رواية شمس الياس الفصل الرابع عشر بقلم عبد الرحمن احمد الرداد
رواية شمس الياس الفصل الرابع عشر
ارتفع صوت آذان الفجر ليشق صمت الليل المظلم ويعلن عن بداية يوم جديد، استيقظ «إلياس» الذي لم يشعر بنفسه ونام محله على الأريكة، كان يشعر بالبرد كثيرًا لأنه نام بدون غطاء، نهض من مكانه بصعوبة ثم توجه إلى المرحاض ليتوضأ وما إن انتهى حتى ذهب إلى غرفته وسحب سترته الشتوية الثقيلة ليرتديها قبل نزوله إلى الأسفل. دقائق قليلة كانت كافية لكي يصل «إلياس» إلى المسجد القريب من المنزل حيث تقدم ووقف لكي يصلي سنة الفجر فهو حينما يكون مستيقظا لأداء صلاة الفجر لا يفوت تلك السنة فهو قد استمع من شيخ هذا المسجد من قبل حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يقول الشيخ بعد رفع الأذان "عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ركعتَا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها))، وعن عائشةَ رضِي الله عنها، قالت: ((لم يكُنِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على شيءٍ مِن النوافلِ أَشدَّ تعاهُدًا منْه على رَكعتَي الفجرِ))"
لذلك كان يحرص كل الحرص على أداء تلك السنة قبل أداء صلاة الفجر.
مر الوقت وانتهت الصلاة قبل أن يتجه «إلياس» إلى الحاج «خلف» الذي نظر إليه باهتمام ليقول الأول بجدية:
- أنا مسافر النهاردة أنا وإيلين يا حاج خلف، جيه الوقت اللي كنت مستنيه وقولتلك عليه
نظر إليه نظرة تحمل القلق فهو يعتبره ابنا من ابنائه وردد بهدوء:
- إلياس يابني عقاب ربنا هيجيلهم في الدنيا والآخرة، خليك ومتدخلش عالمهم لأن الناس دي ملهاش أمان، دخولك وسطهم يعني دخولك جحر التعابين والتعالب
ابتسم «إلياس» ليجيبه بإصرار وقد اتخذ قراره:
- متقلقش يا حاج خلف، أنا دخلت الجحر ده من زمان، أنا معنديش حاجة اخسرها وفي نفس الوقت ربنا معايا، جيه الوقت اللي ينتهي فيه ظلمهم، ادعيلي بس يا عم خلف وسيبها على الله
ربت على كتفه بهدوء ونظر إلى عينيه ليقول بثقة:
- أنت راجل وجدع يا إلياس، أنا واثق إن ربنا هيبقى معاك ويحميك منهم لأنك نضيف من جوا، هدعيلك يا أبو قلب ابيض، هدعيلك ربنا ينجيك وينصرك عليهم وتنهي ظلمهم
ابتسم ورفع يده لكي يقبلها قبل أن يقول:
- بس مش عايز حاجة تانية غير الدعوة دي يا والدي
حضنه «خلف» بقوة لكي يودعه بينما تنفس الآخر قائلًا:
- مش هتأخر إن شاء الله
رحل «إلياس» عائدا للمنزل وما إن دلف حتى وجد العشاء الذي جهزه بالأمس مما بث الحزن بداخله فهو أراد أن يكتمل اليوم على خير لكن ما حدث كان عكس ذلك، تنفس بهدوء ثم توجه إلى غرفته وقام بتجهيز المتبقي من أشيائه استعدادا للسفر. مر من الوقت ساعتين قبل أن تستيقظ «إيلين» من نومها، خرجت من غرفتها لتجد «إلياس» يمارس رياضته الصباحية وهي الضغط، تجاهلته واتجهت إلى المطبخ فسمع هو صوتها لذلك اعتدل وتوجه تجاه الصوت قبل أن يقول بتساؤل:
- كويس إنك صحيتي، جهزي كتبك وحاجاتك المهمة علشان هنسافر اسكندرية النهاردة
رفعت أحد حاجبيها ورددت بتساؤل:
- ليه؟
أدار ظهره لها واستعد للرحيل وهو يجيبها:
- كدا هنقعد هناك فترة وهنقلك لمدرسة هناك تكملي فيها
تحرك خطوتين بعيدا عنها لتوقفه كلماتها المفاجئة:
- ولو قولتلك مش هسافر
التفت ونظر إليها نظرة غير راضية فهو اعتقد أنها تعاقبه على اخفائه أمر عائلتها لذلك ابتسم وردد بهدوء:
- أنا مش باخد رأيك، أنتي هتسافري سواء برضاكي أو غصب عنك
رحل وتركها لتبكي فهي لم تتوقع هذا الرد منه، بداخلها نار تحترق ولا تستطيع التحدث فهي ألقت اللوم على «إلياس» الذي لا ذنب له، هو فعل كل شيء لأجلها لكنها لم تتحمل كذبه عليها كما أن صدمتها في معرفة ماضيها جعلت عقلها مشوش للغاية.
التقطت أنفاسها وقررت الذهاب إليه لسؤاله في بعض النقاط الغامضة المتعلقة بحالتها تلك، وبالفعل سارت حتى وصلت إليه فهو كان يتابع ممارسة الرياضة، وقفت أمامه وأردفت بتساؤل:
- عرفت إن اسمي الحقيقي شهد واسم عيلتي إزاي وأنت أصلا لقيتني في الشارع
لم يجيبها وظل يتابع مرانه وما إن انتهى حتى اعتدل ونظر إليها قائلًا:
- في أول مرة غيرتلك فيها هدومك، لقيت شهادة ميلادك في الهدوم
ضيقت نظراتها بعدم فهم لتسأل مرة أخرى:
- لو رموني في الشارع فعلشان ميكونش ليا وجود وافضحهم إزاي فيه شهادة ميلاد؟
ابتسم واقترب منها خطوة ليجيبها بجدية:
- الموضوع مش زي ما أنتي متخيلة، أمك محطتكيش قدام جامع علشان السبب ده، علشان سبب تاني خالص
اتسعت حدقتاها بصدمة وأردفت بتساؤل:
- أنت عرفت منين؟ أنت قابلتها؟
أدار ظهره لها ليتابع ممارسة الرياضة وهو يقول:
- السؤال ده الإجابة بتاعته مش دلوقتي، أنا جاوبتك على سؤالين علشان بس أرضي فضولك لكن باقي الحكاية هتعرفيها لما تخلصي ثانوية
لم تتحمل وصرخت بصوت مرتفع لتعبر عن رفضها لما يقول:
- لا يا إلياس أنت هتقولي على كل حاجة ودلوقتي، مش عايزة اعرف من الشارع، متبقاش أناني بقى، أنت ايه مش حاسس بيا واللي حاسة بيه؟
اعتدل بعد أن ضغط على شفتيه من شدة الغضب والتفت ليواجهها بعينين مشتعلتين، وأردف بنبرة حادة:
- اقسم بالله يا شهد لو صوتك علي عليا تاني لهخليكي تشوفي وش مني عمرك ما شوفتيه، أنا مش بعد اللي عملته تيجي وتعامليني بالطريقة دي، اللي عايز اقوله هقوله في الوقت المناسب لكن طريقتك دي هتخليني اتعامل معاكي بوش محبش اعاملك بيه، غوري حضري كتبك وهدومك علشان ساعة وهنمشي
تفاجأت بطريقته الحادة معها ولم تستطع الوقوف أمامه لذلك ذهبت لتحضير ما طلبه منها فهي لم تراه بهذا الغضب من قبل.
***
فرد ذراعه بتعب بعد أن خرج من سيارته، نظر إلى ساعته وردد بعدم رضا:
- ورجعنا لقرف الشغل تاني
زفر بقوة وتقدم إلى داخل الشركة وقبل ذهابه إلى مكتبه قرر الذهاب إلى والده الذي طلب منه الحضور إليه عبر مكالمة هاتفية. مر على مكتب «دورا» فلم يجدها لذلك تقدم إلى مكتب والده وفتح الباب دون أن يطرق عليه مما جعل «بكار» يقول بعدم رضا:
- مش تخبط على الباب يا زفت أنت
تقدم بلا مبالاة وجلس على المقعد المقابل له قبل أن يقول:
- أنا زهقان النهاردة يا بابا متقوليش خبط على الباب والشغل ده أنا ابنك وبعدين ده مكتب مش حمام يعني، المهم قولي لماذا استدعيتني إلى هنا
استاء من طريقته في المعاملة فهو تمنى أن يكون ذراعه الأيمن في كل شيء مثل «سليم» الذي يعلم كل شيء عن عمل والده الأصلي وذراعه الأيمن في كل شيء لكن ما حدث مع «كرم» لم ينال رضاه، زفر بقوة قبل أن يجيبه:
- هنبقى كلنا موجودين في قصر عمك مرزوق النهاردة
رفع حاجبيه بتعجب قبل أن يقول باستياء:
- ايه يا بابا هي حكاية ولا ايه ما احنا كنا لسة هناك، بقولك ايه لو ده حوار علشان تخليني اقابل مريم فأنا بقولك دلوقتي أهو انسى
هز رأسه بالرفض وصاح فيه:
- يابني اسمع للآخر ومتقاطعنيش، ابن عمك هادي اللي يرحمه إلياس طلع عايش وهيرجع اسكندرية النهاردة وهنتجمع كلنا علشان نرحب بيه
اتسعت حدقتاه بصدمة ونهض من مكانه ليقول بعدم تصديق:
- أنت بتهزر يا بابا صح؟ إلياس عايش؟!
هز رأسه بالإيجاب وأكد على تلك المعلومة:
- أيوة عايش وأكيد مش ههزر في حاجة زي دي، إلياس هيجي النهاردة وهتشوفه بنفسك
ابتسم بسعادة وخبط بكفه الأيمن على كفه الأيسر ليقول بحماس:
- يااااه يا إلياس، بعد السنين دي كلها تظهر؟!
نظر إلى والده ثم تابع:
- تعرف يا بابا لو مكانش حصل اللي حصل كان زماني أنا وإلياس دلوقتي اكتر من اخوات، إحنا فضلنا عشر سنين نلعب وننزل ونلف مع بعض، اختفاء إلياس بعد الفترة دي كان صدمة ليا وفضلت 3 سنين احاول اتخطى غيابه لأننا كنا مع بعض 24 ساعة وكنت متعود على وجوده، أنا مش مصدق إنه راجع تاني، أخيرا خبر حلو
استاء «بكار» أكثر من تعلق ابنه بـ «إلياس» فهو لا يريد هذه الصداقة بينهما لأنه يعلم أن نيته هي الانتقام ولا يعرف كيف سيتصرف شقيقه الأكبر «مرزوق» في هذا الأمر.
***
انتهت «إيلين» من تجهيز الحقائب الخاصة بها واتجهت مع «إلياس» لتوديع «كريمة» التي حزنت كثيرا على رحيلهما لذلك وعدتهما أنها ستسافر إليهما في اقرب وقت بينما اخبر «مراد» صديقه بأنه على استعداد للسفر معه إلى مدينة الإسكندرية. ما هي إلا دقائق قليلة حتى كانوا بالاسفل مع حقائبهم، كانت هناك سيارة تنتظرهم وخرج السائق بمجرد رؤيته لـ «إلياس» وردد بابتسامة:
- مرزوق باشا باعتني ليك يا إلياس بيه، سيب الشنط وأنا هحطها في العربية واتفضل أنت واللي معاك
هز رأسه بالإيجاب وفتح باب السيارة الخلفي ثم أشار بيده إليها لتدخل دون أن يتفوه بكلمة واحدة، بالفعل استقلت السيارة وتبعها هو ليجلس بجوارها قبل أن يتقدم «مراد» ويستقل المقعد الأمامي بجوار السائق.
انتهى السائق من وضع الحقائب وعاد إلى السيارة لتبدأ رحلة العودة، عودة كلٍ من «إلياس» و«إيلين» إلى مدينتهما التي تحمل لهما ذكريات سيئة للغاية.
كان «إلياس» شاردا طوال الطريق ورغبت «إيلين» في التحدث معه عدة مرات لكنها كانت تتراجع في اللحظات الأخيرة فهو لن يُجيبها على شيء الآن، ظلت على تلك الحالة حتى قررت أخيرا التحدث وأردفت بنبرة مترددة:
- إحنا رايحين اسكندرية ليه؟
نظر إليها نظرة لم تعرف معناها ثم عاد لينظر أمامه مرة أخرى وهو يقول:
- علشان ده المكان اللي اتولدنا فيه، هنا كل حياتنا
رفعت أحد حاجبيها لتقول بعدم رضا:
- قصدك حياتك، أنا مليش حياة هنا
زفر بقوة ورقمها بنظرة غير راضية وهو يقول:
- أنا كمان مليش حياة هنا بس الحياة دي هنعملها احنا، مجبرين على كدا
- وليه مجبرين؟ مش أنت اللي قولت على المكان اللي كنا فيه هو اللي لمنا وبعيد عن كل الناس المؤذية؟
نظر من نافذة السيارة وردد بهدوء:
- مفيش مكان مفيهوش أذى، بدليل اللي حصلك قبل ما نسافر، الأذى حصل واحنا هربانين منه فليه نهرب؟ ما نرجع لنقطة البداية ونواجهه
ضمت ما بين حاجبيها واستنتجت سبب عودته لذلك قالت بتساؤل:
- يعني أنت راجع دلوقتي علشان تواجه كل اللي اتسببوا في الأذى ليك؟
ابتسم ووجه بصره تجاهها ليقول:
- مش بس ليا، ليكي كمان.. أهلك موجودين وأنا أعرفهم بس مش هتعرفي حاجة عنهم غير لما أنا اقولك
هزت رأسها بعدم رضا لتقول بنبرة هادئة:
- مين قالك إني عايزة أعرف حاجة عنهم؟! اللي رموني في الشارع بالطريقة دي مش عايزة اعرف عنهم حاجة، هبيعهم زي ما باعوني
- مش وقت الاختيار دلوقتي، الاختيار بعد المواجهة
كانت على وشك التحدث لكنها شعرت بدوار شديد مما جعلها تضيع يدها على رأسها بتعب فانتبه هو لها وقال بنبرة تحمل القلق:
- مالك؟ فيه حاجة؟!
أجابته وهي تغلق عينيها من شدة الدوار:
- دايخة أوي، قوله يوقف العربية مش قادرة يا إلياس
أمسك بيدها وردد بصوت مرتفع:
- اقف يسطا على جنب شوية
نفذ السائق ما قاله وتوقف بالسيارة على جانب الطريق بينما خرج «إلياس» والتف حول السيارة ثم قام بفتح الباب من جهتها وساعدها على الخروج لكي تستنشق الهواء. في تلك اللحظة ردد «مراد» باهتمام:
- فيه حاجة يا إلياس؟
هز رأسه بالنفي وأجابه بهدوء:
- لا مفيش يا مراد دي إيلين دايخة شوية
رفعها بكلتا يديه ليُجلسها على السيارة من الخارج ونظر إلى الفراغ قائلًا:
- عاملة زيي بيجيلك دوار ودوخة من العربيات
في تلك اللحظة أمسكت بيده وقبضت عليها بقوة مما جعله ينظر إليها فرددت هي بعينان دامعتان:
- أنا آسفة يا إلياس، مكانش ينفع أعلي صوتي عليك أو اكلمك بالطريقة دي، سامحني أنا كنت مضغوطة بسبب اللي حصل ومكنتش عارفة بقول ايه
وضع يده الأخرى على يدها التي تقبض بها على كفه الأيسر وردد بحب:
- طالما اعترفتي بغلطك فأنا مش زعلان، وعلى فكرة ده تاني تشابه بينا وهو إنك وقت الزعل بتبقي عصبية بس ده مش عليا طبعا ياختي
ابتسمت وأردفت بهدوء:
- اوعدك إني مش هكررها تاني، وبعد كدا متتكلمش معايا برسمية كدا زي ما كنت بتتكلم في العربية من شوية
نظر إلى الفراغ أمامه وردد بابتسامة:
- متحاوليش تضايقيني وأنا مش هتكلم برسمية
ثم نظر إليها وتابع:
- كفاية كدا ويلا بينا نتحرك، هنقف في اقرب استراحة واجيبلك واجيبلي حاجة للدوخة علشان الطريق
بالفعل استكملوا طريقهم وأثناء الطريق نظر «إلياس» إلى صغيرته وردد بابتسامة:
- تعالي في حضني
جذبها ولف ذراعه حولها ليقول بحب:
- من 18 سنة كنت جاي من الطريق ده وأنتي معايا، كنت شايلك في حضني وخايف عليكي من كل اللي حوليا، دلوقتي بعد السنين دي كلها راجع معاكي بس وأنتي كبيرة وعروسة وبردو في حضني
سندت عليه وأغلقت عينيها قائلة:
- أنا مستعدة اروح أي مكان طالما هكون معاك، زمان مكنتش فاهمة علشان اقولك اللي هقوله ده بس بجد يا إلياس أنت راجل بمعنى الكلمة، راجل من وأنت طفل، غيرك كان هيشوفني مرمية وكان هيكمل هروب ومكانش هيحطني في دماغه لكن أنت رغم الظروف دي كلها خدتني من وسط الضلمة ومن الشارع وهربت بيا، مش بس كدا ده أنت اتشغلت وتعبت وشقيت في السن ده علشان تصرف عليا وتكبرني وتعلمني وتخليني حاجة محترمة، أنت اللي زيك خيال يا إلياس مش موجود في الواقع، أنت خيال لأي حد يعرف قصتك لكن حقيقي وواقعي ليا أنا، أنا مهما وصفت حبي ليك مش هقدر اعبر بردو، شكرا علشان أنت في حياتي يا إلياس
***
انتقلوا جميعهم إلى قصر «هادي» الذي أمر «مرزوق» بإعادة ترميمه وتجهيزه قبل يومين لاستقبال «إلياس»، كان اللقاء في البداية بقصر «مرزوق» لكنه نقله لقصر شقيقه حتى يكون «إلياس» مطمئنًا أكثر في منزله، كانت حديقة القصر مُجهزة بشكل فاخر للإستقبال الحافل وكانوا جميعهم يتحدثون عنه، منهم من ذكره بالخير ومنهم من غضب بسبب عودته ومنهم من كان يخطط للتخلص منه قبل أن يتخلص هو منهم.
- ياااه يا سما مش مصدق إني هشوف إلياس تاني، كنت باجي هنا كل يوم واقعد طول اليوم معاه وساعات كان يجيلي هو، كانت أيام طفولة جميلة وكانت هتبقى أجمل لو كملت
قالها «كرم» الذي كان متحمسًا وسعيدا لعودة ابن عمه الغائب
بينما رددت «سما» بابتسامة:
- واضح إنك أخيرا لقيت صاحب ليك من ولاد عمك
رفع أحد حاجبيه وأردف بنبرة تحمل السخرية:
- يعني بذمتك هو فيه حد من ولاد عمي يتصاحب؟! يعني هاني وكان علطول برا مصر ولما رجع محدش بيشوفه أصلا وسليم ده بقى يقول للتكبر قوم وأنا اقعد مكانك وعامل فيها اللي محصلش ولا عمره هيحصل، أنا واثق إن إلياس مش هيبقى زيهم، عمي هادي الوحيد اللي كنت بحبه والوحيد اللي كان بيساعد أي حد محتاج والوحيد اللي كان بيعاملني زي ابنه، ابنه لازم يبقى زيه وده اللي شوفته في فترة معرفتي بـ إلياس
على الجانب الآخر نظرت «مريم» إلى «سليم» الذي كان يقف بجوارها ورددت بحيرة:
- يعني لو إلياس عايش إزاي قعد السنين دي كلها بعيد عن الإسكندرية وبعيد عن فلوس أبوه
نظر إليها «سليم» وأردف بابتسامة سخرية:
- موضوع إلياس ده أصلا مش داخل دماغي بربع جنيه، إزاي هرب في السن ده وإزاي عاش الفترة دي كلها بعيد وليه بعد السنين دي كلها يقرر يظهر، أكيد راجع يقشط فلوس العيلة
رفعت أحد حاجبيها ونظرت إليه لتقول باعتراض:
- أنت لسة مشوفتوش علشان تتهمه إتهام زي ده، كل واحد وله أسبابه بردو، اشمعنا كرم يعني اللي مبسوط برجوعه
ضحك ونظر تجاه «كرم» قبل أن يقول بسخرية:
- كرم ده أصلا تافه، بيصبر نفسه بالفترة اللي قعدها مع إلياس في طفولتهم وفاكر نفسه خلاص لقى صاحب عمره، ميعرفش إن إلياس ده أكبر خطر
عقدت حاجبيها بتعجب لما يقول فهو يتحدث عنه وكأنه عدو له وليس ابن عمه مما جعلها تتحرك مبتعدة عنه.
كثرت الأحاديث التي كانت تخص «إلياس» بينهم وظل هذا الحوار بينهما قائم حتى استمعوا لصوت قدوم السيارة فوقفوا جميعهم في صف واحد بعد أن سيطر الصمت عليهم، تعلقت الأنظار بتلك السيارة وانتظروا نزوله منها.
ماهي إلا ثوانٍ قليلة حتى ترجل «إلياس» من السيارة ليوجه بصره إليهم جميعًا وبداخله نار تحترق فها هم قتلة أبيه!
في تلك اللحظة تقدم «سليم» وقد جحظت عيناه ليقول بصدمة:
- هو أنت؟!
بينما تقدم «كرم» ومعه شقيقته «سما» ليقولا في صوت واحد:
- أنت؟
هنا ابتسم «إلياس» ونظر تجاه «كرم» وهو يقول بعدم تصديق:
- مش معقولة؟! أنت بتاع الهرم والخناقة، معقولة أنت كرم!
لم يقف «كرم» هكذا وركض ليحضنه بقوة قبل أن يقول بحب:
- سبحان الله، امبارح اشوفك ومعرفكش والنهاردة اتفاجئ إنك إلياس، وحشتني يا ابن عمي
ارتاح «إلياس» كثيرا له فمن الواضح بأن ابن عمه لم يسير على نهج والده، شعر بطيبة قلبه كما أن ايامه معه في طفولته جعلته يحن له كثيرا وكأنه وجد أخ له من ماضيه.
في تلك اللحظة خرج «مراد» هو الآخر من سيارته بعد أن رآها بعينيه، نعم هي التي شغلت تفكيره بالأمس بعد أن تحول شجارهما لصداقة، كيف تحدث صدفة كهذه؟!
تبعته «إيلين» التي ترجلت من السيارة وسارت تجاه «إلياس» قبل أن تمسك بذراعه. انتقل بصر «كرم» إليها قبل أن تجحظ عيناه بصدمة ليقول بعدم تصديق:
- دورا؟
لذلك كان يحرص كل الحرص على أداء تلك السنة قبل أداء صلاة الفجر.
مر الوقت وانتهت الصلاة قبل أن يتجه «إلياس» إلى الحاج «خلف» الذي نظر إليه باهتمام ليقول الأول بجدية:
- أنا مسافر النهاردة أنا وإيلين يا حاج خلف، جيه الوقت اللي كنت مستنيه وقولتلك عليه
نظر إليه نظرة تحمل القلق فهو يعتبره ابنا من ابنائه وردد بهدوء:
- إلياس يابني عقاب ربنا هيجيلهم في الدنيا والآخرة، خليك ومتدخلش عالمهم لأن الناس دي ملهاش أمان، دخولك وسطهم يعني دخولك جحر التعابين والتعالب
ابتسم «إلياس» ليجيبه بإصرار وقد اتخذ قراره:
- متقلقش يا حاج خلف، أنا دخلت الجحر ده من زمان، أنا معنديش حاجة اخسرها وفي نفس الوقت ربنا معايا، جيه الوقت اللي ينتهي فيه ظلمهم، ادعيلي بس يا عم خلف وسيبها على الله
ربت على كتفه بهدوء ونظر إلى عينيه ليقول بثقة:
- أنت راجل وجدع يا إلياس، أنا واثق إن ربنا هيبقى معاك ويحميك منهم لأنك نضيف من جوا، هدعيلك يا أبو قلب ابيض، هدعيلك ربنا ينجيك وينصرك عليهم وتنهي ظلمهم
ابتسم ورفع يده لكي يقبلها قبل أن يقول:
- بس مش عايز حاجة تانية غير الدعوة دي يا والدي
حضنه «خلف» بقوة لكي يودعه بينما تنفس الآخر قائلًا:
- مش هتأخر إن شاء الله
رحل «إلياس» عائدا للمنزل وما إن دلف حتى وجد العشاء الذي جهزه بالأمس مما بث الحزن بداخله فهو أراد أن يكتمل اليوم على خير لكن ما حدث كان عكس ذلك، تنفس بهدوء ثم توجه إلى غرفته وقام بتجهيز المتبقي من أشيائه استعدادا للسفر. مر من الوقت ساعتين قبل أن تستيقظ «إيلين» من نومها، خرجت من غرفتها لتجد «إلياس» يمارس رياضته الصباحية وهي الضغط، تجاهلته واتجهت إلى المطبخ فسمع هو صوتها لذلك اعتدل وتوجه تجاه الصوت قبل أن يقول بتساؤل:
- كويس إنك صحيتي، جهزي كتبك وحاجاتك المهمة علشان هنسافر اسكندرية النهاردة
رفعت أحد حاجبيها ورددت بتساؤل:
- ليه؟
أدار ظهره لها واستعد للرحيل وهو يجيبها:
- كدا هنقعد هناك فترة وهنقلك لمدرسة هناك تكملي فيها
تحرك خطوتين بعيدا عنها لتوقفه كلماتها المفاجئة:
- ولو قولتلك مش هسافر
التفت ونظر إليها نظرة غير راضية فهو اعتقد أنها تعاقبه على اخفائه أمر عائلتها لذلك ابتسم وردد بهدوء:
- أنا مش باخد رأيك، أنتي هتسافري سواء برضاكي أو غصب عنك
رحل وتركها لتبكي فهي لم تتوقع هذا الرد منه، بداخلها نار تحترق ولا تستطيع التحدث فهي ألقت اللوم على «إلياس» الذي لا ذنب له، هو فعل كل شيء لأجلها لكنها لم تتحمل كذبه عليها كما أن صدمتها في معرفة ماضيها جعلت عقلها مشوش للغاية.
التقطت أنفاسها وقررت الذهاب إليه لسؤاله في بعض النقاط الغامضة المتعلقة بحالتها تلك، وبالفعل سارت حتى وصلت إليه فهو كان يتابع ممارسة الرياضة، وقفت أمامه وأردفت بتساؤل:
- عرفت إن اسمي الحقيقي شهد واسم عيلتي إزاي وأنت أصلا لقيتني في الشارع
لم يجيبها وظل يتابع مرانه وما إن انتهى حتى اعتدل ونظر إليها قائلًا:
- في أول مرة غيرتلك فيها هدومك، لقيت شهادة ميلادك في الهدوم
ضيقت نظراتها بعدم فهم لتسأل مرة أخرى:
- لو رموني في الشارع فعلشان ميكونش ليا وجود وافضحهم إزاي فيه شهادة ميلاد؟
ابتسم واقترب منها خطوة ليجيبها بجدية:
- الموضوع مش زي ما أنتي متخيلة، أمك محطتكيش قدام جامع علشان السبب ده، علشان سبب تاني خالص
اتسعت حدقتاها بصدمة وأردفت بتساؤل:
- أنت عرفت منين؟ أنت قابلتها؟
أدار ظهره لها ليتابع ممارسة الرياضة وهو يقول:
- السؤال ده الإجابة بتاعته مش دلوقتي، أنا جاوبتك على سؤالين علشان بس أرضي فضولك لكن باقي الحكاية هتعرفيها لما تخلصي ثانوية
لم تتحمل وصرخت بصوت مرتفع لتعبر عن رفضها لما يقول:
- لا يا إلياس أنت هتقولي على كل حاجة ودلوقتي، مش عايزة اعرف من الشارع، متبقاش أناني بقى، أنت ايه مش حاسس بيا واللي حاسة بيه؟
اعتدل بعد أن ضغط على شفتيه من شدة الغضب والتفت ليواجهها بعينين مشتعلتين، وأردف بنبرة حادة:
- اقسم بالله يا شهد لو صوتك علي عليا تاني لهخليكي تشوفي وش مني عمرك ما شوفتيه، أنا مش بعد اللي عملته تيجي وتعامليني بالطريقة دي، اللي عايز اقوله هقوله في الوقت المناسب لكن طريقتك دي هتخليني اتعامل معاكي بوش محبش اعاملك بيه، غوري حضري كتبك وهدومك علشان ساعة وهنمشي
تفاجأت بطريقته الحادة معها ولم تستطع الوقوف أمامه لذلك ذهبت لتحضير ما طلبه منها فهي لم تراه بهذا الغضب من قبل.
***
فرد ذراعه بتعب بعد أن خرج من سيارته، نظر إلى ساعته وردد بعدم رضا:
- ورجعنا لقرف الشغل تاني
زفر بقوة وتقدم إلى داخل الشركة وقبل ذهابه إلى مكتبه قرر الذهاب إلى والده الذي طلب منه الحضور إليه عبر مكالمة هاتفية. مر على مكتب «دورا» فلم يجدها لذلك تقدم إلى مكتب والده وفتح الباب دون أن يطرق عليه مما جعل «بكار» يقول بعدم رضا:
- مش تخبط على الباب يا زفت أنت
تقدم بلا مبالاة وجلس على المقعد المقابل له قبل أن يقول:
- أنا زهقان النهاردة يا بابا متقوليش خبط على الباب والشغل ده أنا ابنك وبعدين ده مكتب مش حمام يعني، المهم قولي لماذا استدعيتني إلى هنا
استاء من طريقته في المعاملة فهو تمنى أن يكون ذراعه الأيمن في كل شيء مثل «سليم» الذي يعلم كل شيء عن عمل والده الأصلي وذراعه الأيمن في كل شيء لكن ما حدث مع «كرم» لم ينال رضاه، زفر بقوة قبل أن يجيبه:
- هنبقى كلنا موجودين في قصر عمك مرزوق النهاردة
رفع حاجبيه بتعجب قبل أن يقول باستياء:
- ايه يا بابا هي حكاية ولا ايه ما احنا كنا لسة هناك، بقولك ايه لو ده حوار علشان تخليني اقابل مريم فأنا بقولك دلوقتي أهو انسى
هز رأسه بالرفض وصاح فيه:
- يابني اسمع للآخر ومتقاطعنيش، ابن عمك هادي اللي يرحمه إلياس طلع عايش وهيرجع اسكندرية النهاردة وهنتجمع كلنا علشان نرحب بيه
اتسعت حدقتاه بصدمة ونهض من مكانه ليقول بعدم تصديق:
- أنت بتهزر يا بابا صح؟ إلياس عايش؟!
هز رأسه بالإيجاب وأكد على تلك المعلومة:
- أيوة عايش وأكيد مش ههزر في حاجة زي دي، إلياس هيجي النهاردة وهتشوفه بنفسك
ابتسم بسعادة وخبط بكفه الأيمن على كفه الأيسر ليقول بحماس:
- يااااه يا إلياس، بعد السنين دي كلها تظهر؟!
نظر إلى والده ثم تابع:
- تعرف يا بابا لو مكانش حصل اللي حصل كان زماني أنا وإلياس دلوقتي اكتر من اخوات، إحنا فضلنا عشر سنين نلعب وننزل ونلف مع بعض، اختفاء إلياس بعد الفترة دي كان صدمة ليا وفضلت 3 سنين احاول اتخطى غيابه لأننا كنا مع بعض 24 ساعة وكنت متعود على وجوده، أنا مش مصدق إنه راجع تاني، أخيرا خبر حلو
استاء «بكار» أكثر من تعلق ابنه بـ «إلياس» فهو لا يريد هذه الصداقة بينهما لأنه يعلم أن نيته هي الانتقام ولا يعرف كيف سيتصرف شقيقه الأكبر «مرزوق» في هذا الأمر.
***
انتهت «إيلين» من تجهيز الحقائب الخاصة بها واتجهت مع «إلياس» لتوديع «كريمة» التي حزنت كثيرا على رحيلهما لذلك وعدتهما أنها ستسافر إليهما في اقرب وقت بينما اخبر «مراد» صديقه بأنه على استعداد للسفر معه إلى مدينة الإسكندرية. ما هي إلا دقائق قليلة حتى كانوا بالاسفل مع حقائبهم، كانت هناك سيارة تنتظرهم وخرج السائق بمجرد رؤيته لـ «إلياس» وردد بابتسامة:
- مرزوق باشا باعتني ليك يا إلياس بيه، سيب الشنط وأنا هحطها في العربية واتفضل أنت واللي معاك
هز رأسه بالإيجاب وفتح باب السيارة الخلفي ثم أشار بيده إليها لتدخل دون أن يتفوه بكلمة واحدة، بالفعل استقلت السيارة وتبعها هو ليجلس بجوارها قبل أن يتقدم «مراد» ويستقل المقعد الأمامي بجوار السائق.
انتهى السائق من وضع الحقائب وعاد إلى السيارة لتبدأ رحلة العودة، عودة كلٍ من «إلياس» و«إيلين» إلى مدينتهما التي تحمل لهما ذكريات سيئة للغاية.
كان «إلياس» شاردا طوال الطريق ورغبت «إيلين» في التحدث معه عدة مرات لكنها كانت تتراجع في اللحظات الأخيرة فهو لن يُجيبها على شيء الآن، ظلت على تلك الحالة حتى قررت أخيرا التحدث وأردفت بنبرة مترددة:
- إحنا رايحين اسكندرية ليه؟
نظر إليها نظرة لم تعرف معناها ثم عاد لينظر أمامه مرة أخرى وهو يقول:
- علشان ده المكان اللي اتولدنا فيه، هنا كل حياتنا
رفعت أحد حاجبيها لتقول بعدم رضا:
- قصدك حياتك، أنا مليش حياة هنا
زفر بقوة ورقمها بنظرة غير راضية وهو يقول:
- أنا كمان مليش حياة هنا بس الحياة دي هنعملها احنا، مجبرين على كدا
- وليه مجبرين؟ مش أنت اللي قولت على المكان اللي كنا فيه هو اللي لمنا وبعيد عن كل الناس المؤذية؟
نظر من نافذة السيارة وردد بهدوء:
- مفيش مكان مفيهوش أذى، بدليل اللي حصلك قبل ما نسافر، الأذى حصل واحنا هربانين منه فليه نهرب؟ ما نرجع لنقطة البداية ونواجهه
ضمت ما بين حاجبيها واستنتجت سبب عودته لذلك قالت بتساؤل:
- يعني أنت راجع دلوقتي علشان تواجه كل اللي اتسببوا في الأذى ليك؟
ابتسم ووجه بصره تجاهها ليقول:
- مش بس ليا، ليكي كمان.. أهلك موجودين وأنا أعرفهم بس مش هتعرفي حاجة عنهم غير لما أنا اقولك
هزت رأسها بعدم رضا لتقول بنبرة هادئة:
- مين قالك إني عايزة أعرف حاجة عنهم؟! اللي رموني في الشارع بالطريقة دي مش عايزة اعرف عنهم حاجة، هبيعهم زي ما باعوني
- مش وقت الاختيار دلوقتي، الاختيار بعد المواجهة
كانت على وشك التحدث لكنها شعرت بدوار شديد مما جعلها تضيع يدها على رأسها بتعب فانتبه هو لها وقال بنبرة تحمل القلق:
- مالك؟ فيه حاجة؟!
أجابته وهي تغلق عينيها من شدة الدوار:
- دايخة أوي، قوله يوقف العربية مش قادرة يا إلياس
أمسك بيدها وردد بصوت مرتفع:
- اقف يسطا على جنب شوية
نفذ السائق ما قاله وتوقف بالسيارة على جانب الطريق بينما خرج «إلياس» والتف حول السيارة ثم قام بفتح الباب من جهتها وساعدها على الخروج لكي تستنشق الهواء. في تلك اللحظة ردد «مراد» باهتمام:
- فيه حاجة يا إلياس؟
هز رأسه بالنفي وأجابه بهدوء:
- لا مفيش يا مراد دي إيلين دايخة شوية
رفعها بكلتا يديه ليُجلسها على السيارة من الخارج ونظر إلى الفراغ قائلًا:
- عاملة زيي بيجيلك دوار ودوخة من العربيات
في تلك اللحظة أمسكت بيده وقبضت عليها بقوة مما جعله ينظر إليها فرددت هي بعينان دامعتان:
- أنا آسفة يا إلياس، مكانش ينفع أعلي صوتي عليك أو اكلمك بالطريقة دي، سامحني أنا كنت مضغوطة بسبب اللي حصل ومكنتش عارفة بقول ايه
وضع يده الأخرى على يدها التي تقبض بها على كفه الأيسر وردد بحب:
- طالما اعترفتي بغلطك فأنا مش زعلان، وعلى فكرة ده تاني تشابه بينا وهو إنك وقت الزعل بتبقي عصبية بس ده مش عليا طبعا ياختي
ابتسمت وأردفت بهدوء:
- اوعدك إني مش هكررها تاني، وبعد كدا متتكلمش معايا برسمية كدا زي ما كنت بتتكلم في العربية من شوية
نظر إلى الفراغ أمامه وردد بابتسامة:
- متحاوليش تضايقيني وأنا مش هتكلم برسمية
ثم نظر إليها وتابع:
- كفاية كدا ويلا بينا نتحرك، هنقف في اقرب استراحة واجيبلك واجيبلي حاجة للدوخة علشان الطريق
بالفعل استكملوا طريقهم وأثناء الطريق نظر «إلياس» إلى صغيرته وردد بابتسامة:
- تعالي في حضني
جذبها ولف ذراعه حولها ليقول بحب:
- من 18 سنة كنت جاي من الطريق ده وأنتي معايا، كنت شايلك في حضني وخايف عليكي من كل اللي حوليا، دلوقتي بعد السنين دي كلها راجع معاكي بس وأنتي كبيرة وعروسة وبردو في حضني
سندت عليه وأغلقت عينيها قائلة:
- أنا مستعدة اروح أي مكان طالما هكون معاك، زمان مكنتش فاهمة علشان اقولك اللي هقوله ده بس بجد يا إلياس أنت راجل بمعنى الكلمة، راجل من وأنت طفل، غيرك كان هيشوفني مرمية وكان هيكمل هروب ومكانش هيحطني في دماغه لكن أنت رغم الظروف دي كلها خدتني من وسط الضلمة ومن الشارع وهربت بيا، مش بس كدا ده أنت اتشغلت وتعبت وشقيت في السن ده علشان تصرف عليا وتكبرني وتعلمني وتخليني حاجة محترمة، أنت اللي زيك خيال يا إلياس مش موجود في الواقع، أنت خيال لأي حد يعرف قصتك لكن حقيقي وواقعي ليا أنا، أنا مهما وصفت حبي ليك مش هقدر اعبر بردو، شكرا علشان أنت في حياتي يا إلياس
***
انتقلوا جميعهم إلى قصر «هادي» الذي أمر «مرزوق» بإعادة ترميمه وتجهيزه قبل يومين لاستقبال «إلياس»، كان اللقاء في البداية بقصر «مرزوق» لكنه نقله لقصر شقيقه حتى يكون «إلياس» مطمئنًا أكثر في منزله، كانت حديقة القصر مُجهزة بشكل فاخر للإستقبال الحافل وكانوا جميعهم يتحدثون عنه، منهم من ذكره بالخير ومنهم من غضب بسبب عودته ومنهم من كان يخطط للتخلص منه قبل أن يتخلص هو منهم.
- ياااه يا سما مش مصدق إني هشوف إلياس تاني، كنت باجي هنا كل يوم واقعد طول اليوم معاه وساعات كان يجيلي هو، كانت أيام طفولة جميلة وكانت هتبقى أجمل لو كملت
قالها «كرم» الذي كان متحمسًا وسعيدا لعودة ابن عمه الغائب
بينما رددت «سما» بابتسامة:
- واضح إنك أخيرا لقيت صاحب ليك من ولاد عمك
رفع أحد حاجبيه وأردف بنبرة تحمل السخرية:
- يعني بذمتك هو فيه حد من ولاد عمي يتصاحب؟! يعني هاني وكان علطول برا مصر ولما رجع محدش بيشوفه أصلا وسليم ده بقى يقول للتكبر قوم وأنا اقعد مكانك وعامل فيها اللي محصلش ولا عمره هيحصل، أنا واثق إن إلياس مش هيبقى زيهم، عمي هادي الوحيد اللي كنت بحبه والوحيد اللي كان بيساعد أي حد محتاج والوحيد اللي كان بيعاملني زي ابنه، ابنه لازم يبقى زيه وده اللي شوفته في فترة معرفتي بـ إلياس
على الجانب الآخر نظرت «مريم» إلى «سليم» الذي كان يقف بجوارها ورددت بحيرة:
- يعني لو إلياس عايش إزاي قعد السنين دي كلها بعيد عن الإسكندرية وبعيد عن فلوس أبوه
نظر إليها «سليم» وأردف بابتسامة سخرية:
- موضوع إلياس ده أصلا مش داخل دماغي بربع جنيه، إزاي هرب في السن ده وإزاي عاش الفترة دي كلها بعيد وليه بعد السنين دي كلها يقرر يظهر، أكيد راجع يقشط فلوس العيلة
رفعت أحد حاجبيها ونظرت إليه لتقول باعتراض:
- أنت لسة مشوفتوش علشان تتهمه إتهام زي ده، كل واحد وله أسبابه بردو، اشمعنا كرم يعني اللي مبسوط برجوعه
ضحك ونظر تجاه «كرم» قبل أن يقول بسخرية:
- كرم ده أصلا تافه، بيصبر نفسه بالفترة اللي قعدها مع إلياس في طفولتهم وفاكر نفسه خلاص لقى صاحب عمره، ميعرفش إن إلياس ده أكبر خطر
عقدت حاجبيها بتعجب لما يقول فهو يتحدث عنه وكأنه عدو له وليس ابن عمه مما جعلها تتحرك مبتعدة عنه.
كثرت الأحاديث التي كانت تخص «إلياس» بينهم وظل هذا الحوار بينهما قائم حتى استمعوا لصوت قدوم السيارة فوقفوا جميعهم في صف واحد بعد أن سيطر الصمت عليهم، تعلقت الأنظار بتلك السيارة وانتظروا نزوله منها.
ماهي إلا ثوانٍ قليلة حتى ترجل «إلياس» من السيارة ليوجه بصره إليهم جميعًا وبداخله نار تحترق فها هم قتلة أبيه!
في تلك اللحظة تقدم «سليم» وقد جحظت عيناه ليقول بصدمة:
- هو أنت؟!
بينما تقدم «كرم» ومعه شقيقته «سما» ليقولا في صوت واحد:
- أنت؟
هنا ابتسم «إلياس» ونظر تجاه «كرم» وهو يقول بعدم تصديق:
- مش معقولة؟! أنت بتاع الهرم والخناقة، معقولة أنت كرم!
لم يقف «كرم» هكذا وركض ليحضنه بقوة قبل أن يقول بحب:
- سبحان الله، امبارح اشوفك ومعرفكش والنهاردة اتفاجئ إنك إلياس، وحشتني يا ابن عمي
ارتاح «إلياس» كثيرا له فمن الواضح بأن ابن عمه لم يسير على نهج والده، شعر بطيبة قلبه كما أن ايامه معه في طفولته جعلته يحن له كثيرا وكأنه وجد أخ له من ماضيه.
في تلك اللحظة خرج «مراد» هو الآخر من سيارته بعد أن رآها بعينيه، نعم هي التي شغلت تفكيره بالأمس بعد أن تحول شجارهما لصداقة، كيف تحدث صدفة كهذه؟!
تبعته «إيلين» التي ترجلت من السيارة وسارت تجاه «إلياس» قبل أن تمسك بذراعه. انتقل بصر «كرم» إليها قبل أن تجحظ عيناه بصدمة ليقول بعدم تصديق:
- دورا؟
يتبع الفصل الخامس عشر اضغط هنا
الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة: "رواية شمس الياس" اضغط على أسم الرواية