رواية و قبل أن تبصر عيناكِ الفصل السابع عشر بقلم مريم محمد غريب
رواية و قبل أن تبصر عيناكِ الفصل السابع عشر
ضجيجٌ مزعج و دق مستمر و أصوات معدات كهربائية، كلها أشياء ساهمت بإيقاظه بنسبة مئة بالمئة، و لكنه لم يأخذ كفايته من النوم، بالكاد أغمض عينيه قبيل الفجر بمدةٍ بسيطة
كم الساعة الآن ؟
تأفف "رزق" و هو يتمطى بصعوبة في هذه الأريكة التي لم تستوعب حجمه أصلًا، حيث ساقيه تمتدان متجاوزة حافتها و رأسه مائلًا بزاويتها بطريقة مؤلمة
مد يده إلى الطاولة المجاورة، و دون يفتح عينيه راح يتحسس سطحها، حتى عثر على هاتفه.. إلتقطه و وضعه أمام وجهه مباشرةً... و عند ذلك أجبر نفسه على إزاحة أجفانه المتثاقلة ليقرأ الساعة الرقمية عبر الشاشة المضاءة
رباه.. 25 : 9 AM .. إذا لم يكن هاتفه قد خرب و هذا مستحيلًا بالطبع !
لم تسنح له فرصة إستيعاب شيئًا آخر إلا و سمع صوت أبيه يعلو من جهة المطبخ :
-إنسى خلاص. مش هاتعرف تنام تاني. خدها من قاصرها و كفاياك فرك. تعالى يا رزق يلا.. أنا حضرت الفطار
زفر "رزق" بقوة ناقمًا على هذه الحياة كلها، حتى ساعات الصباح الأولى التي يعتبرها الأهم في يومه غالبًا ما تمر هنا بشكلٍ مزري.. كما يحدث الآن
قام في الأخير مستسلمًا للواقع و الظروف القهرية ...
كان لا يزال بثياب البارحة، فقط من دون حذاؤه و سترته الصغيرة، و قميصه كان محلول الأزار كاشفًا عن صدره و بطنه المسطح المرصع بالعضلات السداسية خاصته
مشى مترنحًا و هو يحك فروة رأسه منشطًا منطقة الدماغ كلها، في أقل من دقيقة كان ماثلًا أمام أبيه بالمبطخ.. شاهده من خلال نظراته المشوّشة قليلًا و هو يفرغ مقلاة العجَّة بصحنٍ كبير و يرش فوقها البقدونس
إبتسم "رزق" إبتسامة لم تصل إلى عينيه، لينظر إليه "سالم" في هذه اللحظة و يبادر بالقول مبتسمًا بدوره :
-طبعًا فاكر طبق البيض ده. ماكنتش بأكلك غيره أساسًا لما كنت صغير و عايش معايا لوحدك.. أول ما بدأت تزهق منه سيبتني و نزلت تقعد عند ستك. يا بايع يابن الـ××× !
لم يتمالك "رزق" نفسه من الضحك و هو يرد عليه بصوتٍ متحشرج قليلًا :
-و طول السنين دي كلها لسا مستواك في المطبخ زي ما هو !!
-إتريق عليا كمان يا محترم
-مين قال إني محترم ؟
و تجاوزه ماضيًا نحو حوض الجلي، فتح صنبور المياه و وضع رأسه تحت الرذاذ البارد لمدة دقيقتين، ثم أغلقه و رفع هامته مطلقًا نهدة منتعشة.. الآن يشعر بأنه أفضل
وجد منشفة نظيفة بجواره، فتناولها و أخذ يجفف شعره و وجهه، بينما يربت أبيه على كتفه هاتفًا و هو يسحب كرسي لنفسه :
-يلا بابني أقعد أفطر !
إنصاع له "رزق" و جلس أمامه في الطرف المقابل للطاولة المربعة، بدأ بقدح قهوته أولًا، و عليه أن يعترف بأن صنع فنجانًا من القهوة هو الشيء الوحيد الذي يبرع فيه والده بالأعمال المنزلية قاطبةً
كان يستلذ بكل رشفة.. و قد كان بحاجة إليه بالفعل ...
-قولي بقى عملت إيه ليلة إمبارح يا بطل ؟ .. قالها "سالم" بتساؤل و هو يقدم لإبنه سندويشًا من أصابع الجبن المطبوخ
أخذ "رزق" من أبيه و هو ينظر إليه مستوضحًا :
-عملت إيه إزاي يعني ؟!
-الله مش خرجت مع خطيبتك. إحكيلي عملتوا إيه ! .. و غمز له بطريقة موحية
رفع "رزق" حاجبه مبتسمًا و قال :
-هانكون عملنا إيه يعني يابويا.. خرجنا و لفينا شوية و رجعنا. بس
سالم بخبثٍ : ياولا. على بابا بردو.. عايز تفهمني إنك بعد الصياعة و الصرمحة دي كلها مع النسوان فوّت الفرصة دي كده
عمل الأخير على مجاراته قائلًا :
-يعني كنت عاوزني أعمل إيه مش فاهم ؟!
رد "سالم" و قد غدت عيناه الذكيتان أكثر حدة :
-جرى إيه يالا هاتخشلي قافية و لا إيه.. أو أحسن تكون مصيبة حقة لو كنت بتتكلم جد و قضيتها حنان مع البت. إنطق ياض. ماعملتش أي حاجة ؟!!
رزق متعجبًا : إنت كنت عاوزني أغتصبها و لا إيه !!!
سالم باستهجانٍ : لا يا حبيب أبوك. بس كنت فاكرك واد خلاصة أتاريك مابتحبش ألا الحاجات السهلة.. يا أهبل دخلتك بعد كام يوم. مافيش وقت. إنت ماقعدتش مع البت ساعتين على بعض هاتاخد عليك إزاي. ده أنا وافقت على فسحة إمبارح دي عشانك إنت.. قول أخوك مصطفى و بطة عارفين بعض. لكن ليلة دي ماتعرفكش.. إنطق يالا و قولي ماحصلش بينكوا أي تواصل ؟؟!!
ضحك "رزق" بانطلاقٍ مجددًا و قال :
-إيه بس الكلام الكبير ده يابويا. إنت محسسني إني داخل حرب. يا معلم سالم كله بيجي بالحب.. إطمن. ليلة دي رغم شراستها عاملة زي حتة السكر. هاتدوب في إيدي قبل ما أحطها بؤي !
أعجب "سالم" حديث إبنه الواثق كثيرًا، لكنه لم يمتنع عن الرد بصرامةٍ :
-أهم حاجة عندي تظبط وضعك معاها. البت دي قوية و وارثة دماغنا الناشفة إللي مابنورثهاش للحريم.. لو حاولت تزق معاك كسرلها دماغها دي. ليلة الدخلة عاوز خبرك يوصلني الأول. هازعل أوي لو أخوك مصطفى عملها قبلك.. و بصراحة شكلك هايبقى وحش لو حصل
إمتقع وجه "رزق" و هو يغمغم بضيقٍ شديد :
-أيوة ده إللي كنت عامل حسابه بقى. الجو القديم و الشغل المقرف ده.. على فكرة أنا مابحبش كده
سالم بفجاجة : لا ياخويا حب.. هو ده سلونا. لازم العيلة كلها تشاهد و تشهد !
نخر "رزق" متذمرًا و قد فكر بأن يترك الطعام و يتركه و يغادر نهائيًا... لكنه و للأسف كان جائعًا.. فقسر نفسه على البقاء حتى أنهى صحنه كله
قام و بدل ثيابه بالحمام، ثم خرج بملابسه العادية و لكنه كالعادة كان في كامل أناقته.. وجد والده يجلس أمام التلفاز و يشاهد قنوات الرياضة كالمعتاد... فاقترب منه متسائلًا بانزعاجٍ :
-الناس إللي فوق دول هايخلصوا إمتى ؟
أجابه "سالم" و هو ينفث دخان النرجيلة عاليًا :
-قولتلك 3تيام كمان و كله هايبقى جاهز. هاتطلع مع عروستك إن شاء الله.. و لا أوام يعني زهقت من أبوك !
لم يرد عليه و إكتفى بهزة رأس ضجرة ...
طفق يبحث عن أغراضه الرفيعة إستعدادًا للمغادرة، عندما سمع جرس الباب يدق، إلتقط سلسلة مفاتيحه بسرعة و هتف مجمدًا أبيه بمكانه :
-خليك أنا هافتح !
و إنطلق تجاه باب الشقة، فتح فاذا به يصطدم بصبي من الحي، كان يعرفه جيدًا ...
-حمادة إزيك ياض ! .. هتف "رزق" مبتسمًا في وجه الصبي
رد له "حمادة" الابتسامة قائلًا :
-بخير يا معلم رزق.. تسلم
-خش طيب. عاوزني أنا و لا أبويا ؟
-لأ يا كبير أنا جايلك إنت.. أبلة نسمة ندهت عليا و باعتالك معايا ده !
و نبش في جيبه للحظة، ثم ناوله مفتاحًا تعرف عليه "رزق" فورًا.. عقد حاجبيه بشدة و هو يأخذه من يد الصبي ...
-هي مشيت و لا في بيتها يا حمادة ؟ .. سأله "رزق" باقتضابٍ يكنف نزعة إنفعال
حمادة مؤكدًا نصف سؤاله :
-لأ في بيتها. بس شكلها ماشية عشان قالتلي أروح أجيبلها تاكس
-طيب بص يا حمادة إمشي إنت شوف كنت رايح فين و ماتروحش تجيب حاجة.. أنا هاشوفها عاوزة إيه
-أوامر يا كبير !
و إنصرف الصبي
بينما يعلو صوت "سالم" من الداخل و قد قام من مكانه :
-هو إنت رايح فين يا رزق ؟!!
لمس في لهجة أبيه تحذيرًا ضمنيًا، فأدار وجهه فقط تجاهه و قال بصلابةٍ :
-ماتخافش.. راجعلك !
و أشاح عنه ثانيةً و قد كان بالخارج في ثانية صافقًا الباب في إثره ...
لم يبالي بنظرات الناس إليه و هم يرونه يهرول هكذا ناحية المنزل الصغير الذي استأجر به شقة لعشيقته... دقيقة واحدة و كان أمام بابها المفتوح على مصراعيه
ولج فورًا مناديًا أسمها :
-نوسا.. نوسا... إنتي فين يا نسمة !
كما توقع وجدها بغرفة النوم ..
تقف أمام السرير، تضع فوقه حقيبة ملابس كبيرة، تجمع بها كل أغراضها و قد ارتدت عباءتها السوداء و وشاح رأسها متأهبة تمامًا للرحيل !!!
-إنتي بتعملي إيه يا نسمة ؟!!! .. تساءل "رزق" و هو يحث الخطى صوبها
حتى وقف خلفها مباشرةً
حتى اللحظة لم يرى وجهها، و حين لم يحصل على ردها، إمتد يده من فوره و إجتذبها من كتفها صائحًا :
-مابترديش علـ آ ا ..
و بتر جملته فجأة مصعوقًا لما شاهد وجهها الشاحب و عينيها المتوّرمتين من البكاء، حتى الآن كانت تبكي ...
-نسمة ! .. تمتم بتوترٍ
عجز عن إيجاد كلماتٍ أخرى، لتفتح هي فاها المرتعش قائلة بصوتٍ أبح يكاد يُسمع :
-مبروك يا عريس !
حدق بعينيها مطوّلًا ليتقلص وجهه ألمًا عليها، كان قد فهم بالطبع ما تحاول تذكيره به ...
-نسمة آ أا عارف إنك ..
إختنقت الأحرف بحنجرته، فكان عليه أن يصمت و يحاول من جديد بثباتٍ أكبر :
-بصي يا نوسا. إنتي مش فاهمة الموضوع جه إزاي.. و أكيد مفكرة إني كنت بكدب عليكي. بس أقسملك بالله. أنا ماكنتش موافق على الجوازة دي. وحياة أمي.. إنتي عارفة إني مش بجيب سيرتها بالكدب !
راحت تلوّك شفتيها في حركة متهكمة، ثم قالت :
-مش هاتفرق كتير.. النتيجة واحدة. و صدقني. أنا مش زعلانة.. ده المتوقع منك. إنت أصلًا ماوعدتنيش بأي حاجة. و قبل و بعد أي حاجة إنت تستاهل واحدة نضيفة. مش زيي أنا مـ آ ...
-إسكتي يا نسمة ! .. قاطعها مكممًا فمها بكفه
و أردف بحدة : إنتي أعصابك تعبانة. و أنا مقدر صدمتك.. بس عاوزك تتأكدي من حاجة واحدة بس. أنا عمري ما هاتخلّى عنك. قولتهالك و إنتي عارفة. إنتي تخصيني.. و كمان غلطتي في حاجة. أنا وعدتك.. وعدتك إني هكون هنا دايمًا. جمبك. وعدتك إني هاحميكي طول ما أنا عايش و إن مافيش أي حاجة ممكن تأذيكي في وجودي. و أنا موجود يا نسمة
أزالت كفه عن فمها بقوة و هاتفة بنزقٍ :
-و انا بشكرك طبعًا على الكلمتين المتزوقين دول و أكيد هفضل شايلة جمايلك فوق راسي. بس كل ده مش هايغير أي حاجة. و أنا أحب إني أمشي لأن ماعنديش إستعداد أقعد و أتفرج عليك و إنت في حضن واحدة تانية.. أصل و شرف أكتر مني !
و إستدار نحو الحقيبة لتتم إغلاقها
بينما يركل "رزق" قائمة السرير بقدمه بعنفٍ حطمها في الحال، ثم يلتفت ممسكًا برسغيها و دافعًا بها صوب الخزانة، أسندها على اللوح الخشبي، و حنى رأسه قريبًا من وجهها اللاهث المنفعل ...
-مش هاسيبك تمشي ! .. همس بثقلٍ و قد انتفخت عروق عنقه و يديه خافقة بالتوتر و العصبية
-لو صممت على قعادي تبقى أناني. و لو طاوعتك هاخسر كل حاجة.. كل حاجة إللي خسرتها أصلًا يا رزق. فاهمني ؟
و إستنشقت نفسًا عميقًا و تابعت عبر دموعها المتساقطة :
-إبعد عن طريقي يا رزق. خلاص إنت مش محتاج تقف الواقفة دي.. أنا هطلع من حياتك خالص و إنت ربنا يوفقك معاها
شدد قبضته أكثر حول رسغها و هو يقول عبر أسنانه المطبقة :
-نسمة ! بطلي عبط بقى.. مش هاتمشي من هنا. مش هاسمحلك تخرجي من هنا أبدًا سامعة ؟؟؟
ضحكت قائلة بسخرية :
-ليه. هاتتجوزني مثلًا ؟!
-أيوة ! .. هتف بقوةٍ و دون أن يرف له جفن
و بدأ يخفف من ضغطه عليها، عندما لاحظ تعبير وجهها ينقلب مئة و ثمانون درجة من الحزن و الجزع إلى الدهشة و الذهول ...
-إنت بتهرج صح ؟ .. تمتمت بعدم تصديقٍ
رد عليها عابسًا :
-لو كنت هرجت معاكي قبل كده يبقى أنا بهرج دلوقتي !
تشثبت بذراعه الآن حين أحست بساقيها ترتجفان، تطلعت إليه مشدوهة و قالت :
-طيب.. طيب إزاي ؟!!!
رزق بنفاذ صبرٍ :
-أسئلتك ساذجة أوي. هما الناس بيتجوزوا إزاي !!
-قصدي أهلك يعني و آ ا ...
-خلاص يا نسمة كفاية كلام ! .. قاطعها من جديد بحزمٍ، ثم أعلن بصرامة :
-كلمتي ليكي واحدة.. هاتجوزك. و محدش له أي سلطان عليا !
يتبع الفصل الثامن عشر اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية و قبل أن تبصر عيناكِ" اضغط على اسم الرواية
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية و قبل أن تبصر عيناكِ" اضغط على اسم الرواية