رواية امرأة العقاب البارت الرابع والعشرون 24 بقلم ندى محمود توفيق
رواية امرأة العقاب الفصل الرابع والعشرون 24
كان تمامًا كبركان وحممه البركانية تفوح على سطحه ولا يتبقى سوى لحظات على الانفجار ليقضي على الأخضر واليابس ، وجهه يعطي لون الأحمر الداكن من فرط احتقان الدماء والغضب وهو يتطلع لها كأسد وجد فريسته التي يبحث عنها وسيتفنن في طريقة تعذبيها قبل أن يقتلها .
ازدردت ريقها برعب اعتلى كل معالمها وتراجعت للخلف في تلقائية ، بينما هو فتقدم نحوها ورفع يده ثم هوى به على وجنته في صفعة قوية اسقطتها أرضًا وهي تصرخ من الخوف والدهشة .. اندفع إليها كالثور الهائج وقبض على شعرها يجذبها من خصلاتها بدون رحمة صارخًا :
_ بتخونيني أنا يافريدة !!
ارتفع صوت نحيبها وبدأت ترتجف من الرعب وهي تهتف متوسلة :
_ سامحني يا عدنان ابوس ايدك
وجدت صفعة أخرى تنزل على وجنتها من كفه الكبير وكانت أشد وأقسى من السابقة جعلتها تصرخ من الألم وهي تبكي ، خرجت صيحة منه نفضتها في أرضها نفضًا :
_ هو فين ال******
استمرت في البكاء القوى دون أن تجيب عليه فعاد يصرخ بصوته الجهوري :
_ انطقي فينه ؟
ردت عليه بصوت مرتجف وجسدها يرتجف معه :
_ خــ ... خر .. ج
_ اممم فاكر نفسه هيعرف يهرب مني
تقهقرت في الأرض للخلف وهي تهتف بتوسل وسط بكائها :
_ خليني اشرحلك كل حاجة عشان خاطري ياعدنان
ضحك بشكل مرعب تمامًا كشبح وتقدم إليها هادرًا بسخرية :
_ هتشرحيلي متقلقيش وبالتفصيل كمان .. بس الأول اشرحلك أنا هعمل فيكي إيه
قبض على ذراعها في عنف وبحركة مفاجأة يرغمها على الوقوف وهي تأبي فصرخ بها في صوت نفضها :
_قــــومـــي
وقفت بقدم مرتعشة وهي تبكي بصوت مرتفع فجرها هو خلفه كالحيوان وسط توسلاتها ونحيبها الشديد الغير مبالي لها .. اوصلها إلى سيارته وفتح المقعد المجاور له ثم ألقي بها في قسوة للداخل وهو يصيح بها :
_ ادخلي يلا
جلست في المقعد وهي ترتجف وتتابعه بعيناها الباكية وهي تراه يستدير حول السيارة ويستقل بالمقعد المخصص للقيادة المجاور لها وينطلق بالسيارة كالسهم .. خرج منها سؤالًا مرتجف وصوت مبحوح :
_ إنـ .. إنــ .. ـت ماخدني فين ؟
التفت لها برأسه وهتف بابتسامة ارعبتها أكثر من الجملة التي تفوه بها :
_ على قبرك
همت بالتحدث مرة أخرى فصرخ بها في غضب هادر :
_ مش عايز اسمع صوتك .. بتخونيني أنا بعد كل اللي عملته عشانك وحبي ليكي .. تستغفليني أنا وتخونيني لا وكمان مع مين .. مع نادر !! .. بس أنا هخليكي تشوفي عدنان الشافعي على حقيقته بجد
ارتفع صوت بكائها وهي تنكمش على نفسها في المقعد بارتيعاد ، بينما هو فاستمر في القيادة وهو مشتعل من فرط الغضب ، وبعد دقائق طويلة توقفت السيارة أمام منزل كبير نسبيًا في أحد المناطق الراقية والقليلة السكان .. نزل من السيارة والتفت من الجهة الأخرى وفتح الباب ثم أمسك بها من ذراعها وجذبها للخارج وهو يجرها خلفه لداخل المنزل .. تطلعت حولها بدهشة فلا تفهم سبب جلبه لها هنا وبذلك المنزل بالأخص .
فتح الباب ودخل هو أولًا ثم جذبها والقاها للداخل فكادت أن تسقط لولا أنها توازنت بقدمها قبل أن تقع ، اغلق هو الباب واقترب منها هامسًا بابتسامة مريبة وعينان تنبع بالغل :
_ متخافيش مش هقتلك .. بس قصاد كدا هخليكي تتمنى الموت يافريدة
تراجعت للخلف في رعب وهتفت بدموع تنهمر على وجنتيها في صمت :
_ جبتني هنا ليه ؟!
_ عشان كل حاجة تنتهي في المكان اللي بدأت فيه
اندفعت نحوه واستندت بيدها على صدره تهتف في توسل باكية بقوة :
_ متطلقنيش يا عدنان ابوس إيدك .. اعمل فيا اللي إنت عايزه .. بس أنا مليش حد
دفعها بجفاء واشمئزاز فسقطت فوق الأريكة .. اقترب هو وانحنى عليها يقبض على فكها بقسوة ويهدر أمام وجهها يتقن وقرف ممتزج بالوعيد :
_ تعرفي نفسي اقتلك واخد روحك بإيدي عشان أطفي ناري .. بس متستاهليش ادخل السجن فيكي وأنا معايا بنت محتاجاني .. إنتي متستالهيش أي حاجة .. استغليتي حبي وثقتي فيكي وطعنتيني في ضهري .. بس العيب مش عليكي .. العيب عليا أنا عشان انتي اثبتيلي قد إيه أنا كنت غبي ومغفل
لحظة مرت سكت فيها ثم لمعت عيناه بنار الغضب والخزي وهتف بوعيد حقيقي :
_ إنتي مخدتيش مني غير الحب والاحترام بس دلوقتي جه الوقت اللي تشوفي فيه عدنان في وجهه الآخر ، دوقتي طعم الجنة وجه دور الجحيم .. جحيمي !
ثم تركها وانتصب في وقفته ليقبض على ذراعها ويجذبها خلفه باتجاه إحدى الغرف الصغيرة ويلقى بها في الداخل واقفًا عند الباب وهو يبتسم بعدم رحمة .. أدركت هي فورًا ما ينوى فعله ولما القى بها في تلك الغرفة الضيقة والصغيرة .. يعرف جيدًا أنها تخشي الأماكن المغلقة والضيقة .
وثبت واقفًا وهرولت إليه راكضة لكنه كان اسرع منها حيث أغلق الباب ووضع المفتاح في القفل واغلقه ، غير مكترثًا لصياحها وهي تضرب على الباب من الداخل وتهتف باكية :
_ افتح الباب ياعدنان ابوس ايدك متعملش فيا كدا إنت عارف إني بخاف من الأماكن المغلقة
وكأنه اخرج قلبه ووضع مكانه حجر لا يشعر ولا ينبض .. لم يؤثر به صياحها وبكائها وتوسلاتها بقدر ذرة بل لم يكترث لها حتى حيث استدار وسار للخارج مغادرًا المنزل بأكمله تاركًا أياها تصرخ متوسلة إياه .. فتح الباب وكان أمامه يقف احد رجاله فألقى عليه نظرة صارمة وحادة فهم الآخر من خلالها تعليماته فور دون الحاجة إلى حديث .. وتابعه بعيناه وهو يتجه نحو سيارته ويستقل بمقعده ثم ينطلق بها .
***
تقف في الحديقة وتسقي ورودها الحمراء وهي شاردة الذهن .. ترتدي عبائة منزلية طويلة لكنها دون أكمام .. بالكاد اكمامها تخفي أكتافها .. سمعت صوت سيارة تقترب من المنزل ظنته هو في باديء الأمر لكن حين رأت السيارة المختلفة عن سيارته ضيقت عيناها باستغراب وباللحظة التالية كان يخرج منها آدم .
تركت الدلو المخصص لسقي الورود ووقفت تجاه آدم تتطلع له بحيرة وهو يقترب منها مسرعًا ويهتف :
_ عدنان فين يا جلنار ؟!
غضنت حاجبيها بحيرة وقد اقلقها تلهفه في السؤال عن أخيه بهذه الطريقة ولوهلة ظنت أن مكروه قد أصابه فهدرت بنبرة مهتمة :
_ مش موجود .. هو في حاجة حصلت ولا أيه يا آدم ؟!!
مسح على وجهه بقوة متأففًا بقلق فهو يحاول الوصول له منذ أمس ولكنه لا يجيب على هاتفه .. رفع نظره لها فرأى القلق الحقيقي بدأ يرتفع لملامحها وهي تحدق به منتظرة منه أن يفسر لها ما يحدث .. فتنهد آدم بحرارة وتمتم :
_ عدنان عرف كل حاجة امبارح
شهقت بصدمة وهتفت :
_ عرف بفريدة ونادر ؟!
هز رأسه لها بالإيجاب لتعود وتهتف ولا تزال الصدمة تعتلي ملامحها :
_ عرف إزاي ؟!!
_ معرفش مقاليش أي حاجة أنا أساسًا بحاول أوصله من امبارح بليل ومش بيرد عليا ولا عارف راح فين
صعد الخوف والقلق لوجهها وهي تجيب عليه بعبوس :
_ هو كان هنا امبارح بليل متأخر وكان واضح عليه إنه متضايق بس أنا متوقعتش إنه يكون عرف .. قولت يمكن مشاكل في الشغل
توجه آدم وجلس على أقرب مقعد وجده أمامه وهتف بصوت خشن :
_ عدنان مكنش طبيعي إمبارح .. أنا خايف يكون عرف مكان فريدة ويعمل فيها حاجة ويضيع نفسه
تسرب الارتيعاد إلى قلبها فور سماعها لكلمات آدم ووجدت نفسها تهتف بسرعة في توتر ملحوظ :
_ طيب حاول كلمه تاني يا آدم .. ولو رد عليك قوله أي حاجة خليه ييجي مثلًا قوله هنا تعبت .. على الأقل يهدى شوية عشان ميتصرفش بتهور
_ مش بيرد يا جلنار ماهو ده اللي مجنني
_ طيب والحل ايه دلوقتي ؟
_ مش عارف مش عارف
أخذت تفرك يديها في قلق ظاهر على ملامحها .. لا تتمكن من إخفاء خوفها من أن يقوده غضبه لأفعال جنونية ويقتلها فيتسبب في دخول نفسه للسجن .
***
كان يقف أمام روضة الأطفال يستند بجسده على سيارته .. عاقدًا ذراعيه أمام صدره وعيناه معلقة على الباب ينتظر خروج صغيرته .. يصدر زفيرًا بين كل آن والآخر في محاولات بائسة منه للتنفيس عن صدره المختنق .
خرجت هنا من البوابة وهي تحمل فوق ظهرها حقيبتها الطفولية الصغيرة وتركض باتجاه أبيها في وجه مشرق ، قابلها هو بابتسامته الدافئة والعاشقة رغم ما يمر به من خراب داخلي إلا أن رؤيته لملاكه الصغير كافية لرسم البسمة تلقائيًا على وجهه .. انحنى بجزعة للأمام يفرد ذراعيه ليستقبلها بمجرد وصولها إليه حاملًا إياها فوق ذراعيه ولاثمًا وجنتيها بحب متمتمًا :
_ وحشتيني ياروحي
عبست هنا وزمت شفتيها للأمام في حزن متمتمة وهي تشيح بوجهها عنه في تمرد :
_ لا أنا زعيانة ( زعلانة ) منك
_ زعلانة مني !!
هنا بعتاب وغضب طفولي :
_ أيوة أنت مجتش امبارح وكمان أول امبارح
ظهر الضيق على محياه فرد عليها معتذرًا بأسف :
_ أنا آسف ياحبيبتي كان معايا شغل .. وعد مش هتتكرر تاني ياملاكي
صعدت البسمة الساحرة لثغرها الجميل وهي توميء له بالموافقة فابتسم لها بحنان .. حرص على أن يأتي بنفسه ويأخذها من روضتها حتى يكون مطمئن فهو لا يأمن خطوة نادر القادمة ستكون أين .. وأيضًا كان يعلم أن رؤيته لها ستهدأ من نيران صدره قليلًا وربما ستنسيه الأمر مؤقتًا .
استدار بها من الجهة الأخرى للسيارة وفتح باب المقعد المجاور له ثم اجلسها به واغلق الباب واتجه نحو مقعده المخصص للقيادة ليستقل به بجوارها وينطلق بالسيارة .. خرج صوتها الطفولي وهي تسأل بحماس :
_ هنروح البيت يابابي
_ أيوة يا حبيبتي هنروح البيت
ارتفع صوت رنين هاتفه وأخيرًا قرر أن يجيب عليه فأمسك به وضغط على زر الإجابة ثم فتح مكبر الصوت وهتف :
_ الو
اندفع آدم به صائحًا بغضب :
_ مش بترد عليا من امبارح ليه يا عدنان .. أنا لما غلبت روحت البيت عند جلنار قولت يمكن الاقيك هناك .. ولسا يدوب خارج من هناك
عدنان بهدوء مريب وصوت أجش :
_ استناني في الشركة يا آدم وأنا هخلص كام حاجة ضروري وبعدين وهروح وراك .. نبقى نتكلم هناك
_ إنت فين دلوقتي وعرفت مكانهم ولا لسا ؟!
عدنان بإيجاز ولهجة حازمة :
_ أنا بسوق يا آدم .. نتقابل في الشركة قولت
كان آدم على وشك أن يجيب عليه لكنه سمع صوت صافرة إنهاء الاتصال .. فانزل الهاتف من فوق أذنه وهو يتأفف بخنق وعدم حيلة ، ثم غير وجهة سيارته ليسير في طريق الشركة .
***
_ سبتي الشغل ليه وإزاي ؟!!
زمت مهرة شفتيها بأسى وتمتمت بمعالم وجه عاجزة :
_ مش أنا اللي سبته يا سهيلة .. عم سمير عرف بالكلام الداير في المنطقة واداني بقية مرتبي وقالي شوية كلام كدا يعني بمعنى اصح إنه مش حابب يشغلني عنده في المكتبة بعد اللي سمعه عني
استشاطت سهيلة وهتفت بغيظ :
_ أما راجل قليل الأصل بصحيح .. طيب وإنتي هتعملي إيه دلوقتي ؟
رفعت مهرة كتفيها لأعلى بعدم حيلة وهدرت بعبث :
_ مش عارفة أنا شوفت أعلان لشركة محتاجين موظفين في قسم الحسابات فقدمت فيها وبكرا هروح اعمل الإنترڤيو وأشوف هتقبل بقى ولا إيه
تنهدت سهيلة بأسى وحزن على صديقتها ثم تمتمت باهتمام :
_ طيب إنتي قولتي لخالتي فوزية على اللي حصل ولا لسا
هزت رأسها بالنفي هاتفة في يأس :
_ لا ما إنتي عارفة ياسهيلة تيتا تعبانة وأنا خايفة اقولها حاجة تتعب اكتر مستنية بس تسترد صحتها كويس وهقولها على كل حاجة
اقتربت منها سهيلة وضمتها لصدرها معانقة إياها في حرارة ودفء متمتمة بتأثر :
_ متزعليش نفسك يا حبيبتي .. إن شاء الله اللي جاي كله خير .. وأنا واثقة إنك هتتقبلي في الشغل الجديد ده خصوصًا إنهم عايزين موظفين في تخصصك
أخذت مهرة نفسًا عميقًا وردت بضيق ملحوظ في نبرتها :
_ آمين يا سهيلة .. آمين
***
وثبت واقفة بلهفة فور سماعها لصوت الباب وهو ينفتح .. فأسرعت مهرولة نحو الباب حتى تراه فوجدته يدخل ومعه صغيرتهم التي هرولت نحو أمها وتعلقت بقدمها هاتفا في سعادة :
_ بابي جه اخدني من الحضانة يا ماما
رسمت ابتسامة باهتة على ثغرها بعين تنظر بها لصغيرتها والأخرى عالقة على عدنان الذي نزع حذائه عنه واتجه للداخل بصمت نحو غرفتهم .
التفتت برأسها للخلف تتابعه في قلق ، ثم عادت برأسها تجاه ابنتها وهتفت بحنان أمومي ولطف :
_ طيب روحي يلا ياحبيبتي غيري هدومك عشان ناكل كلنا مع بعض
وثبت الصغيرة وهي تصيح فرحًا ثم ركضت مسرعة تجاه غرفتها حتى تبدل ملابسها كما اعتادت كل يوم بعد عودتها من دوامها .. بينما جلنار فتنهدت بقوة وسارت متجهة خلفه .. دخلت الغرفة وبحثت عنه فلم تجد له أثر لكنها سمعت صوت الماء في الحمام .. فتقدمت إلى الفراش وجلست فوقه تنتظر خروجه .. وبعد دقائق قصيرة خرج وهو يرتدي فقط بنطال وعاريًا الصدر .. حدقها بنظرة قوية للحظة ثم هتف وهو يسير نحو الخزانة :
_ هنا مش هتروح الحضانة اليومين الجايين
ضيقت عيناها بعدم فهم وسألت :
_ ليه ؟!
تجاهل سؤالها واكمل بنفس لهجته السابقة :
_ وإنتي كمان مفيش خروج من البيت غير معايا من هنا ورايح
_ مش فاهمة ليه برضوا !!
عدنان بعصبية خفيفة وحدة :
_ من غير ليه ياجلنار .. نفذي اللي بقوله وخلاص من غير نقاش
تأففت بصوت مسموع وتوقفت لتسير نحوه في خطوات هادئة وتقف بجواره متمتمة بلطف :
_ إنت كويس ؟
رقمها بنظرة مطولة يمعن النظر بها يقرأ نظراتها الموجهة إليه ، فأدرك الهدف وراء سؤالها .. اشاح بوجهه وأخرج ملابسه بجيبها بنبرة قوية :
_ إنتي شايفة إيه !
جلنار بخفوت :
_ مش عارفة .. بس حبيت اقولك فكر في هنا قبل أي تصرف تعمله
لم يجيب ولم ينظر لها فقط سار مبتعدًا عنها وهو يشرع في ارتداء ملابسه .. ترى في عيناه قسوة وجبروت مريبين جعلوها هي من تخشاه لوهلة .. يبدو أن الطوفان قضي على الكثير وسوف يحتاج لوقت طويل حتى يعيد ترميم ذلك الخراب .
غمغمت تسأله بترقب لرده رغم توقعها الرد إلا أنها سألت :
_ الغدا جاهز .. هتاكل معانا ؟
_ لا
حرفين فقط لكنه نطقهم بصوت غليظ ومثير للرهبة فتنهدت هي الصعداء بيأس ثم استدارت وغادرت الغرفة بأكملها .
***
كان يقف أمام النافذة الكبيرة يتحدث في الهاتف ومن خلال حديثه فهمت أنه يتحدث عن العمل .. فاقتربت منه ووقفت خلفه منتظرة أن ينتهي من حديثه ، وبعد دقيقة تقريبًا انتهى ثم التفت برأسه للخلف وابتسم لها بعذوبة وهو يمد يده ويتلقط فنجان القهوة من يدها هاتفًا :
_ ربنا يخليكي ليا يافطوم
رتبت على كتفه بحنو مردفة :
_ ويخليك ليا ياغالي .. في مشكلة في الشغل ولا إيه
هز رأسه بالنفي وهو يرفع الفنجان لفمه ويرتشف منه ببطء ثم يجيب عليها بعد أن انزله :
_ لا مفيش مشكلة ولا حاجة الحمدلله
ابتسمت فاطمة براحة ثم همست بخبث وهي تنكزه في ذراعه بخفة :
_ مش ناوي تفرحني بيك بقى ياحاتم ؟!
حاتم بمداعبة وهي يبتسم ببساطة :
_ الاقيها بس وأنا مش هسيبها متخافيش
غمزت له بلؤم أشد وهمست بنظرات ذات معنى :
_ طيب ما هي موجودة !
_ موجودة فين ؟!!!
كان سؤال مستغربًا يحمل بعض الاستنكار فضحكت هي واجابته بتحمس :
_ نادين .. دي البنت قمر ما شاء الله أنا متوقعتش إنها تطلع كدا .. جمال وأدب ورقة يعني تبقى غبي لو ضيعتها من إيدك
رفع حاجبه متطلعًا لخالته بدهشة من كلماتها وارتفعت الابتسامة لشفتيه تدريجيًا ثم تحولت لضحكة وهو يجيبها بعدم استيعاب :
_ احنا لسا يدوب لينا يومين يا فطوم .. لحقتوا تبقوا حبايب بالشكل دي وكمان عايزة تجوزهالي !
فاطمة بغيظ وهي تلكمه في ذراعه بلطافة :
_ هو مش إنت اللي كنت قارفني كل ما اكلمك في التلفون نادين .. نادين .. نادين
حاتم ضاحكًا بقوة :
_ أيوة عشان أنا معيش حد في امريكا غيرها ياخالتي وإنتي عارفة .. وهي أقرب حد ليا !
_ طيب وفيها إيه بقى لما تبقى اقرب وتتجوزها
قطع حديثهم صوت نادين الرقيق وهي تنزل الدرج وتهتف بمرح :
_ لا الحرارة بمصر هون كتير عالية أنا ماني قدرانة اخد نفسي .. الله يعينكن عن جد
قهقهت فاطمة بقوة واكتفى حاتم بابتسامته الواسعة التي من بينها همس بصوت منخفض لخالته :
_ قفلي على السيرة دي دلوقتي بقى هااا
لم تبالي له فاطمة وعمدًا حتى تثير غيظه هتفت محدثة نادين بخبث دفين :
_ تعالي بس يانادين شاركينا الحديث عشان أنا تعبت من حاتم
رقمها بنظرة مشتعلة ومغتاظة فكتمت ضحكتها وتابعت نادين وهي تقترب منهم وتهتف بنظرات مستفهمة تنقلها بين حاتم وبين فاطمة :
_ شو سوى ؟!
هدرت فاطمة بنصف عين تنظر بها لحاتم في مكر :
_ بحاول اقنعه إنه يتجوز ومفيش فايدة فيه .. تعبت معاه وأنا نفسي افرح بيه
تلاشت ابتسامة نادين فورًا وتشنجت ملامح وجهها وهي تتطلع بحاتم وتهتف بتعجب :
_ يتجوز !!
_ أيوة ده هو داخل على 31 سنة كفاية أوي كدا .. لازم يتجوز ويكون ليه بيت وأسرة ولا إنتي إيه رأيك ؟!
ظهرت الغيرة على وجهها وهي تجيب برفض وحدة امتزجت بغضب مكتوم :
_ لا أنا برأى مش لازم إلا إذا كان هو بدو يتجوز
حك حاتم مؤخرة رأسه وهو يبتسم ببعض اللؤم ثم هتف مغيرًا مجرى الحديث :
_ طيب ياخالتو خلاص مش وقته الكلام ده دلوقتي .. وانتي يا نادين اجهزي عشان في اجتماع شوية بليل تبع الشغل ولازم تكوني معايا
تطلعت إليه بغيظ ونظرة مشتعلة ثم هتفت بالموافقة :
_ أي تمام راح أجهز
نظراتها وطريقتها وهي ترد عليه جعلته لم يتمكن من منع ضحكته التي انطلقت بتلقائية وهو يلوح بيده في عدم حيلة ثم يسير مبتعدًا عنهم متجهًا إلى غرفتها .
***
فتح آدم باب الغرفة دون أن يطرق ودخل فوجد عدنان يجلس على الأريكة فاردًا ذراعه على أعلى الأريكة ويضع ساقًا فوق الأخرى وبيده سيجارة يدخلها في فمه ثم يخرجها وينفث الدخان في شراسة .
فهم آدم بتلك اللحظة أن هدوئه الظاهري ما هو إلا قناع كاذب يرتديه أمامهم ومن الداخل هناك أعصار مدمرة لو خرجت لقضت على كل شيء .. هو لا يشرب السجائر إلا في حالات غضبه العاتية .. وكأنه يفرغ غيظه بها .
تحرك آدم وجلس بجواره فوق الأريكة يرمقه بنظرات ثاقبة ، ولكن عدنان كان ينظر في الفراغ أمامه دون أن ينظر لأخيه وهدر بعد ثواني معدودة :
_ عرفت من إمتى ؟
آدم بخشونة :
_ لما عملت الحادث عرفت
_ إزاي ؟
يسأل بسكون تام ولم يكن ذلك الهدوء مطمئن لآدم مطلقًا لكنه أصدر زفيرًا حارًا بعد دقيقة كاملة من الصمت وهو يجيب عليه يخبره بالحقيقة :
_ عرفت من جلنار
كان ينفث الدخان من فمه وبعدما صكت تلك الجملة أذنه صابه الذهول فكتم بقية الدخان في فمه دون أن ينفثه ورمق أخيه بنظرة حمراء هاتفًا :
_ جلنار كانت تعرف !
_ أيوة راقبت فريدة يوم افتتاح المعرض وشافتها وهي رايحة لنادر وعرفت بعدها وأنا لما ضغطت عليها قالتلي
يبدو أن الوحش استيقظ من جديد حيث ألقي بالسيجارة في الأرض واطفأها بقدمه يدهسها بعنف هامسًا بهدوء ما قبل العاصفة :
_ وأنا آخر من يعلم .. ولا خلينا نقول المغفل اللي الكل عرف خيانة مراته وهو مش حاسس بيها
أشفق على أخيه وهو يشعر بمدى المه الذي يمزقه من الداخل ويتظاهر بالقوة والثبات ، فأجاب عليه بأسى :
_ مش ذنبك إنك حبيتها ياعدنان وكنت بتثق فيها ومتوقعتش منها الطعن في الظهر ولا إنها قذرة وو*** بالشكل ده
_ مقولتليش ليه ؟!
سؤال آخر يطرحه وبهمس منخفض أكثر .. أخذ إجابة سؤاله بالصمت من أخيه مما جعله يهب واقفًا وهو يصرخ معلنًا هبوب الرياح المدمرة :
_ مقولتش ليه !!!
صاح آدم مثله مغلوبًا على أمره :
_ كنت عايزاني اقولك مثلا مراتك بتخونك مع ال**** اللي بتعتبره صديق ومأمنه على شغلك وشركتك .. كنت عايزاني اقولك كدا في وشك !! ، حط نفسك مكاني وقولي كنت هتقدر تقولي ولا لا ياعدنان
لحظات قاتلة من السكون المرعب مرت فأعتقد آدم أنه الانفجار الحقيقي سيأتي الآن لكنه على العكس تمامًا رآه يبتسم بشكل مريب ويهدر بخفوت في ملامح وجه لأول مرة يراها على وجهه :
_ وجلنار اللي قالتلك !!!
ادرك جيدًا شعوره الآن بعد جملته تلك فاستقام آدم واقفًا وتابعه وهو يتجه نحو النافذة يقف ينظر منها واضعًا كفيه في جيبي بنطاله ، تقدم إليه وهتف بصوت رزين :
_ الأهم دلوقتي هو إنك عرفت حقيقتها قبل ما يفوت الآوان
ابتسم بسخرية وهو يهمس :
_ كل ده ولسا مفتش
آدم بجدية :
_ لا مفتش يا عدنان .. إنت كان عندك استعداد تطلق جلنار بسببها وكنتوا هتطلقوا بالفعل بس الحمدلله محصلش .. ودلوقتي اهي جات الفرصة انك تحافظ عليها هي وبنتك ومتخسرهمش
تطلع لأخيه وهو يبتسم بدفء .. ثم رتب على كتفه وهمس باسمًا :
_ كبرت وبتديني نصايح كمان يا آدم !
بادله الابتسامة وهو يجيب عليه بصوت رخيم :
_ لا دي مش نصايح يا Boss أنا بقولك الحقيقة اللي إنت مكنتش شايفها
اكتفى بابتسامته الباهتة فاستكمل الآخر باهتمام :
_ مش هسألك عرفت مكانهم ولا لا عشان أكيد لقيتهم .. بس قولي عملت فيهم إيه ؟!
_ نادر هرب بس هجيبه هيروح مني فين يعني
_ وفريدة ؟!
عدنان بنظرات نارية :
_ لا دي عقابها مختلف معايا
تنهد آدم الصعداء براحة بعد أن فهم أنه لا ينوي أن يأذيها وهمس :
_ كويس إنك معملتش فيها حاجة
عدنان بنظرات تنبع بالشر والغل :
_ بس قصاد كدا هخليها تدوق العذاب أشكال والوان
***
في تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل ......
فتح باب المنزل ودخل .. ولم يكن المنزل هادئًا كالعادة كما اعتاد أن يجده بكل ليلة .. بل الأصوات المنبعثة من المطبخ أثبتت له أنها مازالت مستيقظة .. نزع حذائه بجانب الباب وتحرك في اتجاه المطبخ بخطوات متريثة بينما صوت خطواتها وتحركها فكان يصل لأذنه ويشعر به كأنه يراها أمام عيناه .
وصل أخيرًا ووقف عن الباب يتطلع لها بصمت وهو يراها تمسك بسكين وتقوم بتقطيع الخيار وترتدي إحدى قمصان النوم خاصتها القصيرة ، لم يمر الكثير من الوقت وهو يتأملها حتى هتف بصوت رخيم :
_ بتعملي إيه ؟
انتفضت في وقفتها بفزع وسرعان ما التفتت بجسدها كاملًا له تقول بصوت مزعور :
_ إنت إمتى جيت ؟!!
انتظرت أن يجيب عليها لكنه كان ينظر بجمود وبعيناه الثاقبة فتنهدت والتفتت بجسدها مرة أخرى توليه ظهرها وتهمس :
_ جعت وبعمل أكل ليا تحب اعملك معايا ؟
لم تسمع رد منه أيضًا سوى الصمت .. لحظات معدودة وشعرت به يتقدم نحوها في خطوات مدروسة .. يقترب ويقترب ، لا تنكر إن اقترابه المتريث هذا اربكها وخصوصًا عندما وجدته يقف بجوارها تمامًا شبه ملاصقًا لها ويجذب من يدها السكين هاتفًا بخفوت يحمل بحة صوته الرجولية المريبة :
_ خبيتي عني ليه ؟
رفعت رأسها لها وتطلعت في عيناه القوية .. ياله من جبار رغم خراب نفسه بعد كشفه لخيانة " فريدة " له إلا أنه يتفنن في إظهار القوة والشموخ أمامهم وكأن ما حدث لم يحدث .. طالت النظر في وجهه بثبات ثم مدت يدها وسحبت السكين من يده وعادت تكمل تقطيع الخيار هامسة :
_ مكنتش هتصدقني !
جذب السكين مرة أخرى من يدها لكن هذه المرة كانت بعنف وهو يجيب عليها بصوت غليظ :
_ ومجربتيش ليه ؟
رغبت في أن تجذب السكين من يده وهي ترمقه بحدة وتجيب عليه بغيظ لكنه رجع بيده خلف ظهره يمنعها من أخذ السكين :
_ عشان مكنش عندي استعداد استحمل كلامك الفارغ لو مصدقتنيش .. كانت هتحصل مشكلة كالعادة وأنا مليش مزاج اخش في جدال معاك وكنت ممكن تتهمني وتقولي إني غيرانة منها عشان كدا بقول إنها بتخونك
عدنان بنظرات مستاءة وصوت بدأ يصبح خشنًا :
_ فتروحي تقولي لآدم ومتقوليش ليا
_ أنا مقولتش لآدم هو اللي صمم إني اقوله لأنه كان شاكك في تصرفات فريدة زيك وزي وزينا كلنا ، ولما حس إني عارفة حاجة أصر إني اقوله
أخذ نفسًا عميقًا محاولًا السيطرة على انفعالاته واجابها بشبه ابتسامة ساخرة ظهرت على شفتيه :
_ طبعًا إنتي شمتانة فيا دلوقتي !
هزت رأسها بالنفي بعد لحظات عابرة من الصمت وهدرت :
_ تؤتؤ مش شمتانة .. بالعكس أنا عارفة كويس أوي احساس إنك تتطعن في ضهرك .. احساس إنك تدي الخير ومتاخدش غير الشر .. تمنح الحب وتحصل على الكره .. وإنت دلوقتي حاسس بكدا .. زي .. أنا في اللحظة دي بس اقدر اقولك بقينا متعادلين ياعدنان
رمقها بنظرة مطولة وآخر كلماتها تردد في أذنه ( بقينا متعادلين ) .. ألقت الغاز بتلك الكلمات وكان يتوجب عليه هو إيجاد الحل .. هي من أعطته الخير ولم تأخذ سوى الشر .. منحته الحب وحصلت على الكره .. وحين لجأت لأبيها طعنها بظهرها وسلمها له ، عقدوا اتفاقيات دنيئة بينهم حتى يحصل هو عليها ويحصل أبيها على أمواله ومكانته .. هم الآن في خط التعادل فعليًا ولكن الحقيقة أنها هي الرابحة ! .
انتهت من تقطيع الخيار وكذلك طعامها كله فحملت الصحون فوق يديها وخرجت بهم تاركة إياه يقف متسمرًا كالصنم .. خرج خلفها بعد لحظات لكنه ذهب لغرفته ليأخذ حمامًا دافيء .. وبعد دقائق طويلة خرج وهو يلف نصفه السفلي بالمنشفة الكبيرة وبيده المنشفة الصغيرة يجفف بها شعره .. وجدها تقف أمام المرآة تقوم بتسريح شعرها بعد أن انتهت من تناول طعامها ، تأملها لثواني ثم القى بالمنشفة التي بيده على الفراش واقترب منها .. تركت هي الفرشاة وهمت بأن تستدير وتتجه للفراش حتى تخلد للنوم .. لكن تجمد جسدها بأرضه حين شعرت بذراعه يلفه حول خصرها من الخلف وحرارة جسده بعد حمامه الدافيء انتقلت منه إليها .. انحنى عليها من الخلف وطبع قبلة ناعمة فوق شعرها بجانب أذنها هامسًا لأول مرة :
_ أنا آسف
يتبع الفصل الخامس والعشرون اضغط هنا
- تابع الفصل التالي عبر الرابط: (رواية امرأة العقاب كاملة) اضغط على أسم الرواية