رواية شمس الياس الفصل الاول بقلم عبد الرحمن احمد الرداد
رواية شمس الياس الفصل الاول
أنفاس ذات صوت مرتفع كانت تشق صمت الليل المظلم، كانت تزداد ويرتفع صوتها مع زيادة المسافة التي يركضُها هذا الطفل البالغ من العمر عشرة أعوام، توقف قليلًا وأخذ يلتقط أنفاسه بصعوبة كبيرة؛ ذلك لطول المسافة التي ركضها؛ هربًا من قدره، نظر خلفه برعب؛ خوفًا من أن يقترب منه أحد ويعثر عليه، لم ينتظر أكثر وركض بكل ما أُوتي من قوة حتى وصل إلى مكان به مسجد كبير وكان أمامه مُبَرِّدْ مياه، نظر خلفه ليرى هل وصل إليه أحد أم لا؟ وما إن تأكد من خلو الطريق من خلفه حتى عبر إلى الجهة الأخرى واقترب من مبرد المياه ثم فتح الصنبور وملأ الكوب كاملًا ثم تناوله سريعًا وتجرعه على مرة واحدة؛ بسبب شدة عطشه، أعاد الكرة مرة أخرى وقبل أن يركض هربًا استمع إلى بكاء طفل رضيع بالقرب من المسجد، نظر إلى الطريق أمامه ثم تحرك ببصره ونظر إلى المسجد وعقله يصارعه؛ هل يتابع هربه أم يرى صوت بكاء هذا الرضيع؟ اتخذ قراره واستمع لقلبه وتحرك بحذر باتجاه المسجد وما إن وصل إلى بابه حتى وجد هذا الرضيع الذي كان مُلتفًا بغطاء رمادي اللون، اقترب الطفل من هذا الرضيع ووضع يده على وجهه فوجدها أنثى بسبب الحلق الطبي الذي كان يُزين أُذنيها، ضم حاجبيه بحزن وكأنه يقول بداخل نفسه "مسكينة تلك الطفلة، أصبحتْ وحيدة كما أصبحتُ وحيدًا، لا أدري هل أصطحبها معي أم لا؟ من الممكن أن تتعرض حياتها للخطر إذا تركتها ورحلت، ستُصبح رفيقة دربي بعد الآن"
بالفعل اتخذ قراره وحملها بين ذراعيه ثم تابع ركْضَه بعيدًا عن هذا المكان وكان يقف ويأخذ قسط من الراحة عندما يشعر بالتعب، وصل إلى موقف وكان به سيارة وحيدة "ميكروباص" فاقترب منها وهو يحمل الطفلة بين ذراعيه، هنا صاح أحد الركاب وقال بسعادة:
- الناقص وصل يااسطى، اتحرك بينا بقى الله يفتح عليك الساعة بقت تلاتة الفجر
تردد الطفل «إلياس» فيما هو مُقدم عليه لكنه اتخذ قراره في النهاية ونظر إلى السائق من نافذة السيارة وهو يقول بحزن واضح:
- معلش يااسطى ممكن تاخدنا معاك؟ أنا مش معايا فلوس وأنا وأختي لوحدنا في الطريق
صاح السائق بصوت مرتفع شق صمت الليل:
- غور ياض أنت وهي مش ناقصة تسول
هنا هتف أحد الركاب وقال باعتراض شديد:
- حرام عليك ياسطى أنت معندكش عيال، أنا هدفعله، تعالى يا حبيبي اقعد وأنت ياسطى أنجز واتحرك بقالنا ساعتين واقفين ورانا مصالح الصبح بدري والوقت يادوب هيروح في الطريق
بالفعل استقل الطفل المقعد الفارغ بجوار هذا الذي تحدث وقرر دفع الأجرة له، مسح على رأس الرضيعة ثم رفع رأسه ونظر إليه قائلًا بامتنان:
- شكرًا
ابتسم الرجل ومسح على رأسه وهو يقول بهدوء:
- العفو يا حبيبي
ثم نظر إلى الطفلة التي كانت بين ذراعيه وردد بتساؤل:
- أختك دي؟
لم يتردد وهز رأسه بالإيجاب قائلًا:
- أيوة أختي
اختفت ابتسامته وضيق ما بين حاجبيه سائلًا بتعجب:
- وايه اللي مخليكم لوحدكم كدا خصوصًا وإن أختك لسه صغيرة بالشكل ده؟
فكر في شيء ليقوله له؛ كي يهرب من سؤاله لكن صوت السائق المرتفع دوى في المكان وهو يقول:
- لموا الأجرة من بعض يا جدعان أنا باخد الأجرة قبل ما نوصل
ردد أحد الركاب باعتراض:
- وطي صوتك شوية يااسطا فيه ناس نامت وبعدين على طول بندفع لما نوصل، بص قدامك بقى وكمل طريقك الواحد فيه اللي مكفيه
همهم السائق بكلمات غير مفهومة تحمل الإهانة وتابع طريقه المظلم.
بعد سفر دام لثلاث ساعات فتح «إلياس» عينيه ليجد ضوء الشمس يخترق زجاج السيارة ويصل إلى وجهه، هنا نظر بلهفة إلى الرضيعة فوجدها نائمة، ابتسم ومسح على وجهها؛ فهي أصبحت في حمايته ورعايته الآن، فكر في صاحبة القلب المتحجر التي تركت طفلتها ورحلت، وفي تلك اللحظة عرف أنها لا تختلف عن هؤلاء الذين دمروا حياته وجعلوه وحيدًا، قطع تفكيره صوت السائق الذي قال بهدوء:
- حمدلله على السلامة يا جماعة وصلنا
بدأ الجميع في تجميع الأجرة وقاموا بإرسالها إلى السائق الذي تابع قيادته إلى الموقف الخاص بسيارات الأجرة.
وصلوا أخيرًا ومع توقف السيارة صرخت الطفلة باكية دون أن تفتح عينيها فحاول «إلياس» تهدئتها لكن جميع محاولاته باءت بالفشل، فهنا طلب منه الراكب الذي دفع له بأن يترجل من السيارة وبالفعل نفذ ما طلبه منه، وضع يده على كتفه وقال بجدية:
- تعال يلا نروح الصيدلية اللي هناك دي نجيب بامبرز ولبن علشان شكلها جعانة
لم يتحدث وسار معه إلى الصيدلية فقام الأول بشراء ما تحدث عنه وطلب من الطبيب بأن يسمح له بدخول المرحاض كي يقوم بتغيير حفاضتها فوافق الطبيب، هنا رفض «إلياس» طلبه وقال بصوت هادئ:
- هغيرلها أنا
ابتسم الرجل واحترم رغبته قبل أن يسمح له بذلك، بعد خمس دقائق خرج الطفل بعد أن قام بتبديل حفاضتها ولكنه لم يجد الرجل الذي كان معهما فابتسم الطبيب يطمئنه قائلًا:
- ماتقلقش هو مش هيتأخر، هيحضر اللبن للطفلة وجاي
هز رأسه بالإيجاب ببراءة وجلس بها على مقعد في ركن صغير وانتظر لأكثر من ساعة والرضيعة تبكي من حين لآخر، قبل أن يقرر الرحيل دلف «طارق» إلى الصيدلية وقال بابتسامة:
- معلش اتأخرت
اقترب منه وقام بإعطائه وعاء الحليب الخاص بالرُضع فقام «إلياس» بدوره ووضع الحليب بفمها وهنا فتحت الرضيعة عينيها لينبهر إلياس بلونهما العسلي الصافي كقرص الشمس وشعر بأنه سُحر بلونهما أخذ يشربها الحليب فشربت منه الكثير بسبب جوعها وما إن شبعت حتى ابتسمت له ابتسامة عذبة جعلته يبتسم لها هو الآخر تلقائيًا، هنا ردد «طارق» بجدية:
- في حالتك دي بقى أكيد محتاج مكان تقعد فيه صح؟
هز رأسه بالإيجاب وقال بطفولية:
- لو مش هتقل على حضرتك عايز مكان وشغل
ابتسم بهدوء وقال بتساؤل:
- قولي الأول اسمك ايه؟
أسرع وأجابه على الفور:
- إلياس، اسمي إلياس
تابع بابتسامته الهادئة وهو يربت على كتفه:
- اسمك جميل يا إلياس، بص أنا هعمل اللي عليا وأجيبلك مكان وشغل بس سامحني مش هقدر أدفع إيجار المكان ده غير أول شهر، أنا برضه حالتي على قدي
هز رأسه بابتسامة ونهض مسرعًا من مكانه وهو يقول:
- حلو جدًا بعد كدا هدفع أنا من شغلي
مسح على رأسه بهدوء قبل أن يقول:
- طيب يلا بينا
ساروا لمسافة طويلة حتى وصلوا إلى منطقة شعبية وفقيرة للغاية، تحركوا في الشوارع إلى أن وصلوا إلى حارة بها مقهى ومسجد صغير وفي منتصفها بقالة كان يوجد أمامها محل تزيين حريمي صغير، بدأ «طارق» في إجراءات تأجير شقة بهذا المكان وبالفعل نجح في ذلك ثم أخذ «إلياس» وذهب به إلى «خضر» المالك الوحيد للمقهى وقال له بجدية:
- بقولك ايه يا معلم خضر أنا قاصدك في خدمة
نهض «خضر» من كرسيه ورمق «إلياس» بتفحص قبل أن يحرك بصره إلى «طارق» قائلًا:
- خير يا أستاذ طارق، اؤمر
وضع يده على ظهر «إلياس» وقال بابتسامة:
- عايزك تشغل إلياس معاك، مقطوع من شجرة وراجل عايز يصرف على نفسه وعلى أخته الصغيرة
نظر «خضر» إليه مرة أخرى ونظر تلك المرة بتفحص أكثر قبل أن يُحدثه بجدية قائلًا:
- شغل القهوة عايز رجالة مش حريم، هتشتغل هنا يبقى تثبت إنك تستحق تفضل هنا على طول وإلا مالكش شغل عندي
أسرع الطفل وقال بثقة كبيرة:
- ماتقلقش يا معلم خضر أنا هثبت إني أستحق، مستعد أشتغل من دلوقتي كمان لو حابب
رفع أحد حاجبيه بتفكير قبل أن يقول بجدية:
- اجري انجر على جوا خلي مسعود يفهمك هتعمل ايه أما نشوف آخرتها
بالفعل دلف هو إلى الداخل بينما تحدث «طارق» إلى خضر لبضع ثوانٍ قبل أن يرحل.
بدأ «مسعود» في شرح دوره في العمل وكان ينصت هو إليه إلى أن تذكر صغيرته فقال بهدوء:
- معلش يا مسعود هطلع أشوف أختي علشان سايبها لوحدها، هي كانت نايمة بس خايف تصحى وتعيط
نظر إليه لعدة ثوانٍ قبل أن يقول بتساؤل:
- أختك؟! أنت ليك أخت؟
صمت قليلًا ليفكر في رد مناسب حتى لا يوقع نفسه بالمشاكل مستقبلًا قبل أن يجيبه:
- بص هي مش أختي، هي تبقى بنت خالتي وبعتبرها أختي لأن مالهاش حد وهي لسه طفلة رضيعة
ابتسم «مسعود» ذو القلب النقي والذي يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا وقال بهدوء:
- استأذن من المعلم خضر الأول، ونصيحة مني سيبها مع حد من الجيران في الوقت بتاع شغلك علشان ماتنشغلش بيها ونصيحة كمان ارضي المعلم واسمع كلامه وأنت هتاكل الشهد
حرك رأسه بالإيجاب وانصرف من أمامه وذهب إلى «خضر» الذي رفع بصره له قائلًا بتساؤل:
- في ايه ياض؟ عايز ايه؟
نظر إلى الأسفل وتردد في ما هو مُقدم عليه لكنه تمالك أعصابه عندما تذكر أنها وحدها وقال بهدوء:
- بعد إذنك يا معلم خضر، هطلع أشوف بس أختي الصغيرة زمانها صحيت من النوم، أوعدك ده مش هيتكرر تاني وهسيبها مع حد
وضع قدمًا فوق الأخرى ونظر إليه نظرة مطولة قبل أن يقول بجدية:
- ماشي روح بس قدامك عشر دقايق بس، واعمل حسابك إنك لو عايز تكمل هنا مفيش الكلام ده تاني، شغلك هيبقى من 9 الصبح لـ 5 المغرب ومرتبك هيبقى كبير علشان بس أنت اللي مسئول عن أختك وإيجار الشقة
ابتسم ابتسامة هادئة ورفع بصره ليقول بامتنان طفولي:
- ربنا يخليك يا معلم خضر تسلم، أنا هطلع ومش هتأخر
تركه وصعد إلى شقته الصغيرة بالعمارة المجاورة للمقهى وكانت في الطابق الثاني، فتح الباب وتقدم إلى الداخل، كانت الشقة عبارة عن غرفتين صغيرتين وصالة ومرحاض ولا يوجد بها مطبخ، اتجه إلى الغرفة التي توجد بها الصغيرة وابتسم عندما وجدها نائمة، اقترب منها بهدوء وجلس أمامها على الفراش، مسح على رأسها بابتسامة قائلًا ببراءة:
- ماتخافيش، الحمدلله إنك جيتِ في طريقي علشان أنقذك من الشارع الغدار ده وكمان تشجعيني على الحياة بعد اللي حصلي
أمسك بكف يدها الصغير وقبله ثم تابع بابتسامة:
- فيكِ شبه كبير من أختي الله يرحمها، أنا أينعم لسه طفل وصغير بس هعمل كل اللي أقدر عليه علشان نعيش بخير وفي أمان
نهض من مكانه وتركها ثم اتجه إلى الشقة المقابلة لشقته وطرق الباب بهدوء، شعر كثيرًا بالتوتر من الحياة المُقدم عليها لكن يجب عليه الهدوء والصبر؛ فلا يوجد طريق آخر سوى الموت، سمع امرأة من الداخل تقول بصوت مرتفع:
- استنى يااللي بتخبط، يووه أنا جاية أهو
فتحت أخيرًا الباب فتفاجأت به أمامها فرددت بصوت هادئ:
- أنت مين يا حبيبي؟
ابتسم بهدوء وأجابها وهو ينظر إلى الأسفل بتلعثم:
- أنا إلياس جاركم الجديد، أنا معايا بنت خالتي وهي تبقى طفلة رضيعة ويعني كنت ...
صمت لعدة ثوانٍ قبل أن يتابع بتوتر:
- كنت عايز أسيبها مع حضرتك في وقت شغلي وكدا
رفعت أحد حاجبيها بتعجب شديد وأردفت بتساؤل:
- أنت مش معاك حد كبير؟
حرك رأسه ببراءة بمعنى "لا" وردد بنفس النبرة:
- لا محدش معايا، احنا مقطوعين من شجرة وحكمت الظروف نبقى هنا وتبقى هي مسئولة مني
ابتسمت ورددت بمرح لتزيح إحراجه:
- والله اللي يسمع كلامك ده يقول شاب كبير، كلامك مش لايق على سنك، بص اعتبرني وافقت وهات بنت خالتك بس خلي بالك لازم تحكيلي حكايتكم بالظبط
حرك رأسه بالإيجاب وقال بسعادة كبيرة:
- حاضر لما أرجع من الشغل إن شاء الله، أنا هجيبها دلوقتي وهجيب لحضرتك برضه اللبن بتاعها علشان لو جاعت
تركها وأسرع إلى الداخل وقام بحمل الصغيرة بين ذراعيه بهدوء شديد ومعها الحليب الخاص بها ثم اتجه إلى الخارج، فردت هي ذراعيها وأخذت منه الطفلة بابتسامة وهي تقول بحب:
- ياخلاثي يا ناس على القمر الصغنون، باين عليها صغيرة أوي ولسه مولودة من حوالي أسبوعين
رفع أحد حاجبيه وردد بتعجب:
- أسبوعين؟!
ضيقت نظراتها ورددت بتساؤل:
- أنت ماتعرفش وهي بنت خالتك إزاي؟!
ابتسم بتوتر وأجابها على سؤالها قائلًا:
- هقول لحضرتك لما أرجع من الشغل
هزت رأسها بالإيجاب وقبل أن يرحل أوقفته قائلة بتساؤل:
- صحيح أنا اسمي كريمة، ماقلتليش بقى اسم القمر دي ايه؟
نظر إلى الصغيرة لوقت قصير بحيرة وهو يفكر في اسم مناسب لها فرددت هي بتعجب:
- ايه ماتعرفش اسمها ولا لسه مالهاش اسم؟
رفع بصره وفرك فروة رأسه بحيرة قبل أن يقول بعفوية:
- الصراحة مالهاش بس بفكر أهو
تذكر حزنه قبل أن يراها وسط العتمة وعينيها فلمعت عيناه وفجأة ارتسمت ابتسامة على وجهه وقال بحماس شديد:
- إيلين، اسمها إيلين
ابتسمت وربتت على كتفه قائلة:
- ربنا رزقني بجيران عسل، بص روح أنت الشغل وماتقلقش إيلين في عيني الاتنين
هز رأسه بابتسامة بعد أن اطمأن عليها معها ثم عاد إلى العمل في المقهى مرة أخرى
بعد ساعات انتهت فترة عمله وعاد إلى المنزل بإرهاق؛ فهو لأول مرة يعمل مثل هذا العمل لكنه مُجبر على ذلك بسبب حياته الجديدة والتي فُرضت عليه، صعد الدرج واتجه إلى شقة جارته، طرق الباب بهدوء ففتحت هي الباب وقالت بابتسامة:
- تعالى يا إلياس ادخل أنا حضرت الغداء أهو
نظر إليها بخجل وأردف بنبرة صوت منخفضة:
- بالهنا، أنا بس عايز إيلين
هزت رأسها برفض وقالت بإصرار شديد:
- أنا قلتلك هتحكيلي عنكم وأنت قلت بعد ما تخلص شغل وبعدين أنت راجع تعبان ومحتاج تتغدى، اسمع الكلام وخش يلا أنا زي أمك
استسلم لطلبها ودلف إلى الداخل وهو ينظر إلى الأسفل فرددت هي باعتراض:
- ماتتكسفش يا إلياس بقولك أنا ابني يعتبر قدك، أنت في سنة كام؟
شعر بالحزن عندما تذكر مدرسته التي تركها بسبب هروبه لكنه في النهاية رفع رأسه ونظر إليها قائلًا:
- داخل خامسة ابتدائي
اتسعت ابتسامتها وقالت بسعادة كبيرة:
- بجد! على فكرة ابني مراد قدك بالظبط وهو كمان داخل على سنة خامسة، مش قلتلك اعتبرني زي ماما؟! تعال تعال
وضعت الطعام وبدأوا جميعًا في تناول الغداء وفي هذا التوقيت تعرف «إلياس» على «مراد» وتحدثوا كثيرًا أثناء تناولهم الطعام وما إن انتهوا حتى بدأ هو في سرد قصته منذ البداية وكانت هي وطفلها يستمعان إليه بإنصات إلى أن أنهى حديثه قائلًا بتوتر:
- وموضوع إيلين ده محدش يعرفه غيركم، ياريت محدش يعرفه خالص لأني هقول إنها بنت خالتي
ظهرت علامات الحزن على وجهها وأردفت باعتراض:
- ربنا ينتقم من ولاد الحرام، بقى في حد يعمل كدا؟! معلش يا إلياس ربنا بيختبر صبر الواحد ويبتليه علشان بعد كدا يعوضه خير عن كل اللي شافه، بس مش شايف إن موضوع إيلين ده صعب عليك؟
رفع وجهه ونظر إليها بعدما فهم القصد من هذه الجملة ثم قال بجدية لا تناسب عمره:
- إيلين هي اللي هتشجعني أكمل وأعيش بعد اللي حصل
في تلك اللحظة ارتفع صوت بكاء الصغيرة فأسرعت هي لتُحضرها من الغرفة وحاولت تهدئتها لكنها فشلت في ذلك، اقترب «إلياس» وفرد ذراعيه بلهفة لكي تضع الطفلة وبالفعل سلمته إياها فسار بها وهو ينظر إليها بابتسامة قائلًا:
- اهدي يا إيلين، أنا إلياس ماتخافيش أنا جنبك
سكنت الرضيعة ونظرت له ببراءة فارتفع حاجبا «كريمة» بدهشة عندما هدأت الطفلة بين ذراعيه واقتربت منه قائلة بابتسامة:
- باين عليها حاسة بيك، حاسة إنك أنت اللي أنقذتها من اللي هي فيه
ابتسم بسعادة طفولية ونظر إلى الرضيعة نظرة حب وعطف وكأنه أب يحمل طفلته بين ذراعيه
"بــعــد مــرور ثــمــانــيــة عــشــر عــامًــا"
ركضت بسرعة كبيرة باتجاه باب «كريمة» وطرقت عليه بقوة وما هي إلا ثوانٍ حتى فتحت الباب وهي تقول بقلق شديد:
- في ايه يا إيلين مالك؟
انهمرت دموعها ورددت بخوف شديد:
- الحقيني يا طنط، صحي مراد ينزل يحوش بسرعة علشان إلياس بيتخانق
هزت رأسها بالإيجاب وقالت وهي تتجه إلى الداخل:
- حاضر ماتقلقيش يا حبيبتي، مراد!
تململ «مراد» في فراشه وردد بصوت نائم:
- سيبيني يا ماما أبوس ايدك ده يوم إجازتي
دلفت إلى داخل غرفة ابنها وهزته بقوة قائلة:
- الحق إلياس بيتخانق تحت
هنا نهض من نومه على الفور واتسعت حدقتاه وهو يقول:
- ايه إلياس بيتخانق؟!
لم ينتظر رد والدته بل ارتدى ملابسه بسرعة كبيرة واتجه إلى الأسفل بينما أسرعت «إيلين» إلى شرفة المنزل لتشاهد ما يحدث بخوف
على الجانب الآخر صاح «إلياس» قائلًا بصوت مرتفع يحمل الغضب:
- بقولك ايه يا ممدوح أنت قلت هتجيب الفلوس بعدين وقلت ماشي لكن تيجي دلوقتي وتنصب عليا وتقول مالكش حاجة عندي يبقى كدا أنت عايز تتربى وفلوسي هاخدها
اقترب «ممدوح» خطوة واحدة منه ولوح بيده في الهواء قائلًا بغضب:
- قلتلك يا إلياس مالكش حاجة عندي ولو راجل ربيني زي ما بتقول
هنا اندفع «إلياس» تجاهه ولكمه بقوة في وجهه وقبل أن يرد الآخر له اللكمة تدخل «مراد» وحال بينهما قائلًا:
- خلاص يا إلياس حقك عليا
ثم نظر إلى «ممدوح» بغضب وردد بنبرة تحمل التهديد:
- بقولك ايه يا ممدوح الفلوس ترجع بالذوق أحسن ما ترجع بالعافية ورجالة الحارة لو اتجمعوا هيغلطوك أنت، ماتركبش نفسك الغلط وادفع اللي عليك
ضيق «ممدوح» نظراته وقال بنبرة تحمل الجمود واللامبالاة:
- ولو ماجيبتش الفلوس يا مراد هتعمل ايه يعني؟!
ابتسم «مراد» ابتسامة هادئة واقترب منه وما إن أصبح أمامه مباشرة حتى قال:
- هعمل ايه؟
لكمه بقوة في وجهه وردد بغضب:
- هعمل كدا ياابن أم ممدوح
اقترب الثاني منه بغضب لكي يقوم بضربه بسبب ما فعله إلا أن «إلياس» تدخل وركله بقوة ليقع على الأرض ثم جلس فوقه وانهال عليه بالضربات الموجعة حتى خرجت الدماء من فمه، ثم تركه ونهض قبل أن يُشير إليه بإصبعه قائلًا بتهديد:
- وحياة أمك يا ممدوح الفلوس لو ماوصلتش بكرا هيكون في كلام تاني هيزعلك، آمين؟
نهض من مكانه وتراجع بخوف وهو ينظر إلى كلٍ منهما بينما اتجه «إلياس» إلى صديقه «مراد» وردد قائلًا بابتسامة:
- غريبة يعني صاحي بدري كدا
لوى ثغره وأردف بعدم رضا:
- أنا كنت في تاسع نومة لولا ماما صحتني من أحلاها نومة علشان البيه صاحي يتخانق
ضحك بصوت مرتفع على ما قاله ووضع يده على كتفه قائلًا:
- أعمل ايه مجاش ليا نوم نزلت أقعد شوية على القهوة بما إنه يوم إجازتي لقيته معدي قصادي سألته عن الفلوس قالي مالكش حاجة عندي وأنت عارفني عصبي، قمت مسكت فيه
فرد ذراعيه في الهواء وقال بنبرة تشتاق إلى النوم:
- طب بقولك ايه لسه فاضل ساعتين على الظهر سيبني أطلع أنام بقى وبلاش خناق، اطلع لـ إيلين صحيت تقريبًا على صوت خناقك وهي اللي خبطت على ماما
هز رأسه بالإيجاب قائلًا:
- طيب يا سيدي يلا نطلع
صعدا إلى الأعلى ودلف «مراد» إلى شقته بينما وجد «إلياس» صغيرته تقف أمام الباب وعلامات القلق تظهر بشكل كبير على وجهها، اقتربت منه ورددت بخوف شديد:
- أنت كويس يا إلياس؟ استنى هجيب قطن من الصيدلية
وقبل أن ترحل أمسكها من معصمها ورفع أحد حاجبيه قائلًا باعتراض:
- يابنتي أنا اللي ضارب مش مضروب قطن ايه أنتِ شايفة وشي جايب دم؟!
لوت ثغرها وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تقول بحيرة:
- معرفش بقى يمكن اتضربت وأنا بقول لطنط كريمة على الخناقة
ابتسم وأمسك ذقنها وهو يقول بحب:
- يا حبيبتي لسه مااتولدش اللي يمد ايده عليا وبعدين مش علمتك تلفي الحجاب كله على راسك مش تحطيه بالشكل ده؟!
تركته واتجهت إلى الداخل وهي تقول بتوضيح:
- ما أنا من صوت الخناقة اتلعبكت وماأخدتش بالي، المهم إنك كويس
دلف هو الآخر إلى الداخل وقام بإغلاق الباب من خلفه قبل أن يقول بجدية:
- بما إني مش جايلي نوم وأنتِ صحيتِ هاتي كتبك أذاكرلك شوية
التفتت إليه ونظرت إليه قائلة باعتراض:
- النهاردة إجازتك خلينا نتفرج على التليفزيون ويبقى يوم فري وبعدين أنا هعرف أذاكر بكرا لوحدي وأنت في الشغل أنا مابقيتش صغيرة يا ليسو
رفع أحد حاجبيه وردد باعتراض:
- أولًا بلاش ليسو دي خليها ياس زي ما كنتِ بتقولي وأنتِ لسه بتتعلمي الكلام، تاني حاجة بقى أنتِ هتفضلي بالنسبة ليا صغيرة حتى لو كبرتِ، يلا بقى هاتي الكتب هما ساعتين عقبال صلاة الجمعة ما تبدأ وباقي اليوم إجازة ها ايه رأيك؟
فكرت قليلًا بالأمر ثم رسمت ابتسامة على وجهها وهي تقول برضا تشاكسه:
- خلاص تمام يا أبيه
- أبيه برضه؟! هاتي الكتب يا إيلي ربنا يهديكِ
ضحكت على تذمره وأثناء جلبها لكتبها من غرفتها استمعت إلى صوت مرتفع بالأسفل، فشعرت بالقلق كثيرًا وفتحت النافذة لترى ما يحدث فوجدته «ممدوح» قد جلب بعض الشباب وكلٍ منهم يحمل عصا ضخمة والبعض يحمل سكينًا استعدادًا لتلقين «إلياس» درسًا على ما فعله.
صرخ «ممدوح» بصوت مرتفع وهو يقف أسفل نافذة العمارة وقال بتهديد:
- انزل يا إلياس، لو فاكر نفسك راجل انزل
على الجانب الآخر كان «مراد» على وشك الغرق في النوم إلا أن صوت «ممدوح» اخترق أذنه فنهض من مكانه وردد بعدم رضا:
- مش مكتوبلي أنام في إجازتي أنا عارف، وربنا ما هخلي في وشك حتة سليمة يا ممدوح
بداخل شقة «إلياس» أخرج عصا ضخمة وبيده الأخرى حمل سكينًا وهرول تجاه الباب لكن «إيلين» وقفت أمامه ورددت بعينين دامعتين:
- بالله عليك بلاش يا إلياس
نظر إليها بنظرات تحمل الجمود والإصرار:
- وسعي من وشي يا إيلين، النهارده أنا قاتل أو مقتول
يتبع الفصل الثاني اضغط هنا
الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة: "رواية شمس الياس" اضغط على أسم الرواية