رواية ظل السحاب الفصل السادس والعشرون بقلم آية حسن
رواية ظل السحاب الفصل السادس والعشرون
عملت إيه يا مراد، حرام عليك
صاحت به نيرة بنبرة شجية مبحوحة، ثم هبطت على الأرض بجوار فريدة المُلقاه على الأرض، حاولت أن تساعدها على الإعتدال .. لتهمس بجهشان
: قومي يا حبيبتي، قومي
رفعت بجذعها قليلًا عن الأرض، لترى أنامل مراد قد تحددت على وجنتها وتركت أثرًا باللون الأحمر، وليس هذا فقط بل عندما رفعت فريدة برأسها بوهن رأت خط من الدم نزل على جانب شفتيها،
لتهبط دمعة منكسرة على وجنتي نيرة فتقول بشهقة ووجه باكٍ..
: أنا آسفة يا فريدة، كل دة بسببي
أمسكت فريدة بجانب رأسها وشعرت بأن الصفعة تدوي بداخلها كـ كرة القدم التي رُكلت ف مكان ضيق، وظلت تتراقص بلا استكانة،
لم تكد تعي بما حدث، كأن الدنيا توقفت تمامًا عما حولها، بدأت تسترد وعيها من الصدمة التي رجت كيانها، أغمضت جفنيها وبدأت الدموع تتساقط بأريحية وهي تشعر بذوبان قلبها..
عكس ذلك الذي يقف وعلامات الذهول احتلت ملامحه، وهو يحدق بمكان سقوطها بلا استيعاب لما فعله، هذه المرة الأولى بحياته التي يرفع يده على أنثى،
همست نيرة وهي تضع يدها على كتفها: فريدة
رفعت فريدة ببصرها نحوه وهي تجحده بمقلتيها والغضب يعصرها من الداخل، أزاحت يد نيرة ونهضت من مكانها واقتربت منه وهي تهدر بغليل داخلي يحرقه
: انت ازاي تمد إيدك عليا، مين اللي أدالك الحق تعمل كدة!!...
لتصرخ بوجهه: رد عليا، عملت كدة ليـــه
تصلب جسده وهو يتطلع إلى سوداوتيها التي ينضحان منهما الإحتقار والكره .. لتمسك بمقدمة ثيابه بعنف وتصرخ به وقد فقدت القدرة على التحكم في نفسها
: أنا عملت إيه عشان تضربني بالقلم على وشي، انت مين عشان تعمل كدة، دة أنا أبويا عمره ما مد إيده عليا ف حياته، تيجي انت وترفعها عليا، ليـــه، ليــــه؟؟؟!!!
ظلت تهدر بصراخ كان يهز فؤاده، وبيديها الناعمتان تضرب صدره بقوتها الواهية، تضربه دون وعي وهي تصرخ بقوة وألم، أصابه بطعن في قلبه، وبسبب تلك الدموع التي سببت جرح نازف في فؤاده،
تركها تفعل ما يحلو لها دون أن يمنعها أو يتأثر بتلك الضربات..
أما عن نيرة فكانت تنهال دموعها بضعف شفقة على فريدة، وعلى ما وصلت إليه بسبب فعلتها الرعناء .. لكن كفى الآن سكوت يجب أن تخبر مراد عن الحقيقة..
صرخت فريدة من جديد..
: ضربتني ليه، قوللي الغلط اللي أنا عملته؟
: الغلط أنا اللي عملته يا فريدة مش انتي!
انتبها الإثنان على نيرة التي صاحت فجأة، وتقترب منها لتقول بوجه باكِ
: مراد كام فاكر إنك سرقتي المستندات بتاعته من على مكتبه وأدتيها لمعتز، لكن الحقيقة أنا اللي سرقتها من وراه وأدتهاله!
نظرت له بصلابه واهية وهي مستعدة لأي عقاب، لم يعد الأمر يحتمل السكوت بعد! ولكي تنفي التهمة التي ألحقتها بفريدة رغمًا عنها.
: أيوة يا مراد، أنا اللي خونتك، فضلت أقولك تسمعني عشان تعرف الحقيقة، لكن مدتنيش فرصة ومشيت ورا دماغك وأوهامك، وظلمت فريدة من غير ذنب!
ظلت تشهق ببكاء عالي، وهي تضع يدها على فمها بضعف .. فينظر لها مراد باندهاش وهو يبتلع مرارة كالعلقم في حلقه، لا يصدق نيرة!!!!! يعود خطوة للخلف بوهن، وهو يشعر بأن عقله قد توقف عن التفكير ولسانه قد عُقل،
لينتبه على صراخات فريدة: أنا مش فاهمة حاجة، مستندات إيه دي اللي بتتكلموا عنها، وأنا دخلي إيه بكل دة؟
قالت وهي تنقل بصرها بينهما، لترد نيرة من بين شهقاتها بحروف متقطعة
: مستندات مهمة كانت خاصة بمراد، ومعتز كان طلب مني أخدها ليه عشان فيها خطر على حياتهم، وأنا سرقتها من مراد، وهو فكرك انتي اللي سرقتيها
صاحت متذمرة بصوت مبحوح من كثرة صراخها ونحيبها
: يقوم يضربني بالقلم؟ عشان حاجة هو مش متأكد منها!!
هذا عذر أقبح من ذنب!! حولت بصرها إليه بوجه باكِ
: هو أنا عشان بتعامل معاك باحترام تقوم تمد إيدك؟ وانتي ليه مقولتِلهوش إنك انتي اللي أخدتيهم، ليه سبتيه لما يضربني!!!
صرخت بحرقة ووجع، لتشهق الأخرى باكية يقتلها الندم وتهتك بها صراختها
: والله حاولت بس هو مسمعنيش
هجمت عليه فريدة وهي تمسك بسترته من جديد، وعبراتها قد غطت ملامحها بالكامل
: عشان حقير وزبالة ودايمًا عايز يجرحني، أنا بكرهك يا مراد بكرهك
استمرت بهدرها وهي تصرخ، لتدفع بيديها كل ما كان فوق سطح المكتب بجنون ليتساقط من عليه مبعثرًا على الأرض، كما سقط الوجع على قلبها بغتة..
لينقلب المكان إلى مناحة تمزق نياط القلوب..
تحرك مراد بسرعة صوبها وحاول أن يمد يده ويمسك بذراعها ليهدئها لكنها منعته وزجرته
: ابعد عني، ملكش دعوة بيا .. ابعدوا كلكم عني أنا مش مسامحاكم، ولا انتي مسامحاكي أبدًا
في هذه اللحظة اندفع العم شفيق وعماد على أصوات الارتطام والصراخ، ليشاهدا صورة المكتب حولهم في ذهول
ليتساءل عماد في قلق شديد: هو ف إيه، مالكم؟
تساءل عندما لاحظ الصمت القاتل والوجوم والدموع تظهر على كافة ملامحهم
عادت نيرة بوجهها إلى نيرة وأعطتها نظرة منكسرة مخذولة، اخترقت قلبها.. ثم تحركت فريدة لتغادر المكتب للأبد، فهتفت نيرة تنادي عليها
: فريدة استني أرجوكي
لتتوقف فريدة، ولكن ليس لأجل أحد، بل شعرت بغشاوة شوشت الرؤيا لديها، وتثاقل في قدمها، ترنحت وهي تشعر بالدوار في رأسها لتسقط إثره على الأرض مغشيًا عليها..
: فريـدة
صرخ مراد بصوت أصدح بالشركة كلها، صوت خرج من أعماق أعماقه، بعد أن كان محبوسًا طيلة هذه اللحظات، لينطق باسمها لأول مرة منذ أن رآها،
ركض إليها مسرعًا ورفع رأسها عن الأرض ويمسد على وجنتيها بلطف لإفاقتها..
: فريدة، قومي أرجوكي
همس بنبرة تفتت القلوب بأنفاسه المتسارعة، لتقول نيرة بذعر
: لازم ناخدها ع المستشفى بسرعة
ليهم عماد بقول: أنا هطلب الإسعاف
: لا أنا هاخدها ف عربيتي
حملها مراد بين ذراعيه برفق، فتقول نيرة: بالراحة عليها يا مراد
هرول مراد مسرعًا وخلفه البقية، هبط الدرج ركضًا ولكن بحرص شديد، ليخرج من الشركة ويضعها بالسيارة، وكل هذا تحت أنظار وتطلعات الموظفين المتعجبين .. صعدت نيرة ف الخلف ثم انطلق مراد متوجهًا للمشفى.
_________
الجميع خارج غرفة الفحص، ينتظرون خروج الطبيبة حتى تطمئنهم على فريدة، عكس مراد الذي توترت خطواته دون هوادة بالمرر، يساوره الهلع يريد أن يطمئن عليها والآن! لقد تأخرت الطبيبة كثيرًا في فحصها، رغم أنها لم تلبث بالداخل سوى عشر دقائق فقط، أيقتحم الغرفة أم ماذا؟
رأت نيرة التوتر يفتك به فاقتربت منه بحنو، لتهمس
: مراد
قاطعها بقسوة: انا مش عايز أسمع حاجة، لينا بيت نتكلم فيه، نطمن على فريدة الأول
لم يكد ينهي جملته وقد خرجت الطبيبة من عندها، ليهرول إليها بسرعة ويسألها متلهفًا
: طمنيني يا دكتورة، أخبارها إيه؟
: واضح جدًا أنها اتعرضت لأذى نفسي شديد، دة غير أثار العنف اللي باينة على وشها والدم اللي على بوقها
قالت وهي تتطلع لمراد بقرف وكأنها تعلم أنه من فعل بها هذا
: الحق يا عم شفيق، بتقولك عنف ودم، هو مراد اغتصب فريدة ولا إيه؟
همس عماد ليرد عليه العم شفيق: مش عارف يا عماد استنى نفهم
لتسأل وهي ترمقه من أعلى لأسفل باحتقار
: انت بقا جوزها اللي عملت فيها كدة؟
همس مرة أخرى وهو يرفع حاجبيه بدهشة: الحق دي بتقولك جوزها! مش قولتلك الموضوع فيه اغتصاب، عشان كدة كان بيوزعني اممم
تمتم بتفكير وهو يضع أنامله أسفل ذقنه، ليزفر العم شفيق بتأفف منه ..
ضيق مراد عينيه مستنكرًا سؤالها: وانتي دخلك إيه؟ ثم إني سألتك سؤال واحد تجاوبي عليه وخلاص!.
تطلعت إليه بسخط ثم ترد في برود: وأنا جاوبت، ومضطرة أبلغ البوليس عشان يعملوا محضر بالواقعة، بعد إذنكم
همس عماد: الحق يا عم شفيق دي وصلت لمحاضر كمان
كادت الطبيبة أن تذهب لتوقفها نيرة: استني لو سمحتي
زفر مراد بقوة ثم دلف للداخل قبل أن ينفجر في الطبيبة، فالوضع لا يحتمل شجارًا مع آخرين.
لتتابع نيرة: انتي فاهمة الموضوع غلط!
كتفت ذراعيها بحنق ثم أردفت: أكيد حضرتك أخته وخايفة عليه مش كدة؟ بس أحب أقولك ان حق البنت دي هيرجع، وهي لما تفوق أنا هقنعها تعمل محضر ضده عشان اللي زيه لازم يتحاكموا، لأن اللي عمله جريمة وحشية، حتى الحيوان يستحي يعملها.
أعطتها نظرة أخيرة ثم ذهبت وتركت نيرة في حالة من اللا وعي، لكن لديها الحق كليًا فـ مراد قد تعامل معها بقسوة وشراسة..
اقتربا الاتنين من ورائها، فسأل العم شفيق بلا استيعاب
: إيه اللي خلى مراد يعمل كدة يا نيرة يا بنتي؟
ليتدخل عماد: أنا كنت حاسس أصلاً من ساعة ما دخلت عنده الصبح وعينيه كلها شر، بس ما توقعتش يعمل كدة ف البنت الغلبانة، هو معندوش اخوات بنات ولا إيه!!
نكست رأسها حزنًا: أنا كمان متوقعتش رد فعله دة، وكمان يحصل قدامي
جحظت عيني عماد والعم شفيق باذبهلال وكأنهما قد تحولا لتمثالين..
: يا نهار كحلي غامق، قدامك ازاي يعني؟
هتر بها عماد، لتهمس بنبرة جهشة وشفاة مرتجفة
: اللي حصل
ليتمتم عماد بعد أن تنهد: الله يكون في عونك يا عم عز الدين لما تعرف اللي جرا لبنتك .. لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى!
___________
دلف إلى الشركة ثم أتى موظف الإستقبال، ليسأله
: لو سمحت يابني عايز فريدة عز الدين بنتي، ممكن تناديهالي
كان يسأله بوتيرة سريعة، ليحتل على شعوره شئ غريب بعدما أصبح قلبه مضطربًا وهو يعمل بالورشة بعدها قرر مجيئه ليرى ابنته العزيزة ..
سمعه موظف من خلفه فتحرك نحوه وتساءل
: حضرتك بتسأل عن الآنسة فريدة؟
التفت عز له فرد: أيوة يابني، هي فين
: دي خدوها على المستشفى
ليهتف مذعورًا: مستشفى؟ مستشفى ليـــه، بنتي مالها؟!!!!!
_________
يجلس على المقعد بجوار السرير، ينظر لها بشرود وهي ممدة ع الفراش بلا حراك، لقد اقترف في حقها أمرًا سيكون من الصعب أن تسامحه عليه،
رغم كونه لم يود قط أن يضربها على وجهها إلا أنه لم يشعر بحاله إلا وهي مطروحة على الأرض، ولا يجد سببًا لهذا غير أنه أكبر أحمق في هذا العالم .. كيف له أن يفعل بهذا الوجه الجميل هكذا؟ كيف طاوعه قلبه الإقبال على تلك الفعلة الشنعاء؟
تفحص ملامحها بعمق، لقد أصاب وجنتها الناعمة بعلامات لأنامله تلونت بلون يشعل قلبه نارًا، اقترب بوجهه نحو رأسها وهمس بنفحة كالنسيم، وهو يتطلع إلى خدها المصاب
: فريدة
رفع بظهر يده ببطء وكاد أن يلمس وجنتها إلا أنها فتحت جفنيها على غفلة وحركت رأسها يسارًا لتجده بالقرب منها فتهب من مكانها بهلع وتطلق صرخات عالية..****
______
هرع عز الدين إلى موظف استقبال المشفى وسأله عن فريدة لكن لم يجد أحدًا بهذا الإسم
: يعني إيه مش موجودة، أنا سألت قالولي انها هنا!
صاح عز متذمرًا ليردف الموظف: لو سمحت وطي صوتك احنا ف مستشفى محترمة، وقولتلك مفيش حد دخل اسمه فريدة.
كان العم شفيق يجلس بالبهو وما ان سمع هتاف الموظف باسم فريدة رفع رأسه فورًا ليرى عز قد أتى، فينهض له بسرعة ويهتف مناديًا
: عز الدين
استدار فتحرك صوبه ليسأل بقلق وضربات قلبه تعلو بقوة
: بنتي فين يا عم شفيق، إيه اللي جرا لفريدة؟
وضع يده فوق كتفه فقال: اهدى يا عز هي كويسة، بس انت مين اللي قالك أننا هنا؟
سأل ليجيب عز بنبرة مهزوزة: روحت الشركة عشان أسأل عنها قالولي انكم هنا، هي فين أرجوك عايز أشوفها
: طب اهدى الأول وخد نفسك
لم يود العم شفيق أن يعلم عز ما حصل، حتى لا تحدث كارثة أخرى، ظنًا منه أنها قد تعرضت للتعدي من قِبَل مراد كما تطرق إلى عقولهم بعد ترجمة المشهد الذي بين الطبيبة ومراد.
: لا أنا لازم أشوفها، قوللي هي فين!
مع إصرار عز ولهفته اضطر العم شفيق أن يقول له رقم حجرة فريدة، فركض بسرعة على الدرج حتى يتأكد من سلامة ابنته بنفسه، بعدما انتشر الفزع في قلبه من لحظة علمه بإغماءها، بلغ الدور المقصود ولا يدري كيف ساقيه قد أوصلته إلى هنا، ليرى نيرة ويصيح عليها..
: نيرة!
انتبهت هي وعماد، ونهضت من المقعد لتجده يقف أمامها، اتسعت حدقتي عينيها ليسقط قلبها أرضًا، فهمست
: عز؟
اقترب منهما وسأل بأنفاس متسارعة بسبب ركضه: فريدة فين يا نيرة حصلها إيه؟
تطلعت نيرة إلى عماد وكأنها تستنجد به حتى يلحقها، ليقول وهو يجذب ذراع عز بعيدًا
: لو سمحت يا عم عز دقيقة بس
سحب ذراعه وهو يتساءل بضيق: ف إيه؟ أنا عايز أشوف بنتي
: بنتك كويسة، واللي اتكسر إن شاء الله هيتصلح، وابننا مش هيسيبها والغلطة اللي عملها مش مقصودة
هتر عماد ببلاهة وسوف يخرب الأمر على الجميع بسبب حماقته
عقد عز حاجبيه وسأل: أنا مش فاهم انت تقصد إيه بكلامك وغلطة إيه دي !!
قال آخر جملته بانفعال طفيف ليرد عماد
: اهدى، مراد باشا أكيد مش هيسيبها بعد ما سلب منها أعز ما تملك!
أمسك بسترته بغضب ليقول: سلب من مين يابن الكلب، عملتوا ف بنتي إيه يا كلاب، انطق
هزه بقوة وهو يصرخ به، لتتعجب نيرة من أسلوب عز الهجومي على عماد، كونها لا تدري ما يحصل ولا تفهم شيئًا .. توجهت صوبهم لتتساءل
: ف إيه يا عز انت ماسك عماد كدة ليه؟
دفعه عز بغل، ليهتف عماد صراحة: اكمني بقوله إن مراد باشا هيصلح غلطته بعد ما اغتصب الآنسة فريدة بنته
أطلقت نيرة شهقة قوية قد علقت في حنجرتها وجعلتها تسعل بقوة حتى شعرت بالإختناق .. احمر وجه عز غضبًا وهو يقبض على راحة يده بقوة، فلم يكن بالوضع الذي يسمح له بالقلق ع نيرة ..
: أنا هروح أجبلك مية
ركض عماد بسرعة ليس لأجل الماء فقط بل للهرب من نظرات عز المشتعلة .. أخيرًا نيرة حاولت أن تلتقط أنفاسها المسلوبة بصعوبة بالغة، حتى تقول بتقطع
: عز، انت...فا..هم...غـ...لط
أكملت سعالها فما لبث لثوان لكي تردف حتى فوجئا بصراخات تأتي من حجرة فريدة، فهرع الإثنان بسرعة إليها...***
: اهدي، أنا مش هعملك حاجة
حاول تهدئتها لكن وجدها تقفز مبتعدة وتزحف على ركبتها للخلف خوفًا منه وهي تصرخ بذعر
: ابعد عني عايز إيه مني
رفع بيده مشيرًا إليها بالسكينة: استني أنا بس عايز أقولك...
لم يكد ينهي جملته وينفتح الباب عليهما ليدلف عز ونيرة
: بابا
صاحت فريدة إليه ثم اندفعت نحوه لتدفن نفسها بين أحضانه وهي تشهق ببكاء، حاوطها عز بذراعيه ليدمع هو الآخر على حالها، وهمس
: عملوا فيكي إيه يا قلب أبوكي، أنا السبب يا ريتني ما كنت وافقتك تروحي تشتغلي من الأول عنده، يا ريتني كنت منعتك يا ريــت!
: أنا كنت عايز أقولـ...
بتر عز حديثه بصراخ حاد وهو يشير بسبابته محذرًا
: صوتك مسمعهوش، انت حسابك معايا أنا، وأوعى تفتكر عشان احنا غلابة يبقى حقنا هيضيع، أقسم بالله اللي يقرب من بنتي أنا آخد عمره بإيديا دول.
قبض على كفته بوجهه الذي ينتفخ غضبًا وأنفاسه التي ازدادت أوتارها بشكل مرعب حتى فريدة ونيرة قد ظهرت على معالمهما الدهشة، فهو دائمًا انسان عاقل متزن يحكم أموره، لكن الوضع كان مزريًا بالنسبة له...
أما عن مراد فقد تغلفت زمردتيه بلون الجمر، لم يسبق أحدًا أن رفع جفنيه به، تجرأ هذا وصرخ عليه وهو يهدده؟
يبدو أنه قد فقد عقله، أو جُن، أو حتى يريد إنهاء حياته لكي يقدم على فعلة كهذه!
قبض على راحة يده بقوة حتى هربت الدماء منها كليًا، بوجه ارتسمت عليه ملامح الغليان وكأن البركان سينفجر منه، ليصرخ بصوت هز جدران الغرفة..
: انت بتعلي صوتك عليا يا عز الدين!!!
انقطعت أنفاس الجميع، وتشبثت فريدة بأبيها، حتى نيرة التي ابتلعت لعابها من ملامح مراد المخيفة، واقتربت من عز الدين وتشبثت بذراعه هي الأخرى خوفًا على حبيب عمرها من غضب ابن أخيها..
: لسة متخلقش اللي يهدد مراد الحديدي، ولو حصل أنا أدفنه حي عشان يبقى عبرة لمن يعتبر
بدت معالم مراد مخيفة للغاية، وعروق رقبته قد برزت بشدة، غير عينيه التي تطلق وميض قاتل، فما لبث أن اقترب مقررًا شيئًا بداخله لـ عز الدين .. ليجد فريدة قد وقفت أمامه كالنمرة الشرسة التي تقف قبال نمر ضخم لا يأبه أي كائن!
: انت عاوز تعمل إيه ف أبويا؟ هتضربه زي ما ضربتني؟
مطت كلماتها كأنها تعنفه بعتاب، بمقلتيها التي تتحركان بلا استكانة وهي تتطلع إليه بمقت .. ليعلق هو عينيه عليها لثوان بنفس ملامحه المتشنجة، ثم ينقل ببصره على وجنتها ويرى أثر الصفعة فتبدأ معالمه ترتخي بهدوء،
انهارت كل قوته وكأنه يتراجع عما كان ينوي فعله ولأجلها هي وفقط!
وجدت عز يجذبها بعيدًا عنه: ابعدي يا فريدة، كفاية اللي عمله فيكي، أنا لازم أبلغ عنه المجرم الخاين
اغمض مراد جفنيه بقوة ليكبح جماحه عنه، ثم فجأة تدلف الطبيبة وخلفها ضابط شرطة وعماد والعم شفيق
أردفت الطبيبة وهي تضع يدها في جيب معطفها الأبيض
: أنا بلغت عن الحادثة اللي حصلتلك يا آنسة فريدة، وحضرة الظابط هنا عشان يحميكي من أي حد ممكن يجبرك أو يهددك تتنازلي عن حقك
قالت وهي ترمق مراد شزرًا، ليعقد مراد حاجبيه محاولًا فهم حديثها .. حادثة؟ وتهديد؟ ونظرات مشمئزة؟ هل ما يفكر به صحيح؟ أيعقل؟
لينتبه ع قول عماد: يا جماعة احنا قولنا معترفين بغلطنا، وهنمشي الأمور ودي، دة أنا حتى بعتت أجيب المأذون
: مأذون؟
صاحت فريدة بدهشة، لتردف الطبيبة بتأفف
: يعني عشان يغطي ع غلطته يتجوزها؟
: مش أحسن من الفضيحة؟
قر عماد، لتفتح فريدة فمها بصدمة وتهمس: فضيحة؟
ضربت نيرة جبينها بيأس .. فتصيح الطبيبة معترضة
: لا طبعاً مش أحسن، ويا ريت يا حضرة الظابط تشوف شغلك، لأن دة هتك عرض وتعدي ع أنثى
: نعــم؟؟؟؟ انتي بتقولي إيه؟ اقسم بالله لو سمعتك بتنطقيها تاني لأدفنك مكانك
عاد مراد يصرخ من جديد حتى انتفضت الطبيبة وكادت أن تقع من صوته الذي دوى بأذنها.
______________
يجلس على الأريكة بساحة منزله وهو يدخن سيجارته بشرود، وصوت صراخها يصدح بأذنه متذكرًا كلماتها الحارقة والمهلكة له .. أكرهك! لن أسامحك!
لقد ظلمها وتجاوز كثيرًا معها، يود صفع نفسه مائة مرة، وبالأخير كان سيقع بورطة أخرى وهي اتهامه بإغتصابها، وهل يجرؤ من الأساس أن ينظر لها بوقاحة حتى!! سحقًا لتلك الطبيبة الخرقاء!
سحب نفسًا من السيجارة وأخرج دخانًا عميقًا مثل السحاب يحمل أثقال ما يشعر به .. جاءته نيرة ووقفت أمامه ناكسة رأسها خجلًا، ثم رفع بصره صوبها ليسمعها تقول..
: كل حاجة حصلت كانت بسببي يا مراد، مش هلومك ولا حتى أزعل منك لو عاقبتني بأي طريقة كانت، هيبقى حقك!
نهض من الأريكة وهو ينصب جسده ليتنحنح قائلًا
: لو ناوي أعاقبك مستحيل كنتي تقدري تستحمليه يا نيرة، كان نفسي متبقيش عمتي، عشان أفش غليلي بس للأسف انتي عمتي وبنتي يا نيرة
رفع بيده ليضرب جانبي ساقيه بيأس .. نظرت له بندم وهي تهدر معتذرة
: أنا بجد آسفة، آسفة أوي أوي يا مراد .. بسببي خليتك تتعصب وترفع إيدك على فريدة
أشار لها أن تصمت ليهمس بقلب ذائب: أرجوكي، أنا مش عايز أفتكر
جلس بحزن يتآكل بداخله .. تعلم أنه قد بدأ بالإنجذاب لها، وهل هو كذلك أم تتوهم مرة أخرى؟ وذلك ليس سوى شفقة عليها لأنها ظلمها؟ ليت القدر يأتي لصالحك لمرة واحدة في هذا العشق!!!
________
: تيتة، تيتة فوقي، لو سمحتي
أخذت تهزها برفق والدموع تتكور بمقلتيها بخوف ممزوج بحزن، ثم رفعتها قليلًا بمساعدة أبيها .. الجدة فريدة كانت مسطحة تمامًا ع الفراش بلا حراك، جفنيها معلقان وكأنها تحلق في عالم آخر
: اشربي يا أمي شوية مية
رفع عز الكوب لشفتيها لكن لا حياة ولا إجابة، لتردف فريدة بنبرة باكية
: هي مش بتشرب ليه؟
أسند عز ظهرها قليلاً فوق مسند وهو يحارب دموعه ألا تهبط، ثم سمع رنين الجرس وهمس بنبرة شجية
: هروح أفتح الباب، أكيد دة أسامة
نهض ثم خرج من الحجرة وهو يمسح دمعة عابرة كادت أن تسقط .. تحرك صوب الباب ثم فتحه، ليتفاجأ بها تقف أمامه
: نيرة؟
: ازيك يا عز؟
همست برقة وهي تخطو للأمام، ليقول وهو يفرك بجفنيه
: الحمد لله
تطلعت إليه بقلق: مالك يا عز، انت كويس؟
هز رأسه وهو يقول بنبرة أفصح عن التعبير: كويس، بس أمي تعبانة شوية .. اتفضلي انتي واقفة ليه؟
أشار إليها بالدخول، فتحركت إلى أن وقفت بالردهة وتمسد ع ذراعه وهي تقول بأسى
: ألف سلامة عليها، تحب أطلبلها الدكتور؟
نفى برأسه: أسامة راح يجيبه وزمانه جاي
: طب تسمحلي أشوفها؟
: أكيد يا نيرة تعالي
تحرك أمامها ثم دلفت هي وراءه، ليقول مشيرًا
: نيرة يا فريدة!
رفعت فريدة بوجهها نحوها فابتلعت غصة في حلقها، وانكمشت ملامحها بطفولية، فهمست نيرة بصوت متحشرج
: إزيك يا فيري
قالت بوجوم وهي تنهض: الحمد لله
اقتربت قليلًا من جانب الفراش لتقف في واجهة فريدة، فتحتضنها نيرة فورًا
: وحشتيني أوي
قالت بنبرة جهشة، لن تنكر فريدة أنها قد اشتاقت إليها أيضًا ليس قليلًا بل الكثير والكثير..
ثم ابتعدت عنها وتابعت وهي تنظر إلى الجدة: سلامتها
رسمت فريدة ابتسامة طفيفة: الله يسلمك
ليسمعها صوت طرقات على الباب فيقول عز
: أكيد أسامة جاب الدكتور
هرول مسرعًا حتى وصل إلى الباب وفتحه، ليدلف أسامة مع الطبيب، فيشير له عز بالدخول للحجرة
: اتفضل يا دكتور ع طول
دخل عز بالطبيب ووقف أسامة بالخارج .. فبدأ بفحصها وبعد أن انتهى أزال السماعات عن أذنه وقال آسفًا
: البقاء لله يا جماعة، ادعولها بالرحمة
سقطت تلك الجملة ع آذانهم كالصاعقة، لتصرخ فريدة
: تيتــــــة!............
يتبع الفصل السابع والعشرون اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية ظل السحاب" اضغط على اسم الرواية