رواية امرأة العقاب البارت الواحد والثلاثون 31 بقلم ندى محمود توفيق
رواية امرأة العقاب الفصل الواحد والثلاثون 31
تابعتهم بنظراتها من بعيد وهي تبتسم بدفء .. تتطلع إليه كيف يضمها إلى أحضانه والصغيرة ساكنة بين ذراعيه بآمان .. فتقدمت منهم بخطوات هادئة وابتسامتها تزين ثغرها لكن تصلبت قدميها بالأرض فور سماعها لجملة ابنتها الأخيرة وهي تخبر والدها عن الليلة التي قضاها حاتم معهم بالمنزل .
هيمنت الصدمة على ملامحه لبرهة يرمق ابنته بجمود .. حتى بدأت تتشنج عضلات وجهه تدريجيًا وتتقوس قسماته بشكل مريب ليجيب على صغيرته بترقب وصوت محتقن :
_ في البيت معاكم !
لمحت هنا أمها التي تقف كالصنم تحدق بأبيها في معالم وجه كانت غريبة بالنسبة لها ولم تتمكن من تفسيرها .. لكن حدثها الطفولي أخبرها بأن الأمور لن تسير بشكل جيد .
انتبه هو لنظراتها المعلقة على الجانب فالتفت لنفس الجهة فيرى جلنار ثابتة بالأرض ونظراتها تحمل بعض الاضطراب خصوصًا بعدما وقعت عيناه الملتهبة عليها .
وبالثوان التالية كان يهب واقفًا وينزل ابنته من فوق قدميه ليجلسها فوق الأريكة بمكانه ويهمس بطبيعية متصنعة :
_ خليكي هنا ياحبيبتي وكملى كرتونك
أماءت الصغيرة برأسها متطلعة لأبيها باستغراب من تحوله المفاجيء والغريب .. ثم رأته يسير تجاه الدرج ويهتف محدثًا أمها بصوتًا مخيفًا دون أن يلتفت لها بوجهه :
_ تعالي ورايا
ثم رأت أمها تنظر لها بابتسامة دافئة كأنها ترسل لها إشارة بأن كل شيء على ما يرام وأن تكمل مشاهدة فيلمها الكرتوني .. بادلت أمها الابتسامة وعادت تعتدل بجسدها لتصبح مواجهة للتلفاز تشاهد في عدم استمتاع ! .
وصلت أمام باب غرفتهم الذي تركه مفتوحًا بعد دخوله .. ألقت عليه نظرة من الخارج لتراه يقف ويرفع أنامله لذقنه يحكها ويمسح على نصف وجهه بعنف مغلقًا على قبضة يده في شراسة .. لا تنكر أن حالته اربكتها وجعلتها تخشى ثورانه الذي ستشهده بعد قليل ، تقدمت إلى داخل الغرفة في خطوات مترددة ثم أغلقت الباب بهدوء حتى لا تلتقط أذن صغيرتهم الأصوات المخيفة التي ستملأ الغرفة الآن .
سمعت البداية تخرج هادئة كالمتوقع وهو يسأل بخفوت مخيف :
_ إيه اللي قالته البنت تحت ده !!!!
تنفست الصعداء تتحكم في اضطرابها الغير إرادي منه وغمغمت :
_ دي بنت صغيرة ياعدنان ومش فاهمة حاجة
صرخة جهورية انطلقت منه تبعتها وثوبه من مكانه بخطوة واحدة ليصبح أمامها :
_ حـاتـم كان بيعمل إيه في البيت طول الليل معاكي
رغم أن صرخته بعثت هزة بسيطة في جسدها إلا أن جملته كان لها الأثر الأكبر حيث ابتسمت وقالت باستنكار :
_ بيعمل إيه !!!
نزعت ابتسامتها من فوق شفتيها ورسمت الحدة لتتابع حديثها بنظرة خزي :
_ زي ما بنتك قالت .. كانت تعبانة جدًا اليوم ده وجبنالها الدكتور في البيت وهو صمم يقعد معانا عشان لو هنا تعبت تاني يتصل بالدكتور وميسبناش وحدنا ، وفضل قاعد جنبها في الأوضة طول الليل ومحدش فينا نام الليلة دي أساسًا .. ارتحت كدا ولا مش مصدق كمان
لم تهدأ ثورته بل ازدادت حيث صاح في عصبية أشد :
_ يعني كنتي هربانة ببنتي وتعبت بالشكل ده وأنا معرفش .. وفوق ده كله تسمحي لراجل غريب يبات معاكم
صاحت منفعلة :
_ قولتلك هنا كانت تعبانة وأنا أساسًا كنت منهارة من الخوف عليها وهو فضل معانا عشان لو تعبت تاني فجأة
عدنان بصياح مرعب :
_ مفيش مبرر يخليني اهدأ لما أعرف إن راجل قضى الليل كله مع بنتي ومراتي في البيت .. اللي هي أصلًا كانت هربانة مني
جلنار في زمجرة :
_ وهو أنا هربت ليه مش عشان اتفاقك القذر إنت وبابا .. هربت لما ملقيتش حد احتمي فيه ولا الجأ ليه .. فلجأت للهروب منكم
قبض على ذراعها بعنف وجذبها إليه لتصتدم بصدره ويصرخ :
_ متتهربيش من غلطك بإظهار ظلمي ليكي .. سبق واعترفت بغلطي وفهمتك كل حاجة وإنه مكنش اتفاق على قد ما كان تمسك بيكي .. بس الهانم بتفسر كل حاجة على مزاجها ومن غير تفكير اخدت بنتي وهربت بيها .. لا وفضلت شهرين كاملين مع راجل غريب ، أنا كنت بحاول اتغاضي عن الكلام ده واتصرف بطبيعية وأنا بتخيل طول الشهرين كانت طبيعة العلاقة بينكم إزاي و نظراته ليكي كانت إزاي ده غير الصور اللي وصلتني وهو ماسك فيها إيدك .. ودلوقتي بتقولي كنت منهارة وهو فضل معانا عشان هنا !!!
حاولت التملص من قبضته لتصيح به بغضب :
_ مكنتش قاعدة معاه .. والصور دي كانت في عيد ميلاده وتصرفه كان تلقائي لما كان بيشكرني على الهدية وأساسًا أنا سحبت إيدي فورًا وقتها
هتف بتحذير شبه صائحًا :
_ متعليش صوتك عليا
صرخت في وجهه بشراسة وعينان حمراء كالدم :
_ وإنت متتكلمش معايا بلهجة التحذير وتزعق فيا .. مش صوتك العالي هو اللي هيخوفني منك
عدنان منذرًا إياها وهو يتمالك انفعالاته بصعوبة :
_ جلنار أنا اقسم بالله على أخرى وبحاول اتمالك اعصابي بالعافية .. متخلنيش اوريكي الخوف اللي بجد
تململت بين قبضته بعصبية لأنها لا تتمكن من التملص منه فتجاهلت جملته وصرخت بصوت ملأ الغرفة وبوجه محتقن بدماء الغضب :
_ ابعد إيدك عني ومتلمسنيش
هو يغلي أساسًا من الغيظ ونيران الغيرة ، وحين هتفت بكلمتها المعتادة أثارت جنونه أكثر .. فتحول وجهه كله وليس عيناه فقط للون الأحمر ، ليلف ذراعه حول خصرها بعنف ويلصقها به أكثر في طريقة المتها .. ثم يمسك بكف يدها اليسار يرفعه لأعلى ضاغطًا عمدًا على خاتم الزواج في البنصر يذكرها بملكيته الوحيدة عليها ويهتف في صوت ملتهب كعيناه مخرجًا زفيرًا ناريًا تقسم أنه كاللهيب حقًا الذي يضرب صفحة وجهها :
_ محدش ليه الحق يلمسك غيري .. ولا يمسك إيدك غيري .. أنا بس اللي ابصلك والمسك فاهمة ولا لا
ظهر الألم على محياها رغمًا عنها عندما وجدته يعتصر كفها بقسوة بين قبضته فهتفت بنبرة مرتفعة قليلًا :
_ عدنان سيب أيدي بتوجعني !
تطلع في عيناها بنظرات كانت كالجحيم وتمتم بهمس مرعب :
_ اعتبري دي آخر مرة هعدي فيها .. زي ما عديت الصور وعديت هروبك معاه وكمان دفاعك عنه قدامي وطلبك اني اعتذر منه بعد اللي حصل في الفرح .. وزي ما هعدي اللي عرفته دلوقتي وهتغاضي عنه وأصدق إنك سبتيه يفضل بحسن نية زي ما قولتي على الرغم من إني متأكد أن مكنش الموضوع بغرض المساعدة فقط بالنسباله .. هعدي ياجلنار بس صدقيني دي آخر مرة بعد كدا لو سمعت اسمه تاني هتكون النتائج مخيفة
أدمعت عيناها من كلامه القاسي وشعورها بلهجة الشك المضمورة في صوته .. حتى لو لم تكن شك بالنسبة له لكنها أحستها هكذا .. وفوق ذلك قبضته العنيفة على كفها والتي تؤلمها أكثر .
فهمست في وجهه بعين دامعة وغضب امتزج بقسوة فاقت قسوته لتطلق سهمها المسموم في الصميم بالضبط :
_ سبق وسألتني بتكرهيني بجد ولا لا وأنا جاوبتك يمكن أه ويمكن لا .. احب اقولك دلوقتي إني بكرهك بجد ياعدنان بكرهك من كل قلبي ومش عايزاك وندمانة إني منعت بابا لما جه وملختهوش يطلقني منك
اختفت نظرة الغضب ليظهر محلها الذهول .. استمر في التحديق بها بصمت وبشكل لا إرادي لانت قبضته فوق خصرها وكذلك كفها .. لا تضيع الفرصة كلما تسمح لها في طعنه بسهم كلماتها السامة وتذكيره بكرهها له الذي أكدته للتو .. كلما يتقدم خطوة تطيح بهم الظروف لنقطة الصفر من جديد .
إن فسرت غضبه كشك فحتمًا مخطئة ربما غيرته العمياء وانفعاله الهادر هيأ لها كذلك ، هو فقط لا يطيق تحمل اجتماع اسمها واسم حاتم بجملة واحدة والذي يثير جنونه ويشعل لهيب نيران صدره .
وصلت هنا أمام باب غرفة والديها بعدما سمعت صوت صراخ أبيها وخافت قليلًا فطرقت بكف يدها الصغير فوق الباب تهتف بعبوس :
_ بابي !
استغلت جلنار فرصة طرق ابنتهم وسكونه التام بعد كلماتها لتبتعد عنه وتندفع نحو الحمام الملحق بالغرفة .. فيبقى هو مكانه للحظات حتى عاد صوت الطرق يرتفع من جديد مع صوت صغيرته الذي بات مبحوحًا .. أخذ نفسًا عميقًا وتحرك نحو الباب ليفتح لها فيجدها تتطلع له بعينان تملأها الدموع .
ألا يكفي لقلبي دموع والدتك حتى تزيدي إنتي العذاب بدموعك أيضًا ! .
انحنى ليجثي أمامها ثم يحتضن وجهها الصغير بين كفيه ويقترب يطبع قبلة بجانب عينها الصغيرة ويضمها لصدره لاثمًا شعرها ويهمس بألم :
_ هو بابي هيلاقيها من فين ولا فين ياحبيبتي بس ! .. متعيطيش والله مش بستحمل اشوف دموعك
دفنت وجهها الصغير بين صدره الواسع هامسة بحزن :
_ مامي بتحبك زي وبتزعل لما تزعق
انتصب في وقفته وهو يحملها معه ويهمس بمرارة :
_ امممم بتحبني أوي .. تعالي يلا ننزل تحت
_ ومامي ؟
_ مامي في الحمام .. لما تطلع هتنزل ورانا
***
على الجانب الآخر بألمانيا تحديدًا في مدينة برلين ( العاصمة ) .....
داخل إحدى المستشفيات وبغرفة خاصة بأكفأ الأطباء بالمستشفى .. كان جالسًا فوق مقعده أمام المكتب يرتدي مئزره الطبي الأبيض ويمسك بيده صورة صغيرة .. قديمة إلا أنه يحتفظ بها جيدًا فمن يمسك بها لا يتوقع أبدًا أن تلك الصورة مرت عليها كل هذه السنوات ومازالت كما هي .
يتأملها وبأنامله يتحسسها في رقة .. تلك الصورة هي الأنيس الوحيد في وحشته وغربته منذ سنوات طويلة .
" طال الغياب وفَقَدَ حِلو النظر لكنه لم يَفقد ابدًا لهفة اللقاء المحتوم "
انفتح باب الغرفة فجأة بدون سابق إنذار ليدخل شابًا يناضره بالعمر ويهتف بمرح يتحدث اللغة الألمانية :
_ الطبيب هنا وبالخارج الجميع يبحث عنه !
تطلع إليه بيأس وهتف وهو يدس الصورة في مئزره :
_ لمرة واحدة فقط أطرق الباب أولًا
تقدم نحوه ليربت على كتفه بخفة هامسًا بضحكة عذبة :
_ وهل هناك خصوصية بيننا ياصديقي !
هز رأسه بعدم حيلة وقال :
_ لا فائدة من الجدال معك .. اجلس وقل ما لديك
اقترب صديقه ليجلس فوق المقعد المقابل لمكتبه ويهتف في جدية هيمنت على صوته وملامحه :
_ سمعت إنك ستعود لمصر خلال أسابيع !
تنهد وقال بهدوء :
_ صحيح .. ولا اطيق الانتظار حتى يوم العودة
_ أنت تمزح ! .. هشام إنت من أكفأ الأطباء بالمستشفى إن لم تكن أوشكت أن تصبح الاشهر على الاطلاق ببرلين .. هل ستترك كل شيء وتعود !!
ابتسم واجابه في بساطة :
_ من قال أنني سأترك كل شيء .. سأواصل مهنتي ببلدي .. وربما بيوم أعود لبرلين مرة أخرى ، من يعلم !
أخرج صديقه زفيرًا حارًا ليجيبه بعد ذلك بنظرات دقيقة ويأس :
_ اهلكك الشوق ولم تتحمل أليس كذلك ؟!
لاحت ابتسامة مريرة على شفتي هشام الذي أصدر تنهيدة طويلة تبعها استقامته من مقعده وهو يلتفت حول المكتب ويربت على كتف صديقه بخفة هامسًا في مداعبة :
_ هيا ياصديقي لدينا الكثير من الأعمال وليس هناك وقت لنهدره في الحديث
هز رأسه الآخر مغلوبًا على أمره فكلما يتخذ مجرى حديثهم ذلك الموضوع يسارع في تغييره أو التهرب منه .. وهو ما يفعله الآن كالعادة ! .
***
توقف بسيارته أمام أحد الفنادق الضخمة ثم ترجل منها وقاد خطواته للداخل مرتديًا نظارته السوداء فوق عينيه .. حتى وصل إلى مكتب الأستقبال وقف أمام الموظفة التي بدورها ابتسمت له ببشاشة وقالت :
_ اتفضل حضرتك
حاتم بصوت جاد :
_ حابب اعرف رقم الغرفة الموجودة فيها نادين سامي
اخفضت نظرها لشاشة الحاسوب التي أمامها تبحث بين نزلاء الغرف عن ذلك الاسم حتى عثرت عليها فقالت بإيجاب :
_ آنسة نادين سامي .. تمام لحظة من فضلك بس هبغلها الأول
حاتم بحزم :
_ ملوش لزوم هي عارفة .. ممكن تقوليلي رقم الأوضة
مطت شفتيها وقالت بنظرات دقيقة :
_ الغرفة رقم 404 بالدور الخامس
لصق رقم الغرفة والطابق بذهنه ثم ابتعد وسار باتجاه المصعد الكهربائي ليستقل به ويضغط على زر الطابق الخامس وبعد دقيقتين تقريبًا توقف وانفتح الباب فخرج وسار في الردهة طويلة يتفقد أرقام الغرف المدونة فوق الأبواب حتى عثر على غرفتها .. فتحرك ووقف أمامه ليرفع يده ويطرق عدة طرقات ليست بلينة ولا قوية .
لحظات قصيرة وفتحت هي الباب معتقدة أن خدمة الفندق قد وصلت بالفطار .. لكن تجمدت دماء وجهها وطالت التحديق به تحاول اختراق تلك النظارة السوداء التي تحجب عنها رؤية عيناه ونظراته .. ثم انتصبت في وقفتها بشموخ وقالت في خنق :
_ خير شو بدك ؟!
نزع نظارته أخيرًا عن عينيه فرأت نظرة مستاءة تمركزت في عيناه وهو يجيبها :
_ لمي هدومك يلا عشان نمشي
خرج سؤالًا شبه استنكاريًا منها :
_ لوين ؟!
حاتم بحدة :
_ على البيت يانادين ولا متخيلة إني هسيبك تقعدي في فندق هنا وحدك
ردت في برود استفزازي وابتسامة غير مبالية :
_ بس أنا حجزت الطيارة لكاليفورنيا وموعدها المسا الساعة 6
استفزته واغضبته بشدة لكنه تحكم في زمام نفسه ليدفعها للداخل برفق ويدخل ثم يغلق الباب هاتفًا بلهجة آمرة :
_ مفيش مشكلة يتلغي الحجز
نادين بغيظ :
_ راح ارجع ما بدي اضل هون بيكفي يا حاتم
تقدم منها بخطوات متريثة فتقهقرت هي لا إراديًا للخلف حتى اصطدمت بباب الحمام الملحق بالغرفة ، أشرف عليها بهيئته وهمس في لهجة لا تقبل النقاش :
_ مش هترجعي .. احنا جينا مع بعض وهنرجع مع بعض
رغم اضطرابها من قربه إلا أنها صاحت به بغضب :
_ ما في شيء اسمه نحنا عم تفهم .. ولا إنت نسيت اللي سويته مبارح
لم يتمكن من كبح انفعالاته أكثر من ذلك فصاح بها في صوته الرجولي المهيب وعيناه المظلمة :
_ لما تقضي اليوم كله مع راجل معرفش مين هو أصلًا وتقوليلي رفيقي .. وبعدين ترجعي آخر الليل منتظرة تكون ردة فعلي إزاي يعني .. مين صاحبك ده هاااا .. قولي ميين خليني اعرف يمكن تكوني على حق ؟!!
نادين بعصبية شديدة متجاهلة ضربات قلبها المتسارعة :
_ لك شو خصك إنت مين رفيقي هادا !! .. بخرج مع اللي بدي ياه ما راح انتظر الأذن منك مثلًا
ضرب بقبضة يده على باب الحمام بجانب رأسها فانتفضت بخفة فزعًا وانكشمت في وقفتها حين رأته يدنو منها بشكل خطير حتى لفحت أنفاسه النارية صفحة وجهها وخرج صوته منذرًا وقد أظلمت عيناه بشكل مخيف :
_ قدامك خمس ثواني ياتقولي مين اللي كنتي معاه امبارح يا أما صدقيني أنا مش مسئول عن اللي هعمله
خشيت تحذيره ونظراته التي أثبتت أنه لا يمزح فيما يقوله .. خصوصًا وهو قريب بهذا الشكل ، رغم ذلك أبت الخضوع أمامه فقالت بابتسامة متشفية تحمل لمسة النصر :
_ إنت غيران ولا شو ؟!
حاتم بنفاذ صبر :
_ نـــاديــن !!!
طالعته بتحدي عاقدة ذراعيها أمام صدرها تأبي التكلم واكتفت بابتسامتها ونظراتها الواثقة لتجده يزأر كالأسد ويهتف بغضب معترفًا :
_ أيوة غيران ، ولو متكلمتيش متلوميش غير نفسك على اللي هيحصل
ابتسمت بنصر وسعادة لاعترافه بغيرته الجنونية عليها فاستدارت توليه ظهرها ثم تفتح باب الحمام وتدخل وقبل أن تغلق الباب همست في ابتسامة مثلجة :
_ كانت رفيقتي مايا
ثم أغلقت الباب دون أن ترى ردة فعله لكنها استشعرت مدى الصدمة التي تهيمن عليه الآن .. بالتأكيد يقف متسمرًا كالصنم يحدق في الباب وفي أثرها ببلاهة وعدم استيعاب للخديعة التي سقط فيها بكل سهولة .. وربما غاضب منها بشدة ويرغب في فض شحنة غيظه بها .. لكن كل هذا لا يهم طالما حصلت على ما تريده ! .
***
كانت ستتجه الخادمة لفتح الباب بعد سماع صوت رنينه لكن أسمهان أوقفتها بإشارة من يدها وسارت هي لتفتح وكانت تعرف أن الطارق هو ابنها .
فتحت الباب واستقبلته بابتسامة امومية حانية ثم فردت ذراعيها له تعانقه وتهتف :
_ ازيك ياحبيبي
ابتسم لها وملس على ظهرها بلطف مغمغمًا :
_ كويس ياماما .. إنتي عاملة إيه طمنيني بتاخدي علاجك بانتظام ؟
أسمهان بإماءة بسيطة :
_ باخده متقلقش ..كويس إنك جيت أهو تتغدا معانا ونتلم كلنا على السفرة
طبع قبلة سريعة فوق رأسها يجيبها على عجلة معتذرًا :
_ خليها مرة تاني ياست الكل وهقضي اليوم كامل معاكي .. أنا جاي بس اخد كام حاجة من الأوضة كنت شايلها بخصوص الشغل وهمشي
ابتسمت متهكمة وردت باقتضاب تلقي بتلمحياتها المباشرة :
_ طبعًا ماهي خلاص خدتك مننا .. وعرفت تكسبك في صفها
أصدر زفيرًا طويلًا بخنق ثم ابتسم وقال متخطيًا جملتها :
_ آدم موجود ؟
هزت رأسها بالنفي ولا زالت ملامحها مقتضبة فهز هو رأسها بيأس واندفع تجاه الدرج يصعد إلى غرفته بالأعلى ، فتح الباب ودخل ثم اتجه اول شيء إلى أدراج الطاولة الخشبية يفتحهم واحدًا تلو الآخر يبحث عن الذي يريده ولم يتمكن من إيجاده ، ووجهته التالية كانت الخزانة فيسحب الباب الجرار الذي بالمنتصف لتقع عيناه على ملابس فريدة المعلقة والتي تملأ الخزانة بأكملها ، أظلمت عيناه واحتدمت نظراته ومر أمامه شريط بجميع أفعالها والذكرى الأخيرة عندما تركها لتذهب مع عمها .. تخلت عنه وهو تخلى بأبشبع الطرق واقساها .
خرجت صيحة عارمة منه :
_ مــامـا
لحظات وكانت أسمهان تهرول إليه بالأعلى على أثر صيحته .. وحين دخولها الغرفة تصلبت بعدما رأت الأرض تمتلأ بملابس فريدة والتقطت نظراتها الخزانة التي أصبحت فارغة تمامًا .. ولم تلبث حتى سمعت صوته الممزوج بصيحة مزمجرة ولهجة آمرة :
_ الخدم ياخدوا القرف ده يحرقوه أو يرموه في الزبالة .. والأوضة تتنضف مش عايز اشوف أي حاجة تخصها موجودة في الأوضة والبيت كله من هنا ورايح
هدرت أسمهان بإمتثال ونبرة رزينة :
_ حاضر ياحبيبي أنا بنفسي هحرق الهدوم دي وهخليهم ينضفوا الأوضة كويس .. متعصبش نفسك
لكم بحذائه كومة الملابس الملقية ثم عبر فوقها غير مباليًا وانصرف بعد أن أخذ ما كان قد أتى لأجله بسبب العمل .. بينما أسمهان فبقت مكانها تقف وتتجول بنظرها بين أرجاء الغرفة تبتسم بتشفي وخبث ثم ترفع ذراعيها تعقدهم أمام صدرها وتقول :
_ رجعتي للزبالة اللي جيتي منها .. قولتلك مش هتفضلي كتير وإنتي بنفسك اللي رسمتي خطوط نهايتك .. من البداية كنت عارفة إنك واحدة قذرة والحمدلله ابني خلص منك من غير ما تأذيه
***
في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ......
خرجت من الحمام ممسكة بيدها منشفة صفراء صغيرة تجفف بها وجهها ويديها ، فتسقط نظراتها علي الفراش بتلقائية وتنتفض فزعًا عندما تراه ممدًا فوقه على ظهره يضع ذراعه فوق عينيه ، قبل أن تدخل الحمام منذ دقائق لم يكن موجودًا .. متى جاء ؟! .
لوت فمها بغضب ولم تعيره اهتمام وعادت للحمام مرة أخرى تضع المنشفة بمكانها وتخرج من جديد ، لكن هذه المرة اندفعت نحو الفراش تسحب الوسادة المجاورة له وتضمها لصدرها تحتضنها كطفل صغير يحتضن دميته وتلقى عليه نظرة مشتعلة قبل أن تستدير وتسير تجاه الباب .
كان هو يشعر بخطواتها حوله واحس بالوسادة تسحبها من جانبه فتملكه الغيظ أيضًا بعدما توقع ما تنوي فعله .. وقبل أن تمسك بمقبض الباب أوقفها صوته الخشن :
_ رايحة فين !!
ردت عليه بقرف وعدم اكتراث :
_ هنام مع هنا
ثم أمسكت بالمقبض وكانت على وشك أن تديره لولا أن قبضته الفولاذية نزعت يدها فجأة من فوق المقبض وادخل المفتاح في القفل يغلق الباب عليهم ثم يخرجه ويضعه بجيبه هاتفًا في غضب مكتوم :
_ مكانك جنبي هِنا في الأوضة مش عند " هَنا "
نقلت نظرها بين الباب المنغلق وبينه بصدمة ثم هتفت :
_ إنت قفلت الباب ليه !!!
عدنان بهدوء مستفز :
_ عشان متطلعيش
بسطت كفها أمامه تقول شبه آمرة باستياء :
_ هات المفتاح من فضلك
هز رأسه بالرفض القاطع يرمقها بنظراته الثاقبة وعلى حين غرة يجذب الوسادة من بين ذراعيها ويلقيها على الأرض ثم يدنو منها ويهتف بغضب زوج يرغب ببقاء زوجته بجواره وهي تقابل كل شيء منه بالنفور :
_ لو فاكرة إنك لما تروحي تنامي في أوضة تاني كدا بتعاقبيني تبقى غلطانة .. أنا سمحتلك مرة ومش هسمح تاني
جلنار بابتسامة هازئة :
_ وإنت متخيل إنك لما تحبسني معاك في الأوضة أنا كدا هضطر وأنام جنبك ! .. يبقى بتحلم !!
ابتسم ببرود ثلجي واقترب بوجهه منها أكثر يهمس متسليًا :
_ بس أنا أحلامي حقيقة !
وباللحظة التالية كان صوت شهقتها المرتفعة هي وحدها المسموعة بالغرفة .. بعدما وجدته ينحنى ويحملها فوق ظهره ليصبح نصفها العلوى بالخلف والسفلي من الأمام يثتبها منه فوقه .. صاحت بغضب تلوح بقدميها في الهواء بشراسة :
_ إنت اتجننت ، نزلني .. عدنان بقولك نزلني .. عــدنــ.....
ابتلعت بقية اسمه حين شعرت بجسدها يهوي فوق الفراش .. فانطلقت منها شهقة أخرى وسرعان ما تداركت الوضع وكانت على وشك الوثوب واقفة إلا أن يديه أعاقتها وثبتتها مكانها ، فانحنى عليها بوجهه وهو واقفًا وهمس :
_ شوفتي إني مش بحلم
زئرت من بين شفتيها بشراسة تمامًا كالقطة تتلوى من قبضته وتهتف :
_ ابعد
أظلمت عيناه بشكل مريب لم يكن مخيفًا بقدر ما كانت تحمل في ثناياها المرارة .. وهو يجيبها ساخرًا :
_ أه نسيت معلش إنك بتكرهي لمستي وبتكرهيني من كل قلبك وندمانة وعايزة تطلقي .. في حاجة نسيتها ولا بس كدا
لحظة صمت مرت حتى تابع كلامه بسخرية أشد :
_ لو مبعدتش دلوقتي هيحصل إيه هتكرهيني ! .. إنتي aleardy بتكرهيني .. فمش فارقة .. عشان كدا هتنامي هنا وجنبي ياجلنار سواء شأتي أم أبيتي
وقبل أن يمهلها اللحظات لترد انحنى أكثر عليها وهمس بنبرة جديدة عليها :
_ العُقاب نسر والنسور معروفة بعزة النفس والكبرياء .. بس لما يقرر يتخلي عن كبريائه في سبيل الحفاظ على ملكه وينزل الأرض معناه إنه مستحيل يتخلى عن ملكيته دي مهما حصل
لم يحصل على رد سوى الدهشة والسكون وهي تحدق به بنظرات تفصح عن داخلها .. انتصب في وقفته والتف حول الفراش ليتسطح بجوارها من الجانب الآخر على نفس وضعيته السابقة .. ولم تتحرك هي من مكانها بقت كما وضعها تمامًا تختلس النظر إليه بين آن وآن .
مرت نصف ساعة من السكون التام المهيمن على الغرفة حتى ظنته نام .. لا تدري لما داهمتها رغبة جامحة في معانقته والنوم بين ذراعيه كأمس .. وأن بقيت أكثر من ذلك سيتغلب عليها ضعفها وستفعلها .. فتأففت بخنق واختلست المسافة بينهم تمد أناملها بحذر شديد إلى جيبه لكي تلتقط المفتاح .. وبعد معاناة من نجاحها في ادخال يدها بجيبه لم تجده .. فتنهدت بيأس واقتربت أكثر حتى أصبحت فوقه تقريبًا لتمد يدها بالجيب الآخر .. لكن انطلقت منها شهقة أشبه بصرخة حين شعرت بذراعه يحاوطها مثبتًا إياها بهذا الوضع فوقه وذراعه الآخر رفعه ليظهر لها كفه ممسكًا بالمفتاح بين أنامله ويهز كفه أمام عيناها هامسًا بمكر :
_ بتدوري على ده !
كانت فارغة شفتيها وعيناها بفعل الصدمة واستمرت على هذا الشكل لدقيقة حتى انتشلت نفسها من بين ذراعه أو أحضانه بمعنى أدق ورمقته بنارية وغيظ قبل أن تلتقط عيناها سبيل هروبها منه .. الأريكة ! .
فابتعدت ونزلت من الفراش تهرول تجاه الأريكة لتتسطح فوقها وتهتف بابتسامة نصر :
_ قولتلك مش هتقدر تحطني قدام الأمر الواقع
لاحظت نظرته المشتعلة لها وهو يكاد ينقض عليها لكنه لم يفعل وتصنع تجاهلها ليعود من جديد يضع ذراعه فوق عينيه وبداخله يتوعد لها ولتلك الأريكة بالصباح حين يستيقظ .
***
مع أشراقة شمس يوم جديد ......
عيناه عالقة بشاشة الحاسوب النقال الذي أمامه ولم يرفعها عنه حتى عندما سمع صوت طرق الباب ليخرج صوته قويًا :
_ ادخل
انفتح الباب ودخلت مهرة وهي تحمل فنجان القهوة خاصته وعلى شفتيها ابتسامتها المعتادة .. تقدمت من مكتبه ووقفت بجواره تمامًا ليتمتم هو دون أن يبعد نظره عن الحاسوب :
_ شكرًا ياليلى حطيها واتفضلي خلاص
مهرة بابتسامة عريضة :
_ ليلى تعبت أوي واخدت إذن ومشيت .. فأنا تطوعت وجبتلك القهوة
رفع رأسه أخيرًا عندما ميز صوتها المميز والذي بات يعرفه جيدًا .. وطالت نظرته إليها للحظات بدهشة ثم ابتسم وقال وهو يعود بنظره للحاسوب :
_ متشكر يامهرة تعبتك
تقدمت خطوة أكثر منه حتى تتمكن من وضع القهوة بجواره فوق سطح المكتب لكن التوت قدماها بشكل لا إرادي ومعها مالت يديها ليسقط فنجان القهوة الساخن فوق ملابسه .
انتفض في مقعده ورجع للوراء فورًا بصدمة يفرد ذراعيه بشكل تلقائي فشهقت هي وصاحت بهلع :
_ آسفة آسفة والله ما أقصد
وثب واقفًا وصدره يلتهب من السخونة يتأفف وعلامات الألم اعتلت ملامحه وبعفوية رفع أنامله لأزرار قميصه يفتحها واحدًا تلو الآخر حتى انتهى ونزع عنه القميص يليقيه على الأرض .
استدارت مسرعة هاتفة بذهول وحدة امتزجت بالخجل :
_ هووووي إنت ما صدقت ولا إيه
سمعته يقول في غيظ :
_ انتي اكتمي خالص مش كفاية جبتيلي الجلطة كمان عايزة تسلقيني
_ جبتلك الجلطة ! .. ده أنا ملاك حتى تعالى أسأل عني في المنطقة
لم تسمع رده فقط سمعته يتحدث في الهاتف مع أحدهم ويقول له بصوت غليظ :
_ هاتلي قميص واطلعلي على المكتب
اهتمت لأمره وقلقت عليه ، رغبت بأن تلتفت له ولكن ببقائه عاري هكذا ليس لديها الجراءة لتفعلها .. فقذفت بذهنها فكرة حيث قامت بنزع الشال الذي حول رقبتها والتفتت لها تلف الشال حوله بسرعة هاتفة في ضحكة مرحة :
_ خد استر نفسك الأول بس .. ربنا يستر علي ولايانا
هم بأن ينزعه عنه متطلعًا له شزرًا فمنعته وهي تثبته حوله ضاحكة ببلاهة :
_ والله ما يرجع .. خليه زي ماهو .. أنا حلفت خلاص
ثم تابعت وهي تبتعد عنه مسرعة بلهفة :
_ لحظة واحدة هجيب شنطة الاسعافات واجيلك
بمجرد ما أن التفتت وولته ظهرها نزع هو عنه ذلك الشال بنفاذ صبر وقبل أن تفتح الباب لتغادر انفتح من الخارج ودخلت أسمهان وعلى وجهها ابتسامة واسعة تستقبل بها ابنها ! .
***
فتحت عيناها بتكاسل وأشعة الشمس الذهبية المتسللة لعيناها من خلال النافذة ازعجتها في نومها .. حيث ضربت ببؤرتي عينيها ليلمع لونهم البندقي تزامنًا من ضوء الشمس وشعرها كان مشعس قليلًا لكنه مثير .
احست بالملمس المختلف والناعم أسفلها فأنزلت يدها بسرعة تتحسس أسفلها بعينان متسعة وبأقل من اللحظة كانت تثب جالسة تتلفت حولها .. كيف وصلت للفراش مرة أخرى .. لا وجود له بالغرفة ولا في الفراش بجانبها لكن حتمًا هو من حملها بالأمس لجواره ذلك الخبيث .
كان هناك فراغ كبير بالغرفة وكأنه هناك شيء ناقص .. تجولت بنظرها في استغراب تبحث عن ذلك الشيء حتى وقعت عيناها على مكان الأريكة الفارغ .. اين ذهبت ؟!! .
وثبت من الفراش بعدما سمعت صوته في الحديقة بالأسفل .. فملست على شعرها بكفيها وتحركت نحو الشرفة تقف تتطلع إليه منها .. فوجدته يقف يتحدث مع حامد بوجه حازم وتفاجأت بشابين يحملان الأريكة ويتجهان بها إلى خارج المنزل ليضعوها بسيارة نقل صغيرة .
فغرت شفتيها بعد رؤيتها لذلك المنظر وهتفت بضحكة مدهوشة :
_ مش للدرجادي !
يتبع الفصل الثاني والثلاثون اضغط هنا
- تابع الفصل التالي عبر الرابط: (رواية امرأة العقاب كاملة) اضغط على أسم الرواية