رواية امرأة العقاب البارت الثاني والأربعون 42 بقلم ندى محمود توفيق
رواية امرأة العقاب الفصل الثاني والأربعون 42
تحركت مهرة تجاه باب المنزل بعدما ارتفع صوت رنين الجرس .. كانت ترتدي ملابس منزلية بسيطة .. بنطال أبيض قصير ويعلوه تيشرت أسود بنصف أكمام وترفع شعرها الكستنائي بمشبك تاركة الحرية لبعض الخصلات لتنسدل بانسيابية فوق وجهها من الجانبين وبيديها تحتضن صحنها المسائي المفضل الممتلئ بالفشار .
امسكت بالمقبض وإدارته ثم جذبت الباب إليها معتقدة أن الطارق سهيلة لكنها تجمدت بأرضها وصابتها الصدمة حتى أن حبة الفشار توقفت في فمها حين رأت آدم أمامها .
لم تمهل نفسها اللحظة حتى لتدارك الوضع بل تراجعت وأغلقت الباب في وجهه بسرعة .. وهي تزدرد ريقها بتوتر وذهول .. انخفضت انظارها على ملابسها وهيئتها الغير منظمة أبدًا .. فعقدت الحسم بأنها لن تفتح له أبدًا .. لكنها سمعت صوته الاجش وهو يطرق بلطف على الباب ويهتف :
_ مــهـرة !!!
الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل .. هل فقد عقله أم ماذا ؟! .. ماذا يفعل أمام منزلها بهذا الوقت ! .
اسندت صحن الفشار فوق المنضدة واقتربت من الباب لتفتح النافذة الصغيرة في الباب وتحدثه بوجهها فقط من خلف الباب :
_ بتعمل إيه ! .. إنت عارف الساعة دلوقتي !!
آدم بغيظ :
_ افتحي الباب ولا هتكلميني من البتاع ده
مهرة بحدة وتوتر ممزوج بنبرة صوتها القوية :
_ امشي !
آدم بصوت رجولي صارم :
_ مش قبل ما نتكلم
مهرة باغتياظ :
_ ايه هنتكلم في أمور دولية وأنا معرفش عشان تيجي في الوقت ده
آدم بعصبية :
_ مجتيش الشركة ليه !
مهرة ببرود وابتسامة سمجة :
_ صباع رجلي الصغير خبط في الباب وروحت للدكتور قالي لازم ارتاح اسبوع على السرير
_ لا والله دكتور إيه ده !!
مهرة بهدوء مستفز :
_ مخ وأعصاب
رفع كفه مغلقًا قبضته بقوة وهو يجز على أسنانه ويهتف بانفعال :
_ مهرة بلاش تجننيني أنا على أخرى أساسًا افتحي الباب
_ عارف لو زوزا شافتك هتعلقك في مروحة الصالة .. وما ادراك ما مروحة الصالة
مسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر وتمتم :
_ اللهم طولك ياروح
تنهدت هي بخنق وأجابته أخيرًا بجدية ولهجة حازمة بعد ثواني :
_ أنا مش جاية الشركة تاني .. لقيت شغل في مكان افضل وهشتغل فيه .. ممكن بقى تمشي من فضلك وبلاش مشاكل وفضايح
آدم بشيء من الاستنكار والغضب الملحوظ فوق معالمه :
_ مكان افضل !! .. وعايزة تسيبي الشغل ليه ؟!
مهرة بنبرة قوية :
_ أسباب شخصية واظن اني مش مجبرة اوضحلك
مصمص شفتيه باستياء واضح فوق معالمه اللطيفة التي باتت حادة ومريبة .. ثم مسح على ذقنه بقوة وحدقها بصمت للحظات قبل أن يهدر بنبرة حازمة لا تقبل النقاش :
_ طيب طلب الاستقالة اللي هتقدميه احب اقولك إنه مرفوض من دلوقتي .. وبكرا هستناكي في الشركة عشان نتكلم تاني ولو مجتيش متلومنيش على اللي هعمله
ثم استدار وهم بالانصراف لكنه توقف والتفت برأسه إليها يهتف متذكرًا :
_ اه ، وياريت تردي عليا لما اتصل بيكي
تابعته بنظراتها المدهوشة وهو يرحل .. لا تصدق تصرفاته أو حتى ما يقوله ولا مجيئه إليها بهذا الوقت بسبب عدم ذهابها للعمل وعدم ردها على اتصالاته المتكررة منذ الصباح .
ابتعدت عن الباب بعدما اختفى عن انظارها وأغلقت باب النافذة وهي تضحك بعدم استيعاب وذهول رافعة حاجبها باستهزاء !! .
***
فتح باب المنزل ليدخل ويغلق الباب خلفه بهدوء ثم يقود خطواته البطيئة تجاه الدرج ليصعد للطابق الثاني ثم يسير نحو غرفة ابنته أولًا .
فتح الباب بهدوء شديد ودخل .. كانت نائمة في فراشها بسكون تام وتحتضن بين ذراعيها دميتها الصغيرة المفضلة لديها .. أخذ نفسًا عميقًا واقترب من فراشها ليجثى أمامها على الأرض ويمد كفه يملس فوق شعرها برقة هامسًا في بحة رجولية مؤثرة :
_ أنا آسف يابابا .. آسف ياحبيبتي
ثم تابع بعد لحظات بنبرة أكثر ألمًا :
_ الغضب عماني ومكنتش عارف أنا بعمل إيه .. مفيش حد ولا حاجة تستاهل إني اخسركم بسببها .. وجودك هو اللي مقويني ياحبيبة بابي .. إنتي اجمل هدية من ربنا .. للمرة التانية كنت هكسر ثقتك فيا إنتي وماما واضيعكم من إيدي بسبب تسرعي
ثم اقترب بوجهه منها وانحنى على وجنتيها يطبع قبلة حانية متمتمًا بصوت مبحوح وعينان لامعة بالدموع :
_ سامحيني
وفور تراجعه بوجهه بعيدًا عنها انهمرت دموعها رغمًا عنه ولم يتمكن من حبسها أكثر .. فقد ضاقت نفسه واختنق صدره من تجسيد القوة والجبروت .. ألا يحق له أن يبكي كالبشر لدقائق ؟! .
استعاد بأسه بعد دقائق واستقام واقفًا ثم أن لثم جبهة صغيرته للمرة الأخيرة قبل أن يستدير ويغادر متجهًا نحو غرفته .
كانت جلنار أيضًا بثبات عميق وتدثر جسدها بالغطاء إلى منتصف صدرها وشعرها وجد طريقه ليخفي عيناها ونصف وجهها .
تنهد الصعداء بقوة ثم نزع عنه سترته والقاها بإهمال على آخر الفراش واقترب لينضم إليها .. مدد نصف جسده فقط وبقى يتأملها بعينان تفيض حبًا ثم رفع انامله برقة وابعد خصلاتها عن وجهها وانحنى عليها يلثمها بعدة قبلات بداية من عيناها حتى ذقنها وبين كل قبلة والأخرى يتريث لثانية مستنشقًا عبق وردته الجميلة .
استيقظت على أثر لمساته الرقيقة ولم تفتح عيناها بل ابقتهم مغلقين تتلذذ بذلك الشعور وعلى شفتيها ابتسامة ناعمة تسرق العقول .. وحين رأى ابتسامتها صعدت ابتسامته الخافتة هو أيضًا لثغره في تلقائية وانحنى على شعرها يلثمه بعدة قبلات متتالية ليخرج صوته كسيل جارف من المشاعر الصادقة وسط قبلاته هامسًا :
_ بحبك يارمانة قلبي
اتسعت ابتسامتها دون أن تفتح عيناها واقتربت منه أكثر تستشعر قربه ودفء جسده أكثر وبعفوية رفعت يديها تضعهم فوق صدره فأحست بنبضات قلبه السريعة لتهمس في خفوت انوثي جميل :
_ قلبك بيدق جامد !
عدنان بهمس عاطفي :
_ قولتلك قبل كدا قربك منه بيخليه مش على بعضه
فتحت جزء بسيط من عيناها بتلك اللحظة مبتسمة في حب وسرعان ما اختفت ابتسامتها عندما رأت عيناه الحمراء فقالت بقلق :
_ عينك حمرا ليه ؟!
لم يلجأ لحجة حتى يخفي عنها ما حدث بل قرر أن يطلعها على الحقيقة ولكن بطريقته الخاصة حيث غمغم بوجه مهموم :
_ سلمت نادر للبوليس .. وارجوكي متسألنيش عن تفاصيل لأني مش قادر اتكلم ولا اقول أي حاجة .. عايز افضل جمبك وبس يعني متضيعيش جمال اللحظة
اتسعت عيناها بدهشة فور سماعها لاسم نادر وجالت بذهنها العديد من الأسئلة التي لم تتمكن من حجبها وكانت على وشك أن تطرح أول سؤال لكنه باغتها بنظراته الراجية وصوته المبحوح قبل أن تتكلم :
_ جلنار !! .. هحكيلك كل حاجة بس مش دلوقتي ياحبيبتي .. ارجوكي متضغطيش عليا اكتر
تفهمت رغبته وشعرت بألمه وقهره من نظراته ومعالمه .. فهزت رأسها بالإيجاب مبتسمة له بحنو ثم رفعت جسدها قليلًا وتعلقت برقبته تعانقه في رقة فابتسم هو بعشق ولف ذراعيه حولها يضمها إليه أكثر هامسًا في مشاعر جيَّاشة :
_ ربنا يخليكي ليا يا رمانتي
جلنار في همس دافئ وخافت :
_ ويخليك ليا ياعدنان
***
مع صباح اليوم التالي ........
كان حاتم بغرفة مكتبه الخاصة ينهي بعض الأعمال عندما سمع صوت طرق الباب الخفيف وباللحظة التالية كان ينفتح وتدخل نادين وهي تبتسم له برقة .. بادلها الابتسامة حتى وجدها تقترب تجاهه وتجلس بجانبه فوق الأريكة هامسة :
_ صباح الخير
انحنى عليها وخطف قبلة سريعة من وجنتها يجيب عليها في حب :
_ صباح الفل يا حياتي
تلونت وجنتيها بحمرة بسيطة لكنها تداركت الوضع وغمغمت بخفوت :
_ حاتم الك عندي خبر بيجنن
ترك ما بيده وثبت كامل تركيزه عليها وهو يبتسم بحيرة ويتمتم :
_ خير خبر إيه ؟!
_ بتتذكر المشروع اللي خبرتك عنو بكاليفورنيا
سكت للحظات يستعيد ذاكرته حتى قال بإيجاب وهو يهز رأسه :
_ أه فاكره ماله
نادين بحماس شديد :
_ الشركة اللي هنشاركها بالمشروع اتصلوا فيني ليبلغوني بانو راح يكون في اجتماع مشان نتفق فيه على كل شيء وبنشوف إذا بيتم الموضوع ولا شو
حاتم بجدية تامة :
_ مش دي برضوا الشركة اللي قولتيلي إن مديرها تعرفيه !
هزت رأسها بإيجاب ليستكمل هو بصوت أجشَّ :
_ ومين ده بقى وتعريفه من فين ؟!!!
نادين بعفوية ورقة تليق بها :
_ بتقدر تقول يعني معرفة قديمة من عهد بابا الله يرحمه
استمر بالتحديق بها في نظرات قوية فنكزته في كتفه وزمت شفتيها بعبث تجيبه :
_ ليش عم تتطلع فيني هيك ! .. راح تكون معي بالاجتماع يعني ما بكون وحدي
حاتم بحزم ورفض بسيط :
_ أنا مش متحمس للمشروع ده من البداية أساسًا يا نادين وبقول نصرف نظر احسن
عبس وجهها فورًا وقالت بضيق حقيقي :
_ بس أنا كتير متحمسة .. وخبرتك إنو مهم بالنسبة إلى بدي اثبت حالي واثتبلك مهاراتي بالشغل
ابتسم بحنو لعبوسها ومد كفيه يحتضن وجهها ويجيبها بغزله الجميل :
_ حبيبتي إنتي مش محتاجة تثبتيلي نفسك .. إنتي بالنسبالي اجمل وانجح زوجة في الدنيا
نادين بجدية وحنق :
_ أي بس محتاجة اثبت لحالي يعني هاد اول مشروع أنا بساويه بدون مساعدتك من البداية وهلأ بدي ياك تقف معي وتساندني .. ما بعتقد إني طلبت شيء صعب
اخذ نفسًا بعدم حيلة وقال :
_ طيب انتي حتى مقولتليش اسم الشركة ولا شركة مين ولا ادتيني أي تفاصيل غير عن المشروع بس !
_ surprise ( مفاجأة ) ..
وأنا متأكدة إن كل شيء راح يعجبك لما تيجي معي للاجتماع .. ولا إنت مانك واثق فيني !
ابتسم لها بدفء وأمسك بكفها الرقيق يحتضنه بين كفه الضخم ويتمتم بعينان مغرمة :
_ واثق فيكي ياحبيبتي طبعًا .. وموافق يا نادين عشان خاطرك بس
عادت الابتسامة تشق طريقها باتساع فوق ثغرها وارتمت عليه تعانقه بسعادة :
_ thank you ياحبيبي ..
أنا كتير بحبك
لف ذراعه حول ظهرها بلطف ولثم شعرها بقبلة دافئة قبل أن تبتعد هي برأسها وتتمتم بدلال أنثوي :
_ لأول مرة راح نحضر اجتماع مع بعضنا ونحنا متجوزين
كانت لا تزال ذراعيها تحاوط رقبته وهي تدلل عليه ليضحك بساحرية ثم تعلو معالمه الشراسة ويقول بلهجة رجولية مريبة :
_ امممم عشان لو صنف مخلوق بصلك بس اخد روحه بإيدي
ضحكت برقة وتابعت تغنجها المثير وهي تجيب :
_ تؤبرني ياحياتي إنت
رمش بعيناه عدة مرات وقد انفرجت شفتيه ببلاهة بعدما نجحت بتلك الكلمة أن تذيبه .. ليزدرد ريقه ويتمتم ببحة رجولية جذابة :
_ احم .. صحيح هي خالتي فين ؟!
_ بالحديقة عم تحكي بالتلفون
حاتم بلؤم :
_ اممم لا طالما بتحكي بالتلفون يبقى آمان
أصبحت تفهمه جيدًا وتقرأ نوياه من تعابير وجهه فقط .. وفور تفوهه بتلك بالكلمات أدركت مقصده فهبت واقفة تهم بالركض للخارج لكنه كان اسرع منها حيث قبض عليها يمنعها من الرحيل ويجذبها إليه ليختلسوا بضع من لحظاتههم القصيرة والغرامية معًا .. قبل أن تنجح في الإفلات منه بالاخير وتفر هاربة من الغرفة وسط ابتسامتها الخجلة ! .
***
تمسك بهاتفها وتحدق بالصورة في تدقيق .. ارسلت الصورة مع كلامها عمدًا حتى تؤكد هويتها لها وتثير غضبها وهي نجحت بالفعل ولكنها لم تنجح في إثارة غيرتها .. ليس مجرد صورة سخيفة وكلمات ساذجة ستثير جنونها وتدفعها للشجار مع زوجها بسببها .. ما يغضبها هو وقاحتها وهي تتحداها علنيًا بأنها ستأخذ زوجها منها وتجعل نهايتها مشابهة لتلك الخائنة .. إن كانت تلك الرسالة تدل على شيء فهي بالطبع تدل على جهلها بهوية من تكون جلنار الرازي حقًا .. هيأ لها عقلها التافه بأنها قد تترك لها الساحة فارغة وتسمح باقترابها من زوجها .. لقد ضغطت على وريدها بقوة وستشهد شراسة أنثى العُقاب الحقيقية الآن .
خرج عدنان من الحمام بعدما أخذ حمامه الصباحي وسار باتجاه الخزانة لكي يبدأ في ارتداء ملابسه ويستعد للمغادرة .. استمرت هي في التحديق به بصمت حتى استقامت واقفة وسارت نحوه هامسة :
_ عدنان !
أجابها بنبرة عادية وهو يرتدي ملابسه :
_ نعم
وقفت خلفه تمامًا وغمغمت بخفوت يحمل لمسة القوة في نبرتها :
_ أنا عايزة اشتغل معاك في الشركة
توقف عن متابعة ارتداء ملابسه وضيق عيناه باستغراب قبل أن يستدير بجسده ناحيتها ويهتف :
_ تشتغلي في الشركة !!!!
جلنار بثبات :
_ أيوة أنا اغلب الوقت ببقى قاعدة وحدي في البيت خصوصًا لما تكون هنا في الحضانة .. ففكرت إني اروح الشركة في فترة حضانة هنا الصبح واشتغل معاك واساعدك
عدنان مبتسمًا بحيرة ودهشة بسيطة :
_ تساعديني ! .. هو في إيه بظبط ياجلنار !!
نظرت ببساطة وهدوء أعصاب غريب :
_ مفيش حاجة عادي .. إنت موافق ولا لا ؟!
هيمن الصمت للحظات طويلة عليه وهو يستمر بالتطلع إليها في تدقيق لكن سرعان ما رأت ابتسامة تعتلي معالمه ونظرات كلها دهاء ولؤم قبل أن يجيبها بالموافقة :
_ تمام ياجلنار موافق
بادلته الابتسامة بأخرى ناعمة قبل أن تقترب بوجهها منه وتطبع قبلة دافئة فوق وجنته هامسة في رقة :
_ ميرسي ياعدنان
تمتم بعبثية ومداعبة :
_ عدنان حاف كدا .. يعني مفيش حبيبي مثلًا
رمقته بطرف عيناها في مكر ثم ردت بدلال باسمة :
_ تؤ عدنان احلى !
رفع حاجبه باستنكار وقال في غيظ بسيط :
_ ابعدي ياجلنار خليني البس وامشي
ضحكت بخفة ورفعت جسدها لتتساوي مع طوله الذي يفوقها ثم انحنت وطبعت قبلة ناعمة بجانب ثغره وتمتمت :
_ هتفطر معانا الاول لإني مش هسمحلك تمشي زي كل يوم
انصهر أمام قبلتها وابتسم لها بعشق ليحرك حاجبيه بإيجاب على طلبها المتغلغل بلهجة الأمر .. ليجدها هي الأخرى تنفرج شفتيها وتقول بعفوية :
_ هروح اكمل تحضير الفطار لغاية ما تلبس
أنهت عبارتها واندفعت لخارج الغرفة .. وبقى هو يحدق في أثرها مبتسمًا بوميض لامع ومغرم في عيناه ! ...
***
داخل شركة الشافعي ......
تقف أمام المصعد تنتظر وصوله وانفتاح الباب .. وبعد لحظات من الانتظار دخلت وضغطت على زر الطابق الثالث لينغلق الباب عليها ويبدأ في الارتفاع للطابق المطلوب .
خرجت من المصعد وقادت خطواتها الواثقة تجاه ليلى الجالسة على مقعدها أمام مكتبها الصغير .. وقفت بصلابة وقالت في جدية وهي تمد لها ورقة :
_ ده طلب الاستقالة .. وصليه لآدم بيه
مدت ليلى يدها وكانت على وشك أن تلتقط الورقة منها لكن يده انتشلت الورقة من يد مهرة بعنف ورمقها مشتعلًا ثم هتف بغلظة ولهجة آمرة :
_ تعالي ورايا على المكتب يا أنسة مهرة
القى بعبارته وابتعد يتجه نحو مكتبه بينما مهرة فتأففت بنفاذ صبر وحنق ثم استدارت وسارت خلفه .
دخلت بعده وأغلقت الباب بهدوء لتقابل جموحه يقول بغضب:
_ قولتلك امبارح طلبك مرفوض
اندفعت نحوه ثائرة وصاحت بعصبية :
_ إنت مش هتجبرني اشتغل عندك .. والطريقة اللي كلمتني بيها امبارح مش هسمح انك تكلمني بيها تاني أبدًا
هدأت ثورته أمام ثورانها هي وقال ببرود يثير الأعصاب :
_ طالما مفيش عندك سبب قوي يبقى اعتبريني بجبرك
_ وأنا قولتلك اسباب خاصة بيا
آدم بعصبية :
_ في حاجة حصلت وإنتي رافضة تقولي .. مش معقول الأسباب دي ظهرت في يوم وليلة وأنا قبلها كنت مكلمك وقولتي إن جدتك بقت كويسة وهترجعي الشغل
صاحت به في شراسة وسخط :
_ غيرت رأي ومش عايزة اشتغل هنا ومعاك بالأخص
غضن حاجبيها بدهشة واجابها باستغراب :
_ ليه !!
مهرة بعصبية وهي تتجاهل سؤاله :
_ ممكن تمضيلي على الورقة يا آدم بيه عشان امشي
كانت نظراته الثاقبة تخترقها كالرصاص .. عدم الفهم والدهشة يهيمنان على معالمه .. اشاحت بوجهها بعيدًا عنه حتى لا يخونها قلبها الضعيف أمامه فسمعته يتمتم بصوت متحشرج :
_ مش عايزة تشتغلي معايا ليه يا مــهــرة ؟!!
فقدت شجاعتها ولم تتمكن من النظر بوجهه حيث ثبتت نظرها بالأسفل تحديدًا على الورقة التي بيده وتمتمت في خفوت وحزم تعيد طلبها مرة أخرى :
_ ممكن تمضي على الاستقالة !
القى بالورقة في إهمال وصاح منفعلًا :
_ مش همضي على زفت .. فهميني إيه اللي حصل ؟!
استجمعت رباطة جأشها وتطلعت بعيناه هاتفة في ترقب وقوة :
_ وإنت مهتم بيا وعايز تعرف للدرجة دي ليه !!!
آدم بغلاظة صوته الرجولي ووضوح تام :
_ عشان مش هسمحلك تمشي يا مهرة
طالت نظراتهم المتبادلة .. في حديث تجريه العيون فقط .. كلمات كثيرة لم تتفوه بها ألسنتهم ولكنها اخترقت جدار القلوب وتربعت على عرشه ! .
انزوت نظرها عنه بضعف من مشاعرها الدفينة له .. وبعد ثواني تطلعت إليه مرة أخرى وهتفت بثبات :
_ أسأل والدتك وهي تقولك
ثم استدارت وسارت لخارج الغرفة تتركه يقف مذهولًا .. يحاول فهم جملتها الأخير ولم تستغرق وقتًا طويلًا ليدرك أن والدته تسببت بخلق فجوة مختلفة من بفعل من أفعالها ! ...
***
طرقت الباب عدة طرقات خفيفة قبل أن تدخل بتوتر ملحوظ .. أغلقت الباب وعلقت نظرها على عدنان الذي يقف يوليها ظهره واضعًا قبضته في جيبي بنطاله ويتطلع من النافذة العريضة بالغرفة .
استجمعت شجاعتها وهتفت :
_ قولت إنك عايزني يا عدنان !
بقى ساكنًا لا يتحرك ولا يتفوه ببنت شفة مما أثار اضطرابها أكثر من ردة فعله .. ولم تكن سوى دقائق معدودة حتى وجدته يستدير ويسير نحوها ليقف أمامها مباشرة ويتمتم بنظرات مميتة :
_ التصرفات الرخيصة دي متتعملش معايا ياجميلة .. مش عدنان الشافعي اللي حركات الحريم دي هتخيل عليه
تمكن منها الخوف البسيط فهتفت محاولة الدفاع عن نفسها :
_ بس ياعدنان أنا ......
صاح بها يكتمها ويمنعها من التحدث بصوته الجهوري :
_ إنتي كل مرة بتنزلي من نظري اكتر .. وتخطيتي حدودك أوي معايا
جميلة بغضب حقيقي امتزج ببراءة مزيفة :
_ أنا مكنتش اقصد اعمل كدا أكيد
عدنان بانفعال هادر وصوت نفضها بأرضها :
_ من هنا ورايح مش هسمح بأي تجاوزات يا جميلة فاهمة ولا لا .. أنا حتى الآن عامل اعتبار لوالدي والدك الله يرحمهم بس بعد كدا هتشوفي جانب قذر مني .. واعملي حسابك إنك هتنتهي من المشروع اللي شغالة فيه في أقرب وقت وهتتنقلي للفرع للتاني
جميلة بصدمة :
_ الفرع التاني .. عدنان إنت .....
اسكتها للمرة الثانية يجيب بصرامة مصححًا لها اسمه :
_ عدنان بيه !!
احتدمت الدماء في وجهها وطالعته بيأس وخنق قبل أن تخفض انظارها أرضًا وتتمتم بأسف :
_ أنا آسفة ياعدنان بيه
عدنان بجفاء وأعين مظلمة :
_ اتفضلي على مكتبك
استدارت فورًا قبل أن تنهمر دموعها وانصرفت مسرعة بينما هو فتأفف بخنق ومسح على وجهه في نفاذ صبر .....
***
يجلس هشام بجوار زوجة خاله ويتحدثون من وقت ليس بقليل .. تعددت المواضيع التي تناولولها أثناء حديثهم وكان شاغرهم الشاغر والأهم هي زينة .. تسرد له كل شيء عنها وكيف أنها مازالت حتى الآن ترفض التحدث ولا تأكل سوى بعض اللقيمات الصغيرة من الطعام حين تصر عليها أمها .
كان قلبه يتمزق لأشلاء عليها .. يحاول بكل الطرق الممكنة أن يخرجها من تلك الحالة ويعيدها كالسابق ليرى ابتسامتها البريئة ترتفع فوق وجهها من جديد لكنها لا تسمح له بالاقتراب منها حتى .. وكلما يدخل إليها إما تتصنع النوم أو تنام فوق فراشها وتوليه ظهرها وتبكي خلف أنظاره بصمت .
تركته ميرفت وقررت بأن تدخل إليها وتحاول التحدث معها علها تتكلم وتفرغ عن نفسها المتحجرة بالآلآم .. فتحت الباب ببطء ثم دخلت واغلقته وقادت خطواتها بتريث تجاهها لتجلس بجوارها على الفراش وتمد كفها تملس فوق شعرها بحنو هامسة في أسى وصوت مبحوح :
_ كفاية يازينة ياحبيبتي .. اتكلمي يابنتي وخليني اسمع صوتك حالتك ده بتقطع قلبي أنا مش بعرف انام الليل من كتر حزني وقلقي عليكي .. احمدي ربنا إنه نجدك منه وحماكي .. ده ميستهلش تعملي في نفسك كدا عشانه .. بالعكس إنتي اقوى من إن رياح عابرة تهزك
مالت برأسها للجانب ناحية أمها وحدقتها بعينان دامعة وموجوعة للحظات طويلة .. تجاهد لتستمر في الصمت لكنها لم تعد تحتمل الكتمان أكثر حيث انفجرت باكية بحرقة وبصوت مرتفع وصل لأذن هشام بالخارج مما دفعه لا إراديًا أن يهب واقفًا ويتجه إلى غرفتها .. لم يدخل ولكنه وقف من الخارج يستمع أخيرًا لصوتها وهي تهتف ببكاء حار :
_ عمل فيا كدا ليه ياماما .. أنا عملتله إيه عشان يأذيني بالشكل ده !!
ارتمت على صدر أمها واستمرت في البكاء العالي وجسدها ينتفض بعنف من شدة البكاء .. بينما ميرفت فضمتها إليها أكثر وقد تلألأت الدموع في عيناها هي الأخرى وسرعان ما انهمرت فوق وجنتيها حين سمعتها تستكمل بصوت مرتعش ومتقطع :
_ ليه يخدعني بعد ما كنت خلاص قربت احبه .. صدقته وصدقت إن بيحبني بجد وعايزني .. بس كل ده طلع كذبة ولعبة .. كان بيتسلي بمشاعري .. ميعرفش إن قلبي ميت وكان محتاج اللي يحييه من جديد مش يدفنه
تمتمت ميرفت بصوت ممزوج ببحة البكاء على حالة ابنتها ووحيدتها :
_ ربنا شايلك الأفضل والاحسن منه يابنتي .. ده اختبار من ربنا وكلنا لازم نمر بالاختبارات دي ونكون أقوياء ونحمد ربنا في الخير والشر .. محدش يعلم اللي في الغيب غير ربنا وإنتي متعرفيش الأيام الجاية مخبيالك إيه عشان كدا خليكي قوية وتخطي الاختبار ده ياحبيبتي
رفعت رأسها عن صدر والدتها وحدقتها بعينان منكسرة وعاجزة تهتف وجسدها تجتاحه نقضة عنيفة تهزها كلها بقوة :
_ هو أنا ليه حظي وحش كدا ياماما .. قلبي مكتوب عليه العذاب والوجع .. بقيت متأكدة إني مليش نصيب من السعادة اللي بشوفها وبتمناها .. كل ما اقف على رجلي واقرر اعافر .. الدنيا بتديني ضربة اقوي من اللي قبلها تنزلني سابع أرض
ميرفت برزانة وحنان :
_ ربنا مش بيدي حد فوق طاقته .. وانتي قوية ومش كل حاجة هتقدر تهزك .. واعتبري الضربات دي خبرات وفرص الدنيا بتمنحهالك عشان تتعملي منها وتقويكي اكتر .. وصدقيني ربنا هيعوضك ياحبيبتي
أحست بالتحسن بعد بكائها وتحدثها مع أمها وكأنها أزاحت ثقلًا من فوق صدرها .. حتى أن كلماتها كان لها أثر سحري في الرضا والسلام النفسي .. لكن سرعان ما عبس وجهها من جديد حين تذكرت هشام وجففت دموعها تجيب على أمها بأسى وانسكار :
_ أنا حتى هشام مش قادرة ابص في وشه .. كل ما افتكر إنه شافني في الحالة دي مش بستحمل وانهار .. مبقيش عندي الجراءة إني ارفع عيني في عينه ياماما
ابتسمت لها ميرفت وملست على شعرها بلطف متمتمة :
_ هشام قلقان وخايف عليكي زي واكتر كمان يازينة .. ومش انا اللي كنت بقول عليه أنه أخ وصديق ليكي .. ده إنتي اللي كنتي بتعتبريه كدًا ولولاه الله اعلم كان ممكن الحيوان ده يأذيكي ازاي
هزت رأسها مؤيدة كلام والدتها وتهمس في صوت يكاد يخرج بصعوبة :
_ عارفة ياماما عارفة
نالت الابتسامة المنطفئة والمستنكرة من ثغره أخيرًا بالخارج بعدما سمع ما قالته .. هل كانت تتهرب منه لهذا السبب .. يالها من ساذجة ، فلو عرفت بالألم الذي كان يضرب بقلبه ويفتته لأجزاء كلما تبعده عنها وتظهر له عدم رغبتها بوجوده لكانت لعنت نفسها ألف مرة ! ...
***
داخل منزل عدنان الشافعي .......
عاد للمنزل بالمساء مبكرًا على غير العادة وكانت صغيرته لا تزال مستيقظة حتى الآن وفور رؤيتها لعودة أبيها المبكرة اخذت تقفز فرحًا وسعادة .. ليضحك هو ويحملها ثم يليقها فوق الأريكة ويبدأ بمداعبتها ودغدغتها وسط ضحكهم ونظراته الدافئة ! .
بعد دقائق من المشاكسة مع ابنته اتجه إلى غرفته بالأعلى .. وكانت جلنار تقوم بترتيب الخزانة وتتحرك في الغرفة بكل نعومة ورقة دون أن تصدر أي صوت .. ولكنها انتفضت فزعًا حين شعرت به خلفها والتفتت بسرعة إليه تهتف في دهشة :
_ إنت جيت بدري أوي كدا ليه !!
عدنان مداعبًا :
_ إيه إنتي مش عايزاني ولا إيه يارمانة !
_ لا طبعًا مش قصدي كدا بس استغربت يعني لانك مش من عادتك ترجع بدري
ابتعد عنها بضع خطواتها وبدأ في نزع ملابسه يجيبها بصوت مرهق :
_ حسيت بإرهاق وتعب فجيت بدري عشان ارتاح شوية
اندفعت نحوه بقلق واضح لتقف أمامه وترفع كفها تتحسس وجنتيه وجبهته .. ثم هدرت براحة تظهر في عيناها :
_ حرارتك مش عالية
ابتسم بعبث وقال في لؤم دفين :
_ لا الحرارة مش بتتقاس كدا
ضيقت عيناها بعدم فهم لتتسع ابتسامته الخبيثة أكثر فوق ثغره وينحنى عليها يلثم وجنتيها واحدة تلو الأخرى هامسًا بوقاحة :
_ كدا .. وكدا .. أو كدا مثلًا
قال جملته الأخيرة وكان على وشك أن يميل بالمنتصف لكنها تراجعت بخجل شديد ولكزته بلطف فوق صدره هاتفة بضحكة مستحية :
_ عدنان الله ! .. البنت صاحية
غمز لها بمشاكسة وتمتم :
_ ننومها !
دفعته من صدره بخفة وهي تبتعد عنه ضاحكة لتسمعه يهتف بعد أن تخطت خطوتين فقط :
_ جهزي نفسك لبكرا بليل
توقفت واستدارت له تحدقه بحيرة وتسأل :
_ ليه في إيه بكرا !
عدنان بهدوء تام :
_ في اجتماع تبع الشغل وهيكون برا الشركة وهتيجي معايا
عادت تقترب منه مرة أخرى لتسأل للمرة الثانية بفضول أكثر وعدم فهم :
_ ليه !
ابتسم لها بحب ورفع انامله يمررها فوق بشرة وجهها برقة هامسًا :
_ لازم يكون في سبب يعني .. هو إنتي مش مراتي ! .. وأنا عايزك تكوني معايا في كل مكان وخصوصًا في شغلي .. يعني اجتماع زي ده مش حلوة اروح وحدي وانا راجل متجوز وسايب رمانتي في البيت
انفرج ثغرها الجميل على اخره .. تتطلعه بهيام وغرام قبل أن توميء برأسها في موافقة وتردف :
_ تمام هجهز نفسي
مال عليها وخطف قبلة سريعة من وجنته امتزجت بغمزته المداعبة ثم ابتعد عنها واتجه للحمام .. يتركها في سرور من مشاعر العشق والاهتمام والحب التي تعيشيها لأول مرة معه .. لم تكن تتخيل أن سيحاول من أجلها لهذه الدرجة .. لو كان أخبرها أحد بأنه سيعشقها بهذه الطريقة المذهلة لما كانت صدقته ابدًا !! ......
***
بمساء اليوم التالي ..........
يجلس كل من حاتم ونادين على طاولة متوسطة الحجم من أربعة مقاعد في أحد المطاعم الفاخرة والمشهورة .. ينتظرون قدوم الطرف الآخر حتي يبدأون اجتماع العمل ! .
وكان حاتم يتفقد ساعة يده كل لحظة والأخرى بخنق وقد بدأ يفقد صبره .. وإذا به على حين غرة تقع أنظاره على باب المطعم بتلقائية ليرى عدنان يدخل بصحبة جلنار التي تسير بجواره بثقة وثبات ، تمامًا بنفس نظراتها القوية المعتادة !!!! .....
يتبع الفصل الثالث والأربعون اضغط هنا
- تابع الفصل التالي عبر الرابط: (رواية امرأة العقاب كاملة) اضغط على أسم الرواية