رواية سمال الحب الفصل الحادي عشر بقلم مريم محمد
رواية سمال الحب الفصل الحادي عشر
_ أعِدها إليّ ! _
متأنقًا، وسيمًا، خلّابٌ للأبصار، كان "رزق" الليلة، يختال بحلّته السوداء كليًا، لكن مسحة التجهم على وجهه لا تزول أبدًا، مبديًا بها عدم رضاه عن تلك الزيجة، ليس بيديه حيلة ما إذا كانت شقيقته تريد ذلك، و ليس لأنه لا يحب "علي".. إنما الأمر يتعلّق بالصورة العامة كلها
إنها حياة لا يتمناها لنفسه لو كانت له القدرة على الاختيار، في موضعٍ آخر لم يوفر جهدًا لينصح شقيقته و يمنعها بكافة سُبُل العقل _ دون أن يفصح لها عن مدى إجرام عائلتها _ لكنها لم تصغي إليه أبدًا، طوال الستة أشهر المنصرمة، و منذ علم بخطة أبيه و أنه ينوي تزويج "نور" لإبن عمه "علي" خلال إسبوع، ثار و إنتفض و رفض الزواج علانيةً، رفض بكل ما أوتي من قوة و إستطاع أن يؤخر الزفاف كل تلك المدة، لكنه للأسف.. كان مجرد تأخير، و الليلة سيُقام
وا أسفاه على "نور" ...
إذ أعماها الحب المراهق، الحب الذي شب و نما معاها و هي سجينة برجها العاجي، تاقت للهبوط من البرج خصيصًا لأجله، ثم لأجل حبها ذاك، كم هو خائف.. يخشى عليها كثيرًا من الصدمات التي تنتظرها
لكنه على أيّة حال سيظل معها، و لن يتركها أبدًا، هذا عهدًا قد قطعه على نفسه، سيبقى حتى لو مكرهًا من أجلها، ثم عندما يحين الأوان الأوان، عندما تطلب بلسانها، سوف يأخذها و يرحل بلا رجعة، إنه يؤمن بذلك، حتمًا إن لم يكن اليوم فغدًا، سيخرج نهائيًا من هذا المستنقع ...
-بـ. بـ با بـااااعععهه !
ملأت تأتأة الرضيعة ذات النصف عام أذن أبيها طربًا و هي تحاول نطق صفته بالنسبة لها، بينما تترقرق عينا "رزق" دموعًا فرحة و هو يستمع إليها و يشجعها ...
-شطوورة يا كوكي. قولي. قولي كمان مرة.. بابا. بابا. أنا بابا يا روحي ..
كان يجلسها على حجره، هنا بحجرة أمها، بينما الأخيرة تنهي ارتداء ثوبها المخصوص من أجل زفاف شقيقة زوجها، لم تستطع منع نفسها من الابتسام و هي تراقب اللحظات الخاصة بين الأب و إبنته ...
-بااباااعععهه !
نطقتها الرضيعة هذه المرة أسرع و بشكلٍ أكثر مثالية، فأشرق وجه أبيها و ضمها في حضنه بحنانٍ يُهدهدها و يُقبّلها :
-روح بابا. و قلبه.. معقول أنا عندي بنت قمر أوي كده ؟ قوليلي إيه الحلاوة دي بس. أنا عايز أكلك أكل ..
و أخذ يدغدغها و يداعبها في أكثر المناطق حساسية للضحك بجسمها الصغير و هي تكركر بين يديه بصوتها الحلو، اقتربت "نسمة" منهما لتراه يكاد يلتهما بقبلاته كما نوّه للتو، فعلّقت بحيادية :
-على مهلك يا رزق. ماتعودش البت على التصرفات دي كفاية بوس فيها
يلتفت "رزق" نحوها في نفس اللحظة هاتفًا بغلظة و قد إنتفخت أوداجه :
-تصرفات إيه إنتي انتجننتي يا نسمة..دي بنتي !!!
بررت في الحال :
-عارفة إنها بنتك و ماقولتش حاجة. بس مايصحش تتعود على كده. بعدين لما تكبر كل من هب و دب يمسكها و يبوس فيها بالشكل ده. اخواتك بيعملوا فيها زيك كده و انا مابعرفش أفتح بؤي معاهم و انت عارف ليه
ظل يرمقها بذهولٍ متمتمًا :
-لأ انتي اتجننتي على الآخر.. انتي سامعة بتقولي إيه ؟ إنتي لسا قايلة اخواتي. اخوااااتي. يعني عمامها بردو في مقامي بالظبط ...
و لا يعرف ما الذي أخرسه فجأة و جعل عقله يستحضر و يُفرض أمام عينيه صورة إبنة عمه و زوجته "ليلة"، قضيتها ما خالها و كلمات "نسمة" ترابطت أمام عينيه و تردد صداها في أذنيه
لعلها محقّقة بالفعل، ألم تكن "ليلة" في كنف خالها، و الخال في مقام الوالد ؟
هو الذي داس عِرضها و هتك براءتها، أجل، أجل "نسمة" على حق، و تلك الوساوس و إن كانت مبالغ فيها ينبغي أن يأخذها بعين الاعتبار، ليحافظ على إبنته و يدرء عنها كافة الشرور ما ظهر منها و ما بطن ...
-أنا آسفة !
أفاق "رزق" على صوتها، تطلع إليها ثانيةً لتستطرد مقرّة :
-انا غلطانة و انت عندك حق. جايز أكون شطحت بتفكيري دول عمامها فعلًا. معلش أعذرني انا ماعرفش أوي في المشاعر دي. انت عارف اني مقطوعة من شجرة و لا عرفت لي أب و لا أم و لا خال و لا عم.. آسفة حقك عليا
و تبسمت في وجهه و هي تنحني لتلتقط زوجيّ حذائها ...
الآن و قد عاد التجهم يغزو ملامحه من جديد، لم يحاول إزالته و هو يقوم واقفًا و يمد "كاميليا" الصغيرة بثوبها الباهظ متعدد الألوان لأمها قائلًا :
-طيب خدي البنت. كملي لبسها و شبّعيها كويس قبل ما تطلعوا ...
و أكمل بجديةٍ : ماتسبيهاش من إيدك أبدًا. لو نامت تدخلي معاها
سألته رافعة حاجبيها :
-يعني لو حد أخدها مني. من أهلك أقوله لأ ؟!
فكر للحظاتٍ دون أن يحيد ناظريه عنها، ثم قال بحزمٍ :
-لأ ماتقوليش لأ. بس عينك تبقى عليها. ماتتواربيش عنها لحظة يا نسمة. إنتي المسؤلة قدامي عن بنتي سامعة ؟
اومأت له بانصياعٍ :
-حاضر يا رزق. ماتقلقش ما هي بنتي بردو
تنهد بعمقٍ و هو يهز رأسه بخفةٍ، ثم مسح على رأس الرضيعة المكسو بالشعر الأشقر الفاتح، كان سيلتفت ليخرج و ما كاد يفعل، ليندفع باب الغرفة لأول مرة و يقتحم أحدهم خلوته
إستدار بطرفة عينٍ متحفزًا غاضبًا و صاح بوجه الدخيل الذي لم يكن سوى أخيه الأصغر "حمزة" :
-إيه ده. إيه إللي بيحصل ده. إزاي تدخل علينا بالشكل ده يابني آدم ؟؟!!!
نوعًا ما تراجع انفعال "رزق"... بينما يخبره "حمزة" ذو الوجه المصفرّ من بين لهاثه المهتاج :
-رزق. إلحق. أبويا عايزك حالًا
استنطقه "رزق" بارتيابٍ كبير :
-في إيــه ؟؟؟
أفصح له الأخير مرتجف الأطراف :
-سلمى.. سلمى هربت !
____________________
قبل يوم ...
الضغط عليها من كل إتجاه، كان عليها أن تتفادى لفت إنتباه أخيها الكبير إليها، بعد أن وعدته بقطع علاقتها بحبيبها، كان يجب أن تجعله يصدق أنها برت بوعدها، خاصةً و أنه لا يقتحم خصوصيتها، لكن وعيده كان كافيًا
من ناحية أخرى، عبر تواصلها السري مع "عاصم" أبدى لها نفاذ صبره، و بلغها قراره النهائي بأنها إن لم تهرب معه ليلة غد و هي الليلة الأنسب لهروبها بما أن الجميع سينشغل بالزفاف، فإنه سيتركها هذه المرة حقًا
قضت الليل كله تحارب خوفها، كانت مترددة كثيرًا قبل الإقبال على تلك الخطوة، كانت تعلم بأن لا رجعة إن إتخذتها، هذا ما آخرها لكل هذا الوقت
لكن ما أن أتى النهار حتى قامت و عقدت النيّة أخيرًا، من دون أن تأخذ أيّ شيء معها، رافقت فتيات العائلة، أختها نصف الشقيقة و "ليلة" و "فاطمة" الحبلى بجنينٍ ذكر في شهره الخامس
كلهن توجهن إلى مركز التجميل الأشهر بقلب المدينة، و في منتصف الطريق تذرعت "سلمى" بطارئٍ و قطعت رحلتها مع البقية على أنها سوف تعود إلى الحي
لكنها لم تعد
بل ذهبت رأسًا عند حبيبها، إلتقت به في المكان الذي حدده بعيدًا عن أهله و أهلها ...
-أخيرًا ! .. قالها "عاصم" غير مصدقًا
سمح لها أولًا أن تتقدمه إلى داخل البيت الحجري المؤلف من طابقٍ واحد، لم يكن هناك غيره بهذه المنكقة النائية، ما أثار ريبة "سلمى"، لكنها إلتزمت الصمت
خطت إلى الداخل بترددٍ و عيناها تتفحصان محتويات المكان الذي كان عبارة عن صالة كبيرة مرفقة بمكبخٍ مفتوح، و غرفة نوم و حمام متجاورين، و الأثاث و الفُرش لا بأس بهم، بدا كل شيء هنا جديدٌ و منظّم ...
-أنا مش مصدق نفسي يا سلمى !!!
إلتفتت "سلمى" لتواجه محدّثها
لم يهتز جفن "عاصم" و هو يواصل النظر إليها بقوةٍ مكملًا :
-نفذتي وعدك بجد و جيتي ليا. أطلبي إللي إنتي عايزاه مني
بنظرتها المكسورة و لهجتها الخائفة قالت :
-عـ عاصم.. ماينفعش أقعد معاك هنا منغير صفة. لازم نتجوز بسرعة.. و إلا هارجع. قبل ما حد يكتشف المصيبة دي !
إنقلبت تعابيره المنفرجة بلحظة ليصير وجهه أكثر وجومًا و هو يقول بقتامة :
-ترجعي ! بقى بعد ما سيبتي كل حاجة وراكي جاية دلوقتي بتفكري في الرجوع ؟ و لا تحوني ندمتي يا سلمى ؟
هزت رأسها نفيًا و قالت باضطرابٍ عصبي :
-لأ طبعًا ماندمتش. بس خايفة.. إنت دلوقتي بتفكر في إيه عاصم فهمني لو سمحت !!
كتمت شهقة مفاجئة حين رفع كفه بلمح البصر و أحاط به خدها الطريّ، ارتعشت تحت لمسته بينما يطمئنها متمتمًا :
-ماتخافيش يا حبيبتي. إنتي خلاص بقيتي معايا. مع حبيبك.. أنا مش هضرك أبدًا. بليل هانتجوز يا سلمى. مش هالمسك إلا و انتي مراتي. ماتخافيش !
_______________
وقفت "ليلة" أمام أفراد العائلة، أغلقوا باب الشقة عليهم، كلهم يحدقون فيها و هي تدلي أمامهم بأقوالها مخاطبة زوجها فقط :
-في نص الكريق قالت إنها نسيت إن صحباتها جايين و فيهم واحدة ميك آب أرتيست هاتعملها مكياج. وقفنا العربية و نزلت بعد ما تحايلت عليها بس نوصل و أبعت معاها السواق يرجعها. مارضيتش خالص و صممت ترجع لوحدها. بعدين لما خلصت أنا قلت أرجع البيت لوحدي أقف مع الستات أعمل معاهم أي حاجة اساعد خاصة فاطمة بطنها مليانة و ماتقدرش تعمل مجهود.. بس إتصدمت لما سألت حمزة و قالّي سلمى مارجعتش من ساعة ما مشيت معانا.. أنا قلبي مخلوع عليها يا رزق !!!
و أمسكت بساعديّ زوجها متطلعة إليه بخوفٍ حقيقي عبر عيناها المرسومتان بالكحل السميك ...
شق صراخ "سالم" المنفعل الأجواء من حولهما :
-هاتكون راااااااحت فيــن. بنتي راحــت فيــن. أختكــوا فيــن ؟؟؟؟؟
كان "رزق" يمسك برأسه الذي راح يطن الآن باعترافات أخته و حديثهما السري قبل بضعة أشهر، ها قد حدث ما كان يخشى منه، ها قد نقضت "سلمى" بالعهد بينهما
ماذا عليه أن يفعل الآن ؟
هل يقول لهم الحقيقة ؟ هل يخبر زوجة أبيه الباكية هناك أين إبنتها ؟ هل يخبر أبيه نفسه ذهبت "سلمى" ؟
كيف عساه ينطقها ؟ كيف ؟؟؟؟؟؟
-فين علي ؟ فين علي الجزار ؟؟؟؟ .. تساءل "رزق" متلفتًا حوله كالسكارى
قفز "حمزة" مجيبًا إيّاه :
-راح يجيب نور من الكوافير و خد معاه عمي إمام و خالتي نجوى
سأله "رزق" سؤالًا آخر بينما يستلّ هاتفه من جيب سترته :
-عمك عبد الله فينه ؟
-تحت مع ستي هو خالتي عبير. أنده ؟
-لأ !
يضع "رزق" الهاتف فوق أذنه، الكل صار يراقبه هو الآن، أخيه "مصطفى" مطبقًا فاهه و قد أخرسته الصدمة و شلّه الفزع على شقيقته و ما يمكن أن يكون قد حدث لها
لحظاتٍ و صدح صوت "رزق" الحاد كالسكين القاطع :
-علــي.. إرجع حالًا. هات نور و إرجع على البيت حالًا.. مافيــش فــرح. الفرح إتلغــى. سلمى مش لاقيــنهاااااااا ...
و أغلق في وجهه صارخًا، ثم ألقى بهاتفه تجاه الحائط بكل قوته، ليسقط متهشّمًا قطعة قطعة
في نفس اللحظة يدق هاتف "سالم".. فينتزعه بعنفٍ من جيب عباءته
القى نظرة فإذا هو رقم إبنته المغلق منذ الصباح، رد بسرعةٍ و لهفة منفعلة :
-سلمــى. سلمــى.. إنتي معايا ؟ ررررردددددي عليــا يا سلمــى !!!
ثوانٍ و أتاه صوتها المتردد :
-بابا !
بكل ما فيه من لوعةٍ و عصيية صرخ عبر السماعة :
-سلمى. إنتي فين يا حبيبتي ؟ قوليلي مكانك فين. جرالك إيه يا سلمى رررددددي عليــاااا ...
-ماتخافش عليا يا بابا.. أنا كويسة
أُخذ "سالم" و هو يسألها غير مستوعبًا أيّ شيء :
-أمال إنتي فين طيب ؟ فينك كل ده ؟ مارجعتيش البيت ليه ؟؟!!!
مع اقتراب "رزق" منه كالأسد المتربّص، جاء جواب "سلمى" الصادم :
-أنا مع عاصم يا بابا. هربت معاه عشان نتجوز أنا و هو !
جحظت عينا "سالم" إلى حد أرعب الجميع، و تراصوا في هذه اللحظة أمامه مباشرةً محملقين به، بينما يتخلّص بمشقة من عقدة لسانه قائلًا :
-بتقولي إيه ؟ مش ممكن.. سلمى. إوعك. إوعك تعملي كده.. إرجعي يا سلمى
ردت عليه بتصميمٍ :
-لأ يا بابا. مش هاينفع. أنا خلاص اخدت قراري
إرتعدت شفتيّ "سالم" و هو يشدد قبضته على الهاتف قائلًا بصوتٍ أجش لا يخلو من التوتر :
-سلمى !
إرجعي يا حبيبتي. انا عارف إنك ممكن تكوني خايفة. متخافيش. متخافيش و إرجعي.. أوعدك. محدش هايعملك حاجة. محدش هايقربلك خالص و لا حتى أنا.. بس إرجعي ...
ردت في نفس اللحظة بذات الإصرار :
-عارفة إنك مش ممكن تئذيني يا بابا. بس أنا مش هارجع عشان أتحبس في البيت.. أنا قولتلك موافقة على جوازي من عاصم. و إنت اعتبرتني عيّلة صغيرة و رميت كلامي ورا ضهرك... ياريتك فهمت إني فعلًا اخترت عاصم يا بابا !!!
فتح فمه ليقول شيئًا، فبادرت قاطعة سُبُل النقاش نهائيًا :
-انا هاتجوز عاصم يا بابا و ده آخر كلامي. إتصلت بيك بس عشان أبلغك و عشان عارفة إنك ممكن تكون قلقان عليا.. بس ماتحاولش معايا بأي شكل. أنا مش هاغير رأيي أبدًا. سلام يا بابا !
و إنقطع الخط بينهما، لتسبح نظرات "سالم" في اللاشيء أمامه و يمتنع عن الرد بكلمة، لتقترب "هانم" و تقف في وجهه تمامًا مستجوبة إيّاه و دموعها تجري على خديها :
-بنتي فين يا سالم ؟ سلمى بنتي فيــن ؟؟؟؟؟
يخرج "مصطفى" هو الآخر عن صمته صائحًا :
-ما ترد عليها يابااااا. رررددد قولنا سلمى فيــــن !!!!
لحظاتٍ طويلة مرّت كالدهر، ليرفع "سالم" وجهه في الأخير معلنًا في وجوههم جميعًا :
-سلمى هربت مع إبن السويفي.. هربت معاه عشان يتجوزوا !
______________
الارتجاف يُزلزل جسمها، الندم، الخوف، الخزي
كلها أشياء حدثت كلها مرةً واحدة لحظة إغلاقها الهاتف و بعد أن تحدثت إلى أبيها، تفكر ألف مرة في قرار العودة، رغم ما تنطوي عليه من مخاطر و عقوبات
كانت بوابتا جهنم و الجنة أمامها، لكنها لا تعلم أيّ باب سلكت !!!
-حبيبتي !
إنتفضت "سلمى" و هي تستدير بسرعة خلفها، لترى "عاصم" و قد عاد من الخارج حاملًا في يده حقيبة كبيرة من الجلد ...
-اتأخرت عليكي ؟
هزت رأسها للجانبين ...
-إيه إللي شايله في إيدك ده يا عاصم ؟
وضع "عاصم" الحقيبة فوق طاولة كبيرة بمنتصف الصالة و اقترب منها قائلًا بنبرة خبث :
-دي حاجات تخصني. تخصنا.. أنا ليا مزاج معيّن كده.. كمان شوية هاتشوفي و اوعدك هاتحبي الموضوع أوي و هاتتعودي عليه بسرعة
عقدت حاجبيها جاهلة ما يرمي إليه، لكن سؤالًا آخر كان يلح عليها فسارعت لطرحه :
-أمال فين المأذون يا عاصم. مش قلت خارج تجيبه ؟!
ضحك باستهجانٍ ...
-مأذون إيه بس يا حبيبتي. إنتي قاصر. ماينفعش نكتب الكتاب دلوقتي. لما تتمي ١٨ سنة إن شاء الله
ردت باستنكارٍ : نعم ! و بتقولي دلوقتي الكلام ده ؟ إنت بتهرز صح ؟؟!!!
أخذ يهدئها ممسكًا بكتفيها :
-إهدي بس. إحنا كده كده هانتجوز ماتقلقيش
-إزاي بقى.. فهمني !!!
أظهر "عاصم" لها ورقة فجأة و قال ملوّحًا بها أمام عينيها :
-الورقة دي ماضي عليها إتنين شهود. و أنا كمان مضيت.. مش ناقص غير إمضتك إنتي
فهمت "سلمى" على الفور ما يعني ذلك، فثارت هاتفة :
-إنت تتجوزني عرفي ؟ لأ. لأ يا عاصم مش أنا إللي اتجوز عرفــ ...
بترت عبارتها بغتةً صفعة عنيفة نزلت على وجهها من كفه، ظل وجهها ملووحًا و نظراتها شاخصة بصدمة، بينما لم يمهلها الوقت، جذبها من ذراعها بشدة و جعلها تنظر إليه و ترى لأول مرة القساوة بعينيه و هو يقول بصوتٍ كالفحيح من بين أسنانه :
-أنا مايتقاليش لأ. سامعة ؟ إللي أقوله يتنفذ بالحرف الواحد. و إلا هاتتعاقبي كل مرة عقاب أشد. و إنتي أساسًا لسا مدوقتيش عقابي و لا عرفتي أشكاله.. إنتي فاهمة أنا بقولك إيه !!!
من رعبها، و كأن أخرى غيرها هي التى هزت برأسها أن نعم، ليقربها في اللحظة التالية من الطاولة و يضع في يدها قلمًا آمرًا إياها بصوته الصلب :
-إمضي !
تحت الإجبار، اضطرت "سلمى" لوضع إمضائها على ورقة الزواج العرفي، ليبتسم "عاصم" من خلفها بظفرٍ، و يسحب من تحت يديها الجامدتين عقد الزواج ...
يطويه و يضعه بجيبه ثانيةً و هو يقول بخيلاءٍ :
-شاطرة. كده تعجبيني. كل ما تكوني مطيعة كل ما أحبك أكتر و اكافئك كمان.. و انا هاعلمك إزاي تكوني مطيعة يا سلمى
لم تأتي بحركة مطلقًا ...
بينما يتوّجه هو صوب الحقيبة خاصته، يفتحها و ينقب بداخلها دون إفراغ محتوياتها، يُطلق سبّة غاضبة في أوج بحثه و يتمتم لنفسه بصوتٍ عالٍ :
-أكيد نسيته في العربية.. يلعن الحظ !
يرفع رأسه نحوها قائلًا :
-انا طالع برا لحظة و راجع. مش هتأخر عليكي يا حبيبتي ...
راقبت "سلمى" خروجه عبر خصيلات شعرها التي تبعثرت منمن حجابها المهدد بالسقوط، ما إن إختفى من أمامها حتى إنقضت على هاتفها المخبأ عن أنظاره
سارعت باصابعٍ مرتجفة و أدمعٍ متساقطة و طلبت رقم أبيها ...
______________
-و إحنا هانقعد كده مش هانعمل حــاجـة ؟؟؟؟
صمّ صراخ "مصطفى" آذان العائلة، فضلًا عن نواح "هانم" و صمت البقية المصدومين، ما الذي يؤخرهم، ما الذي يمسكهم بهذا الشكل عن إبداء أي ردة فعل.. لا يعلمون !
ثم فجأة دق هاتف "سالم" للمرة الثانية، لينتفض مجيبًا بضراوةٍ أشد و قد صحت غرائزه الشريرة بعد سباتٍ قهري :
-سلمــى. إسمعيني و إوعك تقفلي السكة. إ آ ...
-بابا. إلحقني يا بابا ...
قاطعته بهذه العبارة التي قلبت حالته رأسًا على عقب، إرتعش من قدميه لقمة رأسه و هو يهب واقفًا ليصيح في الهاتف :
-سلمى. ردي عليـا. فيكي إيـه. سلمــى ...
-بابا. تعالى خدني.. تعالى خدني بسرعة يا بابـ آاااااااااااه ... !
إنقطع صوتها اللاهث المذعور بصراخٍ حاد، و معه إختل توازن "سالم" و هبط جفنه لا إراديًا، سقط الهاتف من يده و كاد هو يقع من طوله لولا ساعديّ "رزق" اللتين إمتدتا لتسنداه بسرعة
تشبث به "سالم" من فوره، و تطلع إليه بضعفٍ يراه "رزق" لأول مرة في أبيه، ثم قال بصعوبةٍ يتوسله :
-هات لي أختك يا رزق. رجع لي سلمى ! ......
يتبع الفصل الثاني عشر اضغط هنا
- تابع الفصل التالي عبر الرابط :"رواية سمال الحب" اضغط علي اسم الرواية