رواية ربما قدر كاملة(من الفصل الاول للأخير) بقلم مريم وليد
رواية ربما قدر كاملة(من الفصل الاول للأخير)
«تنكمِش الذكريات رُغم صلابتِها، ويبقىٰ أثر الحنين مُزعزعًا.»
- نورر!
بصيت لرحمة لقيتها واقفة بتلاعِب قُطة في الشارِع، جريت عليها:
- أوعي توقعيها يا رحمة.
ابتسمتلي:
- هكون رحيمة بيها عشان أسمي رحمة، هكون زي بابا مِش ماما يا نور.
لمحت طيف واحد جاي بيجري وبيشد القطة مِنها وبيزعق:
- أبعدي عن قطتي، أزاي تاخدي القطة بتاعتي بِالشكل ده.
رَد التاني بأسف:
- أنا أسِف هوَ كان خايف عليها بس، يلا يا حمزة.
فوقت مِن ذكريات طفولة لطيفة وموجِعة بعض الشيء، علىٰ صوت رحمة أختي وتؤأمتي، أنا ورحمة في تالتة ثانوي، جايز الوضع صعب جِدًا بسبب ضغط ماما اليومي علينا، لازم تذاكري، لازم الدروس، لازم تحفظي، قللي نوم، قللي أكل، كتري مُذاكرة.
- أنا مبقتش قادرة أركِز يا نور، حاسة إن كل شيء صعب وغير مُجدي بِالنفع، المُذاكرة وقلة النوم تعبوني.
ابتسمتِلها:
- قومي نامي يا رحمة وسيبك مِن كلامها، هتزعق شوية وتسكت، هقولها إني أنا اللي قولتلك نامي.
عيطت، عيطت فحضنتها:
- بابا وحشني أوي يا نور، أوقات بستغرب مِن ماما وقسوتها معانا، فيه أُم بتقسو علىٰ أولادها بِالشكل ده! يعني كان ذنبنا أيه إن بابا مات وهوَ بيفسحنا، ده قضاء ربنا وقدَّرُه، دايمًا بتعاملنا وكأنِنا مُخطأين ومُذنبين، أحنا مِش كده يا نور.
مسِدت علىٰ شعرها بهدوء، وأنا بعانِد دمعة نزلِت من عيوني:
- أنتِ مش لسه قايلة قضاء ربنا وقدَّرُه! هنعانِد قضاء ربنا في ماما؟ هيَ كمان موجوعة علىٰ فُراق بابا، خايفة علينا عشان بنات تربيتنا تفلِت منها، هيَ مش عارفة إنها كده بتأذينا يا حبيبتي، بس صدقيني ماما بتحبنا.
صعب تقنِع حد بشيء أنتَ نفسك مِش مُقتنِع بيه، حقايق بتدور كتير حوالينا بنحاوِل نكدبها، لَكِن وكالعادة بِنفشل، جايز ننجح في شيء واحد بس.. وهوَ إننا نهرب مِنها.
- نــوورر!
سمعت صوت ماما فخرجت، لقيت مكان واسِع، واسِع أوي وهيَ قاعدة بتبكي علىٰ الأرض وبتنادي «نور، رحمة»، بابا واقِف بعيد بيبتسِم بهدوء مُبالغ فيه، فَبتقوم تُقف وبتبطل تنادي، بيقفوا قدام بعض وبتعيط لما بتحضنه، بتعيط كتير أوي أوي، بسمع صوت أنينها فغصب عني بعيط معاها وأنا بشوفها.
- نور، أصحي أصحي؛ ده مُجرد كابوس يا حبيبي، مُجرد كابوس.
صحيت لقيت رحمة قاعدة جنبي وأنا بعيط والمخدة مليانة دموع، حضنتها وحاوِلت أهدىٰ، ذِكرىٰ وفاة بابا النهارده، مهما حاوِلت أجمَد بيسقط كل الجمود ده أرضًا النهارده، بشكل أو بأخر النهارده عيد ميلادنا، عيد ميلادنا اللي بنهرب مِن أننا نفتكره كل سنة لأنه ذكرىٰ وفاة أقرب حد لقلوبنا، زي النهارده مِن ١٢ سنة فقدناه.
- صحيتوا؟ يا ألف خير وبركة.
لمحت دموع في عيونها، كان سهل أتجاهلها بس معرفتش، رحمة دخلت الأوضة عشان بتكره تواجه اليوم ده في وجود ماما، علىٰ عكسي؛ بستحمِل أي شيء مِنها اليوم ده عشان عارفة إنها موجوعة، ماما معيطتش يوم موت بابا، وللنهارده مشوفتهاش بتعيط، جايز بتعيط لوحدها، بس بتداري عيونها مِننا دايمًا.
- بتبصيلي كده ليه؟ كُليني بالمرة.
لما شوفتها وأفتكرت الحلم عيطت، لأول مرة أعيط قُدام ماما في يوم زي ده، قُلت بشحتفة ما بين دموعي:
- شوفتهه، شوفته النهارده، كان بيبتسم وكنتِ بتعيطي، شوفته.
جت جنبي علىٰ الكنبة، ولأول مرة تحضُنّني، آه حضنتني لأول مرة رغم إنها أُمي، حسيت بدموعها نازلة، صوتها القويّ ضعِف وخرج بين دموعها:
- وأنا كمان حلمت بيه، كان حلو أوي.. كعادته حلو أوي.
رحمة فتحت الباب واتخضِت من شكلنا، لقيتها جاية بتقعد جنب ماما من الجهة التانية:
- أحضنيني يا ماما.
قعدنا ساعة ونص مِن العياط المُتواصِل، لحد ما قطع لحظتنا دي صوت هبد قدام الباب، ماما مسحت دموعها وبصِتلنا:
- هو فيه ايه؟
رحمة ضحكِت:
- البيت هيتهد عشان حضنتينا، شوفتِ شوفتِ؟
ما هوَ اكيد النهارده مش يوم المُعجِزات! ماما ضحكِت وخبطت رحمة علىٰ كتفها بلُطف:
- بس يا جزمة أسكتِ.
راحت لبست الإسدال وفتحت الباب، لقِت حد كده طويل شوية، لا طويل كتير واقِف قُدامها بضهره، بصِتلنا بأستنكار وراحت علِت صوتها شوية:
- يا أخ!
بصِلها بخضة:
- لا إله إلا الله! فيه أيه يا طنط حد يخض حد كده؟
رحمة ضحكِت بصوت عالي:
- لا دي ماما عادي.
- لا أهلًا بماما، أهلًا أوي كمان.
خبطتها في أيديها عشان تسكُت وشدتها عشان ندخُل جوا، كان ناقِص يصورها بالمرة، ينشك في عينه البعيد.
- مين ده يا ماما؟
ابتسمت:
- بيقول جيراننا في البيت، باينلهم جُداد باين عشان من أيام سماح ومحدش بيسكُن هنا، معرفش بقىٰ رجعوا ولا دول جيران جُداد ولا أيه.
بصيت لبعض أنا ورحمة وضحِكنا، ذكرىٰ طفيفة فاتت علىٰ بالنا:
- أنت ازاي تزعق لأختي كده! قطتك كانت هربانة منك أكيد زي دماغك.
بَصلي بعصبية:
- أحترمي نفسك ولمي لسانك عشان مجيش أضربك.
اخوه، ورحمة أحتي حاولوا يهدونا ولَكِن لا حياة لِمن تُنادي.
- خلاص بقىٰ أنتوا الأتنين اهدوا!
كان صوت طنط سماح جارتنا، بَصِتلي وابتسمت:
- حقك عليا يا نور، حمزة يبقىٰ ابن أخويا، وقطته ضاعت منه وكان بيعيط فـ..
جت تكمل فقَطِعها:
- أنا مكنتش بعيط.
طلعتله لساني برخامة:
- لا بتعيط، يا عيوطة يا عيوطة.
رحمة ضربتني وهمسِت:
- طنط واقفة، عيب.
فوقت علىٰ صوت جرس الباب:
- سمااح!!
سمعنا صوت سلامات، وحلويات برا فأتخضينا وروحنا علىٰ الباب، أنا ورحمة تؤام بس بيننا فرق ملحوظ، مِش شبه بعض في كُل شيء، يعني يتفرَق بيننا بسهولة، طنط سماح شافتنا فابتسمِت:
- ياختي قمر علىٰ الحلويات بتاعتي!
روحنا سلِمنا عليها وحضنناها، وبعد فترة مِن الوقت عرِفنا إنها رجعِت هيَ وزين أبنها وهيعيش معاهم حمزة أبن أخوها، واللي عرفته إن حمزة باباه ومامته سافروا مِن زمان وسابوه لطنط سماح، وطبعًا طنط مِش بتسيب فُرصة عشان تضايقني:
- فاكرة حمزة يا نور؟
نطَقت مِنغير تفكير، لا أنا عمري ما نطقت بتفكير أصلًا:
- العيوطة!
رحمة نغزتني في رجلي، فَأستوعبت اللي قولت، بس بعد أيه؟ كانت ماما وطنط بيضحكوا عليا، ولكِن كوني حد حشري كان لازم أسأل:
- مين يا طنط اللي كان بيطلع العفش ده؟
رفعِت حاجبها:
- أكيد زين أو حمزة.
- اااهه، بس زين أبنك مُحترم، ده أكيد حمزة.
ضحكِت، وقالتلي:
- اشمعنا يعني؟ هوَ عمل حاجة!
رحمة ردِت عليها:
- عاكسني وأنا واقفة يا طنط.
بصِت بأستغراب:
- لا أكيد، ده كده مش زين ولا حمزة، حمزة برضوا مُحترم جدًا، ولو مش مُحترم فهوَ عارِف أن مامتكم صحبتي فمش هيعمل كده عشان عارِف أني ههزقه.
بصِت علىٰ تليفونها وبعدين كملِت:
- طب استنوا أشوف معاهم حد ولا لا.
رنِت علىٰ حد فيهم، وغالبًا رد:
- ألو يا زين، بقولك يا حبيبي معلش هو معاكم حد بيطلع العفش؟
- آهه، ماشي ماشي طيب قولوا أني ههزقه لما يطلعلي.
- لا يا خويا عاكِس البت رحمة بنت طنط تُقىٰ.
- حاضر ماشي، سلام، سلام.
والكثير مِن السلامات بقىٰ معرفش أيه سببها الحقيقة، العائلات والجيران المصرية دي غريبة جدًا، عادي كده عاكس رحمة! وَه ده أيه ده؟
- ده محمد صاحبهم يا رحوم، حقك عليا أنا.
رحمة ابتسمِت بخُبث:
- عيب يا طنط ده أحنا أهل، وبعدين مين قالك أن نور كانت هتسكت؟
مِش هنسلَم النهارده مِن التريقة علىٰ الحوار اللي عدىٰ عليه قرنين ده بقىٰ!
- نور، أفتحي الباب بالله.
كانت ماما دخلت المطبخ تحط عصير لطنط، والباب خبط، روحت أفتح، لقيت حد كده.. لا هوَ مِش حد، هوَ قمر، عارفين القمر؟
- آ آ عمتو هِنا؟
حاولت أستوعِب مين عمتو اللي المفروض تكون هِنا، بس علىٰ ما استوعِب كانت طنط سماح جاية من ورا:
- حمزة! تعالىٰ يا حبيبي أدخُل.
ابتسم بهدوء، هدوء جميل خالِص.. ياختي العيون دي كانت بتعيط أزاي وهيَ صغيرة!
- لا يا عمتو معلش، زين بس باعتني أقولك اننا خلاص طلعنا كل حاجة وكده عشان هوَ بيركب الشاشة وكده، فلو حضرتك عايزة تيجي تعالي.
- طنط انتوا ممكن تتغدوا معانا النهارده عشان مش هتلحقي تعملي أكل!
أتسحَبت من لساني تاني! آه اتسحبت، مِني لله واللهِ، مني لله.
- واللهِ فكرة، أستني أما أشوف أمك.
آه عادي وافقِت، أصل ماما وطنط سماح كانوا صحاب جدًا جدًا، فَعادي بينهم الحاجات دي، والحقيقة ده شيء لطيف، شايلين التكليف خالص مِن علاقتهم ببعض، فتحسنا أهل.
- روح نادي زين يا حمزة، ولو محمد معاكم ناديه بقىٰ هناكل النهارده عند طنط.
بَصِلها كده، اللي هو أيه! فَكملِت:
- يا واد متخافش دي طنط تُقىٰ، ودول نور ورحمة ولادها عادي.
- أنتَ هتتنحلي روح نادي الواد!
حسيتها هتتحوِل، فَرد عليها:
- يووهه، حاضرر.
جيه ماشي عيوننا اتقابلوا لأول مرة، أكدب لو قلت حبيته وبتاع، أنا كنت هموت وأضحك بصراحة.
- السلامُ عليكم!
ده أيه العيلة اللي كلها عيال حلوين دول، و.. أيه البت اللي هتفضحنا دي كمان:
- رحممةة!
كنت بهمِسلها، فردِت بنفس الهمس:
- هو ده الواد زين! أيُعقل؟
ماما اتكلمِت بترحيب:
- أتفضلوا يا حبايبي تعالوا، أقعد يا زين يا بني.
قعدوا علىٰ كنبة، وأحنا علىٰ كنبة، وماما وطنط علىٰ الكراسي، كان معاهم الواد الغريب اللي اسمه محمد ده، لاحظت إنه بيبص لرحمة، فاتكلمت:
- تعرفِ يا طنط اللي بيبص لرحمة بعمِل فيه أيه؟
لاحظوا أني بتكلم عنه، فضحكوا.
- بتعملي ايه؟
كان صوت حمزة، يا جدع بتتكلم معايا ليه دلوقتِ أنتَ!
اتكلمت ببرود ورفعت حاجبي:
- بعيطُه.
الحقيقة إن في اللحظة دي كلهم ضحكوا وحمزة كان متعصب، أما محمد ده فملهوش أي تلاتة لازمة عادي.
- علىٰ فكرة أنا لو نفخت فيكِ هطيرك.
- يعع، قديمة.
كانت رحمة المُهزقة عادي، أحنا اصلًا عيلة رخمة، اللي لفتني في كُل ده هدوء زين ورزانته، الحق يتقال شخص عاقل جدًا، أسمي ولاده هوَ وأختي أيه!
- قوموا حطوا الأكل معايا يلا.
قومت أنا ورحمة نجيب الأكل مع ماما، وطنط سماح ودتهم ناحية السفرة، كان محمد ده أستأذِن ومشي.. يلا مع السلامة ملهوش أي تلاتين لازمة.
- عجبكم الأكل يا ولاد؟
زين ابتسَـم بهدوء:
- تسلم أيدك يا طنط.
وبصِلنا:
- وتسلم ايديكم أنتم كمان، اكيد ساعدتوها صح؟
هو علميًا كان بيكلمنا، عمليًا كان باصص لرحمة، بس ولو ولو هوَ بيكلمنا.
- أراكِ تشبهين الخيار المُخلل في المُنتصف.
كان صوت سي حمزة مِن جنبي، هـمَسلي، فَرديت عليه بنفس الهمس:
- أنتَ بالذات تخرس، عشان أنا مش عيوطة زيك.
- هيء، علىٰ الأقل أنا كنت عيوطة وأنا صغير، بس أنتِ كوبري وأنتِ كبيرة.
رميت كوباية بلاستك علىٰ رجله، فَـماما بصِت:
- فيه حاجة يا ولاد؟
ابتسمت ببرود:
- لا يا ماما أبدًا، أصل كابتن حمزة كان بيلعب بكوباية العصير باين!
وأحنا بنتكلِم شمينا ريحة حاجة بتتحرِق، دورنا في البيت مفيش شيء، لحد ما لمحنا حريقة خارجة مِن بيت طنط سماح.
- الحقونا..
يتبع الفصل التالي اضغط هنا