رواية نزيف الجدران الفصل الخامس عشر بقلم سيد داود المطعنى
رواية نزيف الجدران الفصل الخامس عشر
بات سعد ليلته و هو في قمة الفرح لضمانه العيش في أمان, وقد منع أولاده من الذهاب إلي أماكن الخطر, وما كان عليه إلا أن يبحث عن عذر قهري يقدمه عصام للقيادة العامة حتي تسمح له بالاستقالة دون اعتباره شخص متخاذل يحاول الهروب من مواجهة العناصر الارهابية في سيناء.
و في الصباح ذهب سعد إلي صديقه استشاري المخ و الأعصاب المشهور, وحصل منه علي أشعة و تحاليل لشخص مصاب بالزهايمر, و حصل منه علي شهادة وتشخيص تفيد بأنه مصاب بالزهايمر, ووضع كل تلك الأوراق في مظروف, و عرف من صديقه أعراض الإصابة بالزهايمر, وطريقة تعامل المصابين, وكيف يتعامل الأبناء مع الأب المصاب.
كانت ساعات الصباح عصيبة علي عصام, لا يعرف كيف يواجه قادته و زملائه وهو يقدم استقالته في أهم مرحلة تمر عليه منذ التحاقه بالقوات المسلحة, كيف ينظر في أعينهم بالقوة التي اعتاد النظر بها, كيف يصافحهم مصافحة الوداع, ومنهم من يشد الأجزاء و يستعد للرحيل إلي أرض المعركة, يحملون أرواحهم علي كفوفهم ليستقبلوا تلك اللحظات بصدورهم العارية.
حضر سعد إلي البيت يزف البشري لعصام, و قدم له أوراق وشهادات من طبيب مشهور تفيد بأن والده مصاب بالزهايمر و لا بد من الاعتناء به, و بما أن عصام هو الابن الأكبر, و باقي الأبناء لازالوا طلاب في المدارس والجامعات, فلا بد أن يتفرغ عصام لرعاية والده حتي يتماثل للشفاء, و تلك الحالة من حالات الزهايمر قد تستغرق أكثر من سنة حتي يتماثل المريض للشفاء.
ــ بعد الشر عنك يا بابا, ليه الفال ده بس
ــ الفال ده أحسن من اللي انت رايح له يا عصام, دلوقتي هكتب لك صيغة للاستقالة تبرز انك شخص هتضحي بمستقبلك و شغلك اللي بتحبه علشان تتفرغ لرعاية والدك, ومش هتعدي شهر بالظبط بعد الاستقالة وهتلاقي نفسك مدير أمن شركة بترول كبيرة وبمرتب ضخم كمان.
ــ ربنا يستر يا بابا, ربنا يستر, هو حضرتك متوقع إني هفرح بالبترول بعد استقالتي من الجيش!
ــ أنا عارفك زعلان, بس ان شاء الله مع الأيام هتنسي, هي الحياة كده يا بني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قابل عصام اللواء عبدالمجيد و هو في حالة نفسية يرثي لها, كان مرتبكا من ذلك الموقف الذي اضطره والده للوقوع فيه, و لكن اللواء عبدالمجيد ظن أن حالة القلق التي تنتاب عصام الآن هي من الخوف والرعب علي صحة والده التي شرحها في تقرير الاستقالة مرفقة بشهادات الطبيب الشهير, لم يكن يحلم عصام لحظة أن تكون الظروف مواتية بهذا الشكل لتجعل منه بالفعل بطلا في نظر اللواء عبدالمجيد.
ــ تمالك نفسك يا عصام يا بني, الحمد لله إن المرض مش عضوي, و ان جسمه سليم و بيعتمد علي نفسه.
ــ ازاي بس يا سيادة اللواء, ده بابا مش عارف حد فينا, بابا تايه يا سيادة اللواء, أنا مش متخيل إن واحد من عظماء القانون في مصر يحصل له كده, ده بابا من العقليات المعدودة يا فندم
ــ قول الحمد لله يا بني انكم حواليه وجنبه, وإن ربنا أكرمه بابن صالح زيك, هيضحي بمستقبله وبشغله علشان يفضل جنبه ويكون سنده في مرضه, انت مثال للتضحية والفداء يا عصام وأنا فخور بيك يا بني, عمر نظرتي فيك ما خيبت أبدا.
نزلت تلك الكلمات علي قلب عصام كالصاعقة, كادت أن تمزقه, جعلته يرتجف, يحتقر نفسه, كيف يصل إلي هذا المستوي من الأخلاق, كيف يكذب علي قائده حتي يستعطفه وهو يري فيه القدوة لزملائه, لم يستطع عصام تحمل الموقف, فانفجر في البكاء, وارتمي في حضن اللواء عبدالمجيد وكأنه يمسح في جسده ذلك الذنب الذي ارتكبه في حق قياداته وحق زملائه, بل في حق نفسه وواجبه في المقام الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان سعد يشعر بالفخر بينه و بين نفسه, لأنه استطاع أن يحمي ولده من ذلك الخطر المحقق, بل يشعر بالرضا لأنه كسب تلك المعركة وعرف أن مكانته في قلب عصام أكبر من واجبه الذي تعلق به طيلة الفترة الماضية منذ تخرجه و حتي تلك اللحظات.
ظن أنه قادر علي النوم مطمئنا, والعودة إلي عمله الذي تعطل عنه منذ اللحظة الأولي لتلك الرؤية المفزعة التي هددته.
نام ليلته و هو مبتسم لحياة جديدة لا خوف فيها, و أولاده حوله ينام كل واحد منهم في غرفته, وللوطن رجال يحمونه, يزودون عنه, يدفعون عنه ذلك الخطر المدقع, لكن ليس شرطا أن يكون عصام من بينهم.
نام سعد لتخرج له الأحلام ألسنتها لتسخر منه و تزيده رعبا علي رعب, فكانت الرؤية تلك المرة أكثر رعبا من ذي قبل.
رأي في نومه أنه قادما من عمله, وهو يتكلم في هاتفه المحمول, و قد حقق مبلغا ماليا ضخما من قضية قد ربحها اليوم في ساحات القضاء, وكانت ضحكاته عالية, فدخل البيت ولم يجد أحدا من أولاده, و البيت مقلوب, لا شيء في مكانه, و كانت صيحات راندا في غرفتها عالية تستغيث, و صرخات رائف في غرفته ينادي علي والده, و سمر تبكي بشدة في غرفتها و هي تقول أنقذني يا عصام.
جري سعد إلي غرفة راندا, فوجدها تلتحف بطانيتها و تلتصق بالجدار المجاور لفراشها, و باقي جدران الغرفة تنزف الدماء فتغرق الغرفة.
ـــ حصل ايه يا راندا, بتصرخي ليه يا بابا, وايه الدم ده كله
ــ دول عصابة يا بابا عصابة, قتلوا كل الحيطان, الحيطان بتصرخ يا بابا
ــ حيطان ايه يا بابا اللي بتصرخ, دم مين ده, و فين العصابة دي
ــ في أوضة رائف يا بابا, في أوضة رائف
جري سعد ناحية غرفة رائف, فوجده معلقا في سقف الغرفة, و الدماء تملأ الفراش, وتغرق الأرضية, و الجدران تنزف من كل ناحية, و تبدو آثار الطعنات في منتصفها.
ــ إلحقني يا بابا, نزلني يا بابا, إلحقني يا بابا, يا باباااااااااااا
ــ حصل ايه يا رائف, قول لي يا بني حصل ايه مالك بتصرخ كده
ــ إلحقني يا بابا, ناس لابسين أقنعة بيدبحوا حيطان البيت
ــ فين دول يا رائف, فينهم يا بابا
ــ مشيوا يا بابا, راحوا أوضة سمر
جري سعد إلي غرفة سمر, و اقتحم الغرفة, فوجد الملثمين يمسكون سمر بين أيديهم ويتقاذفونها بينهم, وهي تصرخ تنادي علي عصام.
ــ يا عصام, إلحقني يا عصام, أنا أختك حبيبتك يا عصام
ــ سيبوها يا مجرمين سيبوها, سيبوها يا مجرمين سيبوها
قام أحدهم بطرد سعد من الغرفة وأغلق الباب خلفه, فوجد سعد نفسه في الصالة, يتلفت حوله يبحث عن منقذ, وأخذ يصرخ ينادي علي عصام.
نظر سعد إلي ركن الصالة فوجد عصام جالسا يضع قدما فوق قدم أمام التلفاز, و يشاهد مسرحية العيال كبرت, ويتناول قطعا من الكيك, وأمامه عصير البرتقال, وهو يضحك بصوت عال.
ــ إلحق يا عصام يا ابني, إلحق أختك سمر بين إيدين العصابة.
ــ عارف يا بابا عارف, متخافش عليها هيسيبوها زي رائف وراندا
ــ يا ابني قوم انقذ أختك من ايديهم
ــ حاضر يا بابا هقوم هقوم, بس أخلص الكيك ده, وهشرب كوباية العصير, وهقوم أبهدلهم
ــ عصير إيه وكيك ايه يا عصام, يا بني أختك بتصرخ
نظر سعد خلفه ناحية الغرفة, فتهدمت جدران البيت وانهار علي الجميع, وتعالت الصرخات, وسقط سعد مغشيا عليه.
و ما إن انتهت الرؤية حتي قام سعد من نومه صارخا, وصدره يعلو ويهبط, وهو يتلفت حوله, ويردد كلمات بصوت عالي.
ــ ولادي, ولادي, البيت, يا عصام, يا عصااام, يا رانداااا, ياولااااااااد.
دخل عصام واخوته الي الغرفة وهم مفزوعون من صرخات أبيهم التي دوت في أركان البيت, و اقتحموا عليه الغرفة و دخلوا عليه, و احتضنه عصام وهو يهدئه.
ــ مالك يا بابا مالك؟
ــ انت فين, و فين اخواتك يا عصام
ــ احنا أهو يا بابا, موجودين حواليك
طاف سعد ببصره في الغرفة, لينظر في وجوه أولاده, وهو يدمع, ففتح ذراعيه مشيرا إليهم بالاقتراب منه ليحتضنهم و هو يبكي, ثم نظر إلي عصام.
ــ اخواتك أمانة في رقبتك ليوم الدين يا عصام, اياك تتخلي عنهم لحظة واحدة
ــ ليه بتقول كده بس يا بابا, ده أنا أفديهم بروحي
ــ يا خوفي تسيبهم يصرخوا وتتفرج علي التلفزيون
ــ يااااااااااااه يا بابا, حضرتك بتشك في درجة حبي ليهم
ــ سامحني يا ابني, شفتك في الحلم سايق البرود و اخواتك بيصرخوا
ــ يا بابا ده عصام استقال من شغله لما شافنا مخضوضين عليه
ــ أتمني يا بنتي يكون خوفه عليكم أد خوفي بالظبط
ــ تخيل يا بابا, أنا كنت رافض استقيل من شغلي علشان أضحي بروحي ودمي وعمري فداء بلد بحالها و شعب بحاله, شعب فيه الكويس والوحش, فيه الصالح و الطالح, فيه الملتزم والعربيد, فيه النشيط والكسول, فيه اللي قلبه ع البلد واللي مش فارقة معاه, تخيل كنت رايح أموت في سبيل كل الفصائل والأديان والألوان, وجاي دلوقتي تشك في مدي خوفي علي اخواتي
كان عصام متألما من ذلك الشك الذي سكن قلب أبيه حول مدي حبه لأشقائه الصغار, تصديقا لرؤية ليلية قد تكون أضغاث أحلام يهاجمه بها عقله الباطن.
هل أصبح سعد أسيرا لتلك الأحلام, تجعله يغير من تعاملاته مع أولاده؟ هل خوفه من الإرهاب أم خوفه من الرؤي هو الذي يجعله يحرم عصام من عمله ورائف من مدرسته, وسمر من الرحلة الترفيهية إلي طور سيناء ودير سانت كاترين؟.
يتبع الفصل السادس عشر اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية نزيف الجدران" اضغط على اسم الرواية