رواية ظل السحاب الفصل الخامس والأربعون بقلم آية حسن
رواية ظل السحاب الفصل الخامس والأربعون
كانت تنظر لهما نظرات استهجان ونفور، بوجهها العالي بشدة والذي سيتحول بعد قليل إلى إعصار .. نهض مراد من مجلسه وضربات قلبه تعلو، يتطلع لها في اضطراب .. ابتلع لسانه غير قادر على إخراج أي كلمة .. هل أصبح خائفًا من رد فعلها الآن؟
فتصرخ به توقظه من حالة التيبس
: ما تنطق إيه اللي مقعدتك معاها ف الوقت دة؟
ردت عليها رغد بعفوية: قاعدين بنتكلم مع بعض، عادي
إجابتها هذه جعلت الغليان يسري في جميع جسدها، فتنقل مقلتيها إليها وترسم ابتسامة صفراء، وهي تقول بهدوء مزيف..
: عادي أمال إيه!! قاعدة مع حبيبي لوش الفجر فعادي بقا!
سخرت وهي تحاول الاحتفاظ بسكونها، بالكاد يهمس بصوت متلعثم..
: فريدة، أنا...
قاطعته بشراسة: انت خاين... خاين وتستاهل واحدة خاينة زيك
نعتها هذا كان كفيلًا بدفع الدماء للفوران بقوة في أوردته.. فيصيح بصوته الأجش
: فريدة!
هاتفته بنبرة حادة: اخرس وما تجيبش اسمي على لسانك، انت حيوان ومتستاهلش كل حاجة حلوة أدتهالك... فعلاً الطيور على أشكالها تقع!
قالت وهي ترمق رغد من أعلى إلى أسفل باحتقار .. استدارت لتذهب لكنه قبض على معصمها وجذبها إليه.. فتضغط على فكيها بقوة، لتهمس من بين أسنانها بشدة
: ابعد إيدك النجسة دي عني، وما تلمسنيش قولتلك!
اتسعت عينيه، لم يصدق ما يسمعه منها، أزالت يده عنها وهو يرى هيجان بحر عينيها.. نقلت نظرات اشمئزاز بينهما ثم انسحبت لتعود إلى حجرتها، لتشعر بالعبرات تسيل بحرقة على وجهها،
وكأنها في تلك المرة لم تخونها وساندتها كي لا يشعر بضعفها أمامه... يقف كالأبله يراقب تحركها وهي تغادر، غير واعي بما حدث للتو... رجعت رغد بعينيها إليه لتقول
: مراد متضايقش نفسك... مُرا...
لتجده يتركها ويهرول مسرعًا خلف فريدة، فتجلس هي بيأس مكانها .. دلف مراد إلى الڤيلا وصعد إلى غرفة فريدة والتي وجدها تحزم أمتعتها في حقيبة في غضب .. هل تنوي الرحيل؟
: فريدة انتي بتعملي إيه؟
سألها في هدوء وهو يتابع ما تفعل بعينيه، فتصرخ به متذمرة
: مايخصكش... واطلع برة خليك مع الست هانم اللي رجعتلك بعد سنين عذاب ومعاناة، رجعتلك بعد ما جرحك طاب.. بعد ما نزعت الشوك منك وزرعته فيا، وبقيت شخص سليم وطبيعي
تتمتم بكلماتها وهي تدفع بالملابس داخل الحقيبة.. تشعر بانشقاق قلبها إلى نصفين... اقترب منها وأمسك ذراعها يوقفها عما تفعل وهو يشعر بالأسى نحوها
فتردف بعينيها اللامعتان بدموع الانكسار
: 6 سنين وانت حاسس بالذنب ناحيتها، 6 سنين وانت قافل على نفسك وقلبك اللي وهبته لها، 6 سنين معذب نفسك واللي حواليك عشان خاطر وهم وكدبة دمرتك،
وأنا ظهرت ف حياتك .. جيتلك وانت متبهدل، قلبك مشوه .. حاولت بكل الطرق أوصلك إنك انسان ومن حقك تخرج من حزنك .. استحملت منك إهانات وضرب وزعيق .. عشان بس أشوف ابتسامتك منورة وشك...
لينكمش وجهها تلقائيًا ببكاء وبقلبٍ منفطر، وهي تتابع
: عملت كل دة عشان مجرد أشوف نظرة فرح ف عيونك، من غير ما يبقى عندي أي نية إني آخد حاجة منك، ف الآخر جزاتي إنك تمشي وتروح لها بعد ما رجعت من غير ما تفكر في مشاعر الغلبانة اللي اتنازلتلك عن كل حياتها..
رفعت يديها فوق كتفيه لتهزه وهي تهمس معاتبة بألم يعتصر فؤادها
: جزاتي إنك تخوني يا مراد!!!
أطبقت على جفنيها بأهدابها المبللة بدموع الغُمة، محاولة أن تسترد أنفاسها، بعد اخراج كتلة كبيرة مما تشعر به وتحتبسه داخل صدرها ..
تنبثق قطرات لامعة من هذا النمر وتنهمر الدموع فوق شفتيه لأول مرة، وهو يشعر بالاختناق في شرايين قلبه، على ما تسبب في توصيلها لهذه الحالة من الإحباط والإكتئاب ..
ليهمس بصوت متحشرج: والله ما خونتك
رفعت بصرها لتقول هامسة بصوت منكسر
: راجعة معاك البيت وإيديها ف إيدك، وتقوللي مش خيانة!! .. دة انت اتخانقت مع صاحبك لما قالك إنه هيقبض عليها ومنعته ياخدها، وتقوللي مش خيانة؟؟؟
انت سامحت رغد على اللي عملته فيك، بس أنا لا يمكن أسامحك على جرح قلبي اللي اتسببت فيه، لأنك إنسان ما بتفكرش غير ف نفسك ومتستاهلش إن حد زيي يكمل معاك حياته..
صمتت لوهلة تلتقط أنفاسها المحتسبة ثم قالت وهي تدفعه براحة
: أخرج برة، عشان مش طايقة أشوف وشك
حاول مراد التقرب منها بحالته الضعيفة، لكنها إزاحة يده بقوة لتزجره
: قولتلك ما تحطش إيدك عليا! وأخرج برة خليني أغير هدومي عشان أمشي!
: لا يا فريدة مش هتمشي...
صاح بقوة وخفقات قلبه تتصارع بين جدرانه، لا يتحمل رؤيتها في هذا الوضع، ليردف
: انتي أصلاً مش من حقك تسيبي البيت غير لما أنا آخد قرار!
آخر كلمة كانت كفيلة أن تندفع ببصرها إليه في بهوت، شطاط ناري يتسلل نحو حدقتيها ليشعل براكين الغضب بداخلها..
ضيقت عينيها: تاخد قرار؟ بقا أنا بقيت موضع اختيار بالنسبالك؟
همست باستهجان وهي تشير لحالها .. ليضيق مراد ما بين حاجبيه متعجبًا، فاستمع لصوتها الصارخ وهي وتتحرك لتلتف بالغرفة..
: بقا انت مخليني هنا عشان تاخد قرار في علاقتنا؟ محتار ما بيني وبينها؟؟
: لأ يا فريدة، والله انتي فهمتي غلط.. أرجوكي اسمعيني!!
حاول أن يشرح لها ما يقصده لكنها احتجت وشارعت في دفعه لخارج الحجرة..
: أخرج برة، وبرة حياتي كلها يا مراد، أنا متنازلة عنك ليها عشان انتوا الاتنين شبه بعض، غدارين
أزاحته للخارج قبل أن تصفع الباب بشدة خلفه، ظل يدق الباب بقوة وهو يتوسلها أن تعطيه فرصة ليوضح سوء فهمها، فهو لم يقصد أبدًا "بأخذ القرار"
بشأن علاقتهما سويًا، بل كان في نيته أن ليس من حقها الذهاب دون أن يسمح لها بذلك، فهو حبيبها وأيضًا مسؤول عنها في غياب والدها الذي راح يقضي ليلة زفافه في أحد الفنادق .. كيف سيتركها ترحل؟ ولمَ من الأساس!!
لم يكن عالمًا أن مجرد كلمة ستجعلها تضطرب هكذا وتحدث المغالطة، سُحقًا أما يجب أن يفكر قبل نطق تلك الكلمة اللعينة..
ألصق جبهته بالباب، وهو يهمس بصوته الشجِن والذي أصابته بحة تثير أوتار القلوب
: فريدة عشان خاطري اسمعيني يا حبيبي، أنا عارف قد إيه زعلتك وإنك عانيتي كتير بسبب تهوراتي، وإني مستاهلش أي حاجة عملتيها عشاني، بس أنا عايزك تعرفي إني بحبك أوي أوي، وإنك لو بعدتي عني هدمر بجد، انتي متعرفيش أنا حاسس بإيه ولا دموعك بتحرق ف قلبي ازاي،
انتي حبي الحقيقي، لو خسرتك هبقى بخسر نفسي ومش هقدر أكمل حياتي بعدك، اديني فرصة أثبتلك حقيقة مشاعري، أرجوكي!
أطبق على جفنيه بقوة، مشددًا على آخر كلمة في إلحاح .. كانت الأخرى تتابع ما يحدث من أمام غرفتها، مبهوتة من انهياره والذي لم يفعله أبدًا معها، هل يخاف فقدانها؟
ماذا فعلت تلك الصغيرة كي تدفعه للخضوع أمام راحتها لهذه الدرجة؟ يا لحظها الوافر.. ليتها لم تستمر في خدعتها كان ليصبح هذا الضعف تحت قدميها!!
ابتعدت فريدة عن الباب وهي تمسح دموعها، تكافح بكل الطرق ألا تنقاد نحو مشاعرها تأثرًا بكل سهولة من نبرات صوته الحريرية .. نبضاتها بدأت تزعجها بسبب رج قلبها الذي كاد يكسر قفصها الصدري محاولًا الزامها بالإنصياع له،
لكنها ترفض بشدة واهية .. أغلقت الحقيبة، وسحبتها بعد أن أنزلتها من فوق الفراش وتحركت نحو الباب والذي كان موصدًا من الخارج، حركت المقبض في تأفف، ثم ضربت الباب براحة يدها متذمرة،
ليستمع مراد إلى صوت ارتطام عنيف بالأرض، أسند أذنه على الباب يتصنت على صوتها ليطمئن عليها، فسمع تمتمات حانقة فابتسم بخفة ثم عاد يجلس أمام الباب على مقعد كمراقب لها بقية الليل..
___________
: أهي نيرة اتجوزت يا نانسي، قولتيلي هتتصرفي قبل ما يحصل ومعملتيش حاجة؟
صاح عثمان تذمرًا، والعبوس يسيطر على ملامح وجهه.. فتندفع الأخرى ملتفتة إليه وتهتف متأففة
: أنا مايهمنيش نيرة ولا زفت، أنا كل اللي يهمني هو انتقامي من مراد .. وبعدين تعالى هنا هي نيرة عملتلك إيه عشان تكرهها كدة؟ دي حتى لا بتصد ولا بترد!!
همس بحقد ووميض الغل ينفجر من مقلتيه
: أنا بكرههم كلهم، حتى يوسف أخويا بكرهه، وما كنتش عايز حد فيهم يبقى سعيد ومبسوط ف حياته، عشان كدة كنت بحاول بكل الطرق أهدم سعادتهم!
ضيقت نانسي عينيها بعدم فهم، وهي تتابع سير عثمان أمامها فيجلس ع أحد المقاعد، ليردف قائلًا بنبرة شجية وهو يتطلع للا وعي متذكرًا..
: زمان لما جه أخويا يوسف الدنيا، أبويا وأمي كانوا فرحانين بيه وكنت أنا تقريباً عندي 6 سنين، كانوا مهتمين بيه أوي عني، وبيجبوله كل حاجة نفسه فيها،
أنا سابوني تربيني الدادة، وهو كان واخد كل الإهتمام والحب، حتى لما كبرنا برضو كان هو الابن الجميل والطيب عندهم .. لغاية ما جات اختي نيرة اللي ماكنتش أقل من يوسف ف الحنان خدته،
التمعت عيناه بغشاء من الدموع، فيكمل بصوت حزين متأثر
: ولما كنت بسأل أبويا وأمي، ليه مش بتحبوني زيهم؟ كان ردهم.. عشان هي آخر العنقود وأخوك كان تعبان بمرض القلب لازم نهتم بيه... حجج خايبة ملهاش أي معنى بالنسبالي، غير إنهم انهم ظَلمة وأنانيين، كنت حاسس بفرق كبير بيني وبينهو، بسببهم زرعوا جوايا الغيرة من صغري،
وعملوا فجوة بيني وبين اخواتي، فبقيت بكرهم ويتمنى أشوفهم متعذبين! عشان خدوا مني كل حاجة حتى انتوا فرق ف معاملتكم، كان جدك يفضّل مراد عليكم ويدلعه ويجيبله هدايا أما أخوكي معتز كان آخر همه!!
لينهض وهو يهمس بنبرة شيطانية وهو يسير بططء وتلحقه نانسي
: فقررت بعدها إني أحطمهم زي ما حطموني، وكانت نقطة ضعفهم كلهم هي نيرة، روحت لعز وهددته لما حسيت إن أبويا هيتساق ورا مشاعره ويوافق على طلبها، برغم قوته وعجرفته، إلا إنه كان ممكن يوافق لو ضغطوا عليه،
وأهي عاشت شبابها كله من غير جواز، رغم إن حالها عرسان من كل الأصناف، سُفرا ومهندسين ورجال أعمال، أكبر الشخصيات العامة كانوا مستعدين يترموا تحت رجليها بس توافق،
بس هي كانت بتحب عز الدين ومستعدة تموت ولا تبقى لراجل غيره، أبويا من صدمته فيها وخوفه عليها، بعت يدور على عز ف كل مكان وكل حتة عشان يجوزه ليها، لأن باللي بتعمله دة هتضيع عمرها وتخسر أجمل سنين شبابها،
بس عز كان ساب الحتة اللي كان ساكن فيها، وأنا طبعاً عملت المستحيل عشان ما يوصلش له، لغاية ما فجأة تعب أوي ومات بعدها على طول،
ليستدير لها وعيناه تشرق بهجة وفرحة بما صنع
: بس عارفة إني فرحت أوي لما مات وهو زعلان عليها، حسيت إني خدت شوية من حقي
اقتربت منه وتضع راحتها فوق منكبه لتقول بنبرة حاسمة وكأن الحية السامة هي من تتكلم
: ولسة يا بابا، هكملك انتقامك لما أدمر حياة مراد على الآخر، انت بس خليك ورايا وصدقني هتشوف ازاي كل دة هيتقلب عليهم!
___________
وقف مراد بسيارته أمام مبنى المخابرات .. ظل باقي الليل يجلس بجوار باب الغرفة يحرس فريدة ليس لأجل الهروب، لكن بين الوقت والآخر يدخل خُفية كي يطمئن عليها، هل هي نائمة أم ما زالت مستيقظة،
ليجدها مستغرقة في نوم عميق تحتضن وسادة كمن تود أي شيء يضمها ويربت على ظهرها تستمد حماية وطمأنينة منه،
يا لحظها تلك الوسادة فصغيرته الحبيبة والجميلة، تحتضنها بين ذراعيها الحنونين، والذي يهوى وبشدة الولوج إليهما والسكون بين عطفهما المنان...
استمر في إطلالاته عليها إلى أن فردت الشمس نورها فوق سطح الأرض، تضئ ما حولها وتكشف حقيقة قلوب البشر .. فتركها وذهب يتحمم ثم ارتدى ملابسه وخرج يتابع مهامه حتى ينتهي من هذه الحرب التي تسببت في تشتيتهم عما كانوا ينوون...
ولج مراد داخل الجهاز فيتحرك نحو المصعد الكهربائي ويركبه ثم بعد ثوانٍ بسيطة يقف به ويدخل إلى أحد المكاتب، ويلقي التحية العسكرية إلى اللواء حسين..
اقترب منه مراد وسلم عليه بحرارة ثم أشار إليه اللواء بالجلوس..
: اللوا سميح كلمني، وقاللي على اللي انت طالبه، بس انت متأكد من اللي عايزه دة؟
هز مراد رأسه ببطء، وعيناه تلمع بوميض حازم، ناويًا إنهاء جميع الصراعات.
__________
فتحت جفنيها وهي تتطلع إلى المكان ثم هبت من مضجعها، ونهضت من السرير فورًا متوجهة صوب الباب .. ضغطت فوق المقبض لتجده ينفتح بسهولة .. لم يود مراد حبسها هو فقط أراد تهدئتها وإرسال اليقين لفؤادها..
خرجت فريدة وهرولت صوب الدرج، لكنها توقفت فجأة وعادت أدراجها فتلمح حجرة مراد مفتوحة .. تعجبت، فهي تعلم أن له فترة لا يدلف إليها .. أذًا مَن من الممكن أن يدخلها؟ هل...؟
اصفر وجهها الذي يتحول تدريجيًا إلى اللون الأحمر، لتهرع في اتجاه الغرفة فورًا، وتدلف للداخل بعد أن فتحت الباب على الأخير بعنف .. لتراها تقف تتأمل المكان بشرود واليأس والأسى يحيط معالمها،
فتنتفض للصوت الذي أصدره الباب عندما دفعته فريدة واصطدم بالحائط.. لتلتفت في ربكة..
: انتي إيه اللي دخلك الأوضة دي؟
هتفت فريدة بحنق، والغضب يشتعل في حدقتيها .. فتتلعثم الأخرى وهي ترد
: أنا...أنا كنت بس...
قاطعها بنبرة يائسة: انتي إيه يا شيخة؟ معندكيش إحساس؟ جاية تتسهتني عليه عشان يرجعلك؟
نفت برأسها ثم همست: والله لأ، أنا بس سمعت صوت غريب ف الأوضة واتفاجئت...
قاطعتها وهي تحاول تمالك نفسها: أيوة، دة صوت عفشك اللي كاره وجودك!
سالت دموع رغد وهي لم تكن على علم بأن مراد ما زال يحتفظ بأشياءها القديمة .. ضحكت فريدة ساخرة
: لا يا قلبي دموعك دي توفريهم لمراد، لكن أنا...
أصدرت صوت من شفتيها المكتنزة للأمام يدل على النفي وهي تحرك رأسها نفيًا
: تؤتؤ مبتأثرش بدموع الندم دي! أصل أنا بكره الخاينين واللي بيقطعوا الإيد اللي اتمدت لهم
قالت باحتقار وهي تطبق على أسنانها، لترفع رغد وجهها وتزيل دموعها بضعف، لتهمس بتقطع في صوتها
: أنا عمري ما خنت مراد، بس الظروف جبرتني أعمل كدة!
ضحكة موجوعة انطلقت من حنجرة فريدة، فتنظر لأعلى وهي تحرك مقتليها المبتلة بحزن، لتهمس بصوت متحشرج وهي تشعر بثقل في خفقات قلبها الصغير..
: أنا كمان الحياة حطتني جوة دايرة كبيرة أوي عليا، فضلت تخبط فيا بمصاعبها، وملقتش حد يخرجني منها ويحطني ف مكان دافي يطبطب عليا..
رفعت رأسها تنظر نحوها: لكن انتي لقتيه، وكان مستعد يديكي كل اللي بتحلمي بيه، ومع ذلك روحتي واتفقتي عليه مع ناس زبالة عايزين يوقعوه، ويدمروا حياته وبإيد مين!!! بإيدك انتي.
صرخت بعصبية، جعلتها تجهش باكية: والله غصب عني، انتي متعرفيش أنا اتعرضت لإيه ولا كنت بتعذب ازاي ف بعدي عنه، كنت بموت
: انتي لو بتحبيه بجد كنتي موتي نفسك على إنك ترجعيله تاني وتجرحيه، رجوعك مالوش أي مبرر غير احتياجك له!
قالت بصوت مختنق: حاولت أموت نفسي بس قدري جمعني بيه، وخلاني أشوفه تاني
لتصرخ بوجهها: لا مش قدرك! انتي مالكيش نصيب ولا قدر مع مراد، أبدًا يا رغد.. أبدًا، عارفة ليه؟ عشان ربنا ما يرضاش بالظلم، ربنا جمعه بيا أنا عشان احنا لبعض، ومكتوب علينا من فوق سابع سما إننا لبعض، ظهورك ف حياتنا تاني مش هيغير اللي مكتوب...
ربنا بس بيختبر صبرنا وبيختبر قوة حبنا، وأنا واثقة إن مراد قلبه ودمه بيجري فيهم اسمي أنا وبس.
قالت هكذا حتى تؤكد لها بأن ليس لها مكان بينهم، وأن ندمها لن يغير أي شئ في حقيقة عشقها الأوّلي... فترفع رغد بصرها إليها وتهمس بعد أن ابتلعت ريقها
: خلاص سيبيه هو يختار ما بينا لو واثقة فـ حبك كدة، واتأكدي لو اختارك هبعد عنكم!
اتسعت عيني فريدة بذهول، أهي تنتظر أن يختارها؟ كيف لها أن تفكر بهذا؟ احتبس الدم في وجهها وبدأ يتحول هذا الغيظ إلى أنفجار.. دفعتها فريدة بقوة حتى سقطت للخلف فوق الفراش.. واقتربت منها تميل بجذعها لتحاصرها بين يديها..
: انتي لسة عندك أمل إنه يختارك؟
حاولت ألا تظهر خوفها، بل تشجعت وتمسكت بحقها الوهمي
: أنا أول حب لـ مراد، وهو محتفظ بذكرياتي كلها ف أوضته قبل قلبه!
كانت تشير بعينيها حولها مؤكدة كلامها .. عبست ملامح فريدة، أحست أنها تريد أن تنهش أحشائها بين أسنانها .. لم تكتفِ بذلك بل تابعت قائلة بنبرة خفيضة
: انتي نفسك يا فريدة عارفة كدة، بدليل إنك محاولتيش تطرديني، بالعكس كنتي عايزة انتي تسيبي البيت عشان عارفة إنك ملكيش مكان فيه او ف قلب مراد، هو بس كان محتاج ينساني بيكي!
ضُخت النيران من أول رأس فريدة إلى آخر قدمها كأنها المدخنة.. وستُحدث انفجارًا سيأكل كل ما حولها حتى هي ستحترق بتلك النار..
اعتدلت فريدة فورًا وتيبس جسدها لبرهة من الزمن وهي تنفث أنفاسًا متأججة، تلامس رغد التي أحست بسخونة الهواء حولها، غير نظراتها الشرسة جمدت الدماء في عروقها..
ورغم ذلك لم تحاول أن تغير حديثها، بل أصرت على موقفها وأن لها الحق به كمثلها .. بعد كل المعاناة التي عاشت فيها، لن تتنازل عنه!
ضيقت ما بين حاجبيها في تعجب وهي تجد فريدة قد التفت وهرعت للخارج سريعًا .. تركض فريدة بالممر وهبطت الدرج وهي تشعر بالاختناق يسبح في صدرها..
هرولت بسرعة إلى المطبخ تطوف بعينيها كمن تبحث عن شئ، فتدخل السيدة عفاف لتجدها فتتساءل
: بتدوري على حاجة يا فريدة؟
لم تجيب بل يبدو أنها قد حصلت على ما تريد، تحركت نحو منضدة المطبخ لتمسك بصفيحة زيت مقاوم للصدأ ويشتعل بفعل النار.. حملته ثم جذبت علبة الثقاب، فترجلت بسرعة لتصعد الدرج وتعود حيث كانت، تحت نظرات جميع العاملين..
فتسائلت احداهن: هي فريدة واخدة الجاز ليه؟
ردت عفاف بارتباك وهي تنظر للأعلى: مش عارفة .. أنا لازم أكلم مراد باشا!
___________
خرجت نانسي من الڤيلا لتجلس بالساحة على الأريكة واضعة ساقًا فوق الأخرى .. ترتدي سماعات الأذن وهي تحادث أحدهم..
: جاهزين وعارفين هتعملوا إيه؟
ليأتيها صوته من السماعة: متخافيش يا آنسة، احنا قدام البيت دلوقتي، مستنيين الوقت المناسب وهنفذ!
هاتفت محذرة: خدوا بالكم كويس، وأول ما تنفذوا أدوني ماسدج! .. سلام
أغلقت نانسي الخط ثم تنهدت بقوة كأنها على وشك الانتصار وبلوغ نجاحها، فتهمس لنفسها ببسمة لعوب
: خلاص هانت يا مراد، بحق القلم اللي خدته منك لكون مغرقاك ف الجحيم!
__________
دلفت فريدة مرة أخرى وهي تمسك بالزيت، فانتبهت لها رغد.. التي لاحظت ما في يدها وهربت الدماء من وجهها، لتتساءل باضطراب في نبرتها
: انتي هتعملي إيه؟
رفعت بالصفيحة البلاستيكية واضعة راحة يدها أسفله والأخرى ممسكة باليد، لتهدر بتمرد
: ناوية أحرق كل ذكرياتك عشان ما يبقاش في حاجة ليكي لا ف قلبه ولا ف بيته!!
قالت بنبرة مرتجفة: بلاش جنان يا فريدة، اللي بتعمليه دة مش هيغير ف الواقع حاجة!
صرخت بعنف: اخرسي... لو الواقع إني أكون شريرة ف نظر مراد ف أنا مستعدة أعمل كدة، ولا إنك تهدي اللي بنيته!
تحركت حتى تنضح الزيت في كل ركن من الغرفة، الستائر، الأرضية، الفراش، والخزانة، كل شئ... حاولت رغد منعها لكنها كانت في حالة غير واعية، فدفتها بعيدًا عنها...
: يا مجنونة هتولعي في البيت!
صرخت عليها، فلم تكترث.. تابعت حتى أفرغت كل ما في الوعاء ورمته بعيدًا، لتخرج من جيبها علبة ثقاب وتشعل عودًا،
اندفعت رغد تطفئها وهي تصيح بذعر: لا أنا مش هسمحلك تحرقي الأوضة، ابعدي..
هجمت عليها وحدث بينهما مشادة وأمسكت برسغ فريدة، وتحاول النفخ في عود الثقاب المشتعل بين أناملها، لكن الأخرى لا تعطيها فرصه بل مصرة أن تجعل تلك الغرفة كالرماد، لا أحد يمكن منعها ولا حتى مراد نفسه، فستفعلها حتمًا، وقد سبق السيف العزل حقًا...
بينما الإثنان يتنازعان قد انغرست أظافر رغد في جلد فريدة، فصرخت متألمة فانفرج أصابع كفها ليسقط العود فوق الأرض المبللة بالسائل وتنشب النار فورًا لتتسلل في أحشاء الغرفة فتشعل حريقًا هائلًا، وكل هذا حدث في ظرف ثوانٍ بسيطة..
لتبتعد رغد وهي تصرخ بفزع، تهرع من الغرفة .. كانت عفاف قد صعدت الدرج حتى تلحق بفريدة بعد أن اتصلت بمراد ولم تتلقى إجابة منه .. لترى الدخان يخرج من الغرفة ورغد فقط هي من خرجت، ارتعدت خوفًا على الأخرى فقد أوصاها مراد عليها قبل أن يغادر في الصباح،
وهي بالتحديد لذلك كانت تراقبها جيدًا، صاحت تصرخ في العاملين بهلع..
: اتصلوا بالمطافي بسرعة، أوضة مراد باشا بتولع
ركضت على الفور نحو مكان الحريق تلحق بتلك التي تملي نظرها في النار التي اندلعت في جميع الأثاث، لتخمد هي بركانها التي تغلي داخل وجدانها، لقد قادها تلك اللعينة إلى الجنون.. لتقتحم عفاف عليها خلوتها وتسحبها بسرعة للخارج..
أبلغت إحدى العاملات رئيس الحرس حتى يلحق ويتصرف كي يطفئ النار..
انشغل البعض في إطفاء الحريق .. بينما بالخارج وقفت سيارتان أمام ڤيلا مراد ونزل منهما أشخاصًا غرباء يحملون شومات وعصيًا، ثم بدأ يتعاركون مع بعضهم البعض متسببين في زوبعة كبيرة وحالة من الهيجان،
جعلت الحراس يتدخلون ويحاولون فض النزاع .. نزلت فريدة مع الجميع بعد أن تدخل رئيس الحرس، لكنها وبعد لحظات قد تسللت خلسة من بينهم وخرجت وهي مقررة ترك المنزل لتصل إلى البوابة الرئيسية فتجد حشد من الناس يتضاربون فيما بينهم والحراس منشغلون معهم .. وهذا ساعدها كثيرًا على الخروج بأمان..
ليراها العم بركات وهو يصرخ عليها مناديًا: يا ست فريدة ارجعي .. الحقوا يا رجالة الست فريدة خرجت لوحدها
كانت رغد قد تحركت وهرولت خلفها، لتجد فجأة وفي لحظة أن عربة تقف فورًا، فيهبط أحد الملثمين ليسحب فريدة بداخلها قبل أن يتيح لها فرصة الصراخ بالنجدة .. الحراس غير مباليين بما يحدث، فراح العم بركات يخبرهم سريعًا، فلقد كانت الأصوات عالية نتيجة التشابك الحاد...
يتبع الفصل السادس والأربعون اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية ظل السحاب" اضغط على اسم الرواية