رواية ظل السحاب الفصل الرابع والأربعون بقلم آية حسن
رواية ظل السحاب الفصل الرابع والأربعون
بعد تفحص الطبيبة لحالتها .. أمرتهم الابتعاد عن أي توتر، نظرًا لأنها تمر بأزمة نفسية، غير حالتها الجسمانية التي باتت ضعيفة ..
تجلس بجوارها تحاول أن تقنعها بتناول الطعام لكنها مصممة ألاّ تضع لقمة داخل فمها في بيت مراد، وعليهم أن يرجعوها من حيث أتت..
: فريدة عشان خاطري اشربي حتى العصير، الدكتورة قالت لازم تتغذي كويس
قالت نيرة بإلحاح وهي تمسك بكوب عصير، فأزاحت فريدة يدها بهدوء وهي تقول بجمود طفيف
: لو سمحتي يا نيرة بلاش تضغطي عليا .. ولو بجد انتي خايفة عليا وبتحبيني خليني أمشي من البيت دة عشان أنا مبقتش طايقاه، وحاسة بخنقة غير عادية!
مع كل كلمة كانت تشعر بالغيظ داخلها، فربعت يديها ونظرت أمامها، لتضع نيرة الكأس فوق المنضدة وتقف، لتقول بهدوء وهي تشبك كفيها ببعضهما
: القرار دة مش أنا اللي آخده، وبعدين أنا ما كنتش أعرف إنك ضعيفة كدة وفاقدة الثقة في نفسك
نبرتها كانت بها شئ من الإستهانة.. ليس للإستهزاء بها، بل لتظهر قوتها وتمسكها بحقها في مراد .. اندفعت فريدة بوجهها نحوها بجمود وعينين مشتعلة جعلت نيرة تنفزع .. فتسمعها تهتف بسخط
: ع فكرة أنا مش مجبرة خالص إني أحط نفسي ف موقف حقير زي دة، عشان أنا مش ف سباق والجايزة هي مراد!!
نفت بحنق لتقترب نيرة منها وتكور وجهها بين كفيها بحنو
: فريدة انتي عمرك ما كنتي مجبرة، ولما أنا طلبت منك تساعديني يتخطى محنته، مكانش عشان جراءتك وبس، أنا طلبت كدة لما حسيت إنك عايزة تعملي كدة بإرادتك، مش هقولك إني لاحظت انجذابك له، بس ع الأقل فضولك كان واخدك لغاية النقطة دي!!
همست بانكسار: وأنا تعبت .. ومش هقدر أحارب تاني ولا أدخل في أي مشاحنات... وزي ما قولتي انتي اللي طلبتي أساعدك يتخطي محنته، وأظن إني أديت مهمتي بنجاح، وكمان هي رجعتله وأكيد هو فرحان أوي بدليل إنه رجعها البيت ع طول أول ما شافها!
ضاق صدرها وهي تجاهد كثيرًا كي لا تضعف وتبكي مجددًا بنطقها تلك الكلمات من فمها والتي تذبح في قلبها مثل البهيمة .. احتضنت نيرة رأسها وهي تمسح بلطف فوق شعرها مكتفية بفعلها دون أن تحاول الضغط عليها بالكلام ..
أما بالحجرة الأخرى تستند بظهرها فوق وسادة ناعمة تلتصق بظهر السرير، وترفع جذعها قليلًا .. غيرت الطبيبة الضمادة الملفوفة حول رأسها المجروح .. وفحصتها أيضًا وكتبت لها وصفة طبية كي تستعيد صحتها..
فيسألها مراد بلين: حاسة بتحسن دلوقتي؟
أومأت برأسها بإيجاب: الحمد لله..
ابتسم بخفة، لتعلق بصرها إليه قليلًا: أنا آسفة!
همست بصوت شجي، ليرفع وجهه إليها متعجبًا: على إيه؟
بدأت العبرات تتسلل إلى مقلتيها مكونة غلاف رقيق، تنهمل على وجنتيها مع أول غلقة لجفنيها .. يلحقها هو سريعًا
: لأ لأ، أرجوكي ما تعيطيش .. بصي انسي أي حاجة مضايقاكي ومتفكريش فيها
لم يتحمل مراد دموعها، ملامحها قد تبدلت كثيرًا، هالات كثيرة تحت عينيها توحي بأنها قد تعرضت في تلك السنوات لإضطرابات وصعوبات كثيرة.. ليردف يطمئنها بنبرة رخيمة
: كل شئ هيكون كويس، بس اهدي
لتضمه فجأة وتقبض على سترته من الخلف، كأنها تحاول أن تتأكد من وجودها بجانبه .. بعينيها اللتان ترسلان دموعًا متحسرة .. أما عنه فلم يدري ماذا عليه أن يفعل، ليجد يده تربت على ظهرها مهدئة إياها في رفق.. لكن قلبه معلقًا بالأخرى التي قد تسببت في فزعه عليها وعلى ما وصلت إليه،
رفعها عن صدره بلطف ما أن انتبه لقرع الباب، فتدخل السيدة عفاف مع احدى العاملات وهي تحمل صينية الطعام، فتقول وهي تشير للأخرى أن تضع ما في يديها على منضدة صغيرة
: مراد باشا، الأكل بتاع الآنسة رغد
لينهض ويتساءل: وفريدة خدتوا الأكل ليها؟
لاحظت رغد اهتمامه الكبير بها والذي يظهر في لهفة نبرته .. ردت عفاف
: للأسف هي رافضة تحط حاجة ف بوقها، وكمان عاوزة تسيب البيت!
ليعقد حاجبيه باستهجان: تسيب البيت؟
صمت قليلًا وهو يزم شفتيه، يفكر ف عناد تلك الحمقاء الصغيرة .. ثم هم متحركًا يترجل من الغرفة، وهو يقول مشيرًا لـ رغد
: هدوء بالكم منها
بينما هو يسير بالممر نحو غرفة فريدة، استمع إلى نداء عز القادم من الأسفل..
: مراد... لو سمحت عايزك ف كلمتين
عاد أدراجه ليهبط الدرج فيسأل متعجبًا: خير يا عمي!!
أمسك بمرفقه وسار معه إلى أن خرج بالساحة .. فيقول عز بادئًا حديثه بروية
: شوف يا مراد، انا لما جيت واتقدمت لـ نيرة، خدتني على جنب وصارحتني بحبك لبنتي فريدة، وقولتلي إنك هتيجي وتقرا معايا فاتحة، حصل؟
ضيق عينيه مستغربًا ما يقوله: تقصد ايه؟
: اقصد البنت اللي جات معاك ودخلت بيها قدامنا كلنا، من كلام نيرة فهمت أنها تبقى حبيبتك القديمة!
هتف بتجهم محاولًا الاحتفاظ برزانته.. تشتعل بركانه الداخلية رويدًا رويدًا، لكنه يجبر عقله على خمد تلك النيران..
تساءل بهدوء زائف وهو يكتف ذراعيه: وبعدين؟
تعجب من بروده فقال بعبس: طالما انت رجعتها معاك، يبقى بنتي معادش ليها مكان ف حياتك! وانسى إنك وعدتني بأي حاجة!
تنهد مراد لينظر لأسفل ثم عاد ببصره إليه، ليقول بقرار حاسم
: شوف حضرتك، بكرة بإذن الله كتب كتابك على نيرة، أما الأمور التانية ماتخصش حد غيري أنا... وفريدة وبس!
تعجب من قراره المفاجئ، ليضطرب عقله، يتحدث إليه بشأن فريدة، ويتطرق لأمرٍ آخر! حقًا إنه غريب الأطوار
_________
باليوم التالي دلف إلى مكتب تميم مندفعًا، ليهتف سريعًا
: شامي! الحق ياض
ارتعد تميم الذي يجلس على مقعد أمام المكتب، منشغلاً في قراءة أحد المجلات
: الله يخربيتك، قطعتلي الخلف! عايز إيه يا زفت الطين انت؟
سأل متأففًا ليرد وليد وهو يتطلع للمجلة، سائلًا في تعجب
: هو انت بتتفرج على إيه؟
أغلقها سريعًا ليخفيها عن بصره، فيقول بتلعثم
: وانت مالك يا أخي، الله!
: انت من بتوع السيكو سيكو؟ طب دة حتى وحش على صحتك!
قال ساخرًا فينهض بحنق ليهتف ساخطًا
: لم نفسك، ثم انت إيه اللي دخلك عندي فجأة وخلاك تقتحم خصوصياتي!!!
أطبق وليد على شدقيه كاتمًا الضحك، فيرد بجدية
: كنت جاي أقولك إن التهامي هرب!
سحب شهقة قوية: الله يخربيتك، هرب ازاي، وليه؟
رفع بكتفيه: معرفش، أنا كنت رايحله المكان اللي بنتقابل فيه، لقيته نازل جري وركب عربيته بسرعة، وف غمضة عين اختفى من قدامي حتى ما قدرتش أمشي وراه عشان أوصله!
رفع تميم كفيه فوق رأسه يندب حظه: يا حزن الحزن يا تميم، دة احنا خلاص جبنا دليل إدانته!!
كان يتمتم هترًا، فانكمش وجه وليد دون فهم: جبتوه ازاي؟
: اخرس الله يخربيت سنينك...
صاح تذمرًا، فصمت قليلًا وهو يفكر، فيهمس لنفسه خوفًا
: كدة حياة مراد بقت ف خطر! .. أنا لازم أروح أبلغه حالًا!
قال لـ وليد ثم هم سريعًا يلتقط المفاتيح وأشياءه الصغيرة مثل الهاتف ومحفظته الجلدية، وأطلق عجلات قدميه في عجلة وقلبه يخفق ارتباكًا.
_______
يجلس هو خلف الساحة على أحد المنصات الخشبية، يتذكر حديث رغد وعما حصل معها.. ارتد إلى حيث كانت تقص روايتها العجيبة والمؤلمة .. هب واقفًا من مجلسه، وتقاسيم وجهه تجهمت واحتقنت الدماء في وجهه غضبًا..
: حصل إيه بعد كدة يا رغد، قدر يلمسك؟ اتكلمي، قولي!!!
كان هتافه شرسًا دون إدراك منه لصوته العالي الذي ارعبها، بينما قلبه ارتفعت ضربات قلبه بهلع، فقالت بنبرة متلجلجة وهي تنفي برأسها
: لـ..لأ
عادت هي لذلك الموقف حاكية إليه .. كانت تقاوم كل محاولاته في تقبيلها ولمسها قسرًا، تدفع بيديها المرتجفة، صدره بجم قوتها الواهنة، ونظرًا لحالته قد استطاعت التخلص من تحت يديه، وركضت بسرعة تلتقط بزجاجة خمر كانت موضوعة على منضدة،
رفعت بها وهي تهتف محذرة بأنفاس متسارعة بسبب جهدها في محاولة ابعاده عنها
: والله لو قربت مني لموتك، ابعد عني
صرخت بدموع، ووجه قد هربت الدماء منه خوفًا .. التوى شدقه تهكمًا .. هذه الضعيفة تود قتله؟ لن تنجح وسيفعل ما يود فعله بها، ويتركها مذلولة مقهورة،
حركاتها هذه تجعله يستمر فيما يفعله، اقترب منها بخطوات باردة، وابتسامة مستفزة ترتسم فوق فمه..
رفع بيده كي يلتمسها، لكنها قاومت ضعفها ثم اندفعت بالزجاجة تكسرها فوق رأسه بقوة، ليسقط كالجثة تحت قدميها، والدماء تتدفق من رأسه،
تنظر بصدمة نحوه بوجه باكي غير مصدقة ما فعلت، كانت تود تهويشه ليس إلا .. لتضع يدها فوق شفتيها تكتم الصرخة التي احست أنها ستنطلق،
كانت مذهولة لدرجة أن يدها الممسكة بالفوهة المتبقية من الزجاجة معلقة ف الهواء دون أن تشعر، وبعد برهة من الزمن ألقتها من يدها بفزع.. لتتفاجأ بـ "سوزي" تقتحم إلى الحجرة مع بعض الرجال وتسألها في دهشة بعد أن القت نظرة على الرجل المنبطح على الأرض..
: انتي عملتي إيه؟
فترد عليها هامسة بوجه باكِ وهي تبتعد عن الجثة
: والله ما عملتش حاجة، هو اللي اتهجم عليا!
زمت سوزي شفتيها بحنق ثم هتفت بصرامة: بلغوا البوليس خليهم ييجوا ياخدوها أحسن ما تجيبلنا مصيبة!
رمقتها بقرف .. ليرتاع جسد رغد، وتقول متوسلة وهي تجهش باكية
: والنبي يا مدام بلاش بوليس، أبوس إيدك
: اخرسي يا غبية، دة انتي هتروحي ف داهية
تذمرت سوزي مما حدث، فقد ضاع عليها بقية النقود التي وعدها بها هذا المغفل .. اللعنة عليه أما يجب عليه أن يعطيها بقية حقها قبل أن يذهب للجحيم؟
وقبل أن تترجل سوزي دخل هو عليهم ينفث الدخان من أنفه بطريقة لعوب
: استني يا سوزي
رفعت بصرها إليه لتقول في تعجب: عبد العزيز باشا؟**
تجلس أمامه على طاولة في أحد المطاعم الخاصة .. تنكمش في اضطراب، ليسألها
: مالك مش على بعضك كدة ليه؟
انتفضت من صوته، فقالت بتلعثم وهي ترتجف
: هو حضرتك يا بيه هتقبض عليا؟ والله أنا مظلومة، هو اللي كان عايز يـ...
قاطعها بلا مبالاة يومئ بيده: عارف عارف .. وأنا مش ظابط، أنا جاي عشان أساعدك
قال بمكر، لتسأله بنبرة مهزوزة: ازاي؟
بنظرات لؤم: عايزك ف خدمة صغيرة ولو عملتيها... هخرجك من الورطة دي بسهولة
أومأت سريعًا كونها ليس لديها خيارات أخرى، فلا أحد سيساعدها وستدخل السجن، ورغم أنها شعرت بالارتياب في نبرته فلم تعترض...
رجعت هي لواقعها وهي تهمس بنبرة متلجلجة بشدة وحروف متبعثرة
: هي دي بداية تعرفي على عبد العزيز، وأنا والله ما كنتش أعرف الخدمة دي عايزها ف إيه، بس أنا خفت أتسجن وأنا ماليش أي حد عشان كدة وافقته على طول
اجهشت ببكاء مع كل كلمة تقولها، حالها كان يتلوى منه مراد، شاعرًا بانقباض غليظ في قلبه على ما بلغت إليه .. مسكينة، حزينة، مكسورة، هشة، انداست تحت أقدام هؤلاء الخونة الغادرين،
ماذا فعلت هذه الطفلة كي يقحموها في كل هذا؟ ليت الزمان يعود وتلتقي به قبل كل ذلك .. جثى على ركبتيه براحة، ثم رفع بيده لوجهها يمحي عبراتها المذيبة لوجدانه، برفق ولمسات تربت على جروحها..
: والله يا مراد، أنا ما كنتش عايزة أخونك، بس أنا خوفت عليك... سـ سامحني
همست بحشرجة وهي تشعر بألم في أحبالها الصوتية، وكادت أن تنطق مرة أخرى لكن منعها مراد وهو يضع إصبعه فوق شفتيها بلطف، هامسًا
: ششش، متتكلميش تاني أنا عمري ما زعلت منك عشان أسامحك، أوعدك إني هرجعلك حقك من كل اللي ظلموكي، بس مراد نفسه ف حاجة صغننة قد كدة
قال بطريقة مرحة وهو يشير بأطرافه أنه طلب صغير للغاية، لتقول برقة..
: أنا هعمل أي حاجة عايزها مني!
تبسم وهو يهمس: ابتسامة صغيرة أشوفها منورة وشك الجميل دة
ترقرقت شفتيها الشحابتين ببسمة ناعمة، جعلته يغازلها مداعبًا..
: الله على الجمال، هو في قمر يكشر ويعيط برضو؟
نفى بطريقة عذبة جعلتها تضحك وتنسى ذلك الألم الملموس والمعنوي .. بينما مراد يحاول كبح دموعه، ويضغط على عقله ألا يفكر في السنوات التي قضتها بمفردها تحارب الحياة القاسية والظالمة..
مستلقي فوق المنصة، ويديه أسفل رأسه يتأمل قطع السحاب الممزوج ببعضه بعضًا، متماسك ليكون كتلة كبيرة من الغيوم ليسقط ظلها فوق الأرض، بعد أن اختارت شخصًا محظوظًا تمشي خلفه تقيه من لهيبٍ لاسع .. استفاق من تفكيره على صوت صياحه المزعج..
: مراد، الحق يا عم
اعتدل بجذعه ليرد بكلل: ألحق إيه؟
: التهامي هرب!
نطق دون تردد ليهب مراد واقفًا: انت بتقول إيه؟ هرب ازاي يعني؟
صاح به مستهجنًا ليروي له ما قاله وليد، فيزفر مراد بقوة .. فيهتف زاجرًا
: وليه يا شوية أغبياء ماحدش فكر يراقبه؟
: مهو بعد ما رغد ظهرتلك، انت تعبت، حاولت أقررها وأعرف منها مين اللي سلطها عليك لكن عاطي وعماد منعوني!
قال مفسرًا ليضيق مراد عينيه: تقررها؟ هو انت حاولت تضغط عليها؟
هتف وهو يمسكه من تلابيبه، ليجيب مستهجنًا: انت لست خايف عليها؟ احنا كلنا اتصدمنا لما شوفناها، ولولا عماد هو اللي خبطها بالعربية وبلغنا بعدها، الله أعلم هي كانت ناوية تعمل إيه!!
أزال تميم يد مراد عنه بضيق ثم تابع: وع فكرة أنا بلغت المدير وطلب مني أقبض عليها وأبدأ تحقيق معاها، فيا ريت بلاش تدخل يا مراد، وسيبنا نشوف شغلنا، وما تنساش إن دي قضية تخص أمن البلد،
وهي متورطة فيها، لأنها سرقت الرمز واتسببت ف موت عساكر وظباط مالهمش أي ذنب، دة غير إنها عرضتك انت للخطر، وأي محاولة تدخل منك عشان تبرأها مش هيغير حاجة...
كان تميم يتكلم بجدية صارمة بسبب خوفه عليه، ولا يدري ماذا فعلت تلك المرة كي تجعله يشعر بالشفقة نحوها ويدافع عنها..
فيقترب منه مراد وهو يهمس من بين أسنانه بإصرار
: وإن قولتلك يا شامي مش هسلمهالك، عشان مصدق إن اللي حصل معاها ضد إرادتها!!
اصطك على فكيه بقوة: بلاش تخسر نفسك يا حديدي عشان واحدة خاينة...
شدد على آخر كلمة ليجد تميم الدماء تصعد إلى وجه مراد واحتدت عيناه، فيتابع
: لما اضرب عليك النار فريدة راحت تبلغ عن اللي حصل من غير ما تفكر، وكل دة عشان خاطر خوفها عليك .. وانت عملت فيها إيه؟ طلبت مننا نحقق معاها، ومع ذلك فضلت جنبك لغاية ما خرجت من وسط الهلاك اللي كنت عايش فيه اللي ف الآخر طلع كله وهم، كدبة حقيرة...
صرخ بسخط، فأردف: وبرضر هي مسلمتش من، وحياتها ف لحظة كان ممكن تنتهي، وبسبب مين؟ رغد .. رغد اللي رجعت عشان تدمرك من تاني!!
فكر يا مراد بعقلك واعرف مين اللي مستعد يضحي بسعادته وحياته عشان تكون بخير ومين اللي حبك لمجرد احتياج! فكر وبلاش تبقى ظالم وأناني.
رمى بكلماته في وجهه دون أدنى تردد، ثم تركه في حالة من اللا استيعاب .. فيجب أن يفيق لنفسه ويعود لعقله، يكفي ما مر به طيلة سنوات كبيسة .. تلك المشعوذة قد سيطرت عليه كليًا، هل ألقت عليه تعويذة ليسير خلفها دون ذرة تفكير؟ أم أن حبه أصبح صادقًا لدرجة أنه لا يرى هلاكها؟!
_____________
جاء المساء، كان المنزل في ذلك الوقت ينشر حالة من السكون القاتل، كل شخصًا فيه يشكوا حزنه العميق للذي خلقه، وآخرين يهربون من المواجهة..
حاول مراد أن يتكلم مع فريدة لكنها تحتبس نفسها داخل الغرفة، فلم يلبث أن يدلف ليطمئن عليها لتصرخ عليه وتنفر منه بشدة، فيضطر مغادرة الغرفة دون التحدث، رغم إرداته الشديدة في ذلك لكن تحذيرات الطبيبة منعته أن يجبرها على الإستماع له، أبلغت عفاف عن بلوغ المأذون الڤيلا..
فيدلف عز الدين إلى حجرة فريدة ابنته العزيزة، التي قد بهتت ملامحها واختفت البهجة من حياتها، لم يراها هكذا أبدًا، بل كانت دائمًا تحتفظ بتلك الورود الوردية فوق وجنتيها الناعمة..
اقترب منها وطبع قبله فوق جبهتها بحب، ثم ضم كفتيها بين راحتي يديه، ليقول بنبرة رقيقة حانية
: حبيبة أبوها أخبارها إيه؟
تنكس وجهها تتفادى النظر لعينيه، حتى لا يكتشف حزنها وتكسر فرحته، فهو بالأخير سيجتمع مع حبيبة عمره بعد سنوات طويلة.. فترد بنبرة تجاهد أن تجعلها طبيعية
: بخير يا حبيبي ... الف مبروك يا بابا، ربنا يسعدك
فتحتضنه وتطبق على جفنيها مانعة تلك الدموع الوحشية بالهبوط، لكنها سبقتها وانهالت على خديها رغمًا عنها.. ورغم محاولاتها البالغة في كتم صوت شهقاتها إلا أن عز الدين قد شعر بها،
ربت على ظهرها وهو يهمس داعيًا: ربنا يراضي عنك، ويريح بالك يا بنتي
أبعدها برفق ليضم وجنتيها بلطف وهو يهمس مشجعًا
: أوعي يا فريدة تستسلمي وتضيعي حبك من إيدك، اتمسكي بحقك لغاية آخر نفس .. كفاية اللي ضاع منك يا بنتي
اجهشت ببكاء وهي تقول: انت أحسن أب ف الدنيا
ضمها إليها وهو يقول بنبرة متحشرجة: وانتي أحلى وأجمل وأحن بنت في العالم
حثها عز الدين على التمسك بحبها وهو يبعث في قلبها القوة .. فهي مثل أبيها تعشق بكل ما فيها، قلبها طاهر نظيف، لا تكن الضغينة لأي أحد صادقة جدًا لأبعد الحدود، حتى وإن كانت تختلق الأكاذيب لا تعرف الإستمرار بها،
وبعد كل ما فعلته من أجل عشقها، تكون نهايتها الابتعاد عنه؟ وعدم ضمان وجوده بجانبها هي؟
لا والله، لن يتكرر ما حدث ماضيًا وتُعذب مثل أبيها، بالتأكيد ستنجح وتتخطى تلك المصاعب.
------------
اجتمع الجميع في ساحة الحديقة، يجلس المأذون في على الأريكة، وتوجد طاولة زجاجية صغير في المنتصف يضع فوقها دفتر الزواج .. ولا يحضر كتب الكتاب سوى أصدقاء مراد وفريدة، ونيرة قد أبلغت معتز فقط..
خرجت نيرة من غرفتها وما أن رأت فريدة هرولت إليها تضمها في لهفة، ثم قبلتها فوق شعرها...
: مبروك يا نيرو، ربنا يسعدك
قالت فريدة بنبرة خافتة يظهر عليها التعب .. تبسمت نيرة بسعادة كونها لم تتغير معها حتى بعد ما فعله مراد وأعاد رغد،
ضمتها نيرة إليها وهي تهبط الدرج حتى وصلا الإثنان إلى الأسفل معًا، فتنتبه نيرة إلى رغد التي تتقدم نحوها ترتدي فستانًا بسيط، لتقول بابتسامة
: مبروك يا أبلة نيرة
اندفعت فريدة ترفع ببصرها إليها، لتعقد حاجبيها بتعجب واستهجان لنزولها.. فتهتف بحنق
: نيرة أنا هستناكي برة، يا ريت متتأخريش!
همت بالذهاب ليوقفها هذا النمر الخائن كما أطلقت عليه مؤخرًا، وهو يهتف مناديًا باسمها بصوته المخملي الذي يُصهر جمود قلبها الأرعن..
فتلتفت ببطء وهي تحاول اظهار الجمود، ليقول بحنو وهو يتقدم إليها
: استني هنخرج سوا
: وبمناسبة إيه ان شاء الله نخرج سوا يعني!!!
سخرت، ليرد عليها متهكمًا: هو أنا بقولك رايحين نتفسح يا بنتي؟
لتنتبه فريدة لضحكة بسيطة خرجت من حنجرة رغد، فتجز فوق أسنانها بغيظ شديد، فتعود ببصرها لـ مراد وهي تصيح متذمرة
: بقولك إيه، مالكش دعوة بيا ومتوجهليش أي كلام، لأني مش هرد عليك أصلاً
واستدارت كي تترجل للخارج، لكنه أسرع وأمسك بيدها يلفها إليه باندفاع، فتصرخ به
: انت ازاي تعمل كدة؟ ابعد إيدك عني
سحبت يدها منه بنفور، بينما هو يعلق زمردتيه على حركاتها، فقد اشتاق حقًا للمشاجرة معها ولزمجرتها العنيفة... فانتبه إليها تهتف محذرة بقوة..
: إياك تحط إيدك عليا مرة تانية، انت معادش ليك الحق ف كدة.
صدرها يعلو ويهبط بأنفاس مضطربة، وعلا وجهها الاستياء .. بينما هو ثبت نظره عليها دون اظهار أي رد فعل، وهذا استفزها كانت تود رؤية الاشتعال يغلي في عينيه ويصرخ قائلًا «أنتِ ملكًا لي وحدي، ولي الحق بكِ»
لكنه خيب ظنها وهذا دفعها لتركض إلى خارج المنزل قبل تنفجر تلك الدموع من مقلتيها وتضيع كرامتها.
ألقت نيرة نظرة احتقار بين رغد ومراد ثم لحقت بفريدة .. تسير نحو الحديقة فتهرول وتجلس بجانب والدها تختبئ تحت ذراعه .. وبعد لحظات قد ظهرت نيرة، التي قد توردت وجنتيها فور وقوع عينيها على عز الجالس بجانب المأذون،
ثم جاء مراد وخلفه رغد، التي قد أثار ظهروها عبوس وجوه الجميع .. شعرت بالإرتباك من نظراتهم، وحاولت التمسك بيد مراد الذي وفورًا سحبها، ليتقدم ويجلس بجوار المأذون بالجانب الآخر،
فينتبها الجميع على صوت المأذون وهو يبدأ كلامه بالحمد لله والصلاة على رسوله، ثم شارع في بدء تسجيل بيانات مراد كوكيل لها، ثم يهتف متسائًلا
: أين بطاقات الشهود؟
أخرج خمسة أشخاص بطاقات الهوية في نفس اللحظة، ليهتف عماد..
: إيه يا جدعان دة؟ هو احنا فينا من الحركات دي؟
تميم متعجبًا: حركات إيه؟
: ماينفعش احنا الخمسة نشهد، هم اتنين بس!!
رد عليه عماد ببساطة ليقول تميم مستنكرًا
: ازاي الكلام دة؟ دة انا يوم فرحي شهدوا ع الجوازة 7 أنفار!!
قهقه عاطي ثم قال ساخرًا: يمكن عشان انت مش مضمون مثلاً؟
ضحك الجميع فرد عليه تميم وهو يلقي عليه نظرة استهزاء
: ما بلاش انت ياللي هربوا منك كل الشهود!!!
لن يتخلص أحد من مشاكسات هذان الرجلان إلى النهاية .. فحاول عماد فض النزاع بينهما ليقول
: اسمعوني طيب عشان نخلص من الحوار، أنا عن نفسي متنازل عن الشهادة دي، لأن مراد باشا وعدني هشهد ع عقده على الآنسة فريدة!
ابتسامة بلهاء ارتسمت على وجوه معظم الرجال الواقفين، بينما رغد نهضت من مكانها في دهشة ممزوجة باستياء .. ليتطلع معتز في تعجب وتشوش .. هل تحب مراد؟
لتهب فريدة من مكانها وتهتف مزمجرة..
: ومين قالك إني هتجوزه أصلاً!!!
: ما خلاص بقا!
اندفع مراد بحدة، كونها قد وجهت كلامها لآخرين وهو لا يحبذ أبدًا تتكلم مع أحد غيره، حتى نبرات صوتها لا أحد يحق له أن يستمعها سواه..
اقتطبت معالمها لتهتف: ما تشخطش فيا!
اقترب تميم من أذن عماد ليهمس: الحق ياض يا عماد، الليلة هتخرب بسببك!
ليحرك عماد رأسه قليلًا وهو يتمتم بصوت خفيض
: أنا لو اتدخلت دلوقتي مش بعيد مراد باشا يفجرنا كلنا، ويسحب فريدة بعيد عن الفيلا ويعمل معاها اللالّي!
انكمش وجهه متعجبًا: إيه اللالي دة؟
همس مجيبًا: دي حاجات لو عرفتها تبقى عمدة!
صمت تميم لثوانِ يفكر ما هو «اللالّي» ليصبح عمدة فقد شوقه هذا الأحمق لمعرفته .. فيتنبها الإثنان لهتاف المأذون
: لو سمحتوا يا شباب، كل شئ بالخناق إلا الجواز بالاتفاق، وأنا مش عايز غير بطاقتين بس
: وأنا هنا يا عم الشيخ
جاءهم صوت أسامة من بعيد وهو يدلف مع الحارس الذي يمسكه من ذراعه، ويقترب نحوهم ... فما أن رآه مراد تجهم وجهه وأصبحت ملامحه قاسية..
مالت نرمين قليلًا تهمس لـ نيرة: واضح ان جوازتك معقدة يا نيرة هانم!
انكمش وجهها بملامح باكية بطريقة طفولية، فترى مراد يتقدم نحوه وهو يصيح
: انت إيه اللي دخلك هنا؟
أزاح تميم عاطي وهادي من أمامه، وهو يشير لمراد بيده
: بس يا مراد سيبلي أنا الطالعة دي عشان اتخنقت!
تحرك نحوه ليقف أمام أسامة سائلًا: انت حرامي ياض مش كدة!
: حرامي إيه يا باشا لأ طبعاً!
أجاب أسامة نافيًا، ليكمش تميم على منكبه ويهتف بخشونة
: انت هتنكر كمان!
ارتبك أسامة من نبرته، لينهض عز الدين ويتحرك صوبه، فيأمر الحارس بهدوء
: سيبه يابني، أنا اللي عزمته .. وانت يا تميم يابني دة مش حرامي، انت فاهم غلط!
وجه عز كلامه لـ تميم، فيهتف متأففًا بطريقة مضحكة
: اللاه! ولما هو مش حرامي بتخلونا نتقمص شخصية شيرلوك هولمز ليه؟
تركه تميم بضيق ثم عاد إلى موقعه، فتمتم عاطي لنفسه
: عليا النعمة ولا حصلت حتى المحقق كونان!
صاح الحارس: أسيبه يا مراد باشا؟
أماء مراد إليه يتركه .. ليلقي عز الدين زرقاوتيه على مراد بينما يقترب ليرجع ويتابع الإجراءات، والذي احتقنت الدماء في وجهه .. جاهد عز ألا يبتسم بانتصار، كونه قد دعا أسامة كي يستفزه به، ويرى غيرته التي تبين مدى حبه لـ فريدة،
رغم أن أسامة ليس شخصًا أفضل من مراد، لكنه يحب فريدة، وهذا سبب كافي لجعل النار تشتعل في قلبه..
الجميع جلس فمد أسامة بطاقته الشخصية كي يشهد، فنفخ مراد الهواء من فمه وكأنه ينفث اللهيب .. أشار عز إلى أسامة بالسكوت ثم هتف المأذون..
: خلاص نبتدي كتب الكتاب؟ ولا معاكم خناقات تانية؟
سخر ليهمس تميم من بين أسنانه بحنق: يا عم انجز دة انت مأذون رزل!
تنحنح المأذون ثم نقل بيانات العم شفيق وعاطي، بعد أن اتفق الجميع عليهما .. العم شفيق بالطبع هو أولى من أي أحد، فكان هو شاهدًا من طرف عز، وعاطي من طرف مراد..
مد مراد يده يمسك بـ بكف عز، ثم غطى المأذون كفوفهم بمحرمة بيضاء فشرع في قول صيغة النكاح والآخريْن يرددان خلفه بترتيب، بينما مراد في تلك الأثناء يعلق حدقتيه على تلك التي قد هزت نبضات قلبه،
لا يعلم لم يفكر بها فقط وكأن العالم من حولهما متلاشي تمامًا، ولا أحدًا فوق الأرض سواهما .. فينتبه على صوت المأذون وهو يعلن رسميًا عز ونيرة زوجين بقوله الجملة الشهيرة..
: بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير
انطلقت زغرودة من نرمين ثم صاحت بمرح: أخيرًا
تهللت أسارير نيرة واتسعت بهجتها، فقامت فريدة بعناقها بفرحة وهي تهمس بسعادة صادقة
: الف مبروك يا حبيبتي، ألف مبروك
مسدت نيرة على ظهرها وهي لا تصدق أنها وأخيرًا أصبحت زوجة لأبيها، وبالتأكيد ستكون أمًا حنونة لها .. بينما رغد كانت تتطلع إليهما وهي تحسد فريدة على تلك الضمة الحانية واللطيفة، التي تتمناها طوال عمرها ولم تلقاها أبدًا..
______________
بنفس الليلة ف الساعة الثالثة فجرًا يجلس هو على أريكة بالساحة، يتذكر ذلك الوجه الرقيق الذي حُفرت ملامحه الجذابة داخل قلبه قبل عقله،
ينظر إلى السماء فيجد نجمة بارزة بها .. تلك تشبهها حقًا، لا بل سحابته أجمل بكثير، نمت ابتسامة عريضة على محياه يتذكر حماقتها اليوم وهي ترفض عرض زواجه بتذمر وكأنه بالفعل طلب يدها .. فاستمع إلى صوتها..
: بتبتسم كدة ليه؟
اعتدل ينظر لتقع عيناه على رغد التي ترسم بسمة بريئة على فمها، فيقول متعجبًا
: إنتي إيه اللي صحاكي دلوقتي؟
اقتربت تجلس بالقرب منه وهي تهتف: أنا ما نمتش أصلاً! مبسوطة لأبلة نيرة انها رجعت للي بتحبه واتجوزته!
قالت وعلامات الغبطة تعلو ملامحها، فتردف بعفوية وعينيها تلمع بوميض بهجة
: يا رب كل اللي بيحبوا بعض يبقوا مبسوطين كدة...
صمتت لوهلة ثم همست بيأس: لو ما كانش كل اللي فات حصل معانا، كان زماني مراتك دلوقتي!
تفاجأ مراد بها تنطق بكلماتها هذه، التي التفت في عقله كالمروحة، دفعته للتفكير فيما تقول .. ثم يفيق من شروده على صوت أيقظ قلبه..
: أجيبلكم اتنين لمون يطريلكم القعدة الحلوة دي، ولا أجيبلكم المأذون وتطلعوا تشربوه فوق!!!
حرك رأسه نحو التي تقف أمامه وشرارات الغضب، والكره والحقد تستقر بمقلتيها، وتقاسيمها سكنتها جم المشاعر الشرسة .. حتى جعلت مراد ذلك النمر القاسي يزدرد لعابه بعد أن أصابته ربكة وكأنه قبض عليه بالجرم المشهود .....
يتبع الفصل الخامس والأربعون اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية ظل السحاب" اضغط على اسم الرواية