رواية ظل السحاب الفصل السابع والثلاثون بقلم آية حسن
رواية ظل السحاب الفصل السابع والثلاثون
كانت ترحب بالضيوف بطريقة لطيفة، حتى أنها لاحظت وجود أخيها الجاحد الذي ما أن انتبه لوجودها قد جفل بوجهه بعيدًا،
اعتصر قلبها ألمًا على نفوره منها، ولا تدري لما يفعل كل هذا معها، هي لم تخطئ بحقه أبدًا، بل كانت تكن له بالغ الاحترام والتقدير،
تنهدت ثم تابعت سيرها صوبه، بعد أن تغلبت عليها طهارة قلبها .. لتصل إليه ثم تهمس بتأسي
: إزيك يا عثمان؟
رفع رأسه إليها لوهلة ثم قال بجفاء ظاهر في نبرته الغليظة
: أهلاً
تجاهلت إعراضه، ثم جلست بجواره وقالت بقلبٍ مفطور، وملامة
: من يوم ما جيت من السفر وانت مسألتش عني يا عثمان، ولا كإن ليك أخت متغربة!
: ومسألتيش انتي ليه؟ ولا فالحة تعاتبيني وخلاص!
استمعت إلى رده البارد، لتهمس وهي تجاهد ألا تسقط دموعها
: أنا طول الوقت بتصل بيك، وببعتلك سلام، لكن انت عمرك ما رديت عليا، وكنت خايفة أجيلك تقابلني وحش!
رد ساخرًا: لا والله فيكي الخير .. ع العموم أنا مش محتاج سؤالك عليا أو انتي حتى محتاجاني، كدة كدة أنا ماعدتش أفرق معاكي من زمان!
كان كلامه يحمل ضنين المشاعر، أصاب قلبها الصغير بالحبوط والاضطراب، فنهضت بسرعة قبل أن تضعف وتنهمر الدموع أمامه، وتفسد على مراد فرحته!
تتلفت بالمكان تنظر حولها ثم رجعت برأسها لأبيها الذي هتف متسائلًا
: وقفتي ليه يا فريدة؟
: عشان تسندني يا بابا، مش عارفة أمشي!
ردت بوجه طفولي عابس، ليضحك عز الدين عليها ثم يمسك بيدها ألقت شعرها للخلف ثم بدأت تسير بتململ وخطوات غير متزنة، كونها أول مرة ترتدي كعبًا مرتفعًا،
تنظر لأسفل وهي تترقب الطريق خوفًا أن تقع، أو شيئًا يعرقلها .. رافعة فستانها الطويل قليلًا فانكشف عن ساقيها دون أن تنتبه..
لكنه كان منتبهًا لكل حركة تفعلها بإمعان .. عضها على شفتيها المكتنزة الذي يثير جنونه .. عبثها بشعرها الذي يتساقط بين الثانية والأخرى على عينيها ويمنعها من رؤية الطريق،
إلى أن أوقفهما العم شفيق الذي رحب بعز بحرارة
: أهلا يا عز، منور انت وفريدة
: شكرًا يا عمو شفيق
ردت بابتسامة رقيقة، ثم قال العم شفيق
: تعالى يا عز عشان في ناس حبايبك عايزين يسلموا عليك، وانتي يا فريدة روحي لـ نيرة.
ترك عز يدها برفق ثم قال بحذر: خدي بالك أحسن تقعي يا فريدة
: ربنا يستر
همست ليسير والدها مع العم شفيق لداخل الحفل .. لتتابع هي طريقها ببطء وحذر شديد وهي ما زالت تنظر لمكان قدميها،
لتضطرب حركتها فجأة وظلت تتململ في محاولة منها أن تتزن، لكن التوى كاحلها ومالت بجذعها للخلف ساقطة،
لتجد من يحاوط خصرها ويلحقها قبل أن تقع على الأرض .. كان المشهد رومانسيًا وهو تتشبث بتلابيب سترته بضربات قلبٍ مرتفعة .. لتتقابل عيناهما في نظرة طويلة .. ثم أقام لينصب جذعها برفق وهي تكمش براحة يدها على السترة ..
حاوط بيده الأخرى خصرها لتشعر بقشعريرة تصيب بدنها من لمسته الرقيقة .. تأمل في أحمر شفاهها الحارة، ثم رفع جفنيه عن شفتيها ليثبت بصره على مقلتيها المعلقة عليه،
حرك مراد يديه عشوائيًا على جانبي مقعدها دون قصد، ليُصعق جسدها فورًا، فأحس هو بتذبذبها ليسحب يده عنها تلقائيًا، وهو ينظر لها في استهجان تام،
أما هي فانكمش وجهها بتجهم بعد أن أزالت يدها عنه .. كاد أن يتكلم لكن قاطعه صياح ذلك الذي لم ولن يكف عن مرحه الصاخب ..
: بــاشــا يا بــاشــا، إيه الحلاوة والجمال دة
تقدم عماد نحوه وعانقه بحرارة ثم ألقى السلام على فريدة التي بادلته السلام بابتسامة خافتة .. سحب يد فتاة تبدو في منتصف العشرينات ترتدي ملابس بسيطة، تناسب شكلها وبشرتها .. ليشير عماد معرفًا
: أحب أعرفك يا مراد باشا، فاتن، مراتي إلا ربع
وكزته فاتن وهي تشزره، لتهتف فريدة متسائلة في دهشة
: إيه دة انت متجوز يا أستاذ عماد؟
لترد عليها فاتن: لأ ياختي، هو لو متجوز كان دة بقا حاله!
قالت مستهجنة وهي تضرب فوق ظهر يدها الأخرى بتأفف، فتردف
: احنا مقري فاتحتنا من 8 سنين، والحمد لله فاضلنا كام شهر ونخش موسوعة غينيس لأطول فترة قراية فاتحة ف التاريخ!
سخرت، لتشهق فريدة بصدمة: 8سنين؟ ليه؟ ناويين تحضروا ماجستير في الخطوبة؟
تهكمت لتردف: طب ليه مش جابلك شبكة؟
كان مراد يقبض على راحة يده، يحاول أن يسيطر على تلك النار التي في صدره، فهو لا يريدها أن تقابل أحدًا بتلك الهيئة المثيرة..
: أنا لا عايزة شبكة ولا زفت، أنا عايزة أتجوز وأخلف
اندفعت بزمجرة، لتهمس فريدة بهيام دون إدراك
: وأنا كمان
ليندفع مراد برأسه وهو يرمقها بحدة، ثم يهتف عماد
: جرا إيه يا فاتن، ما تلمي الدور
أشاحت بيدها بتأفف منه، ثم رمقها وسحبها للداخل وهو يقول
: بعد إذنك يا باشا!
ضحكت برقة ثم تمتمت: مجانين!
لتنتبه على نظرات مراد الغامضة، فتجفل بعينيها لتهم مغادرة، لكنه أوقفها بيده، ثم وجذبها من معصمها بعنف، فتصيح متأوهة
: ايدي يا مراد
لم يكترث واستمر في سيره دون العبء لخطواتها المتعثرة، ثم هتفت بزمجرة
: بالراحة طيب مش عارفة أجري وياك
لينتبه لصياح تميم الذي قد أتى لتوه مع محمد عاطي، فيفتح ذراعيه على الأخير وهو يتقدم نحوه بابتسامة مرحة
: الغالـ...
فيقوم مراد بإزاحة يده عن الطريق ويتابع مساره، متجاهلًا إياه .. فتنطلق ضحكات عاطي، ثم يهتف بشماتة وسخرية
: واحد اتكبس، دمه اتحبس، شم الهوا، جاله تسمم
ثم تابع مقهقهًا بشدة وهو يرى تميم يقف كالأبله، وهو لم يدرك إلى الآن ما حدث لتوه!.
وصل مراد أمام باب الفيلا ثم فتحه، ودفع بها للداخل بغيظ، فتتذمر من معاملته هذه
: انت اتجننت، ازاي تسحبني زي الجاموسة كدة
: انتي مش جاموسة وبس، انتي حمارة وبقرة وكل حاجة معندهاش عقل!!
صرخ، فانفرج فمها بصدمة، فتشير لنفسها وتتسائل بنبرة مختنقة
: أنا حمارة وبقرة يا مراد؟
صاح بعصبية: أيوة .. تقدري تقوليلي إيه اللي انتي عاملاه ف نفسك دة؟
قال مستهزءًا وهو يشير لها بامتعاض .. فبدأت هي تشهق بالبكاء، والدموع تنحدر على وجنتيها بسبب طريقته الجارحة معها،
يقف يتطلع إليها وهو يضخ أنفاسًا مضطربة، بتلك الدموع التي تتسبب في ذوبان قلبه، ليهتف بتذمر
: بطلي عياط
: مالكش دعوة بيا، أنا أعمل اللي أنا عايزاه
صرخت بزمجرة من بين بكائها، وظلت تمسح دموعها بطريقة عنيفة حتى لطخت وجهها بأحمر الشفاه دون انتباه .. ثم أزالت يدها عنه ليرى مراد ما فعلت، فدفعه هذا إلى القهقهة،
: انت بتضحك على إيه؟
تذمرت، ليرد أثناء ضحكه: شكلك بقا وحش أوي
زمت شفتيها بحنق، لتصرخ: مهو انت السبب خلتني أعيط!
: اهدي طيب ومتعليش صوتك!
قال بهمس وهو يرمقها بنظرة جعلتها تبتلع ريقها بتوتر
: تعالي اغسلي وشك.
أشار إليها، فأجفلت وهي تتحرك كي تخرج: لا مش عايزة
أدارها من ذراعها بنفاذ صبر: هتخرجي ازاي بالمنظر دة؟
صاح عليها باستنكار متذمر، لتنفض يدها بسخط
: وانت مالك بيا، خليك ف حالك!
اصطك على فكيه بقوة، ثم شدها إلى مرآة معلقة على أحد الجدران، فيهتف مزمجرًا وهو يهزها ويشير بعينيه على صورتها المنعكسة..
: بصي شوفي وشك عامل ازاي، عايزة تخرجي كدة قدام الناس!!
لطمت على خديها: أحيه! دة أنا اتبهدلت خالص!
هتف باستهجان ساخر: لسة هتتبهدلي؟ بصي كويس يا فريدة على نفسك، دي إنتي؟ دي البنت الشقية البريئة اللي أنا أعرفها؟
شدد على كل كلمة بحنق، ثم رفعت ببصرها إليه وهتف بتذمر
: كل دة عشان حطيت روج؟
: ولبسك يا فريدة اللي أول مرة اشوفك بيه؟
صاح بغلظة، ثم أردف: تقدري تقوليلي عاجبك منظرك بجسمك اللي مكشوف دة، ولا الكعب المقرف اللي مش عارفة تمشي بيه .. إيه خلاكي تيجي بيهم؟
ارتفعت صيحاته، وزاد تقطيب وجهه بشدة .. ثم نظرت له لتقول وهي ترفع بأكتاف الفستان
: هو بيتزحلق والله، يعني أنا أقصد أنزله؟
نفت بضيق، ثم استطردت: وأنا حرة أصلاً، ألبس كعب، أحط روج، أنا حرة
وع إثر آخر كلمة أشبكت ذراعيها في خصرها .. تلك الطريقة هيجت الدم في شرايينه، حتى اشتشاط رأسه غضبًا .. لكنه كبح كل هذا وحاول أن يتجاهله، لتستمع لرده الزائف
: أه طبعاً حرة، بس يعني انتي طباختي والمفروض إنك تمشي على حسب قواعدي!
لتزمجر: أنا مش طباختك ياض انت!
نفرت بتكشيرة، ليندفع بصياح: يـــاض؟
اهتز جسدها، واضطرب عقلها مع عدم ثبات مقلتيها اللتان تطوفان بخاصتيه المحدقة لها بحدة .. فلم تفكر في فعل شيئ سوى أنها تكمش وجهها وتبدأ ببكاء طفولي
: بس...!
زمجر بخشونة، ثم أخرج منديل ورقي واقترب منها وأمسك ذقنها وبدأ يمحي أحمر الشفاه الملطخ على أنفها، وعلى باقي وجهها برفق حتى لا يؤذي بشرتها الناعمة،
لتغمض هي جفنيها مستسلمة تمامًا للمساته المنصهرة لقلبها، والتي تجعلها كقطعة هلامية يحركها كيفما يشاء .. فيهبط مراد على شفتيها المنتفخة بالمنديل ويزيل كل أحمر شفاهها بلطف، فتظهر لونها الطبيعي والفاتح ..
شارف على الانتهاء .. ليهمس
: كدة أجمل وأرق بكتير، وكمان شعرك لازم تلميه عشان حلو أوي، وأنا مش عايزه يتحسد
كانت مغيبة تمامًا، غارقة في تيهان وحالة من الذوبان .. وضع المنديل في جيبه ثم أدخل كفيه بجانبي شعرها فجمعهم للخلف في ربطة واحدة كذيل حصان،
ثم مال بجذعه للأسفل يلتقط سترة صوف مشغولة باليد، قد وقعت منها حينما دفعها، ليقترب منها ويبلسها إياها، ثم يذهب بها باتجاه المرآة ويقف خلفها وهو يهمس بلين
: شايفة قد ايه إنك جميلة ع طبيعتك، أجمل واحدة ف الدنيا
استدارت ببطء له فهمست بصوت معاتب وهي تعبث بأزرار سترته
: أنا زعلانة منك أوي، كنت فاكرة هكون أول واحدة تعزمها ع حلفتك!
ليقترب بوجهه ويقول بنبرة رقيقة أمام شفتيها
: انتي مش غريبة عشان تتعزمي.
بزمجرة: لا بس أنا...
قاطعها وهو يقترب بشفتيه ويطبع أول قبلة على جبينها بطريقة فاجأتها .. فأخفض جفنيه ليتطلع بعينيها بشرود، فازدادت وتيرة أنفاسها، وهي لا تستطيع السيطرة على خفقات قلبها التي توترت..
ليغمض عينيه رغمًا عنه، ثم اقترب ولامس وجهها الساخن بطرف فمه الذي يلفح حرارة ملتهبة إليه، لتشعر بقشعريرة جعلتها تقبض على سترته بقوة .. فطبع قبلة فوق جفنها الأيسر، وأخرى فوق الأيمن،
لم تعد قادرة على تحمل شئ بعد، لقد انهار قلبها أمام هذا النمر، حتى هو تاه في محيط العشق، فذهب كبريائه وغطرسته في أدراج الرياح .. نعم تلك الصغيرة قد حطمت جميع الحصون المحاصرة لقلبه، زالت جميع القواعد التي وضعها لسنوات برمشة واحدة من عينيها،
لن يستطيع الهروب بعد يجب عليه الاعتراف والآن .. ليهمس باسمها
: فريدة!
همهمت بضعف، ثم أردف بنبرة مخملية يغلفها الهيام
: أنا بـ...
وقبل أن ينطقها سمع صوتها من خلفه وهي تصيح باسمه، لتجعل فريدة تنتفض، فالتفت إليها مندفعًا وهتف وهو يعقد حاجبيه
: انتي بتعلي صوتك ليه؟ وإيه دخلك هنا؟
اقتربت نانسي منهما ببطء وهو ثغرها ابتسامة خبيثة، لتجيب وهي ترمق فريدة بنظرة لعوب
: فيه حد برضو يسيب حفلته وييجي يقضيها هنا؟
رفعت فريدة بصرها نحوها باندهاش، بينما مراد صرخ محذرًا بشراسة
: نانسي! بلاش وقاحة
رفع سبابته بصرامة، لتقول بنفس طريقتها اللعوب
: على العموم أنا جيت أقولك إن فيه ناس بتسأل عنك.
: أمشي
تمتم وهو يجز على أسنانه ويأمرها بالمغادرة، لتزم نانسي شفتيها وتستدير كي تترجل للخارج بغيظ شديد
زفر مراد بضجر ثم التفت إلى فريدة ليقول وهو يضبط سترته
: يلا نطلع للناس
ضغطت على أسنانها بحنق وهي تسب وتلعن نانسي في عقلها، ثم همت وتحركت نحو الباب لكنها تعرقلت بفستانها مرة أخرى، ليسندها بسرعة وهو يساعدها أثناء سيرها دون أن ترفع ثوبها .. أعجبها هذا الأسلوب الراقي منه.
دلفا الإثنان إلى الحفل فما أن رأتها نرمين هرولت إليها تأخذها ف اتجاه بعيد، بينما توجه مراد نحو الضيوف ..
فتقدم إليه رجل ف الخمسين من عمره يحمل سيجارة بين إصبعيه ومعه بعض الحراس فيهتف لينتبه مراد عليه
: مراد باشا!
التفت برأسه فضيق ما بين حاجبيه تعجبًا، ثم استأذن قليلًا ليتقدم صوبه ويمد الرجل يده يسلم عليه، ويقول
: عبد العزيز التهامي، أكيد انت متعرفنيش!
فرد مراد: لا ازاي يعني، أسمع عنك طبعاً
قال وهو ينفخ الدخان من فمه وأنفه: أنا جيت أبارك لك بنفسي على النجاح اللي حققته .. براڤو
: متشكر...
همس باقتضاب ثم أشار مراد بيده لأحد الندُل، فيقترب منه ليردف
: ضيف الباشا ... منور يا باشا
تركه مراد عندما لاحظ في نبرته الاستهجان عليه، خصوصًا أن عماد قد أخبره قبل ذلك أنه كان يعتبر المناقصة تلك ملكه، ناهيك على أنه يعلم بعمله الغير قانوني في سلب المشاريع لأجل الحصول عليها عنوة!.
بجانب آخر كانت تقف تتطلع إليه بين الحين والآخر بابتسامة خجلة، ليبادلها هو تلك ابتسامة بحب .. كانت فريدة تراقب بعينيها تلك النظرات العاشقة، فارتسمت علامات السرور على محياها.
جلس مراد على طاولة مرتفعة بجوار أصدقائه، فضرب تميم على خلفية رأسه مشاكسًا إياه
: مكشر ليه؟
أجاب بعبوس: ملكش دعوة بيا، أنا مخاصمك
أشاح بوجهه بعيدًا، ليضحك مراد على طريقته، وضربه على خده بظهر كفه، ليقول بمداعبة واستنكار
: مش هتبطل طريقتك دي بقى!
: طبعًا يخويا مانت دلوقتي بقيت مرتبط بحد تاني، ونسيتني
قالها بصوت أنثوي وهو يمثل الاستياء، ليزجره مراد
: خلاص يا شامي بطل أسلوبك البايخ دة!
اتسعت عيني تميم بدهشة مصطنعة ليقول
: خضتني ياسمك إيه!
بجوارهم عاطي الذي يحاول كتم قهقهاته بضحكة خافتة وهو يأكل قطعة الكعكة، ليستمع إلى رد مراد المزمجر وهو يلقي في وجه تميم خِرقة بتأفف ويهم بالوقوف
: متخلف!
تركهم، ليمصمص تميم بشفتيه، ورمقه بطرف عينه وهو يهمس مستنكرًا
: حِكم!
ضربه عاطي من أسفل الطاولة برأس حذاءه في ساقه، ليقول متأوهًا
: إيه يا جدع، رجلي فيه إيه!
ضغط على أسنانه يهمس له من بينهم: لم نفسك أنا مش عايز أطرد من الأُبهة دي، العيال مستنيين أدخلهم بحتتين جاتوه!
: طفسين زي أبوهم...
صمت لبرهة مفكرًا، ثم نظر حوله بترقب ليهمس: بس تصدق فرصة والناس مشغولة ناخد عشا ليهم، معايا كيسين بلاستيك واحد ليا وواحد ليك.
قال في عجلة: طب يلا بسرعة أحسن نتقفش، وتبقى فضيحتنا بجلاجل!
هم عاطي بالنهوض لكن أوقفه هتاف تميم
: الحق ياض، مش دة الواد وليد؟
نظر نحو إشارة تميم فوجد وليد يقف مع عبد العزيز التهامي يتحادثا .. ليردف تميم متسائلًا
: إيه جابه هنا، ومين الراجل اللي واقف معاه دة؟
قال عاطي وهو يعلق نظره عليهم: معرفوش .. يلا تعالى
ذهبا الإثنان في طريقهم .. بينما مراد يتقدم نحو تلك التي سيطرت عليه كليًا، وقف بجانبها ليهمس
: قاعدة لوحدك ليه؟
انفلتت شهقة خافتة منها بسبب فزعها، فقالت بنبرة رقيقة
: خضتني يا مراد
: ليه؟ بتفكري ف إيه؟
استدارت بجسدها، فتجيب ببسمة: بفكر ف بابا ونيرة .. مراد لو بابا اتقدم لنيرة توافق؟
سألت بعفوية دون تردد .. فرفع مراد مقلتيه وحركها يمينًا ويسارًا دون الرد وهي تترقبه، فتسائلت
: إيه؟ سكت ليه؟
تنهد ثم قال: عاوزاني أرد أقولك إيه؟
: تقوللي إذا كنت هتوافق أو لأ!
قالت ببساطة وهي ترفع بكتفيها، ليرد عليها بإجابة لم ترضها
: خلينا نتكلم عن الموضوع دة بعدين .. المهم رأيك إيه ف الحفلة؟
غير حديثه بسؤاله عن الحفل لأن ليس لديه إجابة عن هذا السؤال الآن!
: جميلة أوي، كفاية إنك انت عاملها
تبسمت، ثم اقترب من أذنها وهمس: عاملها عشانك!
ابتعد عنها ليجدها رفعت حاجبيها وهي تتطلع إليه باندهاش
: عشاني!!
: مش أنا قولتلك في مفاجأة ليكي عندي؟
أكد فأيدت وهي تومئ برأسها: همم
: ودي كانت المفاجأة، أو جزء منها!
قال وهو ينظر بطرف عينه لأعلى، فتعجبت هي
: ازاي؟
كاد يرد لولا أنه انتبه إلى هتاف أحدهم في المذياع .. ليرى عماد يقف على المسرح والجميع متطلعين إليه باهتمام.. فيسمعه يقول
: يا جدعان، أحب طبعًا ف الأول أقدم تحية خاصة لـ صاحب الحفلة، الراجل الكريم، الوسيم أوي يعني...
قال وهو ينظر له ويغمز، فيضحك الجميع... بينما فريدة اقتربت برأسها إليه وتهمس
: هو أستاذ عماد جايبلك عروسة وبيلفت انتباهها؟
تطلع إليها وهو يقطب جبينه مستنكرًا، ليعود ببصره إلى عماد الذي تابع..
: وأقدم برضو تحية طيبة لأصحابه البشوات، تميم ومحمد باشا
الإثنان كانا يضعان الطعام بالحقائب البلاستيكية، وما أن سمعا اسميهما اضطربا وحاولا أن يخفيا أثار فعلتهما سريعًا وكأنهما يفعلان جريمة مثلًا .. رجع عماد برأسه إليهما وقال عبر المذياع
: انتوا بتعملوا إيه؟ البوفيه لسة ما اتفتحش؟
ليندفع الجميع برأسهم ينظرون إليهما، فهمس عاطي إلى تميم وهو يخبئ وجهه بيده
: الله يخربيت شورتك الزفت، يا تميم الكلب!
انطلقت قهقهات من الجميع بما فيهم مراد، الذي أثار ضحكه وضع صديقيه كمن كانا يختلسان سرًا، بينما هي كانت شاردة ف تلك الضحكة الساحرة، كالنور الساطع الذي يجلجل ضجة في صدرها..
انتهى عماد بإلقاء كلمتين شكر ومدح لـ مراد، ثم طلب منه القدوم إلى المسرح، حتى يستلم جائزة أفضل رجل أعمال أمام الجميع من الوزير..
تعالت أصوات التصفيق فصعد بجوار عماد ثم سلم الوزير إليه الدرع الكريستال، فبدأ التصفيق مرة أخرى بحرارة، تحت نظرات حاقدة من البعض.
كاد أن ينزل لكن استوقفه مراد وأمسكه بيده..
: استنى يا عماد
أشار مراد لأحد الأشخاص فتقدم عليه وهو يحمل تمثال ذهبي وسلمه إياه .. مد مراد يده الممسكة بالتمثال وهو يعطيه لـ عماد الذي اتسعت حدقتيه باذبهلال، ليستمع إلى قول مراد
: دي مش جايزة الموظف المثالي، عشان انت مش موظف .. دي هدية بعبر بيها عن شكري وتقديري ليك ولكل السنين اللي كنت معايا فيهم!
لم يصدق عماد ما سمع بل كان يحدق به بذهول، وما أن أدرك ما استمع وهو يشير أن يأخذ التمثال، اندفع لمعانقته بشدة وهو يجهش بالبكاء،
ليربت مراد على ظهره، فصفق الضيوف بحرارة، خصوصًا من هم أقرب إليه، مثل العم شفيق ونيرة، وأصدقاء مراد ..
وتلك الحبيبة التي انتظرت سنوات عديدة كي تجتمع في بيت واحد مع هذا الوفي، ترقرقت عينيها بدموع الفرح، حتى سالت على وجنتيها، اقتربت فريدة من فاتن ومسدت على ذراعها بلطف..
فترفع جفنيها ناظرة إلى هذا الرجل المغوار الذي يقدر ويعترف بجهد الآخرين أمام الجميع .. تعزيز علاقته بأصدقائه شئ يجعلها تعشقه أكثر .. يا ليتها كانت بمكان عماد ويحتضنها بين ذراعيه هكذا تود وبشدة أن تسكن أحضانه وتستمد منه الدفء ..
حرك مراد عنقه لتقابل زمردتيه سوداوتيها الهائمة به، فنمت عن ثغره ابتسامة صغيرة تعبر عن سعادته بوجودها بجانبه..
جاء معتز ودلف إلى الحديقة ليجد مراد يهبط من فوق المسرح فتمتم لنفسه
: هو أنا جيت متأخر ولا إيه!!
تنهد ثم تحرك نحو والده وأخته، بينما مراد سار متوجهًا إلى فريدة التي وقفت بجوار نيرة وأبيها..
ضمت نيرة وجنتي مراد بين كفيها وقبلته بلطف، ثم قالت مدللة إياه
: مبروك يا مراميرو
مسد شعرها برفق وقال: الله يبارك فيكي يا حبيبتي
ليسمع صوت عز المهنئ من خلفها: الف مبروك يا مراد باشا، تستحقها
عاد بوجهه إليه ثم مد مراد يده ليسلم عليه: متشكر أوي
ثم حرك رأسه باتجاه فريدة ويقترب إليها وهو ممسك بالدرع، فيهمس بابتسامة وهو يقدمه لها
: اتفضلي
نظرت له بعدم فهم ثم انفرج شفتيها وهي تشهق بدهشة
: متقولش! هي دي المفاجئة اللي تقصدها؟
أومأ برأسه متبسمًا لتهتف متعجبة بسعادة
: واو يا مراد، بجد ما توقعتهاش خالص
فتهمس نيرة وهو ترفع حاجبيها بذهول: انت هتدي الدرع لـ فريدة!!!
اقترب عز منهم وهو يعقد حاجبيه ثم أضاف: بس ليه يابني، مش دي جايزتك انت؟
أكد عز ليجيب مراد وهو يعلق عينيه بـ فريدة: أنا خدت جايزتي خلاص!
شعرت فريدة بالسقعة رغم كونها ترتدي سترة شتوية، لكن همس مراد ونظراته وأفعاله اليوم توترها بشدة .. أصبح شخصًا آخر غير الذي كان عليه من ذي قبل.
نهض عثمان كي يذهب ويهنئ ابن أخيه لكن ليس من قلبه، بل مجاملة كما يفعل أي شخص لا يهمه الأمر، فهو هكذا دائمًا لا يفرح لأي شخص أفضل منه خصوصًا مراد الذي خرج عن طاعته منذ زمن ..
سار حتى رأى مراد يقف برفقة فريدة وبجوارها نرمين وهادي، وبالجانب الآخر والدها ونيرة .. ليتوقف فجأة عن السير وعينيه تجحظان بهول عند رؤيته لـ عز الدين، شعر بأن شعره قد شاب لتوه، وكأن السنين لم تمر أبدًا بل ما مضى كان مجرد حُلم واستفاق منه الآن..............
يتبع الفصل الثامن والثلاثون اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية ظل السحاب" اضغط على اسم الرواية