رواية نزيف الجدران الفصل السادس عشر بقلم سيد داود المطعنى
رواية نزيف الجدران الفصل السادس عشر
وصل زملاء عصام من الاسماعيلية إلي إحدي المناطق العسكرية برفح, وكان من بينهم الرائد عبدالرحمن علام, الذي نزل من السيارة ليصافح الأفراد الواقفين بنقطة التفتيش القريبة من الوحدة العسكرية, فأدي لهم الجنود التحية العسكرية, و كان أحد الجنود يمسك هاتفه المحمول ويدير ظهره لزملائه, لم يلتفت إلي الرائد عبدالرحمن الذي نظر إليه في حدة, كيف ينشغل عن كمين في منطقة غاية في الخطورة و يستخدم الهاتف المحمول أثناء الخدمة, فتقدم ناحيته, ليوبخه علي فعلته, وما إن وصل إليه حتي سمعه يبكي أثناء حوراه الهاتفي قائلا:
ــ يا أمي وأنا هعمل له ايه بس, هعمل له ايه, حرام والله أشيل كل هموم الدنيا فوق راسي, واخواتي الكبار عندك ومش عايزين يتحركوا, حرام والله, أنا كلمت القائد بتاعي وقال لي هجيب إذن بيومين اجازة ولسة مردش عليا... والله صعبان عليا يا أمي, و نفسي أنزل و أوديه لدكتور واتنين و تلاتة وخمسة, نفسي أقعد جنبه في البيت, تحت رجليه, لكن الجيش يا أمي الجيش, هعمل ايه أنا, يا ريت اخواتي الكبار ماتوا من زمان كنت بقيت وحيد ومكنتش دخلت الجيش, لكن وجودهم ده خلاني أتجند, و هما سايبين أبوهم متمرمط في مرضه, إلهي يمرمطهم ربنا هما و حريمهم... حاضر يا أمي حاضر, و الله هخلص الخدمة و أدخل له مكتبه تاني أفكره بالاجازة, حاضر, والله ما ليا بركة إلا انتوا, حاضر يا أمي حاضر, سلام أنا قبل ما حد يشوفني بتكلم في التليفون أدخل فيها الحبس, سلام.
أنهي المجند مكالمته الهاتفية, و أدار ظهره فرأي الرائد عبدالرحمن علام يقف ينظر إليه, فتلعثم الشاب, ونظر نظرات للرائد يحاول أن يتماسك.
ــ مين حضرتك يا فندم
ــ كمان ليك عين و بتسألني أنا مين
ــ سيادتك غريب عن المنطقة, و من حقي أسألك حضرتك مين
ــ عارف يا ابني انت, أنا كنت جاي أقولك انتبه لخدمتك و سيب التليفون ده, لكن بعد اللي سمعته من المكالمة دي, انا هدخل دلوقتي للمقدم علاء, و هكلمه ينزلك أسبوع اجازة.
ــ بتتكلم جد يا سيادة الرائد؟.
ــ تعالي معايا
ــ تمام يا فندم
ركب الرائد عبدالرحمن علام السيارة, و معه المجند, و اتجهوا ناحية مكتب المقدم علاء, و قد عرف منه انه من جنوب الصعيد, ووالده مريض, و لديه أخوين غير أشقاء أكبر منه, يتجاهلان مرض والدهم, وينشغلان بحياتهم مع زوجاتهم وأولادهم, و هو وأخته الوحيدين البارين بوالده, رغم أنه أصغر من إخوته بأكثر من عشرين سنة, وأخته طالبة بالفرقة الرابعة في كلية التجارة, وهي شقيقته و تعتني بوالدها أثناء وجودها بالبيت, و لكنها الآن في دراستها.
نجح الرائد عبدالرحمن في الحصول علي إجازة أسبوع لذلك المجند الصعيدي, كي يستطيع عرض والده علي طبيب لتوقيع الكشف الطبي عليه, و التخفيف عن والدته أسبوعا من الأسي.
عاد المجند إلي خدمته ليقف بين زملائه و سهر معهم و هو في قمة سعادته, لحصوله علي أسبوع اجازة, يبدأ من صباح الغد, يستطيع من خلاله, إراحة والدته, و التخفيف عن والده, و سد العجز الذي أصابهم بعد سفر شقيقته إلي جامعتها.
اتصل بوالدته وأدخل السرور إلي قلبها وأخبرها بحصوله علي إذن بإجازة أسبوع كامل, بعد ما أرسل الله له ذلك الرائد كهدية تنقذه من حيرته.
و في الصباح, تحركت السيارة التي تنقله مع رفاقه الحاصلين علي إجازة في نفس التوقيت, لتخرج بهم بعيدا عن المنطقة العسكرية, حتي يصلوا إلي مواقف سيارات الأجرة ليبدأوا رحلة العودة إلي بلادهم.
كانوا يتبادلون الأغاني و الضحكات, يضع كل واحد منهم حلمه في رأسه, منهم من يفكر في لحظة وصوله كيف سيحتضن والدته, و منهم من يفكر في تلك الفتاة التي أخبرته أمه أنها اختارتها له ليتقدم لخطبتها قبل سفره, و آخر يفكر في الترتيب لفرح شقيقه الأكبر الذي صمم علي تأجيل ليلة الزفاف حتي توافق أقرب إجازة له, و ذلك المجند المسكين الذي يحلم بتلك اللحظة التي يحمل فيها والده بين يديه, ويضعه في سيارة الأجرة الواقفة أمام البيت, لتنطلق بهم إلي طبيب الباطنة, ليوقع الكشف الطبي عليه, ثم يعود فيجلب له الدواء من الصيدلية, و يقيم جواره, يساعده علي الاستحمام كل صباح, و يطعمه الأكل في فمه في كل وجبة, ويعينه علي أداء الصلاة وقت كل فريضة, و يسنده ليمشي في شوارع القرية فتجري الدماء الراكدة في عروقه, تلك هي كل أحلامه منذ حصوله علي إذن الإجازة.
وبين كل تلك الضحكات والغمزات واللمزات, بين كل تلك الأغنيات, وفي عز تلك الأفكار والخواطر التي طرأت علي أذهانهم, كانت الأقدار تنتظرهم هناك في أول مداخل المنطقة العسكرية, بانفجار عبوة ناسفة في السيارة, وإطلاق كثيف للنيران عليها من كل اتجاه, حتي اشتعلت فيها النيران, لتجعل من الضحكات صرخات, واللمزات اعوجاج وتشوهات, و الأغنيات تأوهات, و الأفكار المتواردة دماءَ تنزف, و أجساد تتمدد, و أحشاء تخرج من البطون, و لحوم تتمزق, و عظام تتفحم, و طعنات في قلوب أهاليهم الذين ينتظرونهم.
أي أفراح تلك التي تنتظرهم, بل أي ثكالي هؤلاء اللاتي تنتظرن الحصول علي ذلك اللقب.
إلي أي ألوان البشر تنتمي تلك القلوب المجرمة التي لا تعرف الرحمة إليها سبيلا, بل أي عقول تلك التي تفكر في إراقة دماء من يفكرون في إسعاد عوائلهم.
إلي هذا الحد من اللامبالاة بالدماء وصلت طبيعتنا البشرية, بل أي شياطين تلك التي استطاعت أن تغوي أولئك الشباب بارتكاب تلك الأفعال الإجرامية البشعة, التي تمزق أحشاء كل من يسمع عنها, لا من يراها, فمن يراها لا يري السعادة في حياته أبدا.
فليرتدي العريس ثيابا سوداء حزنا علي شقيقه المفقود, و لتحترق تلك الأم التي وعدت ابنها بأن تخطب في تلك الاجازة, و لتموت حسرة أم المجند المسكين ابن الزوج المريض.
كان الخبر قاسيا علي تلك العائلات التي قهرها الخبر, لتقتحم الأحزان حياتهم, ولتقيم في بيوتهم أبد الدهر, لا تفارقهم حتي يفارقوا الحياة خلف فلذات أكبادهم التي رحلت بدم بارد.
كان الخبر كالصاعقة علي الرائد عبدالرحمن علام, الذي سقط مغشيا عليه من الخبر, لم يتحمل الحزن علي مجند قابله لأول مرة في حياته, و عرف حكايته, لم يتحمل التفكير في أسرته المكلومة التي تنتظره ليخلصها من الشقاء لأسبوع واحد فقط.
كاد أن يحمل سلاحه و يجري في صحراء سيناء يبحث عن أولئك المجرمين لينتقم لذلك المجند ورفاقه الثلاثة عشر الذين ماتوا بلا جرم اقترفته أيديهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علي مائدة الإفطار, يجتمع سعد بأسرته, يتناولون الطعام وهم في أحسن حالاتهم, إلا عصام الذي يبدو سارحا, غير راض عن الحالة التي وصل إليها بعد ان كان من الضباط المشهود لهم بالكفاءة, و يتنبأ لهم الجميع بمستقبل أفضل في الحياة العسكرية, لكنه الآن يكسب رضا والده علي حساب واجبه, وعمله, ومستقبله.
كان سعد يراقبه, يحاول الوصول إلي حل يرضيه, يعوضه عن ما خسره, يحاول أن يلفت انتباهه دوما أنه يراقب صمته, لكن عصام في واد آخر غير أوديتهم, حتي وصل به الأمر ليخرج تليفونه المحمول من جيبه ويتصفح حسابه علي الفيسبوك, لعله يؤنسه بضعة دقائق في يومه الطويل كيوم العاطلين.
لم يكن يتخيل أن تقع عينه علي ذلك المنشور المؤلم الذي نشره زميله الرائد عبدالرحمن علام, يحكي فيه عن واقعة استشهاد أربعة عشر جنديا في رفح, بالقرب من وحدته العسكرية, التي وصل إليها بالأمس, كان عصام يقرأ ذلك المنشور و هو يبكي بصوت مسموع وشفتيه ترتعشان, و أعاد القراءة حتي يستطيع والده سماعه, فيعرف ما سبب بكائه.
ــ استشهاد أربعة عشر جنديا من أبناء القوات المسلحة في رفح, علي بعد أمتار من تلك الوحدة العسكرية التي وصلت إليها بالأمس, في حادثة مروعة يندي لها الجبين, فقد انفجرت عبوة ناسفة في السيارة التي تحملهم إلي موقف الأقاليم, وهم في طريق العودة إلي بلادهم, ليقضوا سبعة أيام اجازة بين أسرهم المشتاقة إليهم, و من بينهم جنديا من جنوب الصعيد, قد طلب تصريحا بإجازة أسبوع حتي يعرض والده المريض علي الطبيب, و قد هاجمته الأمراض و رقد علي الفراش, رأيته بالأمس يبكي في اتصال هاتفي بوالدته حزنا علي والده, و قد ساعدته في الحصول علي تلك الاجازة, ليحمل والده بين ذراعيه و يعين والدته علي مداواته, و لكن المجرمون لا يعرفون سوي الدم, لا يهمهم سوي القتل, لا أدري ما الفائدة التي تعود عليهم بحرمان رجل مريض و سيدة مسنة من ولدهم العون المعين لهم بعد الله عز و جل, في جنة الخلد اخوتي الصغار, و أقسم برب العزة أني لن أترك ثأركم حتي ألحق بكم.
ــ لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم, في حد يقرأ حاجة زي دي ع الصبح يا عصام
ــ دول شباب ماتوا يا بابا, ما توا في رفح, في نفس الوحدة اللي انا كنت رايحها
ــ أحمدك يا رب, أحمدك يا رب, يعني كنت أنا صح لما منعتك من السفر
انفجر عصام في البكاء, وقام من مكانه وهو يصرخ في والده
ــ حرمتني من واجبي, و شباب زي الورد بيموتوا, شفت المجند كان نازل اجازة ليه, ليه يموت, ايه ذنبه , ايه ذنبه, حراااااااااااام, حرام حرام, حرام أفضل جنبك زي الولايا هنا
ــ قدرهم انهم يموتوا يا عصام, وقدرك اني أنقذك من الموت, أنا أسعد واحد في الدنيا النهاردة
ــ أسعد واحد علشان في 14 برئ اتقتلوا, علشان بلد بتضيع كل يوم
ــ في ستين داهية ال 14, في ستين ألف داهية البلد, أهم حاجة عندي انتوا, انتوا وبس .
ترك سعد مائدة الطعام, و اتجه غاضبا الي مكتبه, و عصام واقف مكتوف الأيدي, ينظر لراندا وسمر الصامتتين تنظران إليه, ورائف الذي يبكي بدون أن يصدر صوتا.
فتح عصام التلفزيون وشاهد كل المحطات الفضائية التي تعرض نتائج العملية الإرهابية.
فأخرج هاتفه المحمول و اتصل بصديقه الرائد عبدالرحمن علام ليعرف منه تفاصيل الواقعة, فوجده في حالة من الغضب, يبكي ألما و حزنا علي ذلك الجندي الذي سافر لأجل والده, و كان عبدالرحمن يتمني أن يرافق جنازته إلي بلده, ليقدم ما يستطيع تقديمه لتلك الأسرة, وإن كانت أموال الدنيا و شبابها لا تعوض أظافر فقيدهم,لكن الواجب في رفح يحتم عليه عدم ترك موقعه حتي تنفيذ أول عملية لهم ضد أولئك المجرمين في أوكارهم.
ــ ممكن أطلب منك طلب يا عصام.
ــ اتفضل يا عبدالرحمن أنا تحت أمرك طبعا.
ــ تقدر تحضر جنازة المجند ده.
ــ طبعا ابعت لي عنوانه بالكامل, وأنا هركب أول طيارة علي الصعيد, وهتابع تشييع الجثمان.
ــ مش تشييع الجثمان وبس يا عصام, أنا أقصد انك تفضل أطول فترة ممكنة مع أسرته.
ــ ولا تشغل بالك يا عبدالرحمن, أنا مستعد أفضل معهم العمر كله, علشان أكفر عن الذنب اللي ارتكبته في حق نفسي و استقالتي في الوقت الحرج ده.
ــ انت ربنا يكون في عونك يا عصام ويشفي والدك يا رب, انت في واجب بردو.
بكي عصام من ذلك العذر الوهمي الذي ذكره عبدالرحمن له, فوالده يتمتع بصحة جيدة, والوطن العزيز هو الذي يعاني من وعكة صحية الآن, لكنه ضحي بواجبه تجاه الوطن المريض, ليظل بجوار والده الصحيح السليم.
سافر عصام إلي الصعيد, وحضر تشييع الجثمان في حضور الآلاف من الجماهير الغاضبة, يبكي بكاء من يشعر بالذنب, وكأنه هو المتسبب في موت ذلك الشاب, و كأنه شارك في قتله يوم أن تقدم باستقالته لقادته في تلك اللحظة الحاسمة التي تم استدعاؤه ليقوم بواجبه فيها.
كان المشهد مهيبا, يتهافت الشباب علي الصندوق لينالوا شرف حمله, يبكي الصغار والكبار, تردد الناس محاسنه.
ظن عصام أن الناس تبكي عليه لبشاعة قتله, أو لصغر سنه وقت رحيله, لم يكن يدري أنه ذو باع كبير بين الناس, كادت تصعقه تلك الكلمات التي تتردد علي مختلف الألسنة .
ــ سلام يا عمار, مع السلامة يا غالي يا ولد الغالي, سلام يا زينة الشباب.
ــ في ذمة الله يا صاحبي, والله ما بضحك إلا في ونستك, ولا برتاح لحد غيرك
ــ الأمر لله يا عمار, يا اللي عمرك ما تتأخر علي مريض ولا محتاج مساعدة, مين يجيب الدقيق لعمك صلاح, و مين اللي يصلح ماسورة المية الرئيسية اللي دايما ضاربة, ومين اللي هيلم الشاب و ينضفوا البلد في الأعياد, ويعمل للدنيا روح يا ولدي, و مين اللي هيشيل أبوك بعدك يا عمار, الأمر لله يا عمااااااااار.
بكي عصام, حتي ظن الناس أنه أحد زملاء الشهيد عمار, بكي و هو يردد في نفسه أن قرية بأكملها ماتت باستشهاد ذلك الشاب, كيف يقوم بكل تلك الأدوار, و يأتي شرذمة من المجرمين و يقتلوه بدون ذنب, ليت القاتلون يحضرون تشييع جثمانه الآن ليروا بأنفسهم من قتلوا, بل يأتوا ليروا ما اقترفت أيديهم.
يتبع الفصل السابع عشر والأخير اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية نزيف الجدران" اضغط على اسم الرواية