رواية ظل السحاب الفصل الواحد والأربعون بقلم آية حسن
رواية ظل السحاب الفصل الواحد والأربعون
اللعنة على الحماقة، تصرفاتها قد زادت عن حدها، إلى ماذا تحاول أن تصل؟ جنونها أصبح حقًا لا يطاق ..
غطت فمها .. تتطلع إلى موضع الأشياء المتبعثرة على الأرض .. تستمع إلى أنفاسه التي كانت أشبه بـ مضخة طرد بداخله،
ارتعدت أوصالها وهي ترفع ببصرها نحوه ببطء، لتصطدم عينيها بزمردتيه المشتعلة، فما أن رأت معالمه التي تحولت إلى جمرة نارية، أطبقت على جفنيها بقوة مخافة منه، بجسدها الذي قد لامسته رجفة،
لتشعر بيديه تطبق على ذراعيها بعنف، سار بها دفعًا للأمام حتى ألصقها بالجدار، كادت أن تتكلم لكنه ضغط على فمها براحة يده بقوة خارسًا إياها..
: شششش، مش عايز أسمع نفسك
همس بعنف وهو يصفع جلد وجهها بأنفاسه الحارقة، فأردف متعجبًا
: انتي مبتفكريش في كلامك قبل ما تقوليه، الكلام ما بيعديش على دماغك قبل ما ينطقه لسانك؟ ولا انتي عاوزة تضايقيني وتطلعي عصبيتي عليكي وخلاص!!..
شدد على يده وهو يضغط على كلماته:
أوعي تفتكري عشان أنا ساكت ومستحمل جنانك، يبقى أسمحلك تتمادي في اللي بتقوليه! وتتهميني إني إنسان انتهازي، وبستغلك عشان أوصل لغرض ف دماغي!
لما رغد اتخطفت، وطلبوا مني أخرج شمس من السجن وأسلمه ليهم، مترددتش ثانية وعملت كده، ما كنتش بفكر ف حاجة غير انها ترجع سليمة، برغم ان دة كان ضد شغلي، لكن اللوا سميح ساعدني عشان متأكد إني يستحيل اخلي مسؤوليتي تجاه وطني،
وثقته فيا خلته يسمحلي آخد شمس وأرجع رغد، بس حصلت حاجات خارج إرادتي وكانت نتيجتها موتها، وأنا قتلت شمس وحامد، وكان ممكن أموت أنا كمان، يعني أوعي تنسي اللي بتتكلمي معاه دة يبقى مراد الحديدي.
أخيرًا أطلق صراح فمها، وتجده يبتعد ويعطيها ظهره .. مسح وجهه بكفه برفق يحاول الاسترخاء وخمد البركان الثائرة بداخله، فانتبه لصوتها المختنق..
: قتلتهم عشان حاولوا يؤذوها مش عشان دة واجبك، ولسة نار الانتقام مبردتش ف قلبك عشان معرفتش تنتقم من اللي حرقها وحرقك وانت حي...
اندفع برأسه نحوها وعيناه تشتعل بوهيج حراري .. لم تبالي بنظراته التي اخترقتها بسهم قاتل، فتابعت بدموع مختنقة
: نارك كانت هادية مؤقت، بس رجعت وهاجت من تاني لما عرفت إن اللي قتلوها قريبين منك .. عماد قاللي إنك كنت مستني أي خيط تقدر توصلهم بيه، وف الحقيقة أنا كنت حاسة بكدة، وكل اللي حسيته طلع صح
قالت بحرقة من بين شهقاتها .. أغمضت جفنيها حتى ترقرقت الدموع فوق شفتيها الكاحلتين بضعف .. بينما هو ينظر لها في صمت تام، يحاوطها بتطلعاته الغامضة،
لكنه ف النهاية قد تحدث بنبرة منخفضة وهادئة
: تمام يا فريدة، طالما انتي حاسة بكدة يبقى بعد ما تخلص المهمة دي على خير، وأضمن سلامتك، أوعدك إني هبعد عنك عشان متحسيش تاني اني بستغلك!
رمى بكلماته لترفع بعينيها إليه فورًا بدهشة .. لم تكن تتوقع رده هذا، كانت تظن أنه سيلاحقها حتى يثبت لها العكس، لكن يتركها؟ ما هذا الهزل!
: انت بتقول إيه يا مراد؟
رفع يده أمام فمه: ششش خلصت
أنهى الحديث ثم تحرك ليدلف إلى حجرته، تحت نظراتها المنصدمة، هل هو جادِ فيما قاله؟ لالا، بالتأكيد هو يمزح وسيخرج الآن ويراضيها بلطف مثلما يفعل دائمًا،
تحركت بسرعة وقبل أن تطرق الباب توقفت لتتراجع للخلف .. تعرفه إن تعصب منها سيحدث مالا تحبذه .. جلست على الأريكة بقلة حيلة، ونهرت نفسها بشدة على رعانتها معه،
ألم تكد تجن إن لم يقلها، الآن تتمرد عليه؟ اللعنة على عقلها دائمًا يتسبب في وقوعها بمآزق.
_________
جاء إلى المشفى بعدما سمع بخبر حادثة فريدة، صعد إلى الطابق، يطوف حوله بحثًا عن أحدًا، حينما هي ترجلت من الحجرة فتجده يلتف برأسه يميًنا ويسارًا، لتهتف منادية..
: معتز
التفت إليها برأسه ثم اقترب منها، لتسأله
: انت بتعمل ايه هنا؟
أجاب ببساطة: سمعت اللي حصل لـ فريدة، قولت آجي أطمن .. أخبارها إيه؟
تساءل لـ تقول باختصار: الحمد لله .. انت مين اللي قالك؟
سألته، فرد: العمال كانوا بيتكلموا ف المصنع، وأنا مرضيتش أسمع بيها ومجيش، دي مهما كان هتبقى واحدة من العيلة!
تبسمت نيرة للتغير الجذري الذي قد حدث لمعتز، هذا جعلها تشعر بالبهجة من قلبها، يا ليت أخيها يستفيق من وهمه وينسى كرهه ليتغير مثله .. مسدت على ذراعه بلطف ثم قالت
: فيك الخير يا حبيبي
: هو باباها أخباره إيه دلوقتي؟
سأل، فقالت وهي تفتح الباب وتشير له: تعالى أدخل شوفه
ليدلف إلى الغرفة معها، فتجد عز ينهض من سجادة الصلاة وهو يتمتم بعض الأدعية .. استدار ليرى معتز فتعجب..
: هو انت؟
نيرة وهي تعرفه عليه: معتز يا عز ابن أخويا عثمان
كانت تتبسم وما أن تفوهت باسم أخيها اخفضت وجهها استياءًا .. مد معتز يده يسلم، ليقول بتهذيب
: ألف سلامة على بنت حضرتك، ان شاء الله هتبقى بخير
: متشكر
كان عز يتطلع إليه بغرابة، كيف تغير إلى هذا الحد؟ هو يعرفه منذ أن كان يعمل بالمصنع ويسرق من قوت العمال، يجوز أنه قد عرف ذنبه وتاب عنه بالفعل كما أخبره أسامة أنه بدأ يعمل معهم بالمصنع كعامل!
_________
دخلا إلى مبنى المخابرات وهما يسيران معًا حتى صعدا الدرج وتوقفا بالمرر أمام مكتب ما، يرمقان بعضهما بطريقة مفهومة لكليهما، ثم شرعا في الدخول إلى المكتب،
فيستمعان إلى الذي يجلس أمام مكتبه ويميل بالمقعد وهو يتحدث عبر الهاتف..
: ماشي يا باشا، أنا هبعتلك اللي تحتاجه بكرة .. متقلقش أنا عند وعدي! .. سلام
أغلق هاتفه واستدار ليتفاجأ بهذان اللذان يقفان عند الباب ويتابعان حديثه باهتمام .. ليقف وليد مندفعًا بوجه عابس ويهتف مستهجنًا
: إيه دة؟ انتوا ازاي تدخلوا عليا كدة من غير استئذان؟
اقترب تميم بينما عاطي يغلق الباب .. فيتساءل الأول وهو يضيق عينيه
: مين دة اللي كنت بتكلمه؟ وهتبعتله إيه؟
: وانت مالك أصلاً! وازاي تسمح لنفسك انت وهو تتصنتوا عليا!!
صاح عليهما بنبرة غليظة، ليتحرك عاطي نحو المنضدة بالجهة اليسرى لوليد، ويهمس بنبرة متوسطة
: اهدى يا وليد، احنا ماكناش بنتصت عليك، احنا دخلنا صدفة وانت بتتكلم!
حرك جسده نحوه وهو يتطلع إليه بطريقة ساخرة، ثم هتف مستنكرًا
: وانتو إيه جابكم مكتبي أساساً!
ليرد عاطي: عايزينك ف كام سؤال كدة!
هتف بخشونة: مفيش بيني وبينكم أسئلة، ويا ريت تتفضلوا عشان ورايا شغل
ليهجم عليه تميم باندفاع ويمسك رقبته بيده ليدفعه على المقعد .. كان يقف طوال الوقت يتحمل سخافته، ويحاول كبح جماحه عنه، لكن طفح الكيل ..
يضغط تميم على منكب وليد بمعصمه، فيصرخ به
: ولا، عليا النعمة ما تقل بأدبك مرة تانية لكون شاقك، ماحدش مالي عينك ولا إيه!
يحاول أن يدفعه لكنه يرتمي بحمله عليه، فيقول بصوت محتبس
: يا عم أوعى إيدك
: خلاص يا شامي سيبه، هو ما يقصدش يزعلك
هتف بها بهدوء وهو يقف دون أن يفعل شيئًا، فيرد عليه بصياح
: استنى انت يا عاطي .. انطق ياض مين دة اللي بتبيعله أسرارنا يا واطي؟ خدت كام يا خاين؟
ليتمتم عاطي في عقله وهو يتطلع إلى تميم «الله يخربيتك هتودينا ف داهية».
دفعه وليد بسرعة ليبتعد تميم عنه، ثم يصرخ وليد عليه وعروقه منتفخة بشدة
: انت مجنون، بتتهمني إني ببيع أخبار شغلي!!
: اهدى يا وليد، تميم ما يقصدش
هاتفه عاطي بهدوء، وهو يرمق تميم بحدة على خراقته .. فيصرخ وليد بعصبية مفرطة
: ما تقوليش اهدى .. ورحمة أمي لكون محولك للتحقيق، بسبب تهمتك دي!
قال وهو يتطلع نحو تميم، ليفرد الآخر ذراعيه كمن لا يهمه
: روح يا حبيبي، انا كمان هوجهلك اتهام، وهقولهم إنك متعاون مع ناس عايزين يتخلصوا من مراد هو وخطيبته!
كان يهم وليد بالذهاب فما أن سمع حديث تميم توقف مكانه، فرفع ببصره نحوه وهو يهمس بدهشة
: بتقول إيه انت؟ أنا عايز اقتل مراد؟
ليرد عليه هاتفًا بتقرير: أمال كنت ف حفلته بتعمل إيه، وانت فيه خلافات بينك وبينه من ساعة ما اتهمته قدامنا كلنا بإنه باع الرمز!! .. وكمان علاقتك بـ عبد العزيز التهامي اللي هو أصلاً المنافس القوي لـ مراد في شغله!
نقل بصره من تميم إلى عاطي وهو يضحك، ثم يقول ساخرًا
: وهو دة سبب يخليني أفكر في قتله؟
رد عليه وهو يهمس بهدوء: لا يا حبيبي، في سبب أقوى، عبد العزيز التهامي دة لما بحثنا عنه، لقيناه نفس مواصفات الشخص اللي مرات العقيد حامد وصفته قبل كدة، وقالت عنه إنه جوزها كان بيتردد لزيارته!
هربت الدماء من وجه وليد، ليمهس بتعلثم
: إزاي الكلام دة! اللي أعرفه إنه راجل بتاع مشاريع وله اسمه في السوق!
اقترب تميم منه بينما عاطي كان يتابع الحديث باهتمام، تاركًا تميم يلاعبه على أحبال حساسة ..
همس له: شوف يا وليد، أنا أكره ما عليا إن حد يستغباني...
ليرتفع صوته: معقول ظابط مخابرات ف مكانتك، ما يعرفش إنه راجل شمال وبيشتغل من تحت الطرابيزة!!
ليعطيه ظهره غير باليًا: على العموم أنا ميهمنيش تعرف أو لأ، انت كدة كدة هيتم التحقيق معاك عشان نعرف علاقتك بيه وصلت لفين!
نظر وليد لـ عاطي ثم عاد برأسه إلى الآخر، فقال بنبرة مضطربة
: تميم، أنا ما ليش علاقة بـ عبد العزيز، غير إني حطيت معاه فلوس يستثمرهم لي، إنما شمال وقتل لالا محصلش!
عاد تميم بجسمه إليه فقال بمكر: خلاص يبقا تساعدنا نعرف الحقيقة، بدل ما تتورط معاه!
هز رأسه بتوتر، ليغمز عاطي من الخلف لـ تميم بإعجاب وفخر به .. لقد فعلها الأحمق .. لم يتصور أن لديه القدرة على التلاعب بأعصاب وليد، كي يقنع وليد بالتحدث عن خفايا وأسرار قضية مراد، التي وبالتأكيد يعلم جزء منها!
_________
ارتدى ملابسه وأعد حاله للعودة إلى القاهرة .. منذ اللحظة التي أنهى فيها الحديث مع فريدة لم يعاود التكلم إليها، أو حتى رؤيتها إلاّ وهو يعطيها الطعام .. حتى هي لم تحاول مخاطبته، بل استسلمت للصمت..
خرج من حجرته ليجدها تجلس على أحد الأرائك، تسند مرفقيها فوق فخذيها وتميل بجذعها العلوي لأسفل، حمحم ليلفت انتباهها، فترفع برأسها نحوه، فتراه مهيئًا للمغادرة..
نهضت فورًا لتسأله في دهشة: انت ماشي ولا إيه؟
أومأ برأسه إيجابًا بهدوء، فتهتف بزمجرة: ازاي يعني هتسيبني هنا لوحدي!!
تجاهل قولها، ثم أخرج هاتفًا ووضعه فوق الطاولة، فيقول
: دة تليفون ليكي، عشان لو احتجتي أي حاجة تكلميني، وأنا هبقى أطمن عليكي متقلقيش!
تحركت لتقف أمامه وهي تهتف بتذمر
: أنا مش عايزة تليفون ولا نيلة، أنا مش هقعد ف المكان دة محبوسة، ووشي ف وش الحيط!
ضبط من أكمام ثوبه وهو ما زال يحتفظ بهدوءه
: انتي مش محبوسة، لو عايزة تخرجي تتمشي على البحر شوية مفيش مشكلة، المكان كله متأمن حراسات لحمايتك، بس يا ريت متقعديش كتير!
استمعت إلى رده البارد الذي استفزها، فزمت شفتيها بحنق، لتجده يرتدي سترته ويستعد للتحرك نحو الباب، فتوقفه بصوتها
: مراد!
استدار إليها، فما لبث أن تطلع إلى عينيها تلعثمت ولم تعرف ماذا تقول!
: هتيجي تاني؟
سألته بهمس، ليرد باقتضاب: هحاول .. خدي بالك من نفسك
قال ثم فتح الباب ليخرج من المنزل ويصعد سيارته .. راقبته يتحرك بها، وتابعته بعينيها حتى غاب عن بصرها، فتغلق الباب خلفها، وتعود لتجلس على المقعد وتشرع في بكاء طفولي..
أما بالجانب الآخر، يزفر مراد بسخط أثناء قيادة سيارته .. لم يود أن تصل بهما الأمور لهذا المنعطف .. أنب نفسه على ما صدر منه من كلام، وأنه كيف يخبرها بأنه سيتركها ويسبب لها جرحًا، لقد تحملتك كثيرًا وانت لا تقدر على تحمل طفولتها وأفكارها الغريبة قليلًا؟
ضرب عجلة القيادة بحنق، ثم أخرج سيجارة كي ينفث عن غضبه بها.
_________
: أخبار البنت إيه؟
تساءل عثمان فترد نانسي بنبرة يبدو عليها الضجر وهي تصب الخمر في الكوب الزجاجي
: معرفش، ومراد مجاش الشركة من ساعة اللي حصل!
تجرعت السائل كله .. ولم يلاحظ عثمان استياء ابنته وشرودها، فكل ما يهمه هو مصلحته خلف دمار مراد وفقط، فاقترب منها ووضع يده على كتفها من الخلف وهو يهمس بحسم
: البنت دي لازم تموت، ما ينفعش تعيش يا نانسي!
التفتت له مندفعة: تموت؟ طب ازاي؟
تطلع إليها بنظرة لعوب فلم تفهم إلى ماذا تلوح تلك النظرة..
___________
وصل مراد إلى المشفى، ودلف إلى غرفة عز الدين، وما أن رأته نيرة نهضت من مكانها واتجهت نحوه فورًا تحتضنه في اشتياق
: مراد، حمد لله على السلامة يا حبيبي .. أخبار فريدة إيه؟
تساءلت بينما عز كان يخرج من المرحاض فوجد مراد أمامه، ليهرول صوبه مسرعًا، ويسأل في لهفة
: بنتي أخبارها إيه يا مراد، طمني عليها؟
حرك رأسه إليه فأجاب بتقرير: مش حضرتك كلمتها! واطمنت عليها؟ على العموم هي بخير
قال بهدوء وهو يجبر عقله ألا يتذكر ما حدث، فلاحظت نيرة تغيره فسألته في حنو
: مالك يا مراد، فيه حاجة مزعلاك؟
نفى برأسه: لا .. المهم حد حس بحاجة؟
تساءل فأجاب عز: لا ماحدش .. بس احنا هنفضل ف اللعبة دي لغاية امتى؟ وانت عرفت مين الناس اللي ورا اللي حصل؟
: هنعرف يا عم عز، هنعرف
كرر مؤكدًا ثم قال بنبرة منخفضة لنيرة: تعالي عايزك دقيقة
أومأت برأسها فاستأذنت عز ثم خرجت مع مراد
___________
بعد ما مر على المشفى جاء إلى الشركة وقابله العم شفيق فبعد السلام، سأله بنبرة خافتة حتى لا أحد يشعر بشئ
: طمني يا مراد، فريدة عاملة إيه؟
: بخير .. الشركة عاملة ايه؟ وحد حس بغيابي؟
اختصر الكلام عن فريدة لأنه يود أن يفصل رأسه عن التفكير بها .. ليجيب العم شفيق
: كله تمام، ومتقلقش عماد قايم بالواجب كإنك موجود بالظبط!
ربت على كتف العم شفيق، ثم تحرك نحو الدرج حتى وصل إلى مكتبه، لتراه نانسي وتقف فورًا، بينما هو ألقى السلام عليها سريعًا ثم دلف غرفة المكتب، وتحركت هي خلفه..
: حمد لله على سلامتك يا مراد
قالت بنعومة وهو يجلس على المقعد ثم رفع ببصره ليرد لكنه فوجئ بما ترتديه، وقف وهو يتفحصها بنفور بداية من وجهها الملطخ بمساحيق تجميلية، وبلوزتها .. بلوزة؟ بل قطعة من الثوب اللعين، مكشوف، يظهر كل مفاتنها بشكل مشمئز،
حتى بنطالها الذي يلتصق بفخذيها ويصفهما كمن لا ترتدي من الأساس! .. .. لم تكن ملابس عملية البتة، بل تشبه الفتيات الوضيعيات الذين يرتدون أثواب للإغراء فقط!
ليصرخ بها بحدة: انتي إيه اللي عاملاه ف نفسك دة؟
ارتعشت من صراحه فتسأل متعجبة: عاملة ايه؟
خرج من خلف المكتب ليشير إليها وهو يصيح بشراسة
: القرف اللي مهبباه ف خلقتك، ولبس الرقصات اللي لابساه، انتي شغالة ف كباريه يا روح أمك؟
تلك المرة الأولى التي يتعصب بها على أحدهم ويطلق ألفاظًا لاذعة لكن منظرها كان مستفزًا، وهو لا يقبل فتيات عائلته ترتدي مثل هذه الأشياء البشعة.
صاحت بتذمر وهي تشيح بيدها: انت مالك أصلاً بلبسي، أنا ألبس اللي يعجبني!
لتجده يصفعها على وجنتها على حين غفلة، وهو يهتف بخشونة
: وكمان بتشوحيلي يا قليلة الأدب
وضعت يدها فوق وجنتها فورًا وهي منصدمة مما فعله لتوه، ليردف هامسًا بنبرة عنيفة وهو يرفع بسبابته مهددًا
: عارفة يا كلبة لو سمعتك بتعلي صوتك عليا تاني، اقسم بالله أدفنك .. أنا صبرت عليكي كتير لكن انتي مصممة تستمري ف اللي انتي فيه .. غوري مش عايز أشوف وشك ف الشركة تاني!
صرخ بقوة وهو يشير بذراعه للخارج بشراسة: بــرة!
ركضت من أمامه بسرعة وهي ما زالت تضع راحتها فوق خدها وتبكي بحرقة .. بينما الآخر يحاول تنظيم أنفاسه، لقد وأزعجته تلك الهوجاء، ألا تدري أنها تتحدث إلى ابن عمها ويجب أن تحترمه؟
لا يعلم كم عليه من التحمل، فريدة من جهة وتلك الغبية من جهة الأخرى، لقد اضطرمت النار في رأسه حقًا!.
_________
: ها بقا احكي يا شهرزاد زمانك
هتف بها تميم ساخرًا لـ وليد، فيرفع الآخر رأسه ثم يبدأ بالرد بهدوء..
: أنا أعرف التهامي من سنة تقريباً، اتعرفت عليه صدفة ف حفلة، بعدها انا كنت بفكر أشغل فلوس ليا ف السوق، والحقيقة ما جاش ف بالي غيره، وبالفعل كلمته وهو الحقيقة كان مرحب جدًا بطلبي،
ومن بعدها بقينا نتواصل مع بعض، ودي كانت بداية تعرفي عليه!
: يعني عمرك ما شوفته مع حامد، أو كان بيكلمه ف التليفون مثلاً؟
سأل عاطي، فأجاب وليد: بصراحة لأ، بس أنا كنت عارف إن له علاقة برجل أعمال كبير، لكن مين هو معرفش!
: كل التحريات بتثب إنه هو الشخص اللي كان بيتواصل معاه!
قال تميم بغلظة، لينهض وليد ويقول بتعب: صدقني معرفش، وأنا قولتلك كل اللي أعرفه!
عم الصمت ف المكان، في حين عاطي وتميم يتناقلان النظرات بينهما في خيبة رجاء، ليتفاجأ الإثنان بهتاف وليد
: أيوة، أنا افتكرت حاجة مهمة...
تطلعا إليه بتركيز فيردف: بعد الإجتماع اللي عمله اللوا سميح، لما سلم الرمز لـ مراد .. ف نفس اليوم بقا كنت شوفت العقيد حامد وهو واقف مع بنت، ولما سألته عنها اتوتر وارتبك، بس بصراحة أنا لا شوفت شكل البنت ولا هو قال مين دي!
نظر الإثنان لبعضهما بتعجب، ولا يعرفان من هذه التي قابلها حامد، ولماذا يخاف أن يراها وليد معه؟ بالتأكيد هناك سرًا!
___________
تستلقي على الفراش في غرفتها تبكي بحسرة وألم على حياتها التي أصبحت خواء، تشعر بالهلاك يحاوط قلبها، تفكر في حبيبها الذي جحد قلبه عليها، وقرر تركها فجأة من قبل أن تتمتع بهدير عشقه، لم تحظ بفرصة من الأساس .. أغمضت جفنيها لثوانِ ثم استمعت لصوت طرق الباب، وفتحتهما مجددًا،
نهضت من مكانها وتحركت خارج الغرفة كي تفتح الباب، تسير في خطوات سريعة، كمن تنتظر الحبيب الغائب، وما أن فتحت الباب اتسعت عينيها بشدة لتشهق منصعقة مما تراه قبالها .. صدمة مدوية لامست عقلها وهزته .. جعلتها تتراجع للخلف ببطء بساقين متيبسين..
فتهمس بثقل في لسانها: ر..غـ..د؟
تحركت رغد للداخل وهي تتطلع إلى فريدة بغموض، فتسأل الأخرى في لجلجة، والدماء تتجمد في عروقها
: انتي لسة عايشة؟
: أمال كنتي فاكرة إنك هتقدري تاخدي مراد مني؟
قالت ساخرة، فتنفلت شهقة خافتة من حلق فريدة، وتصيبها رجفة خفيفة..
: مـ..راد!
: أيوة، حبيبي اللي عايزة تاخديه مني يا... يا خطافة!
شددت على آخر كلمة ثم دفعتها بقوة لتقع فوق الأريكة، وتقترب منها وهي تميل بجذعها نحوها، لتهمس بصوت ساخر ووجه مخيف..
: انتي متخيلة إنك تقدري تنسيه حبي؟ قلبه دة ملكي لوحدي، أنا الوحيدة اللي تقدر تسعده وهو لا يمكن يبقى لغيري، أما انتي مجرد سراب، شئ مجهول قرر يقتحم عالمه وبكرة يلغيكي ويرجعلي أنا!!
لم تتحمل فريدة تلك الكلمات التي اندفعت بها رغد، فصرخت بأعلى صوتها وهي تحاول أبعادها بيدها..
: لاااا، مراد ملكي لوحدي، وحبيبي أنا .. أنا حقيقته وعلاجه، انا روحه، انتي ماضي .. ماضي يا رغد
ظلت تهدر وتصرخ .. تحرك يديها بقوة كمن تحارب لأجل الحصول على ما تمتلكه والذي هو طريق نجاتها .. تحرك رأسها فوق الوسادة باضطراب وهي تشعر باختناق، وعروقها تتناثر فوق جبهتها،
تقاوم الصراع بداخلها بمفردها وهي تهذي بكلمات غير مفهومة .. ليحاول أن يفيقها بسرعة من كابوسها اللعين الذي سيطر عليها بالكامل وكأنها الحقيقة، ثم بدأت تتمتم باسمه دون وعي..
أمسكها من ذراعيها وهو يرفع بجسدها بلطف، ثم ريت على وجنتيها بحنو وهو يهمس بهلع
: فوقي يا حبيبتي، انا جنبك ومش هسيبك أبدًا!
ليهتز جسدها فورًا، وتفتح جفنيها بسرعة وهي تلهث بقوة تسترد أنفاسها من ذلك النزاع الشرس الذي كاد يقضي عليها .. وبعد أن هدأت قليلًا واستكانت أنفاسها، وقعت عينيها على مراد الذي كان بجاورها وعلامات الخوف تحيط به،
انكمش وجهها وعينيها ترقرقت بالعبرات فشرعت في بكاء حقيقي مصحوب بشهقات عالية
: بس يا روحي انا معاكي، متعيطيش
قفز قلبه من بين ضلوعه على حالتها تلك، فظل يهدئها في لين بعد أن جذبها بين ذراعيه ويضمها بقوة، يود لو يدخلها بين ضلوعه فترى قلبه المتلهف عليها .. ازداد بكائها وهي تدفن وجهها بصدره، ببدنها الذي يرتعد من البرودة التي تشعر بها،
فحاوطها أكثر حتى تستمد دفئًا من نار قلبه المشتعلة بقلق على حالتها الضعيفة هذه والتي تسببت في نزيف داخلي لديه ..
بالكاد سمعها تهمس من بين شهقاتها بتقطع في صوتها، وهو يشعر بتشبث يديها على ظهره
: متسبنيش... يا مراد... أنا بحبك
همس لها بصوت رخيم: أنا كمان بحبك، وعمري ما هسيبك، أبدًا.. أبدًا.. أبدًا
شدد على كل كلمة بلين كأنه يؤكد لها أنه لن يبتعد مهما كلف الأمر .. عانقته بذراعيها بقوة، فيضمها إليه كالطفلة الصغيرة التي يحاوط جميع جسدها بيديه .. أغمض جفنيه يسرح بتلك اللحظات الحانية بخياله بعيدًا، كمن تأخذه إلى عالم آخر ليس فيه سواهما..
____________
يجلس على مقعد أمام مكتب، يعطي ظهره للخلف، ينفخ الدخان من فمه، يشعر بقدمها تقرع فوق الأرض وهي تقترب .. استدار بالمقعد فيظهر وجه عبد العزيز التهامي، ثم ينهض ويرسم على وجهه ابتسامة عريضة لرؤيتها..
ليسمعها تقول بقلة حيلة بصوت جار عليه الزمن
: عايز مني إيه تاني؟
ضحك بسخرية، ثم انتهى ليقول: تعرفي إني بعشق ضعفك دة يا... رغد
وأكمل قهقهاته المستفزة، فترفع عينيها إليه بخيبة أمل وبؤس .. أطبقت على عينيها بقوة فانحدرت دموعها على وجهها بحزن هالكها طيلة سنوات عديدة، وهو يقف يتطلع إليها بتلذذ على حالتها اليائسة، وعلى حظها السئ الذي أوقعها في يده .............
يتبع الفصل الثاني والأربعون اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية ظل السحاب" اضغط على اسم الرواية