقتها حين بحث عن السند في المحنة، ثم خالد حينما احتاجت لمَن ينقذ شرفها مِن أن يكون علكة على لسان الآخرين، والآن صدفة قد جعلت الجميع يعلم ببراءتها، حقًا إن الله كان كريمًا جدًّا معها.
«فالحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه.»
ارتسمت ابتسامة بسيطة فوق وجهها فور أن هتفت زوجته وابنتيه بالإعتذارات الكثيرة طامعين في كرمها حتى تسامحهم، بينما تحدث خالها باعتذار وهو يخفض نظره بخجل؛ لتلتفت إلى زوجها تأخذ منه المشورة في هذا القرار؛ ليقترب منها هامسًا لها بابتسامة بسيطة:
= المسامح كريم، خليكِ اسم على مُسمى يا رحمة.
أومأت له بخفة قبل أن تقف على قدميها؛ لتتجه نحو خالها تجلس بجانبه، ثمّ أمسكت بيده تقبّلها باحترام قبل أن ترفع نظرها إليه تحدثه بصدق:
= وأنا مقدرش أزعل منك يا خالو، ده إنتَ الخير والبركة بردو.
أدمعت عيناه بدموع الندم قبل أن يستقبلها بين أحضانه بحنان قد نافس حنان الأب في مقامه، وقد غلفته السعادة بمسامحتها، يشكر الله على وجود فتاة كرحمة بحياته.
بينما تنهدت هي بارتياح لكرم الله عليها، وحصولها على هذا الحنان الذي اشتاقت إليه كثيرًا؛ تاركة الماضي بكل جوارحه خلفها؛ بادئة صفحة بيضاء سيخططها مستقبلها بحروف ذهبية تلمع بسعادتها التي بدأت مِن هذا اليوم.
^__________________^
مرّ أسبوعان على تلك الأحداث، كانوا مِن أجمل أيام حياتها حقًا؛ كانت تقضي أوقاتًا جميلة مع خالد وعمر وعائلة خالد وسمية تلك الفتاة التي اتضح أنها ألطف ما يكون، وقد أخذت مِن المرح نصيبًا كبيرًا، إلّا أنّ عيبها الوحيد هو التسرع في أخذ القرارات وهذا ما يُغضب البعض.
*في إحدى الأيام*
عاد خالد مِن العمل مساءً بعد أن أنهى أعماله ليتفاجأ بالظلام الدامس الذي كان يغلف المنزل، هتف باسم رحمة أو عمر، ولكن لم يجيبه أحد، لينتابه القلق متجهًا سريعًا نحو مقبس الكهرباء؛ ليضيئه قبل أن يلتفت خلفه بفزع على صوت صراخ عمر ورحمة اللذان هتفوا بسعادة:
= كل سنة وإنتَ طيب.
تنهد خالد بارتياح فور رؤيتهم سالمين أمامه، لتنتابه الدهشة فور رؤيته لتلك الطاولة المزينة تعتليها كعكة بالكريمة كما يحبها هو، بينما وقف خلفه عمر ورحمة متابعين تقدمه نحوهما بابتسامة واسعة.
توقف أمامهما وهو ينظر إلى كل هذا بدهشة، ثم رفع نظره إليهما متسائلًا:
= إيه ده كله؟! أنا عيد ميلادي لسة بكرا.
ضحكت رحمة بخفة وهي تلتفت نحو عمر الذي طالعها بابتسامة قبل أن يجيب على سؤال والده:
= الساعة دلوقتي 12 يا بابا، واحنا حبينا نكون أول ناس تقولك كل سنة وإنتَ طيب، ثم إن بكرا في بارتي كبيرة وكل عيلتنا معزومين.
رمقهما بعدم تصديق وابتسامة سعيدة تغزو ثغره، لتمسك رحمة بالسكين تمدها إليه وهي تحدثه بابتسامة:
= اتفضل، يلّا طفي الشمع وقطع التورتة.
تحدث عمر سريعًا بعدما أمسك خالد بالسكين:
= ومتنساش تتمنى أمنية.
أغمض خالد عيناه لثواني قبل أن يفتحهما مخرجًا أنفاسه؛ لكي يطفئ كل الشموع التي أشعلتهم رحمة فور إضائته للأنوار.
ليصفق له الاثنين قاضين وقتًا ممتعًا معًا قبل أن يستأذن عمر متجهًا نحو غرفته؛ لينعم بنوم هادئ، بينما اصطحب خالد زوجته إلى غرفتهم التي فور أن أغلقها خلفهم حتى حررت رحمة نفسها مِن قيد ذلك الروب الذي كانت ترتديه فوق ثياب نومها؛ لتزيحه عنها ملقية إياه فوق الفراش، وليتها لم تفعل.
فقد تجمد في مكانه فور أن وقعت عيناه على ذلك الفستان الأحمر الذي كانت ترتديه أسفل الروب؛ والذي يظهر أكثر ما يخفي، ليبتلع ما في جوفه بصعوبة محاولًا إشاحة نظره عنها، ولكنها لم تكن تنوي على خير حينما نادته بصوتها الناعم تجبره على النظر إليها؛ ليتجه نحوها كالمسلوب حتى توقف أمامها وقد أيقن أن الليلة لن تمر على خير، ولمَ لا؟! فهو له كامل الحرية الآن، وهي مَن دعته بحديثها ونظراتها التي أظهرت بداخلهم عشقها له، لتسلبه مِن هذا الواقع هاربة به إلى الخيال الجميل.
خرجت حروف كلماته بمكر جعل مِن وجنتيها كتلتين مشتعلتين وهو يحاوط خصرها مقربًا إياها منه:
= واضح إنك ناوية تخاوي عمر الغلبان ده.
ابتسمت بخجل مخفضة نظرها وهي تحدثه بارتباك محاولة التخفيف مِن رهبة الموقف:
= خالد، هو إنتَ اتمنيت إيه؟
وضع يده أسفل ذقنها؛ ليرفع عيناها إليه سالبًا ما تبقى مِن أنفاسها؛ لتنظر إليه كالمغيبة وهي تستمع إلى رده:
= اتمنيتك يا رحمة، اتمنيت تفضلي معايا لآخر أيامي، وكل ما أكبر كل ما حُبك يكبر معايا … بحبِك.
وكأن فراشات العشق قد طارت خصيصًا مِن قلبها؛ لترفرف بسعادة قد اكتسبتها مِن كلمته التي جعلتها ترفرف بسعادة بين تلك الفراشات؛ لتردف بكلمة كانت كفيلة لتوحي ما بداخلها مِن عشق:
= بحبَك.
استند بجبهته فوق خاصتها متنهدًا بارتياح فور أن استمع إلى تلك الأحرف التي خرجت كسنفونية موسيقية جميلة اللحن؛ ليردف قائلًا بعشق قبل أن يسلبها إلى عالمه الخاص:
«كان الطريق إليك صعبًا، ولكنه لم يكن مستحيلًا، أنا ممنون للقدر الذي ألقى بكلمته الأخيرة؛ ليجمع قلبين قد طال فراقهما.»
تمت رواية كاملة عبر مدونة دليل الروايات
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية للقدر اقوال اخري" اضغط على اسم الرواية