رواية شمس الياس الفصل الرابع بقلم عبد الرحمن احمد الرداد
رواية شمس الياس الفصل الرابع
ظلت تتابع التلفاز لوقت قليل قبل أن تنظر إليه وتقول:
- سرحان في ايه؟
لم يرد عليها بسبب شروده فلوحت أمام وجهه وهي تقول بابتسامة:
- ايه أنت
انتبه لها فتابعت بتساؤل:
- مالك سرحان في ايه
ابتسم وحاول اخفاء الأمر الذي يشغل حيز كبير من تفكيره ليقول:
- مفيش بس ساعات كدا بسرح في الماضي
رفعت أحد حاجبيها لتقول بعدم رضا:
- الماضي اللي مش عايز تحكيلي عنه!
هز رأسه بالإيجاب قائلًا بجدية واضحة:
- أيوة هو وبعدين قولتلك هقولك بعد الثانوية، هي السنة دي وهقولك على كل حاجة متتسرعيش
هزت رأسها بالإيجاب ثم نظرت إلى شاشة التلفاز قبل أن تعود ببصرها إليه مرة أخرى قائلة:
- هو أنا ممكن اطلب منك طلب؟
انتبه لها وقال بثقة كبيرة:
- لو طلبتي عيني هدهالك
ابتسمت ورددت بهدوء يعبر عن حبها وامتنانها:
- تسلم عينك
ثم صمتت للحظات قبل أن تطلب طلبها هذا الذي ذكرته:
- عايزاك تفسحني برا المنطقة، أنا آخر حاجة وصلتلها الشارع من برا، حرفيا مشوفتش معالم القاهرة خالص وكل ما أقولك ترفض ومش راضي توضح سبب الرفض
التقط نفس طويل فكر فيه على رد مُقنع لها لكنه لم يجد أفضل من قول الحقيقة التي يخشاها كثيرًا:
- علشان برا فيه وحوش مش بني ادمين، الوحوش دي هم السبب في المكان اللي احنا فيه دلوقتي، يبانوا بشر عادي لكنهم مستنيين اللحظة اللي هيفترسوا فيها غيرهم
رفعت كتفيها ورددت باستياء شديد:
- ماله المكان اللي إحنا فيه ما هو حلو أهو وبعدين زي ما فيه وحشين فيه كويسين
أطلق زفير طويل قبل أن يُغلق عينيه هربًا من ذكريات الماضي المؤلمة ثم نظر إليها وقال بهدوء:
- المكان اللي إحنا فيه مش وحش ومش قصدي اللي فهمتيه، اقصد كنا ممكن نعيش حياة تانية مع الناس اللي بنحبهم وبيحبونا لكن الوحوش دول حرمونا منهم، دلوقتي الناس بتعامل بعضها بغرض المصالح مش علشان يبقى فيه ود ومحبة بينهم، لو المصلحة دي متمتش هشوف المصلحة من غيرك، خايف الماضي يصدمنا لو خرجنا من هنا، صدقيني أنا نفسي أخليكي تلفي القاهرة كلها بس مش مستعد اخسرك، المكان ده أحسن ما فيه إنه منعزل عن العالم، أنا مكملتش تعليمي علشان محدش يوصلي من الماضي، وعلى الرغم من ده كنت بذاكر مع ياسر المواد بتاعته وكنت بخليه يفهمني لغاية ما بقيت شاطر جدا وكنت بساعده وقت امتحاناته لكن أنا يادوب بتعلم، كل حاجة ليها بديل، خلينا كدا لغاية ما يجد جديد
لاحظت من حديثه غموض كبير وأسرار كثيرة لكنها كلما سألت عن هذا الماضي يُخبرها أنه سيخبرها بعد انتهاء تلك السنة الدراسية لذلك قررت الصمت بينما لاحظ هو حزنها فأغلق عينيه وردد داخله:
- أنفذ اللي ناوي أعمله وساعتها هعملك كل اللي عايزاه وبتتمنيه يا إيلين، أوعدك إني أعوضك
في تلك اللحظة استمعا الإثنان لطرقات على الباب لذلك نهض «إلياس» وفتح باب الشقة ليجد صديقه المقرب «مراد» ولكن على وجهه علامات الجمود والصدمة. ضيق ما بين حاجبيه وهتف متسائلًا:
- مالك يا مراد؟ حد ضايقك اجي نطربق الدنيا على دماغه!
هز رأسه بمعنى "لا" وقال على الفور دون تمهيد:
- ياسر اتوفى
وقع هذا الخبر عليه كالصاعقة وشعر أن العالم يلتف من حوله قبل أن ينطق بصدمة:
- ياسر؟ ده أنا كنت لسة معاه من كام ساعة الصبح
اغلق عينيه للحظات لكي يستجمع قواه وتابع ما جاء لأجله قائلًا:
- لقوه مقتول في شقة في اسكندرية
اتسعت حدقتاه بعدما استمع لأسم مدينته التي وُلد بها وعاش بها عشر سنوات كاملة، وحرك رأسه قائلًا بتساؤل:
- إزاي راح اسكندرية! لحق سافر؟
حرك رأسه بجهل تام للأمر قبل أن يوضح سبب معرفته بالأمر:
- اتصلت بيه صدفة واللي رد عليا الظابط، قالي اللي قولتهولك ده ودلوقتي زمانهم ودوه المشرحة، إحنا لازم نسافر
شعر بصعوبة كبيرة في تنفسه وملأ هذا الخبر قلبه بالحزن الشديد لكن عليه الآن التماسك حتى يستطيع معرفة من فعل هذا بصديقه المقرب.
هز رأسه بالإيجاب وردد بصوت هادئ ونبرة مليئة بالحزن:
- تمام هلبس واجي معاك، نص ساعة ونتقابل علشان نمشي
حرك الآخر رأسه بالإيجاب وتوجه إلى شقته بينما أغلق «إلياس» الباب والتف ليجد صغيرته خلفه وعلى وجهها علامات الحيرة فأغلق هو عينيه ليمنع دموعه من السقوط أمامها بينما تقدمت هي ولمست وجهه بكف يدها الدافئ وهي تقول بتساؤل:
- مالك يا إلياس، شكلك زعلان أوي! قولي فيه ايه أنا سمعت صوت مراد، هو اتخانق أو فيه حاجة حصلت؟
فتح عينيه مرة أخرى وتلك المرة سقطت دموعه وهو يقول بحزن واضح:
- ياسر مات
اتسعت حدقتاها بصدمة كبيرة ووضعت يدها على فمها بعدم تصديق بينما تابع هو بانكسار:
- قولتلك العالم برا وحش، مراد بيقول لقوه مقتول! مين بس اللي غدر بيه وقتله؟ مين اللي فرط فيه بالشكل ده!
تساقطت دموعه وكأنه طفل صغير فقد شيء غالٍ للغاية فأسرعت هي وحضنته بقوة وهي تقول:
- اهدى يا إلياس، أنت قوي ومصيبة زي دي هتقدر تتحملها، ياسر كان زي أخوك زي مراد بالظبط لكن أنت قوي وهتتحمل، علشان خاطري متعيطش
وضع يده على عينيه ومسح دموعه بقوة قبل أن يقول بصوت يحمل التوعد:
- لو عرفت اللي عمل فيه كدا هاكله بسناني
ابتعدت قليلا عنه فتابع هو:
- هسافر مع مراد دلوقتي علشان نستلم جثته ونشوف قبضوا على اللي عمل كدا ولا لا، اقفلي على نفسك الباب يا إيلين، مش عايزك تخرجي خالص وبكرا مش لازم تروحي دروس لأن الليل جيه وممكن افضل لغاية بكرا، إياكي تفتحي الباب يا إيلين
حركت رأسها بالإيجاب عدة مرات ورددت بهدوء:
- حاضر مش هفتح الباب بس خلي بالك من نفسك علشان خاطري
- اللي حماني وحماكي من 18 سنة قادر يحميني ويحميكي دلوقتي، ربنا معانا
مر من الوقت ثلاثون دقيقة والتقى الصديقان ببعضهما قبل أن يقول «مراد» بهدوء:
- لو مش عايز تسافر يا إلياس مش لازم تسافر، أنا عارف إن ذكرياتك الوحشة كلها هناك
وضع يده على كتف صديقه وردد بجمود:
- ده ياسر يا مراد يعني أخونا، إحنا التلاتة اتربينا وقضينا طفولتنا مع بعض، هنسافر مع بعض علشان نجيب أخونا وندفنه
حرك رأسه بالإيجاب وأردف بحزن:
- يلا بينا
بالفعل تحركا معًا وأثناء رحيلهما أوقفهما الحاج «خلف» الذي ردد بجدية:
- استنى يا إلياس أنت ومراد أنا جاي معاكم
التفت «إلياس» له وقال بهدوء:
- استريح أنت يا حاج خلف، إحنا هنروح وهنطمنك بالموبايل
رفض ما قاله وتقدم تجاههما وهو يقول بإصرار:
- ده ياسر ابن حتتنا وكنت بعتبره ابني زيكم تمام، رجلي على رجلكم
لم يستطع أحد منهما الاعتراض فهو له الكلمة الأولى والأخيرة وكبير تلك الحارة لذلك سار معهما حتى وصلوا جميعًا إلى الطريق الخارجي ومنه استقلوا سيارة "ميكروباص" أوصلتهم إلى الموقف الخاص بسيارات الميكروباص ومن هناك استقلوا سيارة لتوصلهم إلى مدينة الاسكندرية.
استقل «إلياس» السيارة وتذكر المرة الأخيرة التي سافر بها وكان يجلس هنا كانت منذ ثمانية عشر عامًا، تذكر تلك الليلة بكامل تفاصيلها وكأنها تُعاد الآن، كان الليل يغطي بظلامه كل شيء كما يحدث هنا الآن، ازدادت ضربات قلبه ليس خوفًا من العودة ولكن لأنه عائد إلى حيث يوجد قبور والديه، سيعود إلى حيث بدأ كل شيء، على الرغم من حبه في طفولته لتلك المدينة الساحرة إلا أنه الآن يكرهها ويكره الذهاب إليها فهناك خسر كل ما يملك سابقًا والآن خسر صديقه وأخيه هناك أيضًا وكأن تلك المدينة تبتلع من يحب وتترك له ذكريات وواقع مؤلم.
امتلأت السيارة لكن بقى مقعد فارغ وبعد مرور عشر دقائق جاء شاب فصاح أحد الركاب قائلًا:
- الناقص جيه ياسطا، اطلع بقى ورانا مصالح
لكنه قبل أن يستقل السيارة تفاجئ بأن محفظة نقوده غير موجودة فردد بحرج كبير:
- خلاص مش هعرف اركب، تقريبا محفظتي اتسرقت مني!
وقبل أن يرحل رفع «إلياس» صوته ليكسر هذا الهدوء الشديد:
- استنى هدفعلك أنا
نظر إليه هذا الشاب بإحراج شديد وحاول الرفض:
- بس أنا مـ ...
ابتسم ليزيل إحراجه رغم أن قلبه يحترق وردد بهدوء:
- متتكسفش، أنا في يوم كنت زيك كدا ولقيت اللي دفعلي، لو مكناش سند لبعض في الأوقات دي هنفرق ايه عن الحيوانات! اركب
ابتسم هذا الشاب واستقل السيارة ثم نظر إليه وردد بامتنان:
- شكرا أنا كنت فعلا مضطر أسافر ومينفعش اتأخر
حرك الآخر رأسه بهدوء وقال على الفور:
- العفو أنا معملتش حاجة، وبعدين خير فيه حاجة؟
عبثت ملامح وجهه ونظر إلى الأسفل وهو يقول:
- أنا بدرس هنا في القاهرة وأهلي في اسكندرية وأخويا كلمني قالي إن أمي تعبانة أوي فاتحركت وجيت بسرعة، ممكن من تسرعي مخدتش بالي من محفظتي ووقعت أو اتسرقت
ربت على قدمه ليبث بداخله الطمأنينة ثم هتف قائلًا:
- إن شاء الله تطمئن عليها وتبقى بخير
- يارب
انتهى من الحديث مع هذا الشاب قبل أن ينظر أمامه حيث ظلام الطريق. استقل السائق السيارة وقادها بهدوء حتى خرج من الممر الضيق التي كانت تقف به السيارة ثم زاد السرعة تدريجيًا حتى وصل إلى الطريق الصحراوي الذي نبأهم جميعًا بأنهم بالفعل في طريق سفرهم.
أخذ شهيق طويل ثم زفر على مهل، ذلك الطريق المظلم كان وكأنه طريقه إلى جهنم، ليس هذا فقط بل جعل ذكريات الماضي التي كان يدفنها تلك السنوات تهاجمه الآن بقوة، أغلق عينيه في محاولة منه لرفض التفكير بالأمر لكن تلك الليلة ظهر تأثيرها الآن. استمع بداخل رأسه لبعض جمل هذا اليوم وتحديدًا قبل هروبه بلحظات
- سيبه
- لا حرام عليك
- بابا لأ
- أوعى يهرب هيودينا في داهية
- إلياااااس
بدأ جسده يرتجف بقوة ولاحظ ذلك «خلف» الذي أطبق بقوة على معصمه وأردف بنبرة هادئة:
- إلياس، فوق يا إلياس
فتح عينيه أخيرًا على ذلك الصوت الذي كان بمثابة بر الأمان بعد أن كان يغرق في الهلاك، نظر إلى «خلف» الذي كان مُعلقًا بصره به باهتمام ولم يكتفي بذلك بل هتف متسائلًا:
- مالك يا إلياس؟ جسمك كان بيرتعش كله!
دفن وجهه بين كفيه وفرك عينيه للحظات قبل أن يُجيب على سؤاله قائلًا:
- مفيش يا حاج خلف، نعست بس وشوفت كابوس، أنا بخير متقلقش
لم تُريحه تلك الكلمات فهو يعرف تمامًا أن هذا الطريق بمثابة الجحيم له لذلك وضع يده على فخذه وقال بهدوء:
- مش كابوس وأنت نايم يا إلياس، ده كابوس موجود دلوقتي بالنسبة ليك، مكانش ينفع تسافر معانا، أنت نسيت آخر مرة جيت فيها كانت امتى! ده أنت اللي معرفني الحكاية كلها بنفسك
حاول تنظيم أنفاسه المضطربة وابتسم ابتسامة هادئة ليريح قلبه قبل أن يقول بنبرة خافتة:
- صدقني أنا بخير، أنا مش خايف ولا عمري هخاف، كل الحكاية إن الطريق ده جيت منه وأنا هربان بعد ما خسرت كل حاجة، كل ذكرياتي في اليوم إياه بتهاجمني دلوقتي، دلوقتي أنا راجع من نفس الطريق بعد ما خسرت حد تاني بحبه، 18 سنة بعيد عن اسكندرية، أنا حتى معرفش شكلها بقى عامل إزاي! هل اتغيرت؟ هل بيت أهلي زي ما هو؟ مش عارف إجابات كتير بس فيه إجابة واحدة بس عارفة وهي إنها مكان الجحيم بالنسبة ليا
ربت على فخذة عدة مرات وأشار إلى الطريق المظلم أمامه قبل أن يقول:
- شايف الطريق اللي كله ضلمة وخوف ده! عارف نهايته ايه؟ نهايته نور، نهايته حب وطمأنينة، مهما كانت حياة الإنسان صعبة ففي النهاية ربنا رايدله الخير، البلاء ده نعمة من نعم ربنا ومتستغربش، ربنا مش بيدي حد ابتلاء غير اللي بيحبه، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط»، أنا عارف إن الذكريات دي وحشة بس هيجي يوم وهتتخلص منها وهتكمل حياتك بصورة طبيعية، ارضى باللي ربنا كتبه ليك لأن كله خير، ده الرسول الكريم نفسه أكد على ده وقال: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له»، يعني لو فيه سراء اشكر ربنا وده خير ليك ولو ضُر أصابك اصبر وده بردو خير ليك يعني أمر المؤمن كله خير، مفيش اجمل من كدا
ارتسمت تلك الابتسامة على وجهه وهو ينظر إلى «خلف» قبل أن يقول بهدوء:
- الحمدلله، أنا صابر وراضي والله يا حاج خلف، أكيد ربنا له حكمة في كل اللي بيحصل ده، تسلم يا كبيرنا على الكلام اللي يريح القلب ده، ادعيلي بس من قلبك وإن شاء الله خير
ابتسم ورفع يديه للسماء وهو يقول:
- ربنا يريح بالك وينصرك يا إلياس يا ابني
سيطر النوم على الجميع عدا «إلياس» الذي كان يُفكر في صغيرته فتلك هي المرة الأولى التي يتركها فيها ويسافر بعيدًا عنها، أخرج هاتفه من جيب بنطاله وولج إلى قائمة الأرقام المُسجلة على هاتفه ثم نقر على رقمها قبل أن يرفع الهاتف على أذنه مُنتظرًا إجابتها. مرت ثواني حتى أجابت عليه بلهفة قائلة:
- إلياس أنت بخير
تحدث بنبرة هادئة حتى لا يتسبب في إيقاظ أحد:
- أنا بخير يا حبيبتي، طمنيني عليكي؟
ابتسمت وأجابته على الفور:
- متقلقش عليا أنا بخير، خلي بالك أنت من نفسك بالله عليك، مش عارفة إزاي هبات في البيت لأول مرة من غير ما تبقى موجود
أخذ شهيق وزفر بهدوء قبل أن يقول بنبرة بثت في قلبها الطمأنينة:
- متقلقيش يا إيلي، اعتبريني موجود ومعاكي الموبايل أهو هتصل بيكي علطول علشان أطمنك وأبقى معاكي علطول
- طيب يا إلياس، لا إله إلا الله
- محمد رسول الله
انهت معه المكالمة وحضنت الهاتف فهو بالنسبة لها الآن الهاتف الذي بيدها، اغلقت عينيها ودعت الله بأن يحميه ويظل دائما في حياتها فهو الهواء الذي تتنفسه وعمودها الفقري الذي يساعدها على الوقوف، هي بدونه لا شيء لذلك إذا أصابه مكروه ستكون هي أول من يتعرض للضرر.
***
- بتقول ايه؟ إزاي يعني مفيش حاجة وصلت الحساب! أومال هو عمل ايه؟ طيب طيب اقفل
أنهى المكالمة مع هذا المجهول وسيطرت علامات القلق والتوتر على وجهه قبل أن يتدخل ولده «سليم» قائلًا بقلق واضح:
- يعني ايه مفيش فلوس؟ الواد ده ضحك علينا ومحولش حاجة!
نظر والده إلى الأسفل بعدم تصديق وكأنه تلقى للتو ضربة قاضية فصرخ ابنه في وجهه قائلًا:
- رد عليا يا بابا حصل ايه؟
اغلق عينيه للحظات ثم رفع رأسه ليواجه ابنه قائلًا:
- اخترق فعلا البنك وحول الفلوس لكن محولهاش للحساب اللي اتفقنا عليه، حولها لحساب تاني معرفش هو ايه، تقريبا شك فينا علشان كدا ده كان تصرفه بس الخوف إنه يكون عرف حد باللي دار بينا قبل ما يجي
ضرب الأرض بقوة بقدمه قبل أن يضع كفه الأيمن فوق رأسه ويسير في المكان، زفر بقوة ثم عاد إلى والده ليقول بنبرة هادئة:
- مش مهم الفلوس ولا مهم إنه مات ولا مهم إنه يكون قال لحد حاجة لأن كدا كدا هو ميعرفش أسامينا ولا شخصياتنا يعني إحنا في الأمان، أينعم المبلغ كبير وخسارة يروح من ادينا بس اقل الخسائر
نهض «جمال» من مكانه وسار في المكان وهو يردد برفض تام:
- لا مهم يا سليم، لازم أعرف الفلوس دي راحت فين، عيل زي ده ملهوش أهل ولا حد وساكن في منطقة زي دي هيحول الفلوس لحسابه في البنك يعني! أكيد حولها لحد تبعه ولازم نوصله
رفع أحد حاجبيه بتعجب مما يقول والده فهو قد ظن أن كبر سنه جعله يقول ما هو خاطئ لذلك ابتسم وقال بسخرية:
- آه أنت بتقول كدا للشرطة تعالوا شوفوا القاتل على طبق من دهب، إحنا مش لازم نقرب من أي حاجة ليها علاقة بالواد ده، انسى الفلوس خالص تتحرق لكن رقبتنا متبقاش مزينة حبل المشنقة
التفت الأب ونظر إلى ابنه قبل أن يتقدم خطوتين تجاهه وهو يقول:
- أنا لسة مخرفتش يا سليم، مقولتش إن إحنا اللي هندور وراه، هكلم وليد يأجر حد ينخرب وراه ويجيب كل حاجة عنه أكيد فيه حد معين حوله الفلوس دي، أنا مش بقبل بالخسارة وبردو مش بحط رقبتي على طريق الخطر
***
وصلا أخيرا إلى مدينة الاسكندرية وهنا خرج "إلياس" ليرى الموقف من حوله، مرت سنوات كثيرة لقد تبدل فيها كل شيء، نظر حوله بحيرة وكأنه لم يتأتي إلى هنا من قبل وفي تلك اللحظة وضع صديقه يده على ظهره وهو يقول بهدوء:
- يلا!
أومأ رأسه بالإيجاب وتحرك معهما ليستقلوا سيارة أخرى وبعد نصف ساعة كانوا قد وصلوا إلى المشرحة حيث توجد جثة «ياسر.
تقدموا إلى الداخل وسأل «إلياس» أحد المارة إن كان يعرف شيء فلم يجد ما يريده لذلك سأل أحد آخر بالداخل وهنا تقدم أحدهم وقال بتساؤل:
- بتسأل عن ياسر واضح إنك تعرفه
حرك رأسه بالإيجاب وقال بهدوء:
- أيوة أعرفه، واضح إنك كمان تعرفه
ابتسم ونقل نظراته إلى الجميع قبل أن يقول بصوت مسموع لهم جميعًا:
- أنا المقدم طارق زين والمسؤول عن القضية دي
هنا تقدم «خلف» وفرد ذراعه ليصافحه فصافحه الضابط وأردف الأول قائلًا:
- إحنا أهل حتته وياسر يبقى في مقام ابني ودول في مقام اخواته، أكيد سعادتك مسكتوا اللي عمل فيه كدا وأكيد فيه سبب
هز الضابط رأسه وألقى نظرة سريعة على الجميع قبل أن يجيبه:
- مين عمل كدا لسة معرفناش بس أوعدك هنجيبه أما بقى عن السبب ففيه سبب، ياسر قبل موته اخترق بنك وحول مبلغ ضخم لحساب برا مصر ومش معروف، لقينا جثته في مكان ما جالنا بلاغ إن الاختراك والهاك جاي من المكان ده وطبعا من بطاقته عرفنا إنه مهندس كمبيوتر، رؤيتي بقى للموضوع ده إن حد أجره علشان يحوله المبلغ ده ولما ده تم قتله وهرب
هنا قال «خلف» بانفعال شديد:
- ياسر عمره ما يعمل الحرام أبدا، إزاي يعني يسرق ويخترق بنك
ابتسم الضابط وردد بنبرة هادئة:
- اهدى يا حاج متعصبش نفسك، لسة كل حاجة مبهمة
ثم وجه بصره إلى «إلياس» وقال بتساؤل:
- رأيك ايه في الكلام ده؟ صاحبك يبقى قريب منك
لم يجيب عليه بسبب شروده وعدم تركيزه فرفع صوته تلك المرة وهو يلوح أمام وجهه:
- هندسة! بكلمك
انتبه أخيرا له وحرك رأسه بتساؤل قائلًا:
- ها سعادتك بتقول ايه؟
- بقول أنت صاحبه يبقى قريب منه، رأيك ايه في اللي قولته!
لوى ثغره وهو يرفع كتفيه ليقول بلا مبالاة واضحة:
- أنا مكملتش تعليمي فأنا مفهمش في شغل الهكر والاختراق ده علشان كدا أنا قريب منه أيوة لكن معرفش اللي سعادتك بتقوله ده
هز رأسه بالإيجاب ثم وجه بصره إلى «مراد» ليعيد سؤاله ولكن بصورة مختصرة:
- وأنت؟
وقبل أن يُجيب أسرع «إلياس» وردد بضيق:
- أظن سيادتك اللي اتقتل هو اللي بتتهمه بدل ما تدور على اللي قتله! إحنا جايين نستلم جثته وياريت الإجراءات تنتهي بسرعة
عاد ببصره إليه وظل مُسلطًا تركيزه عليه قبل أن يقول:
- أظن تسيبني أشوف شغلي وتتكلم بهدوء زي ما بكلمك أما بقى استلام الجثة مش هيحصل قبل ما كل الإجراءات والتحقيق ينتهي وده متوقف على التقرير هيخلص أمتى!
أغلق «إلياس» عينيه وتنفس بصوت مسموع ثم كور قبضتيه وتحرك بعيدًا فهو يفقد سيطرته سريعًا ولا يتحكم بغضبه، هنا لحق به «خلف» وقال بهدوء:
- اهدى يا إلياس واتحكم في غضبك ده ظابط بردو مش كدا
فتح عينيه لتظهر حمراء اللون قبل أن يقول بضعف:
- صعبان عليا ياسر، مش كفاية مات وهو بعيد عننا مش راضي حتى ناخد جثته ندفنها!
تقدم ووضع يده على كتفه ليقول بنبرة خافتة:
- دي كلها إجراءات، هتخلص بالكتير أوي بكرا، هناخد جثته وندفنه ونكرمه
على الجانب الآخر رفع «طارق» أحد حاجبيه وتابع قائلًا:
- صاحبك شكله عصبي، مش مهم قولي أنت ياسر بمعرفتك بيه يعمل كدا أو ده شغله
وجه بصره حيث صديقه و «خلف» ثم عاد ببصره إليه وهو يقول:
- ياسر مهندس برمجيات وكمبيوتر وعنده سايبر في القاهرة، ياسر محترم وعمره ما يشتغل في الكلام ده، أشك إنه يكون عمل اللي سعادتك قولت عليه، فيه حاجة مش مفهومة في الموضوع
أومأ رأسه بالإيجاب ثم وجه بصره تجاه «إلياس» قبل أن يقول بتساؤل واهتمام:
- بالنسبة لصاحبك ده اسمه ايه؟
صمت «مراد» قليلًا ليعبر عن تعجبه ثم أجاب بهدوء:
- إلياس وأنا مراد وده الحاج خلف
ابتسم ورفع حاجبيه ليقول بنبرة ذات معنى:
- عايز اسمه هو بس .
يتبع الفصل الخامس اضغط هنا
الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة: "رواية شمس الياس" اضغط على أسم الرواية