رواية امرأة العقاب البارت السادس والعشرون 26 بقلم ندى محمود توفيق
رواية امرأة العقاب الفصل السادس والعشرون 26
تراخت قبضته على كفها وتدريجيًا سحب يده ببطء متطلعًا لها بعينان يائسة .. لطالما أبدت له عن الكره الذي تكنه له في ثنايا صدرها .. واعتاد أن يسمع منها ذلك الكلام .. لم يكن يبالي وربما لم يشعر بأنها تنبع حقًا من قلبها .. معتقدًا أنها فقط نابعة من غضبها منه وهذا ما يدفعها لتلك الكلمة باستمرار ، لكن اليوم شعر بصدق الكلمة .. غصبها وانفعالها من مجرد لمسة والذي تبعه اعترافها بنفورها من لمسته وكرهها ، لا يعرف لما أحسها حقيقية ! .
قرأت هي معالم الحيرة الممزوجة ببعض الضيق على وجهه ، فاخفضت نظرها لأسفل تجده يسحب يده ببطء تاركًا يدها ، عادت ورفعت نظرها له تتطلع إليه بصمت للحظات عابرة تتلاقي فيها أعينهم معًا .. هو يبحث عن أشارة تأكد له تكذيب الكلمة وهي تدقق النظر في عيناه بتعجب من نظرة الخيبة الظاهرة بهم كطفل كان يصدق حقيقة ويأمل في تحقيقها وحين لم تسير السفن كما تهوى نفسه خاب أمله ! .
شدت على محابس دموعها التي تجمعت بعيناها وردت عليه بجفاء امتزج بثباتها المزيف :
_ متقربش مني تاني لأن اعتقد مفيش حد فينا حابب يجرح التاني .. ندمك مش هيغير الحقيقة ياعدنان حتى لو أنا مقدرة ده ومتقبلة ندمك اللي متأخر .. مش هيغير حقيقة تهميشك ليا ولا حقيقة إنك إنت وبابا اعتبرتوني صفقة هو باع وإنت اشتريت .. وكمان مش هيغير أهم حقيقة وهي إنك مبتحبنيش
أبدًا لم ينظر لها على أنها صفقة .. قد يكون اشترك حقًا في تلك المؤامرة القذرة ضدها .. لكنها دومًا كانت زوجته قبل أن تكون أم ابنته .. ظهرت ابتسامة مريرة على شفتيه متمتمًا بنظرة تلمع بوميض مختلف :
_ بس غيرني أنا .. وده كافي إنه ممكن يغير كل اللي قولتيه دلوقتي
بادلته الابتسامة بأخرى مستنكرة ونبرة بائسة :
_ معتقدش
ثم استدارت وسارت لخارج الغرفة وتركته يمسح على وجهه وشعره متأففًا بخنق وعدم حيلة .. ! .
***
كانت تمسك بيدها كوب اللبن الصباحي الخاص بها .. وتجلس بحديقة المنزل تنقل نظرها بحركة تلقائية في كل جهة لكن عقلها شارد بمكان آخر .. جذبها من شرودها صوت باب المنزل وهو ينفتح فحركت رأسها باتجاهه لترى حاتم يخرج منه ويتجه نحوها بخطواته الثابتة .. اشاحت بنظرها عنه وتصنعت عدم ملاحظتها له ، ادرك هو تجاهلها له عمدًا فتنهد بخنق واستمر في الاقتراب منها حتى جلس على المقعد المجاور لها هامسًا :
_ صباح الخير
رفعت كوب اللبن لفمها ترتشف منه ثم تنزله وتجيب بمضض دون أن تنظر له :
_ صباح النور
شرد للحظة بها عندما رآها ترتشف من كوب اللبن برقة وشعرها البني يغطي نصف وجهها ونصفه الآخر منسدل على ظهرها بانسيابية وتتطاير منه خصلات قصيرة بفعل نسمات الهواء الناعمة .. هز رأسه بحركة نافرة حتى يستيقظ من تأثره اللإرادي بها وغمغم يعتذر للمرة الثانية :
_ نادين إنتي لسا زعلانة مني ! .. والله مقصدش أنا آسف فكيها بقى وابتسمي في وشي
نادين باقتضاب دون أن تنظر له :
_ ماني زعلانة
حاتم رافعًا حاجبه مستنكرًا ردها :
_ طيب بصي في وشي الأول حتى وقولي إنك مش زعلانة عشان اصدق
التفتت برأسها تجاهه وغمغمت بابتسامة صفراء :
_ مش زعلانة ياحاتم موضوع وانتهى خلص .. ما بعتقد أنه يستحق اننا نزعل من بعضنا مشانه
رد بضيق ملحوظ على معالم وجهه :
_ حقك عليا أنا آساسًا بني آدم سخيف والله .. وعد من هنا ورايح هخلي بالي في كلامي عشان اللي حصل ده ميتكررش تاني
علقت بتعجب وبعض الحدة :
_ شو هاد .. ليش إنت ناوي تكرره مرة تاني مثلًا !
حاتم موضحًا لها قصده ببساطة وهو يهز رأسه بالنفي مسرعًا :
_ لا قصدي متزعليش مني تاني يعني
لانت نظراتها الحادة والتفتت بوجهها للجهة الأخرى تخفي ابتسامتها الخجلة وهي تجيب بخفوت :
_ أي خلاص .. حصل خير ماني زعلانة عن جد
ابتسم باتساع وفجأة وثب من مقعده للأريكة يجلس شبه ملتصقًا بها ويتمتم بغمزة مشاكسة :
_ عن جد عن جد يعني ولا نص نص
انتفضت بفزع بسيط وحدقته مدهوشة لثواني قبل أن ترتفع قسمات الحزم لوجهها وهي تهتف :
_ حاتم شو عم تساوي بعد هيك عني وارجع لكرسيك
لم يزيده غضبها إلا اتساعًا في ابتسامته وهو يوميء بإيجاب مغمغمًا :
_ تمام أنا كدا اتأكدت أنه عن جد فعلًا
حدقته شزرًا بغيظ وهبت واقفة تسير باتجاه باب المنزل مسرعة لكنها هدأت من سرعة خطواتها حين سمعته يهتف بخبث :
_ جهزي نفسك عشان في خطوبة واحد صاحبي بكرا وعازمني ومش حلوة اروح وحدي
استشاطت غيظًا منه ، هو حتى لا يسألها عن رأيها بل يتحدث بلهجة آمرة وبكل ثقة .. التفتت برأسها له تهدر بعناد وغيظ تتحدث اللهجة المصرية :
_ مش هروح
ثم التفتت مرة أخرى وأكملت خطواتها بينما هو فغمغم مغازلًا إياها بعد أن انتبه لثوبها الأصفر :
_ هتروح ياجميل يا أصفر إنت
توقفت وقد اشتعلت من الغيظ والغضب حقًا فلمحت على الأرض حجرًا صغيرًا لا يؤذي لكنه سيرضى غيظها منه ، استدارت بجسدها نحوه والقت بالحجر عليه هاتفة :
_ هاد مشان تحترم حالك ياوقح
كاد أن يصيبه الحجر لولا أنه تداركه على آخر لحظة وتفاده برأسه الذي ماله بها للجانب فمر الحجر من جانب رأسه تمامًا ، كانت تراه يضحك باستمتاع وبرود استفزها لكنها قررت عدم الدخول معه في شجار الآن وتجاهلته ثم استدارت مرة أخرى وسارت للداخل وتركته .
***
في مساء ذلك اليوم ......
سارت باتجاه جدتها التي تجلس أمام التلفاز تشاهد مسلسلًا مصريًا كلاسيكيًا ( البخيل وأنا ) .. جلست بجوارها على الأريكة وهي تحمل بين يديها صحن كبير ممتليء بالفشار ، مدت فوزية يدها داخل الصحن دون أن تحيد بنظرها عن التلفاز والتقطت ثلاث حبات من الفشار بين اصابعها ورفعتهم بفمها تتناول كل واحدة على حد .. بينما مهرة فالتقطت حبة والقت بها داخل فمها مردفة وهي تشير بنظرها على التلفاز في ملل :
_ يازوزا حرام عليكي بقى كفاية المسلسل ده أنا حفظته من كتر ما بتخليني اسمعه معاكي غصب كل ما يكون شغال
روحت فوزية يديها لها بعدم اكتراث مغمغمة بسخرية :
_بس اسكتي إنتي ولا عارفة حاجة اتفرجي وشوفي بس
مهرة بإصرار :
_ والله عارفة حتى الراجل البخيل اسمه عوض اللي هو فريد شوقي يعني و بيفضل يحوش في فلوسه وميديش لولاده حاجة ومطفحهم المر وفي الآخر لما يموت ولاده هيكتشفوا أنه عنده ثروة و .... يووووه أنا كل شوية بحكي في الموال ده ، بصي معايا كدا طيب عايزة اقولك حاجة مهمة
فوزية بعينان ثابتة على شاشة التلفاز دون أن تنظر لها :
_قولي
أخذت نفسًا عميقًا واخرجته زفيرًا متهملًا قبل أن تهتف في نفس واحد :
_ أنا سبت الشغل
توقفت فوزية عن التحديق في التلفاز والتفتت برأسها تدريجيًا تجاه حفيدتها تتطلعها بدهشة امتزجت ببعض الغضب فقالت مسرعة تتفادى غضب جدتها :
_ يازوزا مش مرتاحة مع عم سمير والشغل مرهق أوي الصراحة وأنا بتعب
فوزية باستياء بسيط :
_ وماله عمك سمير ما الراجل ربنا يباركله ليكي سنين بتشتغلي معاه في مكتبته وعمرنا ما شوفنا منه حاجة وحشة وأنا عارفاه وببقى مطمنة عليكي عنده
ابتسمت مهرة بمرارة وودت لو تخبرها بكل شيء .. حتى تجعلها ترى هذه الملائكة المزيفة على حقيقتها .. لكنها آثرت الصمت بالنهاية خوفًا على صحة جدتها وقالت بابتسامة دافئة ونبرة رزينة :
_ معلش ياتيتا إنتي أكيد عايزة تشوفيني مرتاحة وأنا قولت اشوف مكان تاني اكون مرتاحة فيه وأفضل بنسبالي
ضربت فوزية بكفها الايمن فوق ظهر كفها الأيسر وهي تهتف بحيرة بعد تنهيدة طويلة أصدرتها :
_ وإنتي هتلاقي فين شغل تاني يا ناصحة
ابتسمت بارتباك بسيط وأجابت بخوف :
_ لا ما أنا لقيت !
علقت فوزية مدهوشة :
_ لقيتي فين هو إنتي لحقتي !!
تنحنحت مهرة واتسعت ابتسامتها البلهاء وهي ترد على جدتها برقة مصطنعة :
_ أصل أنا شوفت أعلان بالصدفة لشركة وكانوا محتاجين موظفين في قسم الحسابات ، تخصصي يعني فقولت اقدم .. قدمت وروحت الصبح عملت المقابلة وقالولي هيردوا عليا بكرا
اتسعت عيني فوزية بذهول وسرعان ما صاحت بحفيدتها في غضب حقيقي :
_ وإنتي تعملي ده كله من غير ما تقوليلي ولا تشاوريني .. ده إنتي ليلتك سودة يامهرة
رأتها تنزع حذاء قدمها عنها فأدركت ما سيحدث بعد ذلك ، وثبت واقفة وهرولت راكضة تجاه غرفتها ولسوء حظها أن فوزية ألقت بالحذاء فأصابها في ظهرها .. توقفت وهي تلف ذراعها للخلف تضعه على ظهرها صارخة بألم وتهتف من بين صراخها :
_ آاااه جالي الغضروف .. ياولية عايزة تعجزيني وأنا لسا في عز شبابي .. طب افرض اتقبلت في الشغل دلوقتي اروح للواد التركي ازاي .. اروحله وأنا على كرسي على متحرك يعني
فوزية مضيقة عيناها باستغراب وغضب :
_ مين الواد التركي ده كمان !!!
تداركت مهرة جملتها وقالت وهي تضحك ببلاهة :
_ لما اروح تركيا يعني واقابل عريسي هناك قصدي
فوزية بعصبية :
_ انجري يابت على اوضتك يلا .. تركيا في عينك .. قال قدمت وروحت عملت المقابلة أصل أنا مليش كلمة يا بنت رمضان
تجاهلت كلمات جدتها الغاضبة وسارت باتجاه غرفتها وهي ممسكة بظهرها وتتلوي بألم مغمغمة في عينان تبكي بكاء مزيف دون دموع :
_ ياعيني على شبابك اللي راح يامهرة .. الولية ماشاء الله تاخد جايزة نوبل في التنشين بالشبشب .. آه ضهري اتقطم !!
***
أمسكت بهاتفها الذي يصدع رنينه للمرة الثانية على التوالي .. قرأت هوية المتصل فتنهدت بقوة وأجابت عليه في نبرة جادة :
_ أيوة
ضيق عيناه باستغراب من نبرة صوتها لكنه أجاب بصوت لين :
_ عاملة إيه ياحبيبتي
_ كويسة يا رائد وإنت
لم تتغير نبرتها بل كانت مثل السابقة تمامًا وربما أشد حزم وجدية .. مما جعله يسألها بحيرة :
_ أنا كويس .. إنتي في حاجة مضيقاكي ولا إيه ؟!
لوت زينة فمها بتهكم وهدرت بعدم مبالاة مزيفة :
_ لا عادي مفيش حاجة
رائد بترقب لردها وصوت رجولي جاد :
_ زينة واضح من صوتك إن في حاجة حصلت .. قوليلي في إيه !
كانت قد عزمت أنها لن تسأله .. لكن كلما تتذكر تلك الفتاة وتقذف لذهنها صورتها تشتعل غيظًا من أسلوبها والطريقة التي تحدثت بها معها .
زينة بصرامة :
_ أصل من يومين أنا كنت في الكافيه قاعدة بشرب قهوة .. وفجأة لقيت واحدة وقفت جنبي وبتقولي إنتي زينة خطيبة رائد قولتلها إيوة ولما سألتها هي مين ضحكت بطريقة مستفزة وقالتلي معقول رائد مقالكيش أنا مين وفي الآخر تقولي اسأليه هو أفضل مين أنا وهو يقولك
انقطع صوته في الهاتف للحظات حتى عاد واجابها بصوت غليظ :
_ مين دي وتعرفني منين أساسًا
زينة باقتضاب :
_ والله معرفش أنا بسألك إنت .. هي كانت لبسها مش لطيف وطريقتها كمان في الكلام وشعرها صبغاه احمر وحاجة كدا تسد النفس
لعن في نفسه بغضب وهو يمسح على وجهه متأففًا بصوت منخفض ثم هدر بصوت حاني ومحب :
_ متشغليش بالك ياحبيبتي .. يمكن تكون واحدة تعرفني من الشغل أنا بتعامل في الشغل مع ناس كتير إنتي عارفة .. أكيد واحدة مش كويسة وحبت تضايقك بالكلام لو هي تعرفني صح يعني
زينة بنبرة لم تعود للطافتها بعد :
_ اممم ما أنا قولت برضوا إنت هتعرف الأشكال دي منين !
رائد باسمًا وهو يجيبها بمداعبة :
_ سيبك منها .. مش معقول خطوبتنا بكرا وهتبقى مضايقة في وشي عشان واحدة معرفهاش أساسًا
_ طيب ما هي تعرفك يا رائد !!
رائد موضحًا بلطف :
_ ياحبيبتي وهو لازم كل اللي يعرفني اكون عارفه !
أصدرت تأففًا ممتزجًا بتنهيدة حارة مجيبة عليه في رقة أخيرًا :
_ طيب خلاص متستهلش افكر فيها من الأساس
_ بظبط كدا ياروحي .. احنا دلوقتي ورانا حجات أهم نفكر فيها
اكملت زينة بدلًا منه وهي تبتسم باتساع :
_ زي الخطوبة مثلًا
رائد ضاحكًا ببساطة :
_ آه مثلًا !!
سمع صوت ضحكتها الرقيقة يرتفع في الهاتف .. ولم يتكلم حتى لا يفسد لحظات ضحكها فقط استمع لها وهي تضحك ! .
***
داخل منزل عدنان تحديدًا بغرفتهم .....
فتحت عيناها دفعة واحدة بزعر ثم استقامت جالسة في الفراش وهي تلهث بقسمات وجه مفزوعة .. التفتت بسرعة ومدت يدها لكبس الكهرباء حتى تفتح الضوء ، بقت تحدق أمامها في خوف أنها المرة الثالثة التي تراودها فيها الكوابيس في أحلامهما هذه الليلة.. رفعت نظرها بتلقائية لساعة الحائط فتجد الساعة تخطت الثانية بعد منتصف الليل ، تجولت بنظرها في أرجاء الغرفة بحثًا عنه ولكن لا أثر له ، تشعر بالنعاس الشديد ولكن الخوف هو الشعور الغالب عليها أكثر الآن .. تخشى أن تنام وحدها فيزورها الكابوس الرابع هذه المرة .
انزلت قدماها من الفراش ووقفت ثم سارت إلى خارج الغرفة ، ومن الغرفة إلى الدرج تنزله بتمهل ، كان الظلام الدامس يملأ الطابق السفلي من المنزل .. انتهت من نزول الدرج وسارت ببطء شديد حتى لا تصطدم بشيء .. وبتلقائية خرجت همسة خائفة منها دون أن ترى شيء :
_ عدنان !
ثلاث ثواني بالضبط بعد همستها وانفتح ضوء التحفة المنزلية الصغيرة ( الاباجوره ) الموضوعة فوق منضدة صغيرة بالقرب من الأريكة .. ورأته جالسًا فوق الأريكة و يلتفت برأسه لها للخلف هامسًا :
_ أنا هنا ياجلنار
تنهدت الصعداء براحة وهدأت نفسها المرتعدة بعد رؤيتها له .. تحركت نحوه بهدوء ثم جلست على آخر الأريكة بجواره في صمت .. فسمعته يسألها بتعجب :
_ إيه اللي صحاكي ؟!
هزت كتفيها تجيبه في خفوت دون أن تخبره بالسبب الحقيقي :
_ عادي
استنكر ردها بكلمة واحدة لكنه لم يعقب . فأخذت تخطف إليه نظرات خلسة وهي تراه يرجع برأسه للخلف على ظهر الأريكة ويغمض عيناه بسكون .. لم تتمكن من منع لسانها الذي تحدث وسأله :
_ إنت ليه قاعد هنا وفي الضلمة للوقت ده ؟
خرجت تنهيدة منه تبعها رده بصوت رخيم :
_ حبيت اقعد وحدي شوية
رفعت كفها تغلق فمها الذي انفتح لتتثاؤب وتجيب عليه بصوت غير واضح بعض الشيء :
_ معلش قطعت عليك خلوتك
التفت لها برأسه يتطلعها مبتسمًا ، مدققًا النظر في وجهها وعيناها الناعسة ثم يهمس :
_ إنتي متأكدة إن مفيش حاجة !!
هزت رأسها بالإيجاب وهي تفرك عيناها كالأطفال .. وحين تطلعت إليه بوضوح أكثر رأته يبتسم باتساع ونظرات غريبة .. اضطربت قليلًا وهتفت بحيرة :
_ في إيه ؟!!
انحنى برأسه للأمام قليلًا إليها وغمغم بلؤم :
_ حلمتي بكوابيس وخايفة تنامي وحدك في الأوضة مش كدا ؟
رمقته بدهشة للحظات .. ذلك الخبيث لم ينسى حين كانت دومًا تستيقظ من النوم لذلك السبب وتطلب منه أن يبقى بجوارها حتى تخلد للنوم مرة أخرى .
توترت وحركت رأسها نافية بسرعة تهتف في حزم مزيف :
_ لا ، وبعدين أكيد مش هخاف من كابوس يعني !
رفع حاجبه بسخرية وهو يضحك بصمت ثم هدر :
_ طيب تعالي يلا نطلع فوق لأن حتى أنا عايز أنام
جلنار بعناد وغيظ :
_ لا أنا مش عايزة أنام .. اطلع إنت براحتك
زفر بعدم حيلة مبتسمًا وبقى جالسًا مكانه ثم أمسك بهاتفه وبدأ يتصفح به .. وهي تجاهد بكل قوتها حتى لا تنغلق عيناها وتنام .. تخترق عيناها الهاتف معه تشاهد ما يشاهده في محاولات بائسة منها حتى تطرد النوم من عيناها لكن دون جدوي .. ودون أن تشعر انغلقت عينيها تدريجيًا رغمًا عنها وبعد لحظات قصيرة مالت برأسها بلا وعي على كتفه معلنة خروجها في رحلة نومها القصيرة .
التفت برأسه قليلًا للجانب بعد أن احس برأسها فوق كتفه ، تأملها لدقيقة في أسف ثم انحنى بشفتيه عليها يطبع قبلة دافئة فوق مقدمة جبهتها وبأنامله يملس على شعرها في لطف هامسًا في ندم :
_ مش عارف هقدر اخليكي تسامحيني ولا لا .. طول الأربع سنين وأنا كنت مهملك ومدتكيش حقك وظلمتك عشانها .. وهي كانت بتخوني وفي حضن راجل غيري .. كنت مغفل وغبي لدرجة اللي خلتني مكتشفش خيانتها ليا طول السنين دي .. لو كانت طعنتني بسكينة كان المها هيكون اهون من اللي حاسس بيه دلوقتي .. صدقيني أنا لو ندمان على حاجة فهي خسارتي ليكي .. سامحيني ياجلنار .. أنا آسف يارمانتي
عاد يلثم جبهتها مرة أخرى بقبلة مطولة يستنشق رائحتها بقوة وبدون سابق إنذار سقطت دمعة متمردة من عيناه .. دمعة ألم وندم ، رآها تحرك رأسها بعفوية وتدفن وجهها بين ثنايا رقبته فتضرب أنفاسها الدافئة والرقيقة بشرته الخشنة .. اغمض عيناه حتى يتحكم بالشعور الذي داهمه للتو وفورًا اعتدل في جلسته قبل أن يزداد الأمر سوءًا لف ذراع خلف ظهرها والآخر في منتصف قدمها يحملها على ذراعيه ويتجه بها نحو الدرج قاصدًا غرفته وهو يتمتم :
_ شكلي أنا اللي هقولك متقربيش مني بعد كدا
استمر في صعود الدرج حتى انتهي وسار في الردهة المؤدية لغرفتهم ، وفتح الباب بقدمه ليدخل ويتجه بها نحو الفراش ثم ينحني للأمام قليلًا ويضعها برفق فوقه ويسحب الغطاء على جسدها .. فتحت هي جزء من عيناها تتطلع إليه بنعاس وعدم ادراك للوضع ، لكن حين أظلمت الغرفة انتبهت حواسها وهتفت بنعاس وضيق :
_ افتح النور
_ أنا قاعد معاكي ياجلنار متخافيش
سمعت صوته فقط ولم تدرك ما يقوله حتى أنها لم تعلق مرة أخرى على الضوء واستسلمت لسلطان نومها .
***
فتح عيناه بصباح اليوم التالي عندما تسلل الضوء لعينه مسببًا له الإزعاج .. التفت برأسه للجانب فلم يجدها بجواره .. استقام جالسًا ونزل من الفراش وكان سيهم بالذهاب للحمام لولا أن صوت رنين هاتفه أوقفه .. عاد خطوتين للخلف والتقطه يجيب على المتصل بحزم :
_ الو
_ أيوة ياعدنان بيه .. نادر ملوش أي أثر
أجاب عليه بغلظة صوته الرجولي :
_ طيب خلاص اقفل دلوقتي
انهي معه الاتصال وغمغم لنفسه بعينان تلمع بوميض شيطاني مخيف :
_ هتفضل مستخبي مني زي **** لغاية امتى يعني مسيري هجيبك
القى بالهاتف على الفراش في عدم مبالاة وسار نحو الحمام حتى يأخذ حمامه الصباحي قبل أن يغادر المنزل .. وبعد دقائق طويلة نسبيًا خرج من الحمام وهو يرتدي بنطال فقط ويترك قطرات الماء تتساقط من شعره فوق صدره العاري .. وصل إلى خزانته وأخرج ملابسه ثم بدأ في ارتدائها وبعد برهة من الوقت انتهي وغادر الغرفة ومنها إلى الدرج حيث نزل درجاته على عجلة وهو يتفقد ساعة يده .
وثبت هنا من مقعدها أمام التلفاز مسرعة فور رؤيتها لأبيها وهرولت نحوه تتعلق به في فيحملها هو فوق ذراعيه يلثم شعرها بحب متمتمًا :
_ صباح الخير ياهنايا
هنا بإشراقة وجه ساحرة :
_ بابي هنروح بليل فرح خالتو زينة ؟
عدنان باستغراب وهو يبتسم لها :
_ مين قالك إن الفرح النهارده ؟!
هنا بعفوية وهي تزم شفتيها بيأس :
_ مامي بس قالت إنت مش هتوافق !
رمقها بدفء وحنو فيغمز بمداعبة هامسًا :
_ إنتي عايزة تروحي ؟
أماءت برأسها في إيجاب بابتسامة تملأ وجهها الصغير ، ثم وجدته يعود ليسألها بترقب أكثر :
_ ومامي ؟
هنا بخبث طفولي جميل محاولة إخفاض نبرة صوتها :
_ أيوة عايزة تروح تمان ( كمان )
سكت لبرهة يتصنع التفكير وهو يبتسم لها بمكر ومشاكسة ثم يتنهد بالأخير مغلوبًا على أمره :
_ خلاص هنروح
صاحت بفرحة غامرة وتعلقت برقبته في قوة هاتفة :
_ بحبك أوي يابابي
_ وأنا كمان بحبك أكتر ياروح بابي
طبع قبلة ناعمة فوق وجنتها ثم انزلها من فوق ذراعيه وغمز لها قبل أن يستدير ويتجه نحو غرفة الصالون .. فتح الباب وألقى نظرة بعيناه أولًا وعندما تأكد من وجودها دخل واقترب منها بخطوات متريثة .. وقف خلف مقعدها تمامًا واستند بكفيه فوق الحافة العلوية من المقعد ينحنى عليها قليلًا من الخلف هامسًا بالقرب من أذنها :
_ جهزي نفسك بليل عشان نروح خطوبة زينة
فزعت قليلًا من صوته المفاجيء خلفها والتفتت برأسها له تتطلعه مدهوشة ثم هدرت أخيرًا بعد لحظات من الصمت :
_ هو إنت رايح ؟!!
حرك حاجبيه بمعنى لا واجاب عليها في لطف :
_ كنت ناوي إني مروحش ، مليش مزاج احضر افراح يعني .. بس بما إنك إنتي والأميرة الصغيرة حابين تروحوا .. خلاص هروح عشانكم
رفعت حاجبها بابتسامة ماكرة .. تفهم جيدًا محاولاته في نيل رضاها وتلافي أخطائه بكل الطرق المتاحة أو تعويضها بمعنى أدق .. ولكن يؤسفها أن تعترف بأن جميع محاولاته البائسة لن تطفيء نيرانها بسهولة .
ردت عليه بجمود تام :
_شكرًا
لم يعقب على جمودها معه فهذا هو المتوقع ولو فعلت العكس سيكون الأمر ليس طبيعي بالنسبة له.. ابتسم بحنو وهم بأن ينحنى عليها ليقبلها من شعرها وهو يهمس :
_ العفو يارمانتي
لكنها رجعت برأسها للخلف فورًا قبل أن تلمسها شفتيه وقالت بنظرات مشتعلة :
_ عدنان !
تلاشت ابتسامته وهز رأسه لها بتفهم حتى لا يغضبها أكثر ثم غمغم بهدوء :
_ لو عوزتي حاجة لغاية بليل كلميني
أماءت برأسها في إيجاب ومعالم وجه حازمة بينما هو فأصدر زفيرًا حارًا قبل أن يستدير وينصرف .
***
في تمام الساعة الثامنة مساءًا ........
يجلس على المقعد بالأسفل وفوق قدميه تجلس صغيرته التي ترتدي فستان قصير ورائع يناسب حجمها وطولها ومن اللون الوردي مزخرف بنقوش صغيرة على شكل فراشات من نفس لونه .. كانت تتحدث مع أبيها بمرح وصوت ضحكتها الطفولية ترتفع في أرجاء المنزل .. تارة هو يبادلها الضحك وتارة يكتفى بابتسامته ويتولى هو مهمة مداعبتها .
رفع رسغه لمستوى نظره يتفقد الساعة حول يده ، فتأفف بنفاذ صبر وانزل هنا من فوق قدميه وهو يهتف :
_ خليكي هنا يابابا هروح اشوف ماما اتأخرت ليه
أماءت له بالموافقة وتابعته وهو يصعد الدرج حتى اختفى عن انظارها .
فتح باب الغرفة ودخل وكان على وشك أن يتحدث لولا أنه بلع كلماته في حلقه فور رؤيته لها ، تأملها بإعجاب للحظات .. فقط حبست أنفاسه بذلك الفستان الذي ترتديه وشعرها الذي تترك حريته لينسدل على كتفها العاري .
هام بها ولم يسمعها جيدًا حتى عندما قالت له وهي تلقي نظرة أخيرة على مظهرها أمام المرآة :
_ أنا خلصت خلاص دقيقتين وهنزل وراك
ثواني طويلة نسبيًا مرت وهو لا يزال يتأملها في ذلك الفستان المثير .. لكن اشتعلت نيران الغيرة في صدره حين انتبه لذراعين الفستان المنسدلين حتى منتصف كتفيها مما جعل كل من كتفيها والجزء العلوى من صدرها عاري .. فسمعته يهتف بحدة ونظرة مشتعلة :
_تنزلي فين إنتي عايزة تطلعي بالشكل ده !
ضيقت عيناها بحيرة من جملته ثم عادت تتفقد مظهرها مرة أخرى أمام المرآة بتشكك هامسة :
_ ماله شكلي ! .. هو الفستان وحش !
عدنان بغضب بسيط :
_ غيري الفستان ده ياجلنار والبسي واحد كويس
جلنار بعناد وغيظ من لهجته الآمرة :
_ مش هغيره أنا عاجبني
أثارت سخطه أكثر حيث أجابها بعينان نارية :
_ وأنا قولت هتغيريه مش هتخرجي بيه يامدام .. ضهرك وكتفك وصدرك عريان وعايزة تطلعي كدا !!!
لم تبالي بنظراته النارية لها وهتفت بإصرار في برود :
_ مش هغيره .. إنت حتى لبسي هتتحكم فيه !
استشاط غيظًا والتهبت عيناه من فرط الانزعاج والغيرة ، فاندفع نحوها يلف ذراعه حول خصرها ليجذبها إليه وبيده الأخرى يلفها خلف ظهرها تحديدًا عند سحاب الفستان ليمسك به ويسحبه للأسفل بقوة .
تململك بين قبضته وهي تشهق بدهشة من فعلته وتحاول دفعه صائحة :
_ بتعمل أيه ابعد !!
عدنان بهمس مخيف وعينان تعطي إنذار أحمر :
_ بساعدك تغيريه بما إنك مش عايز تغيريه بالذوق
جلنار بعصبية وهي تحاول دفعه بعيدًا عنها :
_ عدنان ابعد عني احسلك .. بقولك ابعد مـ.....
توقفت عن الكلام حين شعرت بيده تمسك بذراع الفستان لينزله .. هو لا يمزح سينزع الفستان عنها بنفسه لو استمرت في العناد .. ابتلعت ريقها بارتباك وصاحت مسرعة باستسلام قبل أن يتمادى أكثر :
_ خلاص هغيره
توقف وهو يبتسم بلؤم ثم رد عليها بخفوت مريب :
_ أيوة كدا شطورة يارمانتي .. هستناكي برا ، خمس دقايق وتكوني خلصتي عشان اتأخرنا
ثم تركها واستدار لخارج الغرفة بينما هي فضمت ذراعيها عند صدرها حتى لا يسقط الفستان وبداخلها تشتمه في غضب وغيظ .
نزعت عنها الفستان وارتدت آخر كان لونه من نفس لون فستان ابنتها .. هذه المرة كان بحمالات عريضة تنزل بفتحة مثلثية عند الصدر لكنها لا تظهر داخلها وظهرها من الخلف لا يظهر منه شيء .. عندما انتهت وخرجت من الغرفة كان هو يقف بجانب الباب ينتظرها .. القى عليها نظرة متفحصة من أعلاها لأسفلها دون أن يعقب بينما هي فكانت تتطلع إليه بقرف وازدراء .
***
داخل القاعة الخاص بحفل الخطبة .......
كانت جلنار تجلس على مقعد حول طاولة متوسطة الحجم نسيبًا وتجلس على مسافة قريبة منها بعض الشيء أسمهان .
كانت جلنار تحاول تفادي نظرات نادين بعدما رأتها .. لا ترغب في رؤية حاتم الآن أبدًا .. ليست في مزاج لتتحمل شجار عنيف بينه وبين زوجها ، أما أسمهان فكانت عيناها ثابتة على حاتم الذي يقف في جهة بعيدًا عنهم يتحدث مع مجموعة من الرجال .. تحدق به وعلى شفتيها ابتسامة شيطانية تنتظر اللحظة المناسبة حتى تفجر القنبلة .. وماهي إلا دقائق معدودة حتى رأته يمسك بهاتفه ويجيب عليه وهو يسير مبتعدًا عن الحشود حتى دخل بغرفة منعزلة عن الحفل والقاعة ليتمكن من التحدث براحة .
التفتت أسمهان برأسها تجاه جلنار فقد أتت لها الفرصة على طبق من ذهب .. وحين لاحظت عدم وجود هنا بجوارهم حول الطاولة ولمحتها مع آدم الذي كان يحملها ويتجه بها لخارج القاعة فابتسمت بخبث وانحنت على أذن جلنار وهتفت بقلق مزيف :
_ جلنار قومي شوفي هنا شوفتها بتدخل الأوضة اللي هناك دي وحدها
بتلقائية نظرت جلنار باتجاه الغرفة متعجبة ودارت بنظرها حولها تبحث عن ابنتها بين الحشود فلم تجدها .. زعرت وتسارعت دقات قلبها بخوف خشية من أن يصيبها مكروه .. وفورًا هبت واقفة تهرول باتجاه تلك الغرفة التي رأتها جدتها تدخل إليها كما أخبرتها ! .
تابعتها أسمهان بنظرها وهي تضحك بخبث وتشفي وفور تأكدها أنها دخلت بالفعل ، التفتت برأسها تجاه ابنها المنشغل بالحديث مع أحدهم وأشارت له بأن يأتي لها مسرعًا .
اعتذر عدنان من الرجل وسار نحو أمه حتى وصل لها فيجدها تهتف بحدة :
_ شوف مراتك بتعمل إيه .. قامت من حوالي خمس دقايق ودخلت الأوضة اللي هناك قالت هترد على التلفون ومرجعتش لحد دلوقتي !!
التفت برأسه للخلف ينظر لتلك الغرفة بنظرات كلها حيرة وريبة .. ثم عاد برأسه مرة أخرى يتطلع لأمه بعينان تلمع بوميض غريب .. فينتصب في وقفته ويسير متجهًا نحو تلك الغرفة بخطوات سريعة قليلًا .. هناك أسئلة كثير تدور في حلقة ذهنه تثيره بالغضب .. وعند وصوله أمام الباب لم يتمهل للحظة حتى بل أمسك بالمقبض وانزله للأسفل لينفتح الباب ويدفعه للداخل بقوة
يتبع الفصل السابع والعشرون اضغط هنا
- تابع الفصل التالي عبر الرابط: (رواية امرأة العقاب كاملة) اضغط على أسم الرواية