رواية في غيابة الجُب الفصل الثاني عشر بقلم نعمة حسن
رواية في غيابة الجُب الفصل الثاني عشر
عم بكري أنا كنت عايز اقولك حاجه!
نظر له "بكري" بتساؤل مهتم فقال رزق:
=مش هينفع نتكلم و إحنا واقفين كده.. إتفضل معايا أوصلك و نتكلم في الطريق.
إستقل بكري السيارة برفقة رزق ثم سأله:
=إتكلم يا رزق يبني.. قلقتني!
أوقف رزق السيارة علي جانب الطريق ثم نظر له و حمحم قائلاً:
_بص يا عم بكري.. إنت زي أبويا و أنا عارف كمان إن لينا بتعتبرك زي أبوها.. و أنا سبق و صارحتك إني بحب لينا وهي كمان بتحبني.
أومأ بكري موافقاً و قال: صحيح.. وبعدين؟!
_أنا كنت عايز أقوللك علي حاجه تخص لينا و عارف إنك أهل للثقه.. فاكر موضوع البنت اللي طلعتها من البير لما كنت في مصر القديمه لسه؟!
أومأ الآخر موافقاً و قال:
=طبعاً.. وهي دي حاجه تتنسي!
_البنت دي تعرف عنها حاجه حالياً؟!
زمّ"بكري"شفتيه و قال:
=لأ خالص.. أنا يومها بعد ما خرجتها من البير خدتها البيت عندي و بعدها علي طول سمعنا ناس بتقول لقينا واحده ميته في الكوخ!!.. فـ إضطريت أبلغ عن البنت.. ربك و الحق أنا مكنتش عايز أبلغ و كنت عايز أسيب البنت تتربي وسطنا بس خوفت بردو.. و بعدها خدوها و عملوا محضر عثور و عملوا تحليل و النتيجه أثبتت إنها بنت الست اللي لقيوها في الكوخ و لأن هويتها كانت مجهوله وقتها إعتبروها لقيطه و خدوها مركز صحي تتربي فيه لحد ما تتم سنتين.. بس ده كل اللي أعرفه!
هز رزق رأسه بتأكيد لحديثه و لكونه علي علم سابق به فسأله العم بكري متعجباً:
_بس إشمعنا بتسأل؟!إيه اللي فكرك بالموضوع ده؟!
=أصل البنت دي تبقا لينا!
نفض بكري رأسه بتعجب و تسائل مجدداً بذهول:
_بنت مين مش فاهم؟!
=لينا يا عم بكري تبقا البنت اللي طلعتها من البير!
رمقه بكري بنظرات مستنكرة و قال:
_مش معقوله؟! إنت متأكد؟!
=بنسبة 99٪ متأكد.
قال بكري بتفكير و شك: طيب لو هي لينا إيه اللي جابها إسكندريه؟!
_لأن مدام بسمة دوّرت في كل دور الأيتام و مؤسسات الرعايه اللي هنا في إسكندريه بس مرتاحتش لحد فيهم فـ نزلوا مصر يدوروا و قلبها إختار لينا من بين كل الأطفال اللي شافتهم.
=و إنت عرفت الكلام ده منين؟!
_جمال بيه اللي حكالي كل حاجه.. هو بيعتبرني زي إبنه و بيثق فيا.. و إختار إنه يحكيلي عشان لو لا قدر الله في يوم من الأيام حصله حاجه متبقاش لينا لوحدها.
أعاد بكري التفكير بصوت مرتفع و قال:
_طيب و إيه اللي يثبت إن البنت دي لينا.. ما يمكن ظروفهم متشابهه مش أكتر!
=لأ طبعاً يا عم بكري.. أولاً في محضر العثور مكتوب العنوان بالتفصيل و كمان مديرة المؤسسه اللي لينا كانت فيها قالت فعلاً لـ جمال بيه إن الام توفت في نفس يوم الولاده.. و الكلام ده بقاله 21سنه أهو و إنت سايب مصر من21سنه من بعد اللي حصل.. أكيد دي مش صدف كلها!!
نظر العم بكري أمامه بـ تيه و إستغراب في آنٍ و قبحانك سبحانك يارب.. بقا تمر الايام و نتقابل تاني!! ده أنا أول واحد شيلتها علي كفوف إيديا دي و حضنتها و يومها أم خالد مكانش هاين عليها تسيبها.. ولا حنين...
عند ذكر سيرة حنين رقّ قلبه و ترقرقت الدموع بعينه و تابع:
_الله يرحمك يا حنين.. من يوم ما شوفتيها وقلبك إتعلق بيها و كنتي عيزاها تبقا بنتك.. يا تري لو كنتي عايشه دلوقتى كان هيكون رد فعلك إيه لما تعرفي حاجه زي دي!
قام رزق بتنبيهه قائلاً:
=طبعاً بعد إذنك يا عم بكري مش عايز حد يعرف إني بلغتك بحاجه زي دي و خصوصاً جمال بيه!
_ولا تحمل هم يبني..بس إنت ناوي علي إيه؟!
=عايز أوصل لأهل لينا!
ضيّق بكري بين حاجبيه بتعجب و قال:
_توصل لأهل لينا؟! إزاي؟! و ليه؟!
=إزاي فـ دي محتاجه مجهود شويه.. أنا عرفت إسم خالها و عنوانه و تقريباً أغلب المعلومات عنه.. أما ليه بقا فـ دي الأهم.
_مش فاهم قصدك.
=لينا وحيدة يا عم بكري.. و خصوصآ من بعد حنين الله يرحمها وهي حاسه باليتم.. لازم تتعرف علي أهلها و ساعتها يبقا ليها حرية الإختيار تقبلهم أو لأ.. مش جايز تحبهم و تقرب منهم و يحبوها و يقدروا يهونوا عليها!
_الموضوع مش بالسهوله دي يا رزق.. جمال بيه لو عرف إنك بتنخور ورا الموضوع ده و عايز توصلها بأهلها الحقيقيين مش هيسكت.. و مش بعيد يمشيك كمان.
=بالظبط.. و ده اللي مخوفني لأن انا عارف لينا بالنسبه له إيه.. بس ده حقها!
_والله يبني ما عارف أقوللك إيه؟! بس معتقدش لينا تقبل بيهم.. يعني واحده أمها إتخلت عنها و رمتها في بير مظنش إنها هتقبل بأي حد من طرفهاا!!
=مش عارف يا عم بكري بس أنا سألت لينا قبل كده و قالتلي إذا كان أمي دي نفسها لو رجعت و قالتلي سامحيني هسامحها.. يبقا مش هسامحهم هما ياللي ملهومش ذنب!.
و تابع: لينا حاسه بالوحده يا عم بكري و بالذات إنها مش إجتماعيه و مبتعرفش تتعامل مع ناس جديدة.. أنا متأكد إن لو قربت من أهلها و لقت منهم حب و ود هيفرق معاها كتير.
قال "بكري" ببوادر إقتناع قد إرتسمت علي وجهه:
_جايز كلامك صحيح.. بس بردو متتسرعش و تاخد خطوة مش محسوبه.. قبل ما نعرف لينا بأهلها لازم هما الأول يعرفوا بوجودها.. و نشوف هيطلبوا يقابلوها ولا لأ.
=كلامك صح.. عالعموم أنا مش هتصرف من غير ما أرجعلك في كل حاجه الأول.
_ربنا يبني يقدم اللي فيه الخير.
=يارب.
و بعد إنهاء حوارهما قام رزق بإيصاله إلي منزله ثم عاد إلي الفـيلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بينما تجلس "لينا" بغرفتها، مسچاة علي سريرها الذي ملّ من ملازمتها له، رن هاتفها و كان المتصل "رزق".
لم تجيب كعادتها فأعاد الإتصال مرات عديدة حتي قامت بإجابة المكالمة.
_ألو... أخيراً رديتي يا لينا!!
تفوه" رزق"بتلك الكلمات و صوته يدل علي مدي التعب الذي حلّ به.
لقد إشتاقت صوته حد السماء، إنه يبدو متعباً للغاية مثلها تماماً.
لم تجيبه و لكنها وقفت أمام نافذة غرفتها تطالعه بنظرات ممتلأه بالفقد و الإشتياق و الحنين.. و آاااااهٍ من الحنين!
سالت دمعاتها لا إرادياً وهي تستمع له يقول:
_عشان خاطري يا لينا ردي عليا.. صوتك وحشني.. أنا مش عارف أعيش من غيرك يا لينا و حياتي بايظه.. انا عارف إن خسارتك متتعوضش.. بس إرحميني.. أنا كمان بتعذب و أنا شايفك بتموتي بالبطئ قدام عيني و مش عارف أعملك حاجه.
إستمع إلي صوت نهنهتها فأغمض عينيه بألم و حسرة و نظر إلي الأعلي فوجدها تقف خلف زجاج نافذتها فـ وضع هاتفه بجيبه ثم دخل إلي الڤيـلا.
صعد إلي غرفتها و فتح الباب بغتةً مما أثار دهشتها و لكنها لم تتحدث.
قطع المسافه بينهما ليقف في مواجهتها و يقول:
_حرام عليكي يا لينا اللي بتعمليه فيا ده! وحشتيني.
و كأنها كانت تنتظر سحب ذلك الفتيل فأسرعت تعانقه عناقاً متعباً فضمها هو إليه بشوقٍ بالغ وهو يشم رائحتها التي إشتاقها و رفعها عن الأرض وهو يطبق بيديه علي عظامها حتي كادت تصرخ ألماً.
أبعد وجهه من عنقها و نظر إليها وهو ما زال يحتضنها ثم قال:
_وحشتيني يا فله.. كده تعذبيني معاكي طول السنه دي؟! هونت عليكي إزاي توجعي قلبي عليكي بالشكل
بادلته النظر بأعين باكيه قد أنهكها البكاء فما كان منه إلا أن قبّل عيناها بحب و لطف وهو يتودد إليها بنبرة حنونه و يقول:
_صوتك وحشني يا فله.
أعادت النظر إليه وهي لا تتوقف عن البكاء ففعلها مرة أخري و قام بتقبيل عيناها و قال:
_أنا بحبك يا لينا.. بتحبيني؟!
أومأت له بنعم وهي تجاهد كي تمتنع عن البكاء فقال وهو ينظر لها بثبات داخل عينيها:
_إنطقي و قوليها.. عشان خاطري قوليها يا لينا.
دفنت رأسها بعنقه وهي تمسّد رقبته بذراعيها ثم قالت:
_بحبك أوي يا رزق.
تنفس الصعداء و ضمها إليه أكثر و قال:
_لينا أنا مش هقدر أبعد عنك تاني..عشان خاطري متقلقينيش عليكي..أنا عارف إنها مش حاجه سهله..بس كمان ده مش حل..الحزن في القلب..لازم تاكلي و تخرجي و تضحكي عشان تعيشي..ده قضاء ربنا و قدره.
بدأت بالبكاء مرة أخري وهي تقول:
_حنين ماتت و سابتني يا رزق..متعرفش إنها كانت أمي!..
اللي أنا فيه ده غصب عني أنا مكنتش أعرف حد غيرها وهي كانت بالنسبة لي كل الناس..أهل و قرايب و صحاب.
ربت علي ظهرها قائلاً بعتاب مصطنع:
_طب و أنا فين من ده كله؟!
فاجئته هي عندما طبعت قُبله خاطفه بجانب ثغره ثم قالت:
_إنت حبيبي يا رزق.
تنحنح قائلاً بنبرة مهزوزة:
=لا أنا هنزل قبل ما جمال بيه و مدام بسمة يرجعوا.. أصل لو فضلت هنا مش خارج خالص.
إشتعلت نيران الخجل بوجهها ثم حاولت تبديل الخوار و سألته:
_هما فين؟!
=مش عارف الحقيقه..هو قاللي هخلص و هكلمك تيجي تاخدنا.
أومأت له فقام بإحتضانها المرة الأخيره و إنصرف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_أنا مش عارف إنتي جيبانا هنا ليه؟!
قالها جمال وهو يجلس علي مقعد قديم متهالك بمكان تملؤه رؤوس الحيوانات و الأشكال الغريبه و أمامه مدخنه يتطاير منها الدخان الكثيف.
و تابع بضجر: انا لو أعرف إنك هتجيبينا لبتوع أشتاتاً أشتوت دول والله ما كنت جيت معاكي.
إزدردت "بسمة"ريقها بخوف و توتر ثم قالت وهي تلتصق به:
_والله انا ما كنت أعرف إنه كده..اللي دلتني قالتلي شيخ و بيعالج بالقرآن!..منها لله بقا.
=أهو لا طلع شيخ ولا بيعالج بالقرآن..إتبسطي بقـ......
بتر كلمته عندما رأي رجلاً طويل القامه نحيل الجسد يدخل إلي الغرفه و يجلس بمقابلهم ثم تحدث بصوته الغليظ:
_أؤمروا يا بشوات..؟!
تحدثت بسمة بأحرف متقطعه متلعثمه وقالت:
=بـ بـ بـ..بنتي يا سيدنا الشيخ..من يوم وفاة صاحبتها من سنه وهي لا بتاكل ولا بتشرب ولا بتتكلم!!
ثم تابعت بأسي:قولت أجي أسألك أعمل معاها إيه ولا دي حلها إيه؟! يمكن الحل في إيديك؟!
أغمض الرجل عينيه و بدأ بإصدار همهمات غير مفهومه ثم إرتفع صوته وهو يلقي بشئٍ ما داخل النار المشعله أمامه و يقول:
_مدد يا أسيادنا..تفكوا كرب الحزينه و تجلوا عتمتها لينا بنت مشيرة...
يتبع الفصل الثالث عشر اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية في غيابة الجُب" اضغط على اسم الرواية