رواية ظل السحاب الفصل الثاني بقلم آية حسن
رواية ظل السحاب الفصل الثاني
بغضب: مين دي، وبتعمل ايه ف المصنع بتاعي؟
سأل بعد أن دخل مكتبه وهو ف قمة التذمر، وكان الدّم يغلي في عروقه ويكاد ينفجر من عينيه المحمرّتين.
عماد: دي تبقى بنت عز
صرخ ف وجهه: وايه اللي دخلها المصنع، هو احنا فاتحينها تكية، ولا جنينة للفسح؟
انتفض من صياحه، ثم تمتم بتلعثم: مـ.. مهي بتشتغل طباخة للعمال
قطب جبينه ليهتف: نعم يا حيلتها، شغالة عندي وانا معرفش، ازاي؟
ارتبك عماد ثم أجاب: أبوها.. هو اللي شغلها، أنا ماعرفش حاجة
زاد غضب مراد أكثر حتى تطاير الشرر من عينيه: كمان ! بتاخدوا قرارات من نفسكم من غير ما حد يرجعلي؟
: والله يا باشا أنا معرفتش غير من مدة بسيطة، وفكرت حضرتك عندك خبر
صاح بنفاذ صبر: عندي خبر ازاي يا بني آدم، هو المصنع دة بيشتغل فيه بنات أصلاً !!
ببلاهة: منا مش عارف، أنا والله لو أعرف هقول على طول!.
أردف من بين أسنانه بحنق: امشي شوفلي مين المسؤول عن المهزلة اللي حصلت دي
أومأ برأسه ثم تحرك مسرعًا للخارج وهو يتمتم تأففًا: هو مفيش غيري اللي يشوف المسؤول عن اللي حصل، ميتين دي شغلانة بقا
اصطدم عماد بشخص دون أن ينتبه، ليسأله بتعجب
: إيه يا عماد انت ماشي تكلم نفسك؟
تنهد ثم قال: اسكت يا عم شفيق، عشان أنا ع آخري
: ليه، ف ايه؟
: مراد باشا متعصب أوي، وشكله مش هيعدي اليوم ع خير، راح المصنع ولقى العمال ممتنعين عن الشغل، دة غير أنه شاف بنت هناك بتشتغل وهو مايعرفش
بدهشة: بنت مين؟ تقصد فريدة بنت عز الدين؟
ارتفع حاجبيه: انت كنت عارف؟
: أيوة .. روح انت دلوقتي وأنا هدخله
يجلس مراد أمام مكتبه وهو يشبك كفيه ببعضهما، ويفكر بما فعلته فريدة وتطاولها عليه للمرة الثانية، ولكن هذه المرة قد سبته علنًا أمام حشد كبير من العمال في وجوده،
ناهيك عن أبيها الذي كان يحادثه ويوجه له الإتهامات بالتقصير في حق العمال، ولم يكتفي بذلك بل جعل ابنته تعمل بالمصنع من وراءه دون أدنى حق له بمعرفة هذا!.
تبًا لهم لقد تخطوا حدودهم؛ وحان الآن ليرد عليهم جميعًا .. دخل العم شفيق الذي يبلغ من العمر ثمانية وخمسون عامًا، إلى المكتب ويردف
: تسمحلي أدخل يا مراد باشا؟
رفع مراد وجهه ثم قام وأشار له: طبعاً يا عم شفيق اتفضل
تحرك نحو المقعد وجلس: سمعت إنك مضايق؛ قولت آجي اتكلم معاك
جلس مراد ثم ملأ صدره بالهواء ليزفر بقوة: الظاهر ان معاملتي الكويسة خلت الناس تهمشني، ويركنوني ع جنب
: ما عاش ولا كان اللي يركنك... كل دة عشان فريدة اشتغلت ف المصنع يعني؟
نظر له عاقد الحاجبين: انت مين اللي قالك؟
تنهد ليردف: عشان أنا اللي شغلتها
وقف مراد بملامح وجه مقتطبة ليهتف محاولًا جعل نبرة صوته هادئة: وازاي تعمل كدة من ورايا؟
وقف شفيق لينطق: اهدى وانا هفهمك، أصلاً الحكاية كلها حصلت صدفة، وأنا صدقني ماقصدتش أعمل كدة من وراك
حرك رأسه مستنكرًا، ثم جلس بضجر وأردف شفيق: أنا عارف انك زعلان، بس صدقني الموضوع دة جه مصلحة للعمال
: مش فاهم؟
بدأ بسرد الحدث بعد تنهيدة صغيرة: من كام شهر قبل ما أسيب الشغل هناك واستقر هنا،
العمال كانوا بيشتكوا من الطباخ إنه أكله مكانش كويس، وأنا كنت هقولك لما طلبوا مني أبلغك،
لكن عز اقترح عليا إن بنته تعملهم الأكل ف البيت ويبعت حد يجيبه، طبعاً الموضوع كان هيبقى صعب أوي، ف أنا قولتله أنها تيجي ونجربها، لو نفعت هقولك وتخليها تشتغل،
البنت الحقيقة شاطرة جداً، والكل شكر ف أكلها وذوقها، فهي اتطوعت تساعد الطباخ بعد ما أبوها قالها، وابتدت تعلمه وياخد منها وصفات لأكلات، عشان ماحدش ييجي ويشتكيلك وتطرده، والعمال وافقوا ومشي الحال..
لكن والله ما كنت أعرف أنها لسة موجودة وانا بقالي كتير متواصلتش مع حد من العمال، ولسة عارف دلوقتي من عماد.
هدأ مراد قليلًا ثم أشار إليه بالجلوس بعدما لاحظ وقفته: أنا برضو استغربت لما قاللي عماد ان ابوها هو اللي شغلها
بتهكم: عماد دة ما يعرفش حاجة غير اللي بيتقاله، المهم انت متضايقش من اللي عملته بدون قصد
: خلاص يا عم شفيق محصلش حاجه، بس البنت دي مش هيبقالها وجود ف مصنعي بعد كدة، لا هي ولا أبوها
اعتلت الصدمة وجهه: إيه؟!!!!
______
: اللاه وأنا ايش عرفني بس إنه كان واقف وسطكم!
تمتمت بها فريدة لـ أبيها الذي كان ينهرها بشدة عما فعلته
: حتى لو مكنتيش عارفة، يصح برضو تشتميه قدامنا؟...
ثم أردف مستفسرًا: وبعدين خدي هنا، انتي ليه مقولتيش إنك قابلتيه قبل كدة وكمان هزأتيه؟
رفعت كتفيها: منا معرفش إنه، ولو كنت أعرف برضو كان هزأته، أصله مستأذنش قبل ما ياكل!.
بضيق: من امتى يا فريدة وانتي بتتعاملي مع حد غريب كدة! أنا علمتك تشتمي ف الناس؟
رسمت ملامح باكية: والله يا بابا هو اللي قال عليا قردة، ورمالي الفلوس ف وشي حتى اسأل تيتا
نعرت باكية ليقترب منها ويربت ع كتفها: خلاص اللي حصل حصل، روحي ع أوضتك
أعطته ظهرها لتتحرك نحو غرفتها وهي تتمتم بخفوت: شكلي كدة وقعت ف مصيدة، وأكيد الجدع دة هيرفدني!.
_______
وصل مراد بيته ليصعد إلى غرفته ويرمي بالسترة ع الفراش بضيق، ما زال يتذكر تلك اللحظة التي جمعته مع الفتاة الحمقاء -كما وصفها هو- تمنى لو لم يلتقيها ذلك اليوم، فمنذ رؤيته لها، وقد عكرت عليه صفوه..
طُرق باب غرفته، وتحرك ليفتحه وكانت السيدة عفاف «مديرة المنزل»..
: الأكل جاهز يا مراد باشا
باقتضاب: أنا نازل
بعد دقائق هبط لكي يتناول طعامه، جلس ع المقعد أمام الطاولة، ثم وضع النادل أمامه قطعة من اللحم النضج، بعد أن أشارت له عفاف .. وبدأ مراد بتقطيع اللحم ثم بمضغه، لكن لم يشعر بلذة، لم يعطِ بالًا كثيرًا فقلد تعود هو ع هذا الأكل الغير مرغوب فيه بالنسبة له،
تذكر لوهلة حين أكل من طعام فريدة، وكيف أنه لم يشعر بنفسه وهو يبتلع لقمة خلف الأخرى حتى نفذت الصحون، قد توقف عقله تمامًا لبعض الوقت ...
استفاق من شروده ع صوت عفاف: تحب أحطلك شوية كمان؟
أشار بيده: لا شكراً، أنا شبعت
مسح فمه بعد انتهاءه، ثم نهض وخرج نحو الساحة الصغيرة الموجودة بالحديقة، ثم جلس ع الأريكة، ليرفع رأسه وينظر نحو السماء التي يشوبها السحاب الأبيض، لتنمو ابتسامة صغيرة ع ثغره ...
______
في صباح اليوم التالي ذهبا عز وابنته للمصنع لبدأ دوام عملهم كعادتهم.. دلفا كلًا منهما لعمله، فريدة ف الاستراحة بدأت بتغيير ملابسها وألقت السلام ع «شعيب» رئيس الطباخين..
: ازيك يا عم شعيب؟
: يا أهلاً بأمهر طباخة وملكة الاختراعات الأكلية
ضحكت لإطراءه الطريف: مش للدرجة يعني
: وأكتر، دة لولاكي كنا اطردنا من زمان!
همست ف عقلها: "احنا اللي هنطرد دلوقتي، بس متقاطعش"
فهي تشعر بأن مراد لن يسمح لها بالاستمرار بالعمل، بعد أن قامت بإحراجه وسبه علني ..
عماد وصل المصنع ومعه حافظة ورقية، ونادى لـ عز الدين وفريدة ..
أخرج منها ظرفان وأردف: دي مكافئة مالية ليك انت وبنتك... مكافئة نهاية الخدمة، مراد باشا طلعك معاش، وفصل بنتك.
اندهشت فريدة لتهتف حانقة: نعــم يا عنيا؟
فهي كانت تتوقع أن يطردها هي وليس أبيها ثم أردف عماد: هو دة اللي حصل، اتفضلوا يلا خدوا مستحقاتكم!
مد يده ليعطيهم الأظرف، ثم ذهب مغادرًا .. جاءهما بعض العمال وسأل أحدهم..
: ف ايه يا عم عز، الاستاذ عماد كان عايزكم ف ايه؟
فريدة بحنق: جاي يقولنا أن سي مراد باشا استغنى عن خدماتنا.
ليردف نفس العامل وكان يدعى أسامة: إيه السبب طيب؟
همس أحدهم لآخر: أكيد عشان شتمته قدامنا، بس ذنب أبوها أيه؟
ليهمس آخر: يا عيني يا عم عز، متستاهلش والله
ظل الجميع بالتهامس لبعضهم البعض، شفقة ع عز الدين الذي يقف وعلامات التجهم تعلو وجهه.. اقتربت منه فريدة
: بابا متزعلش، هم اللي خسرانين أصلاً
حرك رأسه باندفاعٍ نحوها، ثم أمسك بيدها ليجرها خلفه بتذمر.. هرول وراءه أسامة الذي ظل ينادي عليه، لكنه لم يعطه بالًا، وتابع طريقه...
_____
وقفت سيارة أجرة أمام شركة مراد، ونزلا منها عز الذي ما زال ممسك بيد فريدة التي تحاول إيقافه..
: يا بابا استنى بس، انت واخدني ع فين؟
رد بحنق وهو يتحرك: واخدك للأستاذ مراد عشان تعتذريله ع اللي هببتيه!
أردفت باستنكار: يعني أنا لو اعتذرت هو هيرجعنا الشغل من تاني!!
وقف عز والتفت ليترك يدها بتذمر: أنا مش جايبك هنا تعتذري؛ عشان يرجعنا تاني! انتي غلطتي ولازم تصلحي اللي عملتيه.
: طالما هو رفدنا يبقى مش عايز اعتذار...
ثم استطردت قائلة بعد أن عقدت حاجبيها: وبعدين من الواجب هو اللي يعتذر منك؛ لأنه رفدك، وخدك بذنبي!.
قال مستهجنًا: يعني احنا اللي غلطانين ف حقه وعايزاه كمان يعتذر؟
: أيوة
رفع قبضته باندفاعٍ: جاتك أوة، مش عايز اسمع كلمة منك، احنا هنخش عنده تتأسفيله، ونخرج ع طول، سامعة!
تمتمت في نفسها ببعض السُّباب، ثم دخلا لموظف الاستقبال، ليقول بأن مراد غير موجود، لكن عز لم يصدقه، وأخذ يناقر معه..
تمتمت لأبيها: يا بابا يلا نمشي، الراجل بيقولك مش مرزوع!
نظر لها ليهتف: لا أنا متأكد إنه موجود، هم بس اللي مش عايزين ندخله
كان العم شفيق يخرج من أحد الغرف وسمع صوت أحدهم يجادل مع الموظف، ثم ذهب إليه..
بدهشة: عز؟ انت إيه اللي جابك هنا؟
حرك رأسه لينتبه إليه: عم شفيق، كويس أن انا شوفتك
: مالكم! ... تعالوا معايا خلينا نتكلم
دخل بهم إلى مكتبه الذي هو ف الطابق الأرضي، وأشار إليهما بالجلوس..
: ها بقا اللي جايبكم ع ملا وشكم كدة؟
كاد عز أن يرد لكن أوقفته فريدة: أنا هقولك يا عمو شفيق.. البيه اللي الموظف بيقولنا إنه مش موجود، واللي فاكر نفسه رئيس مراجيح مولد النبي، رفدني أنا وبابا من غير أي أسباب
ابتسم العم شفيق رغمًا عنه، لردها العفوي، ثم أومأ برأسه تفهمًا ما فعله مراد..
: أنا كنت عارف أنه هيعمل كدة، بس أنا عايزكم تطمنوا أنا هحاول معاه، وان شاء الله هترجعوا
عز: ما يهمش، أنا عارف ان فريدة غلطت؛ وأنا جايبها هنا تعتذر عن الكلام اللي قالته
عقد حاجبيه متسائلًا: كلام إيه!
كاد عز لينطق، لكن أجابت فريدة بسرعة: مفيش يا عم شفيق، سوء فهم مش أكتر
أومأ برأسه: خلاص تمام، روحوا انتوا وأنا لما أشوف مراد هكلمه عشانكم!
وقفت فريدة بسرعة: تمام تمام، هنسيبلك احنا الموضوع دة، يلا يا بابا عشان ورايا مجموعة
تحركت فريدة قبله لأنها لا تريد الإعتذار من الأساس، فسعدت عندما علمت بعدم وجوده ف الشركة ..
همّ الاثنان بالمغادرة، لكن لسوء حظ فريدة، كانت سيارة مراد تقف أمامها مباشرة لتراه ينزل منها و.....
يتبع الفصل الثالث اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية ظل السحاب" اضغط على اسم الرواية