Ads by Google X

رواية ليتني مت قبل هذا الفصل الحادي عشر 11 بقلم نعمة حسن

الصفحة الرئيسية

 رواية ليتني مت قبل هذا الفصل الحادي عشر بقلم نعمة حسن

 رواية ليتني مت قبل هذا الفصل الحادي عشر

نظروا جميعاً لبعضهم البعض فتسائل الجد :مين يا زياد؟!

نظر إليهم الطفل بإبتسامة متسعه وقال :بابا ،بابا رجع يا جدو .

نهضوا جميعاً من حول المائده ليتحققوا من حديث الصغير قبل أن يستوقفهم دخول يحيـي إلي البيت مبتسماً بأعين باكيه ويقول : أنا يابا .

_يحيـي؟!!

تمتم بها الكل بذهول و أوّلهم كانت تلك التي تراجعت للخلف وهي تهز رأسها بنفي و عدم تصديق .

هرول الأب تجاهه يحتضنه بإشتياق كبير وقد سالت دمعاته بخليط من الفرح و الحزن معاً فقبّل يحيي رأسه و يداه و إحتضنه قائلاً:وحشتني يابا ،وحشتني أوي .

ركض عبدالقادر نحوه و إحتضنه بقوة وهو يقبّل رأسه ويقول :مش معقول،وحشتني أوي يا يحيي .

إلتف حوله أطفاله ليجثو علي ركبتيه أرضاً و يقوم بإحتضانهما سوياً وهو يتأمل صغيرته التي كبرت قليلاً و أغدقها بالقبل و الأحضان و دمعاته تسيل على خديه بغزاره لينظر أرضاً فوجد ذلك الرضيع يزحف نحوه لينظر إليه مبتسماً ويقول محدثاً أخاه عبدالقادر :ده إبنك يا قدّورة !

أومأ عبدالقادر موافقاً وقال :يحيـي الصغير.

تفاجأ يحيي كثيراً و حمله إليه ليجد زينب وقد تقدمت نحوه بإبتسامه صادقه و إحتضنته بفرحه ليقبّل رأسها بإحترام ويقول :أومال فين سليمان ؟

شحب وجه سليمان و إصفر كإصفرار وجه الميت و نظر إلي أبيه بصدمه فقال يحيي متقدماً منه :مش هتسلم عليا ولا إيه يا سليمان ؟!

ثم إحتضنه بشدة ليربت سليمان علي ظهره بخوف و بكاء ويقول :حمدلله علي السلامه يا يحيـي .

قبّل يحيي يداه و أعاد من إحتضانه وقال :متعيطش يا سليمان أنا بخير الحمدلله،إنكتبلي عمر جديد و ربنا أراد أرجع لكوا من تاني .

ثم راح يتلفت حوله ويقول :فين يُسر ؟! و فين صافيه؟!

إلتزم الجميع الصمت و نكس رأسه أرضاً لينظر إليهم ويقول :يُسر فين ؟!عند مامتها ولا إيه؟!

قال زياد :ماما دخلت الأوضه .

و أشار بيده إلي غرفة نوم جده ليضحك يحيى قائلاً:إيه مش عاوزه تشوفني ولا عيزاني أنا أدور عليها ؟! يُسررر.

صدح صوته منادياً بإسمها ثم أدار مقبض الباب لتجفل هي و تنتفض بفزع عندما رأته .

أفتر ثغره عن إبتسامة واسعه حنونه وهو يتقدّم منها ليحتضنها بقوة و يرفعها عن الأرض بحب بالغ وقد أغمض عينيه وهو يشدد من إحتضانها يكاد يعتصرها بداخله بينما تيبّست أطرافها و إهتز قلبها بين أضلعها فنظر إليها وقال :مالك يا يُسر ؟!

ثم إبتسم لها وقال:مش مصدقه نفسك مش كده؟

أومأت برأسها أن نعم ليعود و يضمها إليه مجدداً قبل أن يلاحظ شيئاً غريباً فإبتعد عنها ببطء و نظر إلي بطنها المنتفخ و نظر إليها مقطب الحاجبين ليجدها تغلق عينيها بشدة و دمعاتها تتساقط على وجنتيها وهي تزدرد ريقها بخوف و ترقب فقال : إيه ده ؟

نظر إليها مستفهماً فلم تجيبه لينظر خلفه فوجد الجميع يقف مذعوراً باكياً فقال بتعجب : إنتي حامل ؟!

لم تنبس بكلمة فقال وهو يجيب سؤاله : حامل إزاي وأنا غايب بقالي سنه!

نظرت إليه بخوف و ندم فقال بهدوء :ردي عليا،أنا مش فاهم حاجه،إنتي حامل ؟!

نظرت إلي سليمان لكي يغيثها ولكنه كان بحاجة لمن يغيثه الآن فنظر أرضاً بخزي و لم ينطق.

برز صوت زينب بقوة حيث قالت :أيوة حامل .

ضيّق يحيي ما بين حاجبيه مذهولاً و نظر إليها وقال :حامل إزاي يعني ؟!أنا مش فاهم حاجه!

تولّت زينب تلك المهمه التي لن يقدر عليها سواها و تقدمت من يحيي وقالت : يُسر إتجوزت يا يحيي .

جحظت عيناه بذهول حتي كاد أن يسقط لولا أن تمسّك بتلك الطاوله الخشبيه من خلفه وقال :إتجوزت ؟!إتجوزت إزاي؟!

أردفت زينب وهي تطالع يُسر بشماتة وتقول : إزاي دي إجابتها عندك إنت ،لما عملت الحادثه سلمّونا جثه من المشرحه علي أساس إنها جثتك و إحنا دفنّاها علي أساس إنها إنت .

ضيّق عينيه بتعجب و عدم فهم و راح ينظر إليهم واحداً تلو الآخر بتعجب وهو يقول :جثة إيه و مشرحة إيه ؟!أنا اللي فاكره يوم الحادثه إني وقعت من العربيه قبل ما تنفجر ....

قاطعه عبدالقادر قائلاً :طب و الجثه اللي لقيوها متفحمه في العربيه دي جثة مين ؟!

نظر إليهم وقال :بسّام ..أكيد جثة الراجل اللي كان معايا يومها في العربيه .

نظر الجميع إليه بذهول و باتت الأسئلة تتراقص في عقولهم و عقله من قبلهم لينظر نحو يُسر مجدداً ويقول :كلامهم ده صح ؟!إنتي إتجوزتي؟! صدقتي إني مت و إتجوزتي ؟! ولا ماصدقتي إني مت و إتجوزتي ؟!

نظرت إليه بخوف شديد و قالت :يحيي إسمعني ...

ليقاطعها قائلاً :أسمع إيه و زفت إيه ؟! أنا مش قادر أستوعب اللي بسمعه ! إتجوزتي يا يُسر ؟!و حامل ؟! حتي مصبرتيش يعدّي سنه علي خبر موتي !!

أجهشت بالبكاء ليردف بقوة و حده إمتزجت بالغضب :و قاعده هنا ليه ؟! لما إنتي إتجوزتي إيه اللي لسه مقعدك في البيت ده .

و نظر إليهم و صدح صوته الجهور غاضباً يقول:و إنتوا إزاي تسمحوا لها تفضل هنا ؟!مخدتوش منها العيال و رميتوها بره ليه تروح للي إتجوزته .

هنا برز صوت زينب تقول بغل و تشفٍ :يُسر إتجوزت عمي سليمان.

نزل الخبر علي أذنيه كالصاعقه و تجمدت حواسه لينظر إليهم فاغراً فاه و ظل يتمتم بذهول و هيستيريه :سليمان مين؟!قصدي سليمان إزاي يعني؟!

إبتلع سليمان لعابه بتوتر و تنحنح بخوف وقال :يحيـي إنت لازم تقعد و تسمع مننا اللي .....

قاطعه يحيى قائلاً بصدمه هزت كيانه :أقعد و أسمع !! يعني الكلام ده صحيح؟!

أخفض سليمان بصره أرضاً لينظر يحيي إلي أخيه الذي أشاح بوجهه للجانب لينظر بعدها إلي أبيه الذي كان ينظر نحوه بأسف و شفقه فقال :الكلام ده صحيح يابا ؟! يُسر إتجوزت سليمان فعلاً؟!

لم يجيبه والده فنظر إليهم تباعاً قبل أن ينفجر ضاحكاً حتي تحولت ضحكاته إلي قهقهه هيستيريه وهو يضرب بيده الطاوله من جانبه بعدم تصديق ويقول :إيه يا جماعه اللي إنتوا بتقولوه ده ؟!إنتوا بتهزروا أكيد ..صح؟!

إنفجرت يُسر باكية لينظر إليها ويقول :إنتي بتعيطي ليه؟!إنتي عملتي كده فعلاً؟!إتجوزتي أخويا ؟!

نظرت إليه باكيه وقالت :يحيـي أناا ..

ليقاطعها قائلاً:إنتي إيه ؟! إنتي إيه ؟! دنا كنت راجع و قلبي هيقف من كتر التفكير فيكي و من كتر منتي وحشاني ،أرجع ألاقيكي متجوزة و حامل؟!! و من مين ؟من أخويا ؟! طب إزااي ؟! متجوزه إزاي أومال أنا أبقا مين ؟! يعني أنا دلوقتي اللي جوزك ولا هو ؟!حد يفهمني.

إقترب عبدالقادر منه و أمسك بيده يقول :إهدي بس يا يحيي و إحنا هنفهمك كل حاجه ..

لينتزع يحيي يده من قبضة أخيه و صاح بتشنج و عصبيه بالغة وقال :متقوليش إهدي ،أهدي إزاي يعني ؟

قرر سليمان التخلي عن صمته و إستعمال الخطه البديله و الأكثر فعالية فقال : يحيى صدقني أنا عملت كده علي أساس شهادة الوفاه اللي كانت بين إيديا ،إحنا دفنّا جثه علي أساس إنها جثتك و خدنا العزا و عدي شهر و إتنين و تلاته و أربعه و يُسر خلصت عدتها و إنت مظهرتش ,بدأ يتقدملي ناس عايزين يخطبوها و كلهم فرص أحسن من بعض و أنا خوفت علي عيالك و خوفت هي تاخدهم و تمشي بيت أمها أو تتجوز و تاخد العيال و منقدرش ناخدهم أو حتي نشوفهم تاني ،صدقني يا يحيى أنا عملت كده خوفاً على عيالك لإني كنت عايز أراعيهم و أواليهم ،كان كل همي ألم لحمك ...

قاطعه يحيي وقال بإستهجان :تلم لحمي؟!وهو مينفعش تلم لحمي من غير ما تتجوز مراتي ؟!

ثم نظر إليهم جميعاً وقال : مكانش ينفع تسيبوها عايشه في وسطكوا تربي العيال و تصرفوا عليهم ؟! حتي لو كانت هتتجوز مكنش من حقها تاخد نور و زياد ،كان وقتها أمها أحق بحضانتهم وإنتوا عارفين إنها مش حِمل حضانة عيال تانيه .. يعني كده كده مرجوعهم ليكوا في الآخر .

ثم نظر إلي سليمان بقوة و غضب عاصف وقال : ده عذر أقبح من ذنب يا أخويا ،إنت بتبرر خيانتك لأمانة أخوك بمبرر حقير .

_يحيي..إسمعني يبني .

قالها والده بوهن و ضعف وهو يتقدم منه ليقاطعه يحيي بحدة قائلاً : أسمع إيه تاني ما خلاص سمعت كل حاجه،هتقوللي إيه يابا ؟!هتقوللي أنا آسف عشان وافقت علي حاجه زي كده ؟!

و راح ينقل بصره بينهم جميعاً ويقول :هتقولولي إيه كلكم ما خلاص معدش في حاجه تتقال .

و تابع بحسرة و صوتٍ باكي : يا ريتني مت قبل كل ده ما يحصل ،يا ريتني ما كنت رجعت و كنت مت يومها ،يا ريتني ما رجعتلي الذاكرة ولا إفتكرتكوا ولا إفتكرت أنا مين ،يا ريتني مت .

أنهي كلماته ليخرج من الغرفه بقوة متخذاً سبيله نحو الخارج ركضاً بينما تهاوت يُسر إلي المقعد من خلفها و إنتابتها حالة من البكاء الشديد ندماً علي ما ضيّعت و ما فقدت .

~~~~~~~~~~~~~~
خرج يحيى من بيتهِ مصدوماً لا يعرف أنّي له أن يصف حاله و ما يشعر بهِ .

إنه يشعر بالخذلان كما لم يشعر من قبل .

أحس ويكأنه كالغريب الذي لا مأوي له ولا بيت ،كاليتيم الذي فقد عائلته بين ليلةٍ و ضحاها،كالأسير التائه المشرّد .

ثمة أحاسيس بداخله لم يستطع تمييزها أو وصفها.
كان يجر قدميه جراً كـ المكبّل بالأغلال ولا يعلم إلي أين سيذهب مجدداً فـ راح يلعن حاله إذ أنه عاد موهوماً بأنهم ينتظرونه ليفاجأ بأن كلاً منهم يعيش حياته بأريحيه و كأنه لم يكن يوماً علي قيد تلك الحياة .

ألقي بجسدهِ إلي مقعدٍ من مقاعد ذلك المقهي بشرود وهو يتذكر ما حدث لتسقط دمعاته بحزن و قهر لم يشعر به من قبل .

لأول مرة في حياته يتمني الموت ،يكاد يقسم أنه لن ينجو تلك المرة أبداً و راح يقول يا ليتني مِتُّ قبل هذا .

إلتف حوله جميع الجيران و الأصدقاء الذين يعرفونه و كلاً منهم يقلّب كفيه عجباً علي ما يروْنه الآن لينصرف الجميع حتي يبلغوا أهلهم و ذويهم بتلك المفاجأة التي لم تكن متوقعه بالمرة .

_إلطف بينا يا رب ،الراجل رجع من الموت لقي أخوه متجوز مراته !

إستطاعت تلك الأحرف المتعجبه أن تصل إلي مسامعه بسلاسه و سهوله دون أدني مجهود منه لينهض فوراً و يبتعد عن الحـي بأكمله متوجهاً نحو اللامكان.

سار بشرود لا يعلم إلي أين يذهب فـ صار يتطلع حوله و كأن المكان من حوله أصبح غريباً عليه ،ضاقت عليه الأرض بما رَحُبت فلم يجد سوي بيت الله .

ذهب إلي المسجد ليجده مكتظاً بالمصلّين الذين ينتظرون صلاة التراويح فـ دخل بِـ تَؤدة و رفق و توضأ ليقف بين صفوف المصلّين و بدأ الصلاة و لكن عقله كان مغيّباً شارداً يسترجع الكثير و الكثير من الذكريات لينخرط في بكاءٍ مرير .

~~~~~~~~~~

علي الجانب الآخر كان الجميع يجلس مطأطئ الرأس ،حالة صدمه و ذهول تعتري الكل و خاصةً تلك التي كانت تنظر أمامها بشرود و تيه شديدان .

كان الأب يرتكز بكلتا يداه علي عصاه و يسند جبينه علي يداه مغمض العينين وهو يشعر أنه يكاد يفقد عقله فـنظر إلي عبدالقادر و قال :إنت هتفضل قاعد كده و إحنا مش عارفين أخوك راح فين ؟!قوم روح وراه بسرعه و شوفه.

نظر إليه عبدالقادر باكياً وقال :مليش عين يابا ،مش هعرف أرفع عيني في عينه ،يحيـي إتصدم فينا كلنا .

هز الأب رأسه يميناً و يساراً بِحسرة وهو يقول :آااه يا يحيـي ،آااه يبني علي وجع قلبك ،ياااارب ،يارب إلطف بيه و عدٌيه منها علي خير يا رب .

ثم تابع بحزن شديد يتغمده وقال بعتاب لا يفيد :قولتلك بلاش يا سليمان،قولتلك بلاش مرات أخوك ،كان قلبي حاسس إن الجوازة دي باطلة ،ليه يبني مطاوعتنيش و سمعت كلامي؟!

ثم أكمل بإتهام صِرف :إنت طمعت يا سليمان !

نظر إليه سليمان بذهول ليستطرد الأب حديثه قائلاً:أيوة طمعت ،طمعت في مرات أخوك و فضلت تألف و تكذب عشان تتجوزها ..تقوللي صافيه موافقه و تقول لـ صافيه أبويا اللي غاصبني علي الجوازة ،كنت مع كل واحد فينا بـ وش و أدي النهاية أهي ،كل ده حرااام .

آثر سليمان الصمت و لم يتفوه بكلمة ليتمتم والده بنحيب :اللهم إرفع مقتك و غضبك عنّا ياااارب .

نظرت يُسر إليهم بشرود وهي تقول :هو يحيـي فين ؟!يحيـي راح فين ؟! إنتوا سيبتوه يمشي ليه؟!

نظر إليها سليمان نظرات فارغة وقد تبدّلت كل مشاعره تجاهها بلحظه ،لا يعلم هل ذلك نفور أم حقد أم غيرة أم صدمه ؟!

وقفت يُسر ببطء وهي تمسك ببطنها بكلتا يديها ونظرت إليهم وقالت :يعني إيه ؟!يعني اللي في بطني ده إبن حرام ؟!

إعتصر سليمان عيناه بألم و غضب لتعاود تساؤلاتها و تقول :طب أنا مرات مين دلوقتي ؟!مرات يحيي ولا سليمان ؟!

نظرت إليها زينب شامته و أطلقت ضحكه مقتضبه متهكمه فنظرت إليها يُسر بصمت و لم تعقّب لتشعر بأن الآلام تفتك بها فأمسكت بأسفل بطنها وهي تجاهد لكي تتحمّل ذلك الألم الشديد ولكنها لم تستطع لتنفلت منها صرخةّ هزت جدران المنزل وشعرت بأنها تنزف قد سال علي جانبي قدميها لتنظر إليهم بذعر وتقول :أنا بولد !

هرع سليمان نحوها وقال مذعوراً :في إيه يا يُسر ؟تولدي إيه؟!إنتي مش لسه في السادس؟!

قالت ببكاء و خوف :أنا بولد يا سليمان ،وديني المستشفي بسرعة الله يخليك .

لم يتمهّل و حملها علي الفور ليهرول بإتجاه سيارته و يضعها علي المقعد الخلفي بسرعة ثم إستدار ليركب خلف المقود فوجد الباب المجاور له قد فُتِح لتركب زينب إلي جانبه فإنطلق بالسيارة نحو المشفي .

~~~~~~~~

بعد إنتهاء صلاة التراويح إنزوي يحيي إلي ركنٍ بجانب المنبر و جلس يضم ركبتيه إليه و دمعاته لا تتوقف عن السقوط .

رآه الإمام ليقترب منه و يجلس إلي جانبه مربتاً علي كتفه وهو يقول :مالك يبني بتبكي ليه؟!سلّم أمرك لله و كله بيعدي .

قال يحيي بصوت حزين متقطع : ونعم بالله يا سيدنا.

إبتسم الإمام وقال :إسم الكريم إيه ؟!

_يحيـي .

ربت الإمام مجدداً علي كتفه وقال :طيب يا يحيـي ،خد المصحف ده إقرأ فيه علي ما تقدر لحد ما تلاقي نفسك هديت و قلبك إطمئن ،مش ربنا سبحانه وتعالى بيقول "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"؟!

أومة يحيى موافقاً فأضاف الإمام قائلاً:يبقا خد إقرأ في كتاب ربنا وهو اللي هيريح قلبك و يشرح صدرك إن شاء الله.

نظر يحيـي إلي الإمام و باغته قائلاً :هو لو واحد يائس من الدنيا دي يا سيدنا و إتظلم و حاسس إنه ملوش مكان ..في حالته دي الإنتحار يبقا حرام ؟!

قطب الرجل حاجبيه بتعجب وقد عَلم بأن المُصاب چلل فجلس متورّكاً إلي جانب يحيي وقال :الإنتحار في كل الأحوال حرام يبني ،مهما إشتد ضيقك و حزنك و يأسك مينفعش أبداً تفكر في الإنتحار ،لازم تلجأ لربنا سبحانه و تعالي و تدعيه يفرج همك و كربك و يزيح عنك وربنا بإذن الله هيساعدك و يخفف عنك ،إنما مينفعش تفكر في الإنتحار كده إنت بتكفر و العياذ بالله.

تمتم يحيي مستغفراً وهو يمسح وجهه ويقول :أستغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيم .

ربت الإمام علي فخذهِ وقال :إستهدي بالله بس كده و روق ،كل حاجه و ليها حل بإذن الله.

أومأ يحيى نافياً وقال :إلا مصيبتي يا سيدنا،ملهاش حل أبداً

نظر إليه الإمام مبتسماً وقال:طب إيه رأيك تحكيلي و تفضفض بدل ما تكتم في قلبك و بإذن الله أقدر أساعدك.

نظر إليه يحيى شارداً وقال :أقول إيه بس ،الحكايه بإختصار إني من سنه حصلتلي حادثه و العربيه بتاعتي إتحرقت وفيها واحد كان ركب معايا من عالطريق و جثته إتفحمت فـ أهلي إستلموه من المشرحه علي أساس إنه أنا و إتدفن و طلع له شهادة الوفاه علي أساس إنه أنا،و بعد ما مراتي تمت العده إتجوزت أخويا علي أساس إني ميت.

تمتم الإمام آسفاً وقال :لا حول ولاقوة إلا بالله،طب و إنت كنت فين طول السنه دي و لسه راجع النهارده ؟!

قال يحيي :يومها لما وقعت من العربيه معرفش إيه اللي حصل بعدها بس فوقت لقيتني متكتف و مربوط علي سرير مصفح من بتوع التشريح ،كنت واقع في إيد عصابه من اللي بيسرقوا الأعضاء و اللي أنا فاكره إني هربت منهم بمساعدة واحد فيهم و بعدها حد ضربني علي دماغي وقعت فقدت الذاكرة و من يومها لحد النهارده كنت قاعد عند ناس طيبين هما اللي ساعدوني و عالجوني ...

قاطعه الرجل متسائلاً: يعني إنت فضلت فاقد الذاكرة طول المدة دي؟!

أومأ يحيى موافقاً وقال :أيوة ،و كنت شغال في مخزن قطع غيار فـ وقع علي دماغي كوريك ،تقريباً صدمة الكوريك دي هي اللي رجعتلي الذاكرة.

كان الإمام يستمع له مذهولاً فقال :لا حول ولاقوة إلا بالله،والله يبني إنت حكايتك تتعمل فيلم ،مش عارف أقوللك إيه ولا أواسيك بإيه بس اللي أعرفه إن برجوعك كده زواج أخوك من زوجتك باطل !! بس كمان انا مش أهل للفتوي يعني في ناس أفقه مني و أكثر مني درايه و علم بالأمور دي و هي اللي تقدر تفيدك و تقولك الفتوي السليمه في حالتك دي .

تنهد يحيي بثقل و مسح آثار دمعاته ليربت الإمام علي كتفه وقال :معلش يبني وحد الله،ربنا بيسبب الأسباب سبحانه و تعالي أكيد له حكمه في اللي حصل لك ده لا إنت ولا أنا نعلمها ،إنت كل اللي عليك دلوقتي ترسل بسؤالك ده لدار الإفتاء و هما هيردوا عليك بالفتوي الصحيحه بإذن الله.

أومأ يحيى موافقاً ليقول الآخر : يلا قوم صلي ركعتين لله و إدعي ربنا يقدملك اللي فيه الخير والصلاح ..و متقلقش ،ما ضاقت إلا ما فرجت .

نهض يحيي و توضأ مجدداً و وقف بين يدي ربه يصلي و يناجيه أن ينجيه مما قد حلّ بهِ و ييسر له أمره و يلهمه الصبر .

~~~~~~~~~~~~~~~
كان سليمان يقف بالخارج بردهة الإنتظار في المشفي أمام الغرفه الموجود بها يُسر و زينب تجلس علي مقعد مقابل له تتأمله و تتفحص لهفته و خوفه بأعين مستنكره .

_شوفوا الراجل هيموت روحه عشانها إزاي ،الله يرحم أيامك يا صافيه والله إنتي الكسبانه إنك بعدتي عن جوز التعابين دول ،إنفخ يا أخويا إنفخ دلوقتي تقوم تتنطط زي القردة .

تمتمت زينب بتلك الكلمات في نفسها بصمت ثم أشاحت بوجهها إلي الجانب و أطلقت زفره ملوله ثم نهضت واقفه ليقول سليمان :هما إتأخروا كده ليه ؟!

نظرت إليه ببرود وقالت :دلوقتي يطمنونا .

إنفرج باب الغرفة بغتةً ليخرج الطبيب نازعاً عنه قناعهُ الطبي و زفر مطولاً قبل أن يهرول سليمان نحوه قائلاً بلهفة : طمني يا دكتور ؟!

نظر إليه الطبيب بأسف وقال : للأسف فقدنا الجنين لكن الأم بخير و هتتعافي قريب ،ربنا يعوض عليك.

بتلك الكلمات المقتضبه أخبره الطبيب بكل سلاسة بفقدان طفله المنتظر و إنصرف بعدها لينفجر سليمان باكياً بحسرة و نظر إلي زينب قائلاً وسط بكاؤه :فضل مات يا زينب ، فضلت مستنيه عشرين سنة و لما فرحت بيه أخيراً مات.

نظرت إليه زينب بأسف و حزن صادق وقالت :معلش يا عمي سليمان، ربنا يصبرك و يِخلِف عليك.

بالداخل كانت تجلس يُسر في فراشها بعد إفاقتها تبكي و تنتحب بشدة فقالت زينب : حمدالله علي السلامه يا يـسر ،محتاجه حاجه أعملهالك ؟!

أومأت برأسها أن لا و باغتتها قائلة : يحيـي فين ؟!

نظرت إليها زينب بدهشه وقالت : تقصدي عمي سليمان؟!هو تحت بيجيبلك أكل.....

قاطعتها يُسر ببكاء وقالت: يحيـي فين؟محدش كلمه؟

_يا بجـاحتـك !!

قالتها زينب في نفسها ثم نظرت إلي يُسر وقد عاد إليها برودها فقالت :معرفش حاجه أنا معاكي في المستشفي من وقتها .

و أضافت بنظرةٍ ذات مغزى:يحـيي الله يكون في عونه و يصبره علي حاله بقا . مسكين!

قالت الأخيرة وأشاحت بوجهها جانباً ليدلف سليمان إلي الغرفة و ملامح الحزن تكسو وجهه و جلس إلي جانب يُسر وقال وهو يمد يده إليها بالطعام : معدتيش تعيطي يا يُسر عشان متتعبيش ،خدي إشربي العصير ده
أومأت بالنفي ليقول :خلاص قدّر الله وما شاء فعل متزعليش نفسك،ملناش نصيب فيه .

و هنا كانت صدمته الثانيه حيث نظرت إليه بقوة و غضب جامح و إنفجرت به بقوة تقول : أنا في إيه و إنت في إيه ؟!كل همك في إبنك اللي مات؟ ده كويس إنه مات ،يا ريتني كنت مت أنا كمان و إرتحت .

نظر إليها بذهول وقال :يُسر إنتي بتقولي إيه ؟!

أردفت متسائلة بإستنكار شديد وقالت: إيه مالك مصدوم كده ليه ؟! تقدر تقوللي لو كان إتولد كان هيبقا مصيره إيه ؟! إذا كان جوازنا كله بااطل كنا هنربي الطفل ده علي أي أساس؟!

لم يعرف بما يجيبها فـ راح يتطلع نحوها بصمت لتقول بحسرة :أنا مش زعلانه إنه مات ،أنا زعلانه إني أنا اللي عايشه ،يا ريتني كنت مت و إرتحت من العذاب اللي مستنيني .

تشنّج وجهها و جسدها بالأكمل لتنتابها حالة بكاء هيستيريه و راحت تردد بحسرة :يا ريتني مت قبل كل ده ما يحصل ،يا ريتني مت...

إقترب منها يحاول تهدأتها لتبتعد عنه بحدة و دفعته بعيداً عنها بقوة و صرخت قائلة : إبعد عني ،إبعد عني إنت مش من حقك تلمسني، إنت السبـب !

وقف مشدوهاً لما يصدر منها فقالت بقوة و إتهام واضح :أيوة إنت السبب،إنت اللي فضلت تزن عليا عشان نتجوز و فضلت تقوللي عشان العيال و الزفت لحد ما وافقتك و خسرت كل حاجه؟!

_يُسر إهدي،إنتي مش واعيه للي بتقوليه!

أعادت النظر إليه بقوة و تحدٍ وقالت : ليه شايفني إتجننت؟!ولا مش مصدق اللي بتسمعه ؟

و تابعت بحزم :خلاص يا سليمان مبقاش فيها كلام ،حتي الكلام بقا حرام ،اللي بيننا ده كله كان باطل و ربنا نجدنا إن الطفل ده متولدش .

أنهت حديثها المفاجئ له كليّاً و أشاحت بوجهها جانباً ليقول مخاطباً زينب :خليكي معاها يا زينب لحد ما تخرج من المستشفي ،و أنا هدفع حساب المستشفي .

و غادر مسرعاً ليستقل سيارته منطلقاً بها لا يعلم أين !

كانت زينب تجلس برفقة يُسر في الغرفة بالمشفي لا تطيق الإنتظار و كأنها تفترش الجمر من أسفلها فنهضت قائلة : طيب يا يُسر أنا مضطرة أمشي عشان العيال و يحيي الصغير سيباه لوحده و إنتي ماشاءالله بقيتي زي القر....قصدي زي الفل أهو .

نظرت إليها يُسر بتعجب وقالت :هتسيبيني لوحدي أومال مين اللي هيساعدني؟

_,اللي بيساعد العباد ربنا يا حبيبتي و بعدين إتصلي علي أمك تيجي تقعد معاكي إنما أنا مش فاضيه يا حبيبتي ورايا عيال و عيالك كمان أمانه في رقبتي لحد ما تقومي بالسلامه.

نظرت إليها يُسر بغيظ وقالت بحدة : إمشي مش عاوزة حد معايا .

أومأت زينب بموافقة وقالت:ماشي يا حبيبتي تقومي بالسلامه،أنا هتصل لك بأمك تجيلك و يستحسن ترجعي معاها بيتكم علي ما الجو يهدا و تشوفي هتعملوا إيه في المصيبه دي .

ألقت كلماتها المستفزه ثم منحتها نظرة شامته و إنصرفت.

********************
بات يحيى ليلته بالمسجد ،لم يكحل النعاس جفنيه فظل شارداً يفكر بما حدث و ما رآه اليوم و كلما إستعادت ذاكرته ذلك المشهد إنخرط في البكاء بشدة .

لطالما تمني أن تعود إليه ذاكرته و أن يستطيع العوده إلي منزله و عائلته التي كان علي يقين بأنهم ينتظرون عودته بالرغم من جهله لهم ،ليعود اليوم فيجد زوجته المصونه قد تزوجت بأخيه الأكبر و الذي كان بمثابة أب له و أخ لها فكيف إستطاعت فعل ذلك !

يشعر أنه الآن علي حافـة الجنون و أنه حتماً لن ينجو تلك المره .

بطش عائلته بهِ كان أشد وطأة ٍ علي نفسه أكثر مما رآه منذ عامٍ مضي بكل تفاصيلهِ و بكل ما مر عليه فيه .

دفن رأسه بين كفيه ينتحب بقوة علّه يطفئ تلك النيران التي إشتعلت بقلبهِ ليجد من يربت علي ظهره فمسح وجهه و نظر إليه ليتجهم وجهه و نظر بغضب للجهة الأخري وقال :جاي ليه يا عبدالقادر ؟!

جلس أخيه إلي جانبه و قال:جايلك يا يحيى،جاي لأخويا...

قاطعه يحيي بغضب وقال : أنا مليش إخوات ،إمشي و إعتبرني أو إعتبروني كلكوا إني لسه ميت .

نظر إليه عبدالقادر بحزن و أسف فأردف يحيي وقال:إعتبروا إن اللي حصل ده مجرد كابوس،وأنا كمان هعتبر إنه كابوس و هرجع مطرح ما جيت .

نظر إليه عبدالقادر بلهفه و وضع يده علي كف أخيه و إنحني بجزعه أكثر ليقترب منه وقال : ترجع فين يا يحيى ده إحنا ما صدقنا إنك رجعت ...

قاطعه يحيي مرة أخرى متهكماً وقال :هه..إنت بتضحك عليا ولا علي نفسك يا قدّورة ؟! محدش فيكم كان يتمني إني أرجع أبداً و أولكم هو و هي .

شخّص الآخر بصره أرضاً لا يعرف بما يبادله الحديث ليقول يحيي :قوم روح بيتك يا عبدالقادر و إطمن من نحيتي لو قلقان يعني..مش هيجرالي حاجه أسوأ من اللي شوفته.

نظر إليه عبدالقادر و قد أطفرت دمعاته بندم وقال : والله يا يحيى كلنا فكرنا في مصلحة ....

قاطعه يحيي بإشارةٍ من يده وقال : عشان خاطر ربنا أنا مش متحمل كلام في الموضوع ده دلوقتي.

أومأ موافقاً و إلتزم الصمت ثم تسائل بحذر :طيب إنت ناوي تعمل إيه دلوقتي؟!أقصد يعني وضعك معاها إيه ؟

آثر يحيي الصمت ليردف أخيه قائلاً :علي فكرة هي تعبت إمبارح و ولدت و العيل نزل ميت .

لم يجيبه يحيي بل أومأ بإقتضاب وقال:هطلع دلوقتي علي دار الإفتاء و هسأل و أشوف المفروض إيه اللي يحصل .

_طب تعالي نروح سوا ..ثواني و هجيب العربيه .

أومأ يحيى برفض وقال:لا أنا هروح لوحدي مش عايز حد معايا.

تبيّن أخيه ضيقه فلم يكرر سؤاله و أومأ بهدوء مربّتاً علي رأسه ونهض قائماً ثم قال:طيب إنت هترجع البيت إمتا؟

نظر إليه يحيي مطولاً و قال:البيت لاصحابه يا عبدالقادر،و أنا خلاص بقيت غريب مليش مكان في البيت ده .

همّ عبدالقادر بالحديث مجدداً ليقاطعه يحيي بحزم ويقول :إمشي يا عبدالقادر،إمشي و متحاولش تدوّر علي مكاني تاني ولا تحاول تعرف أنا فين لإنك مش هتلاقيني و حتي لو لاقيتني هتلاقيني شخص تاني إنت متحبش تشوفه ولا تكونلك بيه أي صله!

هكذا خرجت تلك الأحرف العاريه من فم يحيي و لكنها كانت تحمل كناياتٍ أخري مغايرة تماماً لم يستطع أخيه فهمها و لكن الأيام كفيلة بها.

إنصرف عبدالقادر عائداً نحو المنزل بينما غادر يحيي المسجد علي الفور متجهاً نحو دار الإفتاء لكي يقدم فتواه و بدأ بسرد كل ما حدث منذ ذلك اليوم ليقول المُفتي : بسم الله الرحمن الرحيم فالزوجة إذا بلغها خبر وفاة زوجها الغائب, ثم اعتدت وتزوجت, ثم ظهر زوجها الأول. فإن كان ذلك قبل أن يدخل بها الزوج الثاني, فإنها ترد للأول, وإن كان الزوج الثاني قد دخل بها؛ فإنها لا تفوت بالدخول بل تعود للزوج الأول أيضا بعد أن تنقضي عدتها من الزوج الثاني و بحدوث الإجهاض تسقط العدة ....

نظر إليه يحيي مشتتاً وقال : أنا مش فاهم حاجه يا شيخنا يريت معلش تبسطهالي .

إبتسم المُفتي قائلاً : حضرتك بتقول إنك غبت سنه و كنت فاقد الذاكرة و أول ما الذاكرة رجعتلك رجعت بيتك لتجد زوجتك متزوجه من أخيك .

أومأ يحيى بتأكيد ليضيف المُفتي قائلاً : و كانت حامل في شهورها الأخيرة ،مظبوط؟

أومأ يحيى موافقاً ليقول الآخر: إذاً بمجرد ظهورك فإن زواجها من الثاني اللي هو أخوك باطل و ترد إلي عصمتك و لكن بعد قضاء عدتها من أخوك و بما إنها كما تقول وضعت اليوم و الجنين قد مات بأحشائها إذاً لا عدة لها عملاً بقوله في كتابه الكريم "وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ " يعني يا أستاذ يحيي هي زوجتك و تحل لك بإذن الله.

غادر يحيي شارداً ،لم تُزِدهُ تلك الفتوي إلا حيرةً و تخبط و جلس بتعب إلي مقعد مقابل للمبني و شرد بما ينتظره 

يتبع الفصل التالي: اضغط هنا
الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة: "رواية ليتني مت قبل هذا" اضغط على أسم الرواي
google-playkhamsatmostaqltradent