Ads by Google X

رواية و قبل أن تبصر عيناكِ الفصل الثامن 8 بقلم مريم محمد

الصفحة الرئيسية

  

   رواية و قبل أن تبصر عيناكِ الفصل الثامن بقلم مريم محمد غريب 



رواية و قبل أن تبصر عيناكِ الفصل الثامن  

كان بطبيعته سريع و غزير التعرّق من أقل مجهود... و الآن خاصةً في ساعة المران اليومية.. هنا فوق أعلى قمة بمنزل "الجزارين".. حيث يقطن و يتعايش كما لو أنه بشقته الخاصة، رغم أن ما هي إلا غرفة بسيطة بالسطح 
لكن أبيه جعل الطابق كله ملائمًا له، و زوّده بماكينات الرياضة الحديثة، كي ما يشبع هوسه بتنمية عضلاته و الاهتمام بلياقته البدنية التي تبهر الجميع، و تزرع في قلوب أعتى المجرمين مهابة منه 
يقف "سالم" على رأسه منذ الصباح، حتى الظهيرة هكذا.. لا يزال يحاول إقناعه بإلغاء حدث الليلة المنتظر و يعرف أن مجهوده من غير طائل، لكنه لا ينفك يطالبه تارة بلطف و تارة بحدة ... 
-رزق أنا كلمتي لازم تتسمع.. من إمتى بتعصيني ؟؟؟ 
كان ضغط دماؤه مرتفعًا بشدة و العرق يسيل حارًا من مسام جسمه و يقطر فوق الأرض، كان يتمرن بانفعالٍ كبير و يحمل أثقال لا يتحملها أيّ شخص.. لكن مع ذلك رد على أبيه و أنفاسه المهتاجة تتدافع من فمه : 
-و لا بعصيك دلوقتي.. بس ده مش موضوع يستاهل تؤمر و تنهي فيه. إنت عارف إني بلعب Boxing كده كده و مش ناوي أبطلها. هاتفرق في إيه لاعبت مصطفى.. زيه زي غيره 
أحمّر وجه "سالم" إنفعالًا و هو يصيح به : 
-هاتقف قصاد أخوك.. هاترفعوا إيديكوا على بعض. الكلام ده مش هايحصل طول ما أنا على وش الدنيا سامع ؟؟؟؟ 
رفع "رزق" حاجبه و قال باستخفافٍ : 
-و إنت جاي تقولي أنا الكلمتين دول.. لو خايف على مصطفى روح أنصحه ينسحب. ده أحسنله و الله ! 
و ترك "رزق" الأثقال من يده، ليمضي نحو كرسي الرياضة العريض المبطن بالفايبر الثمين، إرتمى فوقه ممسكًا بمنشفة صغيرة و طفق يجفف وجهه و عنقه من العرق 
بينما لا يزال "سالم" على وضعيته، مصدومًا في إبنه و من كلماته.. إلا أنه يلتفت إليه بالأخير و يرميه بنظراتٍ غير مصدقة ... 
يلاحظ "رزق" هذه الانفعالات بوضوحٍ، فيضحك بخفة و هو يلقي بالمنشفة ليلتقط قارورة المياه الباردة و يقول بمرحٍ : 
-ماتبصليش كده يابويا. قولتلك مصطفى أخويا الصغير. إستحالة آذيه ! .. ثم فتح القارورة و شرب منها باستفاضة، و أردف بعدها بجدية : 
-بس في نفس الوقت ماتعودتش أخسر.. و إلا هيبتي زي ما بتقول تتهز وسط أهل الحي 
نطق "سالم" بحدة منهيًا معه الحوار : 
-طيب يا رزق.. أعمل إللي إنت شايفه. بس كنت فاكرك أذكى من كده ! 
و أولاه ظهره عازمًا الرحيل، ليجمده صوت "رزق" لبرهةٍ و هو يقول بلهجة ذات مغزى : 
-ما أنا عشان ذكي مصمم أنزل قصاد مصطفى المرة دي..طول عمري نفسي أجيب م الأخر معاه. فاهمني يابويا ؟؟! 
بالطبع يفهمه 
هل كان ليغرق بقلقه طوال تلك الأيام القليلة الفائتة إذا لم يكن يفهم ! 
يعلم جيدًا نوايا "مصطفى" و مدى الكراهية التي يضمرها لأخيه الأكبر، لعله لا يعرف الأسباب تحديدًا، لكن ما يهمه هو "رزق" فقط.. ولده البكري طيب و رؤوف و في نفس الوقت قاسٍ و ذو بأس... لكنه لن يؤذي أبدًا إخوته 
أما إخوته... "مصطفى" بمعنى أصح.. "سالم" لا يثق فيه البتة !!! 
-أعمل إللي يعجبك !
كانت هذه أخر كلمة يلقيها "سالم" إلى "رزق" قبل أن يرحل و يتركه ... 
ندت عن "رزق" تنهيدة ثقيلة و هو يشعر بجسده يبرد.. ليقفز من مكانه فورًا مستعيدًا نشاطه قبل أن يخمد كليًا 
و قبل أن يشرع بممارسة المزيد من الرياضة.. يظهر "علي" فجأة عند قمة الدرج صائحًا : 
-يا أخي إتهد شوية بقى. مش معقول كل ما أشوفك ألاقيك شايل.. إيــــه مابتتعبش !!! 
يرمقه "رزق" بنظرة جانبية مغمغمًا : 
-قل أعوذ برب الفلق.. مالك يا حبيبي في إيه ما تقول ما شاء الله 
أقبل "علي" صوبه و هو يحك مؤخرة رأسه قائلًا : 
-أقول ما شاء الله و بعدين تيجي تدرب فيا.. صحيح يا ناس. آخرة خدمة الغز علقة ! 
ابتسم "رزق" بجاذبيته المعهودة و قال ناظرًا إليه : 
-تعرف المثل ده كانوا المصريين مطلعينه على الأتراك.. إنت قاصدها و لا إيه ؟ 
-يا راجل على أساس إنت مش مصري. لحد إمتى هاتفضل تتغر علينا بأصلك التركي و جدك الباشا يالا.. ده إحنا أسياد البلد دي. إنت شايل إسم الجزارين يا زوز 
-شرف عظيم ! .. علّق "رزق" ماطًا فمه في حركة تنم عن سخرية 
لم يعطِ فرصة للرد لإبن عمه و ترك ما بيده متوجهًا نحو غرفته... خلع كنزته الخفيفة في طريقه، بينما يتبعه "علي" قائلًا : 
-أنا شوفت أبوك و هو نازل من عندك.. بردو ماعرفش يقنعك تلغي الماتش ده ؟! 
-و لا إنت هاتقنعني ! .. قالها "رزق" بحزمٍ و هو يسحب خزانته ملابس جافة نظيفة 
إلتفت نحوه مضيفًا : 
-ريح نفسك.. كل الكلام إللي ممكن تقوله سمعته من أبويا. و بكررها للمليون. مافيش حاجة من ناحيتي لمصطفى. أنا مش حاطه في دماغي. هو إللي عاوز يوصلَّي حاجة.. و أنا هاعرفها الليلة 
هز "علي" كتفيه قائلًا بصدق : 
-أنا بس خايف عليك ! 
رزق بتهكمٍ : إنت كده بتشتمني.. خايف عليا من مين. مصطفى ده أنا لو كحيت في وشه هايقع 
قهقه "علي" بانطلاقٍ و قال رابتًا بقوة على ذراع إبن عمه المفتولة : 
-ماشي يا عم الجامد.. هانشوف الليلة دي مطحنة. و ربنا يستر بقى ! 
طمأنه "رزق" : لا ماتقلقش.. مش هاتوصل لكده 
-ياريت بجد.. أحسن أبوك شكله على آخره. أنا أول مرة أشوفه كده ! 
عقد "علي" حاجبيه عندما إنتبه بأن الأخير لا يصغي إليه، بل و ينظر في موضعٍ آخر بجواره 
صوّب نظراته حيث ينظر "رزق".. ليكتشف بأنه لم يكن شاردًا إلا في ذلك الاطار الخشبي الصغير الذي أحاط بصورة أمه ... 
-وحشتك ؟! 
تفاجأ "رزق" بسؤاله و ما لبث أن أفاق من شروده ... 
نظر إليه بصمتٍ، و لم يحاول إخفاء مشاعره عنه باعتباره أقرب صديق له و ليس إبن عمه فقط... أومأ له برأسه أن نعم، فقال "علي" بلطفٍ : 
-بس لو تسمع كلامي.. قولتلك سيبلي الموضوع ده و أنا هادورلك عليها. هلاقيها يا رزق لو فين صدقني ! 
قست ملامح "رزق" في هذه اللحظة و هو يهتف بصرامةٍ : 
-لأ.. لأ يا علي. لا إنت و لا أنا و لا أي حد ينفع يوصل لأي معلومات عنها 
-ليه بس.. ليه فهمني ؟؟!! 
-أنا عملت كل ده عشانها. أنا لسا قاعد هنا و مامشيتش عشانها و عشان إللي خدته أو خدتها معاها.. أنا لوثت إيدي و بقيت شخصية قذرة. كل ده عشانها.. إستحالة أرضى ترجع و تعيش هنا تاني. مكانها مش هنا يا علي ... 
تقلصت عضلاته على نحوٍ غير إرادي، فشد على قضبتيه و هو يستطرد بخشونةٍ : 
-لو شافتني دلوقتي مش هاتحب الصورة إللي هاتشوفها.. مش هاتصدق إني إبنها. مش هاتصدق إن دي تربيتها و تربية أبوها إللي إداني كل حاحة و علمني.. أنا خلاص. غرقت في المستنقع ده عشان أنقذها هي.. مابقاش ينفع أخرج منه 
علي باستنكارٍ : إنت ليه مشيل نفسك فوق طاقتك يا رزق.. ليه بتعمل في نفسك كده. إنت عارف.. واحد غيرك كان خد موقف منها هي. هي ليه سابتك ؟ ليه مارجعتش عشانك ؟ إنت إينها بردو مش بس إللي كانت حامـ آ ... 
قاطعه "رزق" واضعًا سبابته فوق فمه، ثم قال زاجرًا إياه : 
-حذرتك 100 مرة.. الكلام ده مايتنطقش. محدش لازم يعرف السر ده غيرنا. ماتخلنيش أندم إني حكيت لك ! 
أجفل "علي" مرتبكًا و قال : 
-أنا مش قصدي.. إحنا لوحدنا يعني و محدش سامع. يا سيدي خلاص حقك عليا. مش هانطق حرف في الموضوع تاني ... 
ثم قال دافعًا إياه بكتفه على سبيل المزاح : 
-و لو إنك منكد على نفسك و علينا و مش راضي بعيشتنا. أنا عارف جدك الباشا ده طنش و لا سألش ليه على عمي قبل ما يجوزه أمك ! 
ابتسم "رزق" بازدراء قائلًا : 
-مات و ماعرفهاش بردو.. حقيقة أبويا.. عادي. زيه زي غيره. هو إحنا مين يعرف حقيقتنا غير الناس إللي تحت رجلينا.. إنت ناسي إن ده قانون الجزارين ! 
_________ 
-بالهنا و الشفا يا تيتا ! .. قالتها "ليلة" بعد أن نجحت دون غيرها باعطاء جرعة الدواء كاملة إلى جدتها 
و كأنها حققت إنجاز عظيم، ناولتها السيدة "عبير" كأس المياه و هي تقول ببهجة : 
-و الله يابنتي سرك باتع.. من ساعة ما دخلتي علينا و الفرح هالل. شبكة مصطفى على بطة. و كمان أما دلال بقت صحتها عال أوي.. كنتي فين من زمان يا ليلة ! 
قربت "ليلة" الكأس من فم جدتها و ساعدتها على إنهاؤه و هي ترد على زوجة عمها في آن : 
-أديني جيت لحد عندكوا أهو.. كل شيء بأوانه و لا إيه يا طنط عبير 
-آه طبعًا يا حبيبتي.. بس مش آن الأوان بقى تقبلي دعوتي أنا و عمك و تطلعي تعيشي معانا في شقتنا. و الله هانشيلك فوق راسنا. أنا مش هاخليكي تشيلي الياسمينا من على الأرض ! 
-ليلة مش هاتسيبني يا عبير !! 
برز صوت "دلال" المتحشرج في هذه اللحظة 
وجدتها "عبير" تحدجها بنظرة قوية و هي تستطرد بصرامة : 
-سبيلي بت إبني أشبع منها شوية. مش كفاية طول عمرها بعيدة عني !! 
عبير ضاحكة : ياما أنا مش هاخبيها.. دي هي ليلة و فراقها صبح. يدوب هاتطلع تبات عندنا. و تاني يوم من النجمة تنزلك 
دلال بعنادٍ : لأ.. و لا ساعة واحدة. و كمان دول كلهم كام شهر و رزق هايتجوزها و ياخدها مني خالص. كلكوا بقى مستكترينها عليا شوية تونسني و تملا عليا بيت الحِزن ده ! 
-عواف ياستي دلال ! 
كانت هذه "نسمة" !!! 
هكذا و من العدم ظهرت عند عتبة الغرفة ... 
ما إن رأتها "دلال" حتى تهللت أساريرها، و دعتها فورًا مرحبة : 
-أهلًا يا أهلًا بحبيبتي الغالية. تعالي يا نوسا.. خشي يابت. ياااااه ده إنتي وحشتيني أوي يا مغدورة ! 
لم تحيد "نسمة" عن "ليلة" طرفة عين، و قد كان تعبيرها المصدوم متجليًّا للعيّان... لكنها إنصاعت لأمر "دلال" و دخلت بخطواتٍ متباطئة و هي تقول بصوت لا حياة فيه : 
-أنا كنت راجعة من السوق. و معدية بالصدفة.. قلت أدخل أسلم عليكي. باب السكة كان مفتوح ! 
دلال موبخة : جرى إيه يابت إنتي غريبة ؟ المقفول يتفتح لك في أي وقت. يا هبلة .. 
و نظرت إلى حفيدتها مكملة : 
-دي بقى نسمة يا ليلة.. مجايب رزق. بس ماقولكيش. ماتتخيّرش عنك بالنسبة لي. أنا روحي في البت دي لله في لله 
عبست "ليلة" بادئ الأمر عند الاتيان على سيرة "رزق" و جمعه مع تلك الفتاة في جملة واحدة، لكنها سرعان ما تجاوزت الأمر لعدم أهميته بالنسبة إليها، و نظرت لها قائلة برقتها المعهودة : 
-أهلًا و سهلًا.. تشرفنا يا قمر ! 
إكتفت "نسمة" بايماءة ردًا عليها و لا زال التجهم يملأ قسمات وجهها ... 
و لكن قبل أن تلاحظ "ليلة" هذا أيضًا، دق هاتفها فجأة، فاستلّته من جيب سروالها الواسع، و إنتفض قلبها رعبًا حين قرأت اسم المتصل 
جاهدت بأقصى ما عندها من ثباتٍ كي ما تلفت إليها الأنظار ... 
رسمت ابتسامة مقتضبة على ثغرها و قامت بسرعة و هي تقول : 
-I beg your pardon يا تيتا
لازم أطلع أرد على المكالمة دي.. مش هتأخر ! 
و بدون أن تسمع رد الجدة ركضت إلى الخارج في إثرها نظرات "نسمة" كسهامٍ سامّة ...
°°°°°°°°°°°° 
وقفت بوسط باحة المنزل الداخلية... لحسن حظها كان الصخب بالخارج شديدًا و الحماس على أشده استعدادًا لمنازلة الليلة المنتظرة 
فتحت الخط و إنهمرت الكلمات الحادة من فمها على الفور : 
-عاوز مني إيه تاني يا زبالة يا واطي. أنا مش قولتلك تنساني خالص و إلا هاندمك عاليوم إللي جيت فيه الدنيا دي !!! 
جاء صوت الطرف الآخر غليظًا كريهًا كما هو دائمًا : 
-الله الله الله. في حد يرد على خاله بقلة الأدب دي بردو.. مع ذلك وحشتيني يا لولا ! 
ليلة بعصبية : وحشك قبر يا حقير.. عاوز مني إيه. إسمع. و رحمة أمي هافضحك ... 
-ده جزائي يعني إنك وحشتيني و غيابك مأثر فيا. ليه قاسية عليا كده.. و أنا إللي قلت أتصل و احاول أرجعك ! 
-أرجعلك ! إللي كانت مصبراني على قرفك و وساختك ماتت خلاص.. دلوقتي ماعادش في حاجة باقية عليها. لو ماسبتنيش في حالي هاقتلك يا عزام يا وديدي. و رحمة أمي و أبويا هاقتلك 
-يعني مافيش فايدة.. بذمتك ماوحشتكيش طيب ؟! 
إنفعلت عليه بشدة : 
-إنت أوسخ بني آدم شوفته في حياتي.. إنت مش بني آدم أصلًا. بص و ده أخر كلامي.. لو شوفتك صدفة أو سمعت صوتك تاني قسمًا بالله لافضحك هنا. هقول كل حاجة لسالم الجزار. و شوف بقى إللي هايجرالك ! 
و أغلقت بوجهه و هي تسب و تلعن فيه بأحط الألفاظ ... 
أمسكت لسانها عندما لمحت "حمزة" يهرول من الخارج و على وجهه ابتسامة واسعة، أعادت الهاتف إلى جيبها و تحكمت بسهولة بتعابير وجهها و مشاعرها الظاهرية، فصارت تبتسم مثله بارتياحٍ
بينما يحل أمامها الآن و هو يقول بحماسة : 
-إنتي هنا يا ليلة.. ده الماتش خلاص هايبدأ ! 
طلته الصبيانية المحببة أنستها المعاناة لوهلةٍ و هي تقول برقة : 
-أنا نفسي أعرف إنت في اعدادي إزاي يا حمزة.. ما شاء الله عليك. إنت كنت بتاكل بني آدمين و إنت صغير ؟! 
و ضحكت 
فابتسم قائلًا : أنا عندي 18 سنة. بس أبويا دخلني المدرسة متأخر.. اصلا لولا رزق طلبها منه ماكنش وافق. و هو سامحلي أكمل لحد ما أخلص ثانوية بس ! 
ثم قال بتعجل و هو يسحبها من يدها معه للأعلى : 
-يلا بقى تعالي.. هاتتفرجي كويس معانا من فوق ! 
_________ 
كان يجلس بالمنتصف ... 
منتصف الشرفة، فوق كرسي وثير و كأنه كرسي العرش، عباءته السوداء تناسب مزاجه تمامًا، ملامحه العابسة متماسكة كقناعٍ صلدٍ محكم 
على يمينه و شماله توزعت العائلة، أما بالأسفل فالجمهور الغفير يحيط بالحلبة.. و ولديه بوسطها تمامًا ! 
كلٌ منهما بطرف يتجهز على حدة، "رزق" عاري الجزع و يرتدي بنطالًا رياضيًا مرنًا ذي علامة تجارية شهيرة.. و "مصطفى" يرتدي كنزة ضيقة ذات حمالات عريضة و سروالًا قصير 
أغاظه بشدة أن تملأ أذنيه الهتافات الصادحة باسم أخيه، أما هو.. فكأن لا أحد يلاحظه حتى، باسثنائها هي 
"فاطمة" ... 
أجل.. ها هو يراها من حيث تقف بالشرفة مع بقية العائلة، نحفت كثيرًا و شحب لونها مؤخرًا من قلة الغذاء.. لكن لا زالت عينيها تلمعان معبرة عن شتّى إنفعالاتها، و قد كان الانفعال الذي قرأه بهما الآن هو الخوف... و الخوف فقط 
و لكن على من تخاف... يا له من سؤال ساذج.. هل يوجد غيره ؟ أساسًا هل أحبت هي غيره طيلة حياتها ؟!!! 
-ديشا ! 
أدار "مصطفى" رأسه لينظر إلى "رزق" ... 
يبتسم له الأخير و هو يرتدي الجلافز قائلًا بلطفٍ : 
-دي أخر فرصة.. لو تحب ننسحب إحنا الاتنين سوا. فكر بسرعة ! 
كشر "مصطفى" عن أسنانه بابتسامة صفراء و قال : 
-أنا مانسحبش يابن الذوات. عايز تنسحب إنت دي فيها كلام تاني ! 
ضحك "رزق" منه بقوة و رد : 
-تمام تمام.. إللي إنت عاوزه. هاعملك إللي إنت عاوزه يا ديشا ! 
و كعادته هو من يعطِ الأمر بالبدء ... 
أشار بيده، فضرب غلامًا النحاس المدوي، لتنطلق المباراة.. فيتحفز "مصطفى" من فوره و يتحرك في سيرٍ دائري بطيئ 
و كأنه فهدٍ يتصيّد فريسة، ما أضحك "رزق" متعمًدًا اثارة أخيه... و بالفعل نجح 
فهجم "مصطفى" صارخًا بغلظةٍ في هذه اللحظة و أنقض على "رزق" مكيلًا له لكمة ضاعت بالهواء، إذ إنحرف "رزق" برشاقة و تفادها.. فالتفت "مصطفى" و أعاد الكرة، ليشكل "رزق" أمام وجهه بساعديه علامة X فما إن لمسه أخيه حتى قام بدفعه بقوة أطاحت به حتى حافة الحلبة 
لولا وجود الحواجز لسقط لا محالة ... 
هدرت الصيحات من جديد، فحانت من "مصطفى" إلتفاتة نحو والده هذه المرة.. ليجده كما هو، و كأنه يعرف نتيجة النزال سلفًا و يجلس ليراها فقط 
أخذ صدره يهبط و يعلو بانفعالٍ جمّ، شحذ قواه كلها يعزمٍ و انتصب واقفًا في مواجهة أخيه مرةً أخرى... بصق فوق الأرض و هو يرمقه بنظرة محتقنة 
بينما يشير له "رزق" برأسه أن يقترب، فلبّى "مصطفى" طلبه و عاد خطوة للخلف... ثم إنطلق منقضًا عليه ثانيةً، ليسقطا معًا فوق الأرض 
كانت عضلات بطنه صلبة كالحديد، و كأنها تشكل درعًا واقيًا، فلم يتأثر بضربات "مصطفى" المتتالية.. بل كان يضحك باستفزازٍ و هو يرقد هكذا بينما أخيه يجثم فوقه بوجهه وحشي القسمات ... 
تملكه غيظٍ شديد عندما آلمته قبضته و في نفس الوقت خصمه لا يتألم أبدًا.. غلت الدماء بعروقه... فإذا به يتجرّد من قوانين اللعبة و يخلع جلافز الملاكمة، ثم يشرع من فوره بتسديد لكماتٍ مميتة إلى ضلعيّ أخيه، بكل ما أوتي من قوة و بمنتهى الغل لم يتوقف 
لتتقلص ملامح "رزق" مع ثاني لكمة أصابت ضلعه الأيسر، و إزداد الوضع سوءً مع تلقّيه المزيد من قبضة "مصطفى" العارية.. فعقد القرار فورًا دون ترددٍ 
زمجر بشراسة و هو يثني ساقه لتصيب ركبته بمنتصف معدة "مصطفى" تمامًا ... 
أطلق الأخير صرخة ألم مخنوقة، ليدفعه "رزق" في كتفيه بكلتا قبضتيه.. طار "مصطفى" للخلف، و سقط على ظهره مرتطمًا بقسوة فوق أرض الحلبة الرملية 
صدحت صيحات الجماهير باسمه فقط، و تصاعدت الصافرات المشجعة من كل حدبٍ و صوب، بينما ينهض "رزق" كماردٍ جبار و قد تخضبت بشرته البيضاء كلها بدماء الغضب اللاهبة !!! 
-كفاية كده يا مصطفى ! .. هتف "رزق" بخشونة محذرًا 
وثب "مصطفى" قائمًا بطرفة عين رغم الألم الذي نزل به ... 
ابتسم له و قال يستفزه هو هذه المرة : 
-خايف و لا إيه ؟! 
لم يأبه لرده الآن، بل رفع ناظريه حيث والده... كانت وضعيته في الجلوس قد تغيّرت الآن، صارت أكثر تحفزًا، كما تعابير وجهه الناطقة بالقلق 
ربما كان "رزق" ليتفهم رسالته، لكن هذا قبل أن يتغلّب عليه القطب الآخر من شخصيته المظلمة.. فيشيح بوجهه عن أبيه و ينظر مباشرةً بعينيّ أخيه صامًا أذنيه و غاشيًا عينيه إلا عن خصمه
و بدون مقدمات يفعل مثله و يتجرّد من الجلافز، ثم يرفع قبضته المشدودة، و بيده الأخرى يشير له بالاقتراب مجددًا 

يتبع الفصل التاسع اضغط هنا

google-playkhamsatmostaqltradent