رواية ظل السحاب الفصل الخامس والثلاثون بقلم آية حسن
رواية ظل السحاب الفصل الخامس والثلاثون
هذيان! .. ما يراه ليس إلا مجرد هاجس، كابوسًا وحشيًا عبر إلى عقله .. بالتأكيد هو كذلك وسيفيق بعد لحظات، سيجدها بالقرب منه توقظه من هذا الجاثوم الذي شل بدنه عن الحركة، وعقل لسانه وقلبه،
لكن... مرت ثانية وراء الأخرى ينتظر هزة منها، تجعله يعي ويعود لواقعه فضلًا عن الكابوس المرعب الذي يعيشه هذا .. لكن لا جدوى، هي أمامه يحدق بها بلا استيعاب،
مطروحة أرضًا كـ الجثة الهامدة .. جسدها الذي تلطخ بدمائها المُراقة .. كل هذا يجعله يقاوم عقله بقوة أن يفيق من حالة تيبسه، كي يلحق بها، هي لم تمت، فقط هي تحتاج إليه لتنهض،
انتشل نفسه من تجمده، ليهرول إليها مسرعًا ويحاول رفع رأسها برفق عن الأرض،
فهمس بنبرة متقطعة وضربات قلبه تكاد تكسر عظام صدره وهو يمسك برسغها
: ر..غـ..د
مرر راحة يده فوق جبهتها بحنو، يزيل بعض الخصلات عن وجهها الذي سيطر عليه الشحوب ..ترتقرت عيناه من حالة السكون المؤلمة وهي بين يديه .. حنايا روحه بدأت تتبعثر، وسيسقط جسده منهارًا بجوارها،
إذ فجأة يشعر بنبض عرقها يتحرك في كفه، فتشب الفرحة قلبه من جديد، وتبدأ روحه بالمقاومة
همس متلهفًا بصوت يحمل الأمل: رغد، انتي سمعاني يا قلبي؟
ليرى جفنيها يتحركا ببطء شديد ثم تبدأ بالرمش بأهدابها، ويستمع إلى تأوهها الضعيف، ثم تهمس باسمه بإعياء
: مراد...
فيمنعها أن تتحدث بصوت شجن مرتجف: متتكلميش، أنا هتصل بالاسعاف فورًا
أخرج هاتفه بيد مرتعشة وقبل أن يضغط على زر الاتصال، وجد ذراع يلتف حول عنقه بقوة ويسحبه للخلف، فتقع رأس رغد على الأرض الذي كان يسندها مراد على فخذه،
يضغط حامد على أسنانه بغل وهو قبض ذراعه على رقبة مراد الذي بدى على وجهه الاختناق .. يمسك بساعد حامد يشدها حتى يوسع قبضته عنه وهو يفرك بقدميه على الأرض،
إلى أن استجمع شجاعته ورفع بقدمه ليضربه في وجهه بضربة قوية دفعته للخلف .. يسعل مراد دون توقف في محاولة لتنظيم أنفاسه، ثم نهض بإنهاك بصدره الذي يعلو ويهبط، ينظر إلى حامد بأعين تفيض من النار،
تزامنًا مع تطلعات شر حامد، ليهجم الإثنان على بعضهما، لكن مراد كان قويًا كفاية حتى يحمله بذراعيه الفولاذية للأعلى، ثم يرمي به أرضًا بقوة فصرخ متألمًا،
لم يكتفي مراد بل كمش على رقبته بعنف، ثم أخذ يسحبه زحفًا على الأرض بظهره وضرب رأسه بعمود ..
إنه من أصاب حبيبته برصاصة كادت تودي بحياتها .. ليمسكه من تلابيبه ورفعه ثم بدأ يضرب وجهه بلكمات قوية، وقد اختفت ملامحه كليًا من الدماء الكثيفة،
حاول حامد أن يقاوم ضربات مراد لكن أصبح جسده وقوته خارةً، ليتركه مراد والدماء تغلي بعروقه كاللهيب، ثم يجوب المكان بحثًا عن شيئًا، فيجد حديدة ملقاه على الأرض،
تحرك صوبها ثم مال بجذعه والتقطها، فعاد مرة أخرى إلى حامد وانقض عليه بضربات كمن يجلده، تحت صرخات من حامد،
ليتوسله ببكاء أن يرحمه: أرجوك كفاية، انت مش هتستفاد لما تموتني
لم يكف أو يستمع إليه، هاج دمه وهو يرى مشهد إطلاقه النار عليها، ودون إدراك قد غرز طرف الحديدة بحلقه لتخترق لحم رقبته على الفور ..
دفعه بالحديدة حتى سقط ميتًا، وقبل أن يلتف مراد لرغد كي يأخذها إلى المشفى .. ضربة قوية قد هبطت على خلفية رأسه، ليضع يديه تلقائيًا عليها،
التفت ببطء حتى يرى الفاعل، لكن قد تشوشت الرؤية عن بصره، ليغلق جفنيه بقوة ثم فتحهما ولم يرى سوى وجه شخص لأقل من الثانية بتذبذب، ثم تتحول تلك الغشاوة إلى ظلام معتم يسقط إثرها مغشيًا عليه ..
بعد وقت قصير كان أم طويل، يجلس على مقعد مكبل بإحكام .. ينكس وجهه لأسفل، تظهر بعض الدماء الخاثرة متجمدة على خلفية رأسه وعنقه،
يُقذف عليه دلوًا من الماء البارد يوقظه من اغماءه وهو يشهق بقوة..
: فوق يا حضرة الظابط
ظل لوهلة ثم بدأ يرفع رأسه بضعف ليكمش وجهه وهو يحاول رؤية شخصًا ملثمًا يقف أمامه، فيهمس متسائلًا بتعب
: انت مين؟ وعايز إيه؟
ليجيب بصوت غليظ يفوح منه الغموض والشر
: أنا قدرك الجحيمي .. انت خلصت على شمس وحامد، جه دورك دلوقتي ... هاتوها
صرخ آمرًا بشراسة، ليرى مراد رجلين يخرجان من مكان ما، ممسكين بـ رغد التي بين يديهم كقطعة هلامية ضعيفة، تقاوم ألمها،
ليرموها أرضًا فيصيح: رغــد .. انتوا هتعملوا فيها إيه؟
صرخ بذعر وهو يفرك بيديه محاولًا فك أسره، ليقترب الملثم منه ويهمس بصوت فحيح الأفعى
: هموتك بالبطيء ... كبوا الجاز عليها
هتف لتضطرب ملامح مراد بهول وهو يرى أحد الرجال يقترب بدلو الزيت نحوها ثم يسكبه عليها .. هز رأسه بجنون وعلامات الخوف تحيط به،
يتركه الشخص الملثم ويسير صوب رغد، ليقف بجوار جسدها .. شمر أكمام ثوبه فيظهر الوشم على ذراعه، ثم أخرج علبة ثقاب من جيبه، وأمسك بأحد الأعواد وحكها بالعلبة لتشتعل، وكل هذا تحت نظرات مراد الهالعة..
: ابعد عنها، لأاااا، سيبها، لو قربت منها هولع فيك، هقطع من جتتك نساير
ظل يصرخ بهستيريا وهو يضرب بقدمه أرضًا ويحاول أن يقترب بالمقعد الذي يجلس عليه مكتوفي اليدين وهو يرى عشقه الأول يحاوطه الخطر، يعجز عن انقاذها،
اللعنة على هذا العجز وقلة الحيلة اللذان حاصراه رغمًا عنه، انتشر الفزع والرعب في قلبه وجميع أوصاله ارتعدت،
ومع محاولته لتحرير نفسه من الأحبال قد وقف بالمقعد مقامًا ذلك التكتف، وسار مهرولًا بقدر أمكانه يضربه بأحد الأعمدة حتى كسره،
جحظت أعين المجرمين الأشرار مما فعل لتوه، وما أن اندفع برأسه، بوجه محمر بشدة، ومقلتين يفر الشرار منهما تكاد تقتلهم في مكانهم رعبًا،
فيحرك ساقيه بسرعة لإنقاذ محبوبته والفتك بهؤلاد الأوغاد، لكن حركة الملثم كانت أسرع بكثير منه وهو يسحب مسدسه، ليرفعه صوب مراد ويضغط على الزناد فتنطلق منه رصاصة تمر ببطن مراد،
جعلته يفقد اتزانه ويقع جاثيًا على ركبتيه متألمًا، مرر يده على الدم الذي سال فورًا، ثم رفع ببصره إليه بحدقتين يكسوها وهيج بركاني، وبجسد تلبسته الشياطين،
لينهض وهو يقاوم ذلك الألم الذي أصابه لتوه، ليس أقوى من السهم الذي لحق بقلبه منذ أن علم بخطف رغد إلى أن أصبحت تحت رحمة هؤلاء..
أصر على النهوض ثم تحرك بشكل ملتوي صوبهم وهو يضغط على جرحه .. ليصوب الملثم سلاحه نحوه ويهتف مهددًا
: خليك مكانك يا حضرة الظابط وإلا... الرصاصة التانية هتكون ف قلبك!
قال حازمًا، لكن مراد لم يعبأ واستمر ف مساره، ليشير الملثم لـ رجاله برأسه، فيهموا مسرعين إليه ليتشابكوا معه، ويمنعوه من التقرب من رغد أو الملثم،
ليهجم الحراس عليه وأحدًا منهم لكزه بلكمة قوية في مكان الطلقة، فيهدر بصرخة ضعيفة حاول أن يكتمها قبل أن تنطلق وتصدح،
ثم أمسك بذراع الشخص الذي لكمه وقام بلويه حتى ارتمى متألمًا، وبدأ الالتحام بينه وبين بقية الرجال، يلكم هذا ويضرب الآخر، ليحاول ثلاثة منهم أن يعجزوا حركة مراد،
فانضم بعضهم البعض وحاوطوه بذراعيهم، لكن كان يقاوم ويضرب بقدمه ورأسه،
وعندما أحس الملثم أن مراد سيتغلب عليهم، غلت الدماء بداخله والغضب اشتعل برأسه، فقام برفع سلاحه ضده وأطلق عليه النار دون تفكير، لتستقر الرصاصة داخل صدره،
ليتفرق الرجال من حوله ويقع مراد بسقوطًا حرًا .. خده ملتصق بالأرض يتطلع نحو رغد التي لا تحرك ساكناً، يمد ساعده لها لا يريد أن يفقدها يجبر نفسه على القيام لكنه تلك المرة عجز تمامًا عن القيام، وهو يرى الملثم يشعل عود الثقاب مرة ثانية وينوي على فعل شئ جعل قلبه يعزف لحنًا شجن .. ثم بدأ مراد بغلق جفنيه بضعف رغمًا عنه ..
ويفتحها بإعياء شديد مرة أخرى ليجد النار تضرم في جسد رغد ببصره المشوش تمامًا، فتهبط الدموع من عيناه ببطء ثم يغفى عن الدنيا إلى عالم آخر معتم.***
ليرتد مراد إلى حاضره تاركًا العقل الباطن يغلق ماضيه وذكرياته المؤلمة بلحن كئيب يتسلل فؤاده عند انتهائه من آخر شئ حكاه وكأنه يرى المشهد من جديد أمامه،
أغلق جفنيه بقوة محاولًا كبح الجروح التي بدأت بالنزيف مجددًا وتحرق روحه..
تتطلع إليه بأعين تفيض من الدمع، حزنًا على ذلك الحبيب الذي عانى كثيرًا حتى أصبح الحجر ألين منه، الآن لقد عذرته في كل مرة كان يعاملها بسوء عند تدخلها بحياته،
لديه كل الحق، لا أحد يمكن أن يكون بموقفه ويصمد كل تلك السنوات، كان يجب أن ينهار ويستسلم للواقع المرير الذي أفزعه دون إنذار،
لتضع أناملها الصغيرة على كتفه بحنو، وتهمس بصوت خافت متقطع
: كنت حاسة إن انت شايل كتير جواك، كنت حاسة إنك عشت أسوأ فترة ف حياتك، كان قلبي بيقوللي دايمًا إنك هتيجي وتحكي وتفضي اللي جواك ليا وانت مطمن،
بس عمري ما توقعت أبدًا إنك اللي هتحكيه هيكون بالقسوة والشر دة .. انت انسان قوي إنك قدرت تستحمل المرار اللي اتغرزت فيه غصب عنك .. جبل، مقدرتش توقعك كمية العواصف اللي خبطتك،
أه انت اتهزيت من جواك، وأه قلبك حس بزلزلة قوية بس لسة واقف زي مانت على رجلك، لسة ماحدش قدر يدمرك أو يهدك .. أرجع تاني يا مراد، أرجع للدنيا واضحكلها من جديد عشان هي كمان تضحكلك، أوعدني إنك تخليني أداوي جروحك كلها،
أمحيلك كل الآلام والمعاناة اللي عشتها وسمحتلها تبقى جزء كبير من حياتك .. سيبني أنا أطردها وأحطلك ذكريات جميلة تخلدها!
عاد برأسه إليها وعلى وجهه علامات الاندهاش، لم يصدق أنها بعد كل هذا تصر على أن تقف بجانبه ولا تتركه، لتهتف متسائلة ببسمة صافية
: مالك بتبصلي كدة ليه؟
أجاب وهو يتطلع إليها بنظرات غامضة: انتي فريدة أوي فعلاً، وغريبة برضو
عضت على شفتيها السفلية بخجل وهي تحاول فهم المغزى وراء قوله .. ليحمحم هو عندما شعر بربكه من تلك النظرة الملوعة له، وقبل أن ينطق صدح صوت رنين جوالها،
لتضرب على وجنتها بدهشة وتهتف: يا ليلة مربربة أبويا بيتصل بيا، أكيد عرف إني مش ف البيت!
رفعت بصرها نحوه بلون مصفر بادي على تقاطيعها الهادئة، ليطمئنها مراد بعينيه ويده تربت على كتفها
: متخافيش، أنا هاجي معاكي
أدار سيارته وعاد للخلف بها يخرج من الزقاق ثم ينطلق متوجًا إلى منزلها .. لم يقصد أن يؤخرها كل هذا الوقت، ولكن كان يجب أن يتكلم وأن يخرج ما يكنه وإلا انفجرت رأسه بسبب الكبت المخزن لأيام عدة منذ أن بدأت فريدة بالتدخل في شؤونه الخاصة لكنه كان يكابر..
وصل مراد أمام البيت ثم ترجل من السيارة وصعدا درجات السلم البسيطة وقبل أن تقرع الباب لتجد هذا الذي يقف بوجه عابس منتفخ بشدة، والشرر يتطاير من عينيه..
سحبها من معصمها فجأة وهو ينفجر بها بصوت غليظ
: كنتي فين يا فريدة؟ وبتعملي إيه مع دة لغاية الساعة 4 ونص الفجر؟
نظر لمراد بسخط والذي أغلق الباب حتى لا أحد يستمع للصوت المرتفع ..
ليهزها بقوة وهو يزعق: ردي عليا، ازاي خرجتي من ورايا!
احتبست الحروف داخل حنجرتها ولا تدري بماذا تجيب ..
ليردف عز بنبرة شجن: عمري ما توقعت أبدًا إنك تستغفليني وتتسحبي من ورايا عشان تقابليه!
ليفلت ذراعها وهو يقطب وجهه بحزن، فتقول بوجه باك
: يا بابا والله حضرتك فاهم غلط
ليصرخ بصوت أجش جعلها تنتفض: أمال إيه الصح؟ راجعالي وش الصبح مع واحد وعايزاني مفهمكيش غلط؟
صاح مستهجنًا بقلب منفطر وعينين دامعتين .. لتبدأ شهقاتها ترتفع، وعبراتها الشجية تنهمر على وجنتيها بضعف ..
لم يتحمل مراد تلك الدموع التي أصابت قلبه بجرح عميق ليهتف قائلًا بهدوء..
: اسمع يابو فريدة، أنا اللي طلبت منها تنزل تقابلني
ليندفع نحوه وهو يهتف بصوت غليظ ونظرات احتقار
: وليه؟ عايزها ف إيه؟ .. أنا مش جيتلك واترجيتك تبعد عن طريقتها! مش حكيتلك اللي حصل وخلاني ابعد عن طريق نيرة؟ .. ليه بتجري وراها؟ عايز منها إيه تاني بعد ما ضربتها؟
صاح سخطًا في آخر هدره، فتتعجب فريدة من حديثه، عن أي حكي يتحدث ابيها؟ وهل ذهب لمراد؟
تنهد مراد محاولًا ألا ينفعل، ثم قال بهدوء مزيف
: أولاً أنا مش بجري وراها ومش عايز حاجة منها .. ثانيًا يا ريت بلاش نبرة الكره اللي ف صوتك دي، عشان انت متأكد إني يستحيل أأذي فريدة ولا بأي طريقة، حتى لو كان لسة جوايا شك من ناحيتك ...
أنا عارف إني غلطت عشان نزلتها من البيت ف وقت زي دة، بس الموضوع مكانش يحتمل أي تأجيل .. مفيش داعي إنك تلومها وتحملها ذنب، لو عايز تتخانق مع حد قدامك أنا قول اللي عايزه.
تطلعت إليه فريدة بهيام، ولم تصدق ما سمعت لتوها إنه يدافع عنها أمام أبيها .. ليتنهد عز ويهز رأسه مستنكرًا بيأس، فيقول وهو يعقد حاجبيه
: ولما انت مش ف نيتك أذى ليها، مفكرتش ف منظرها قدام الجيران، لو حد شافك وانت بتاخدها بـ بيجامة البيت؟ لو انت عندك أخت ترضالها واحد غريب يكلمها ويخليها تنزل تقابله؟
ليقطب مراد تقاسيم وجهه بعبس كونه نعته بالغريب، فيجيب مراد وهو يضغط على راحة يده وأسنانه
: لا طبعاً مرضاش، وبعدين أنا مش غريب
اندفع عز قائلًا يضرب سطح يده: لا غريب، بالنسبالي أنا غريب!
اندهشت فريدة من صراحة والدها فتهتف: بابا...!
اندفع عز برأسه نحوها بعينين محدجة، فيتمتم من بين أسنانه
: اسكتي انتي!
ليعود برأسه إلى مراد الذي بعد قليل سيفقد سيطرته، فيقول
: اسمع يابني، أنا فريدة بنتي دي أغلى حاجة ف حياتي، وهي اللي فضلالي من الدنيا بعد ما الحبايب كلهم راحوا، يا ريت يعني متحاولش تقرب منها تاني، انت عارف دي سمعة بنت!
بنبرة باكية وهي تتوسله: بابا أرجوك!
ليقترب مراد من عز بنظرة خارقة ويهمس له بنبرة أخافت فريدة
: انت دلوقتي مضايق عشان قابلت بنتك من وراك ودة حقك، طب زمان لما كنت بتحب نيرة وكنت برضو بتقابلها من ورا أهلها، مخوفتش على سمعتها ليه؟
اتسعت حدقتي عز وشعر ببرودة في جسمه ثم هدر بعبس
: بس أنا عمري ما فكرت أمس سمعة نيرة بحاجة وحشة، وكنت ناوي آخد خطوة، وعشان سمعتها أنا اتخليت عن حبي!
: وهربت! لكن أنا طلعت مع فريدة عشان ما اسيبهاش هي ف وش المدفع
قال مراد بنبرة ذات مغزى قوي، ثم همس عز مستنكرًا بتأفف
: انت بتقارن رجوعك بفريدة متأخر، بهجراني لنيرة؟
: لا أنا مش بقارن، أنا بس بقولك إني مبحاولش اتقرب لفريدة عشان انتقام أو غيره، وإذا كنت معتبرني غريب فانت كنت غريب برضو!
كانت نبرته مخلوطة بلغز غريب لا يقدر عز على فهمه، فيردف مراد بعد أن استمع لتكبيرات المؤذن وردد في نفسه ألفاظ الآذان
: تصبحوا على خير، الفجر وجب
التفت مراد مغادرًا لتتحرك فريدة خلفه، ثم استدار بجسده قليلاً ليعطيها ابتسامة جذابه افترت ثغره، ثم راقبته وهو يصعد عربته وينطلق بها ذاهبًا...
لتغلق الباب وتدلف فتجد أبيها ينظر لها بعبس واستياء، وقبل أن يعطيها فرصة للتحدث، أشار إليها بنفور
: روحي نامي عينيكي وارمة من السهر.
أشاح بوجهه ثم أعطته قبلة سريعة على وجنته وذهبت مسرعة إلى حجرتها.
__________
: أخبار الشغل ف الموقع إيه؟
سأل مراد، عماد الذي يتفحص بعض الأوراق أمامه، فأجاب
: عال، دة حتى ابن عمك راح مع العمال، وحقيقي شغال بضمير، اللي مش عارف جابه منين دة!
اندفع مراد ناصبًا جذعه العلوي وهو يرمق عماد بحدة
: يعني إيه جابه منين؟
حمحم: أقصد العيلة دي كلها غريبة، واضح إنهم مرضعوش من لبن الأم كويس!
قال هترًا ثم نهض مراد من مجلسه بتذمر: عماد بطل هبد، وروح على شغلك!
وقف عماد وكاد يهم بالذهاب لكن أوقفه مراد
: صحيح شوفلي منظم حفلات كويس عشان...
قاطعه عماد باندهاش مرح: ما تقولش؟ هتعملنا حفلة وتجيب حمو بيكا؟ دي البت فاتن هتفرح أوي
ضيق مراد عينيه وهو يزم شفتيه بحنق ثم أشار إليه بهدوء مزيف: شايف الباب دة؟
تطلع عماد خلفه وأجاب ببلاهة: لأ
هتف من بين أسنانه: اطلع برة يا عماد
__________
: خير يا نيرة، طلبتيني ليه؟
سأل عز بجفاء طفيف وهو ما زال يتذكر كلام مراد المقصود، فترد بصوت ناعم
: فريدة حكتلي ع اللي حصل امبارح بينك وبين مراد!
ابتلع عز ريقه، وشعر بالاضطراب في ساقيه التي بدأت تهتز أسفل الطاولة .. هل فريدة قالت لها على أنه يوجد سبب وراء انسحابه من العلاقة ماضيًا، ليسمعها تسأل باستياء
: ليه يا عز مش عايز مراد وفريدة يقربوا من بعض؟
تنفس الصعداء، ثم أجاب بهدوء
: عشان ما ينفعش اللي عمله ابن أخوكي، وفريدة في حد متكلم عليها!
قالت بإصرار: بس هي مش بتحبه ولا عايزاه .. ازاي انت تفرض عليها حاجة هي مش عايزاها؟؟؟؟
سألت دون معرفة لما يفكر به عز، فهتف بغلظة
: عشان خايف عليها يا نيرة ... دي حتة مني، قلبها ناعم أوي مش هتتحمل جرح زي دة .. أنا أب ومستحيل أشوف بنتي بتدخل بحر غويط قدام عيني وأسيبها تغرق!
همس شجيًّا ثم أردف بنبرة تكاد تكون باكية
: فريدة تبان قوية قدامك بس هي أضعف مما تتخيلي .. أمها تعبت من وهي عندها 12 سنة، اتخلت عن طفولتها عشان تراعيها، كانت شايلة البيت كله ع حملها، حتى مدرستها يا نيرة مكملتش فيها ودخلت دبلوم لأنها مكانتش تلاقي وقت تذاكر،
وأمي الله يرحمها مكانتش تقدر تخدمها، فاضطرت هي تشيل الهم بدري وتاخد بالها منهم هم الاتنين، من غير ما تشتكي ولا تتعب ولا تمل بالعكس دايمًا راسمة البسمة الجميلة على وشها،
ومهما حصل معاها بتقول الحمد لله، بنتي مهما يحصل معاها من صعوبات، بتقدر تقوم وتكمل، وترجع تضحك ضحكة بترد روحي ليا، مش هتحمل أشوفها ضعيفة قصاد الحب اللي هياخد طاقتها كلها!
لمعت عيني نيرة حزنًا، فهي لم تكن تعرف ما مرت به فريدة، فدائمًا كما يقول عز تضحك ولا تظهر الحزن أبدًا، يا له من محظوظ مراد، أن تكون تلك الغمامة بحياته تظله طوال العمر..
وضعت راحة يدها فوق ظهر كفه بحنو، ثم تضغط بأناملها الرقيقة عليه، وتهمس بسكينة
: اطمن يا عز، ومتخافش على فريدة، مراد يستحيل يئذيها أبدًا، مراد اتغير أوي من يوم ما فريدة دخلت حياته، صدقني هو أكتر حد ممكن تأمنه عليها،
والخلاف اللي ما بينكم دة، مسيره ف يوم يتمحي، وفريدة ملهاش علاقة باللي حصل زمان بيني أنا وأنت، وأكيد مراد متفهم دة! لو سمحت بلاش تضيعها بسبب خوفك عليها، سيبها هي تختار تعيش حياتها اللي نفسها فيها... أرجوك!
همست بأعين مترقرقة ومتوسلة، ليغمض عز جفنيه متمنيًا أن ما تقوله نيرة هو الحقيقة، وألا تتعذب ابنته مثلما تعذب هو.
__________
بالمساء دخل مراد إلى غرفته القديمة واغلق الباب ثم جلس فوق الفراش وأمسك بـ إطار صورة رغد يتأمل ملامحها الصغيرة ثم هدر هامسًا
: عمري ما كنت اتصور ان حد تاني غيرك يسكن بقلبي! حياتي وقفت من يوم ما بعدتي عن دنيتي، روحي اتحرقت معاكي،
قال وهو ينظر بعيدًا ثم عاد ببصره للصورة وتنهد
: بس جات هي صاحبة أجمل نظرة وخطفتني...
أومأ برأسه وهو يضحك بوجع: أيوة يا رغد عشقتها، عشقت فريدة .. معادش ينفع أخبي أكتر من كدة، أنا متعودتش أهرب وانتي عارفاني كويس!
وأكيد دي مش خيانة، انتي كنتي وما زلتي جزء من حياتي، بس هي كمان ليها الحق فيا بعد ما أحيت روحي من جديد، بتمنى تسامحيني.
ليضع الإطار بمكانه فوق المنضدة، ويلمس ملامحها المطبوعة بأنامله ثم نهض وترجل من الغرفة قبل أن يغلقها بالمفتاح..
__________
كانت تبهط من المبنى وتضحك مع صديقتها نرمين بوجه مشرق إذ فجأة تجد بوجهها أسامة فتندهش
: أسامة؟ انت إيه اللي جابك هنا؟
: جيت عشان اتكلم معاكي!
أجاب بابتسامة تظهر بإمعان على ثغره ثم قالت بحنق
: تتكلم معايا ف إيه؟ احنا مفيش بينا كلام!
لتسمع نرمين هادي يناديها فتشير له أن ينتظر، ثم تقول
: بقولك يا أسامة امشي انت عشان ما ينفعش الوقفة دي!
: ليه يا نرمين؟ أنا كلمت عمي عز وهو قاللي إنه موافق عليا، يبقى ما ينفعش ازاي؟
صاحت فريدة ونرمين بصوت واحد مندهش
: إيـــه؟
ليصحح أسامة وهو ينظر لفريدة: قصدي يعني معترضش وقاللي هيقولك عشان تفكري، يبقى أكيد هو موافق!!
: يا شيخ منك لله وقعت قلبي!
قالت بأنفاس مضطربة وهي تضع يدها على قلبها، لتقول نرمين بابتسامة بلهاء
: انت عبيط ولا إيه يا أسامة؟ أمشي يابني من هنا
: لأ لو سمحتي يا فريدة خلينا نتكلم !!
قال مصرًا ثم زمت فريدة شفتيها بغيظ، فكرت قليلاً في نفسها، وقالت أن تتركه يتحدث حتى تقول له أنها غير موافقة به وأنها تحب شخصًا آخر كي يتركها بحالها، فبالتأكيد سينسى الموضوع..
حركت رأسها لنرمين وقالت: طب خلاص يا نرمين روحي انتي مع هادي وأنا هحصلك!
: متأكدة؟
أومأت برأسها ثم احتضنتها نرمين وغادرت، لتتساءل في برود
: ها عايز إيه؟
-------
يقود سيارته حيث يريد أن يرى فريدة فمنذ الأمس لم يتحدثا، لا يعرف هل سيعترف بما يشعر به أم لا، فبالتأكيد لن يعترف بتلك السهولة ولكن اشتاق إليها لن ينكر،
ثم أنها بالتأكيد بمفردها تنتظر سيارة بعد أن تركتها صديقتها نرمين وغادرت مع حبيبها هادي، وهو لن يدعها تقف بمفردها، ناهيك على أنها ستسغرق وقتًا حتى تجد سيارة .. لذلك سيذهب كي يقلها إلى المنزل بسلام ومأمن.
وصل هو إلى المكان المحدد وترجل من سيارته سريعًا وعلى وجهه ابتسامة عريضة تعبر عما في داخله، وقلبًا قد وجد مهداته،
ليرفع برأسه وع حين غرة يجدها تقف مع أسامة تلاشت ابتسامته تدريجيًا، ثم تيبس جسده ولم يبدي أي ردة فعل سوى أنه يحدق بكليهما،
اعترت ملامحه السخط، فبدى وجهه مقتطبًا بشدة، وبدأت عروقه تنتفخ وعضلاته تصلبت، خصوصًا أنه رأى أسامة يخرج علبة صغيرة ويفتحها ثم يخرج منه خاتمًا يقدمه لها........
يتبع الفصل السادس والثلاثون اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية ظل السحاب" اضغط على اسم الرواية