رواية عشقت من الصعيد الفصل السابع
قالوا فيما قبل انه قد تجبرك الظروف أن تستقر في مكان لا يشبهك لكنك وبمرور الوقت تشعر بأنه يشبه روحك .. يملك جزءاً منك .. لأنه ببساطة عَرف بل نجح في أن يحتويك .. تلك الجملة تصف حال إيمان بكل دقة فتلك القرية البسيطة وذلك البيت الدافئ استطاعوا أن يسحروها ويعلقوا روحها بهم .. من كان يصدق انها ستعتاد الحياة هنا .. من كان يصدق انها من اليوم الثاني فقط لوجودها ارتدت فستان ذو طابع صعيدي ونزلت السوق وتعاملت مع اهل تلك البلدة الطيبين .. من كان يصدق انه سيمر عدة ايام عليها دون ان تتذكر عملها الذي تعشقه فها قد أتى آخر الاسبوع وهي تقضي يومها بين حديث هنا مع دعاء او عمتها ومشاكسة هناك مع ابن خالها الذي يستمتع بمشاكستها ولا يعرف ما اصابه وكأنه عاد طفلاً من جديد وليس رجلاً تم أعوامه الثلاثون منذ بضعة أشهر .. تشعر بالسعادة وسطهم وإن كانت تلك السعادة يشوبها بعض الألم والحزن بسبب ذلك الذي لا يبارح غرفته بالطابق السفلي ويقبع بها نادماً على ما اقترفه داعياً الله بكل ذرة من روحه ان ينال غفران تلك الحفيدة العنيدة قبل ان يسترد ربه أمانته ولكن هل سينال ما يتمنى ام ان ندمه ليس كافياً؟!!
بغرفته التي تمتاز بالطابع الصعيدي الأصيل تماماً كشخصيته يفرد ظهره على سريره واضعاً يديه تحت رأسه ناظراً لسقف تلك الغرفة بل يمكن القول انه سارحاً بها وبصورتها التي تُرسم أمامه .. شخصيتها القوية أثارت فضوله من اول مواجهة بينهم .. عيونها الحادة خطفته .. رأى فيها القوة والضعف مخلوطين بطريقة ساحرة .. وكأنه رأى ما وراء ذلك القناع الذي تحرص على ارتداءه امام الجميع .. قناع القوة .. القناع الذي يُوحي للكل انه لا يمكن لشئ كسرها .. ولكنه يشعر بقلبها المكسور وروحها المُهشمة .. لطالما اخبره والده عن زوج عمته وبالأيام الماضية استطاع ان يعرف من عمته الكثير عنه ليفهم انها كانت متعلقة بوالدها كثيراً .. يتذكر ذلك اليوم الذي نزلت فيه مع والدته للسوق وكيف تتبعهم حتى يحرص على سلامتهم .. هذا ما ظل يقوله عقله ليبرر أفعاله الصبيانية ولكنه اعترف بقلبه انها هي السبب .. نزل وراءهم حتى يحرص على ألا يقترب منها أحد .. نزل ليحرق حياً من تسول له نفسه وينظر لها ولكن جميع من في البلد اعتادوا ألا يرفعوا اعينهم ناحية الحاجة صالحة ومن معها .. فإن كان زين غيوراً فخمنوا ممن ورث غيرته .. نعم أصاب تخمينكم، ومن غيره الحاچ سالم المنياوي كبير تلك القرية والآمر الناهي بها .. يبتسم زين وهو يتذكر كيف كانت تتطلع حولها مستمتعة بما تراه في تلك القرية وازدادت ابتسامته حين تذكر كيف وقفت لتشتري بعض الفساتين والعبايات الصعيدية المخصصة للسيدات بعد ان تولى هو إفساد ملابسها الغالية ولكن الحقيقة التي يعترف بها لنفسه هي ان المشكلة لا تكمن بالملابس فقط وإنما بها هي .. يوجد مثل مصري يقول "القالب غالب" ويصفها ذلك المثل .. فإن جسدها الممشوق هو من يُجمل أي ملابس تضعها عليه لتتحول أي قطعة ترتديها لتحفة فنية موضوعة على فاتنة جميلة .. المميز بالأمر ان جمالها ليس خارجي فقط بل يوجد بروحها جمال لا يراه إلا من تمعن فيها وغاص في روحها وهو قد لمسه بذلك اليوم .. رأى كيف تحولت لنمرة شرسة حين لمحت الظلم يفوح في الأفق
*فلاش باك*
على مقربة من ذلك السوق وأمام أحد البيوت البسيطة جداً وقف ذلك الرجل البسيط على عكازه مردفاً وعيونه تلمع بالدموع ونبرته تضخ العجز والضعف
عزت: حرام عليك يا چمال اتجي الله دا أني برضك صاحبك
جمال(وهو يشيح بيده بقسوة): اني مليش صحاب , وبعدين هو انت عايز تاكل عليا فلوسي واسمي عليك إياك .. يا الفلوس يا تغور انت ومرتك وعيالك
عزت(برجاء): طب اصبر عليا لآخر الشهر
جمال: ولا ل آخر اليوم .. اني تاچر وعندي ارتباطات
عزت(بعجز): حسبنا الله ونعم الوكيل فيك
جمال: بتحسبن عليا يا واكل ناسك؟!! .. طب غور بجا
قالها جمال ودفع عزت بقوة مُخلاً توازنه ليقع أرضاً بقهر وسط صرخات زوجته وبناته التي صدحت ووصلت لتلك التي تكره الظلم وتتحول في حضوره فتصبح كالمارد او اشد قوة مدافعة عن من لا تكفي قوتهم ليدافعوا عن انفسهم .. جذب صوت الصراخ انتباه إيمان لتتحرك باندفاع وخلفها صالحة و ورد .. تجمع الناس حول صوت الصراخ ولكن لم يحرك أيا منهم ساكناً لتشهق ورد بفزع حين رأت أن تلك الأصوات تأتي من منزلها .. جرت ورد بلهفة ناحية ابيها الواقع أرضا ودموعها تجري على وجهها كالشلال مردفة
ورد(وهي تعدل جسده بخوف عليه): سلامتك يابوي .. إيه اللي حوصول؟
صمت عزت بعجز وانكسار وهرب بعينيه من ابنته لتُحول هي نظرها لوالدتها التي تبكي بجوارها مردفة
ورد: فيه ايه ياما .. ايه اللي حوصول؟
جمال: فيه يا حلوة ان ابوكي الحرامي اخد فلوس مني ورهنلي البيت وجه وجت الدفع وچنابه مارضيش يدفع
ورد(بحدة وهي تندفع نحوه): اخرس جطع لسانك اني ابويا مش حرامي
جمال(بغضب): أما انك بت جليلة الرباية صحيح
قالها وكاد بصفع ورد ليجد يد حديدية تمسك برسغه وتكاد تُفتفته .. نظر لصاحب تلك اليد ليجد امامه وحش متجسد بهيئة فتاة .. عيون حمراء وغاضبة كالدماء وانفاس ساخنة محتدة وكأنها نيران .. نظرت له إيمان واردفت بنبرة مخيفة يشوبها القوة
إيمان(بنبرة مرعبة): نزل ايدك
ارتعد جمال من داخله ولكنه حاول إخفاء ذلك ليسحب يده ويصيح بتهليل
جمال: جرا ايه يا ناس .. هو ديه جزاة المعروف .. ماخدش حجي .. لااااااااا مش المعلم چمال اللي ينضحك عليه
قالها واشار لبعض الشباب الواقفين معه ليتقدموا من المنزل ويرموا ما به بالخارج مثلما اتفق معهم لتردف إيمان بنبرة تحذيرية مرعبة
إيمان(وهي ترفع اصبعها بتحذير): اللي مستغني عن عمره يقرب خطوة من البيت ولا يمس حد منهم
نبرتها لم تكن نبرة عادية بل نبرة جاءت من اعماق الجحيم .. وقف جميع الشباب بأرضهم ليردف جمال مدعياً عدم خوفه
جمال: هي بلطچة بجا ولا ايه .. اني عايز حجي
إيمان(بحدة): حقك تاخده بالأدب إنما قلة الأدب مش هتوصلك لحاجة
جمال: اني جليل الأدب يا..
قالها ورفع يده ليصفعها ولكن تلك المرة وجد يد اقوى من السابقة تمسك برسغه بقوة جعلته يسمع صوت طقطقة عظامه .. نظر لصاحب تلك اليد ليدب الرعب بقلبه حين وجده ذلك الذي لا يجرؤ أحد على تحديه وإلا وجد جميع أهالي البلد من رجال ونساء واطفال يصطفون امامه مشكلين درعاً حامياً له .. فهو زينة شبابها وسيد رجالها .. زين المنياوي .. نظر زين لجمال نظرة جعلت قلبه يكاد يتوقف عن النبض ليرتجف جسده بخوف حين نطق بنبرة مرعبة لم يسمعها منه اهل البلد من قبل
زين(بعيون حادة ونبرة مخيفة): قسماً بالله لو كانت يدك دي لمستها ل كنت جطعتها ورميتها ل كلاب السكك تاكلها
ابتلع جمال ريقه الجاف ليردف بارتباك
جمال(مدعي المسكنة): يا زين بيه الراچل ديه خد مني ١٠ آلاف چنيه وكتبلي بيته رهن ودلوكت ماراضيش يدفع واني تاچر ومحتاچ الفلوس
عزت(بنبرة يشوبها القهر): والله العظيم اني مش حرامي يا زين بيه اصل المحصول...
زين(وهو يرفع يده مقاطعاً): ماتجولش حاچة يا حاچ عزت .. أنت أياً كان اللي عملته مايديش الحج له انه يعمل معاك إكده
جمال(وهو يبتلع ريقه الجاف): أني ماعملتش حاچة
زين(بحدة): كونك تكتب صاحبك وصل رهنية ديه ايه؟ .. وكونك تبجى عايز تطرده من بيته ديه إيه؟ .. وكونك تلم الخلج والناس وتفرچهم عليه وانت بتعيط عليه (تزعق له) كيف العيل الصغير ديه إيه؟ .. وانك تچيب بلطچية عشان تاخد بيته غصب وترميه برا هو ومرته وولاده ديه إيه؟ .. وانك ترفع يدك على حرمة دي إيه؟!!!!
قال الجملة الأخيرة بغضب فهو لم يرفع يده فقط على ورد والتي يعتبرها مثل اخته بل رفعها على من ملكت روحه واقسم على زهق روح من يحزنها .. توترت نظرات جمال وبالأخص حين نظر حوله فلم يجد تعاطف في عيون الناس المتجمعة ليردف بنبرة حاول بث المسكنة بها
جمال(بهدوء يشوبه الارتباك): اني كل اللي جولته اني عايز حجي
إيمان(بنبرة غاضبة): وهو حقك انك تدي الراجل الغلبان دا ١٠ آلاف جنيه وتاخد قصادهم البيت دا اللي يعدي ال 50 ألف
توترت نظراته اكثر وتصبب عرقاً ليردف بارتباك
جمال: والله اني عرضت وهو وافج واني مابجولش غير اني عايز حجي .. يا الفلوس يا البيت
عزت(وقد احس بالعجز اكثر): هديك فلوسك بس اصبر عليا ل اخر الشهر
جمال(برفض): ولا يوم واحد .. وصل الرهنية ميعاده النهاردة واني عايز حجي النهاردة
زين(بنبرة باردة): ماشي .. حجك عندي .. فرچ
قالها زين منادياً ذلك الغفير الذي يقف بجوار والدته التي تراقب ما يحدث بترقب قلق يشوبه الغضب من ذلك الذي يُدعى جمال .. اقترب فرج ليقف امام زين منتظراً أوامره ليردف زين بنبرة آمرة لا تحتمل المناقشة
زين: تاخد امي وتوديها البيت ومعاك چمال
قالها زين وتعمد عدم وضع ألقاب قبل اسمه ليصمت جمال على مضض ويكمل زين
زين: هتلاجي ابوي رچع من الچلسة تجوله يديه ال ١٠ آلاف وياخد منيه وصل الرهنية ويحرجه جدامك (يحرقه قدامك), فاهم؟
هز فرج رأسه ليتحرك منفذاً ما قاله زين بينما تحرك زين لمعاونة عزت على الوقوف مرة اخرى .. كاد بالانحناء ليحضر عكازه ليتفاجئ بإيمان تُمسك به وتنوله إياه بعدما تلاقت نظراتهم لثواني كانت غرق اكثر من كونها نظرة .. عاون كلاهما عزت وعائلته على الدخول لمنزلهم مرة اخرى ليجلسوا معهم تحت إصرار الحاج عزت ويشربوا بعض الشاي الصعيدي والذي اكتفت إيمان ببعض رشفات منه فالمعروف ان الشاي الصعيدي ثقيل للغاية وسكره كثير جداً ولم تكن لتقوى على شربه كاملاً لتتفاجئ ب زين يُبدل كوبه بكوبها دون ان يلاحظ أحد ويكمل هو شربه حتى لا يحزن اهل البيت ف بالصعيد تُعتبر إهانة للمُضِيف إن لم تُكمل ضيافتك بمنزله ولكن السبب الرئيسي فيما فعله هو رغبته في الشرب من موضع شفتيها مستمتعاً بأثر الشهد المعسول الذي تركته شفتاها على الكوب مُزيدة من حلاوته
*عودة*
ماذا حدث له .. هل بالفعل عشق .. هل ترك قلبه كل من بالصعيد ليقع بعشق تلك القاهرية العنيدة .. افاق من شروده حين انتبه لغروب الشمس ليهب واقفاً ويبدأ في استعداده ؛ فاليوم زفاف ورد على ذلك الغفير الوفي الذي يُدعى محمود والذي يعده زين صديقاً له منذ ان كان صغيراً .. اختار جلبابه الاسود الداكن وشاله الفضي وعمامته الصعيدية ليُلقي نظرة من شرفته ويرى ذلك الصوان المُزين بالأنوار استعداداً لفرح اليوم فقد قرر الحاچ سالم إقامة الزفاف بمنزله الكبير فهو يعتبر ورد ومحمود ابناءه بل يعتبر جميع من بتلك البلدة ابناءه واحفاده وإخوته ولذلك لا يتوان في تلبية طلباتهم ونصر المظلوم منهم ولو كان على حساب نفسه فهو بداخله يقين انه سيُسأل عن كل فرد منهم أمام الله وهو لا يقوى ان يقف امام سبحانه وقد ظلم نفساً بغير حق .. يبتسم زين وهو يرى والده يقف بالأسفل ويحرص بنفسه ان يُنفذ كل شئ كما يجب ان يكون .. تحرك زين لحمام غرفته حتى يأخذ حمامه ويُبدل ثيابه استعداداً للفرح فترى ماذا سيحدث به وهل سيستطيع ان يأسر قلب تلك القاهرية حين ترى شخصيته الصعيدية الأصيلة الساحرة
مرت الساعات وتجمعت النساء بأحدى الغرف العلوية بسرايا المنياوي ليحتفلوا بزفاف ابنة بلدهم ورد التي اصبحت حقاً تشبه الورد في جماله وتميزه خاصة بعدما قامت إيمان بنفسها بتولي مهمة وضع بعض اللمسات البسيطة من مستحضرات التجميل على وجه تلك الفتاة ذات الملامح الصعيدية المميزة .. تبتسم إيمان وهي تجلس بجانب ورد وتصفق بكفيها على ايقاع تلك الاغاني الصعيدي التي ترددها تلك السيدة التي عرفت لاحقاً انها ام العريس وخالة ورد في نفس الوقت .. ترى الفرحة تلوح في الأفق وتلمع بالأعين وتتردد على الألسن معانقة كلمات تلك الاغاني التي اخذت تكررها هي وبعض الحاضرات وراء ام العريس
ام العريس: ياللي ع الترعه حود ع المالح
النساء الحاضرات: ياللي ع الترعه حود ع المالح
ام العريس: عندنا الترعه وعندنا المالح
النساء الحاضرات: ياللي ع الترعه حود ع المالح
ام العريس: وسطي بيوچعني
النساء الحاضرات: من ايه؟
ام العريس: وسطي بيوچعني
النساء الحاضرات: من ايه؟
ام العريس: وسطي بيوچعني من رجص امبارح و ياللي ع الترعه حود ع المالح
اخذت إيمان تردد معهم تلك الاغاني وهي تبتسم بسعادة .. وضعت يدها بحقيبتها القماشية التي تلائم تلك العباءة الصعيدية التي ترتديها واخرجت كيس قطيفة صغير لتربت على ذراع ورد بهدوء وتبتسم وهي تعطيها إياه مردفة
إيمان(بابتسامة): ألف مبرود يا ورد
ورد(بدهشة وخجل): وه! ليه إكدة يا ست إيمان؟!
إيمان: اولاً احنا قولنا هتقوليلي إيمان وبس ثانياً دي هدية جوازك .. يا رب بس ذوقي يعجبك
ابتسمت ورد بخجل يشوبه السعادة قبل ان تمسك ذلك الكيس لترى محتواه الذي جعل عينيها تجحظ بدهشة .. فقد اشترت لها إيمان كردان صعيدي بسيط كانت قد رأته بالسوق ولاحظت كيف لمعت عيون ورد حين طالعته
إيمان(بابتسامة): عجبك؟
ورد(بحرج وخجل): ديه كتير جوي جوي .. اني ماجدرش اجبله , كفاية اللي حضرتك وزين بيه عملتوه مع ابوي
إيمان: اولا اللي زين عمله مع والدك انا مليش دعوة بيه .. هو ابن العمدة وهو وخالو ادرى باللي بيعملوه .. ثانيا اللي انا عملته لوالدك دا شئ بسيط
ورد: بسيط كيف؟! دا انتي الله يكرمك سعيتي انك تچيبيله طرف صناعي بدل رجله اللي..
إيمان(مُقاطعة بلُطف): انا اللي عملته دا اخدت مقابلة اضعاف اضعاف .. انا سبق وقولت لوالدك اني كنت ناوية اعمل خير لبابا الله يرحمه والطرف دا هيبقى نهر من الحسنات مش هينقطع بإذن الله يبقى مين فينا اللي عمل خير للتاني؟
ورد(بابتسامة وعيون لامعة): اني مش عارفة اجولك ايه
إيمان(بابتسامة): ماتقوليش حاجة .. انتي زي اختي وانا مبسوطة اني اتعرفت عليكي .. واهو يا ستي الكردان هيبقى معاكي علشان تفتكريني لما اسافر
ورد(وقد اختفت ابتسامتها): هو انتي هتسافري تاني؟!
لمحة الحزن الساكنة صوت ورد آلمت قلب إيمان .. تعلقت بالمكان وبأهله .. تعلقت بالمنزل وبمن به عدا واحد فقط .. واحد ربما هو السبب الرئيسي في رغبتها في الابتعاد مرة اخرى .. لا ترغب في ان تبقى بمكان يجمعها به ولكن هل سيتغير رأيها قريباً ليُصبح هو سبب بقاءها؟!!
///////////////////
بحديقة المنزل الواسعة ووسط الانوار الملونة بطريقة تبث البهجة في النفوس وقف عزت لأول مرة منذ سنوات بدون عكازه الذي كان يُلازمه كظله .. وقف على قدميه مستعيناً بذلك الطرف الصناعي والتي عانت إيمان لإقناعه بالحصول عليه بينما رفض هو ان يحصل على شئ دون ان يدفع ثمنه .. ربما لو كان أمامه شخصاً عادياً لما نجح في إقناعه ولكنه يقف أمامها هي .. هي التي لم تفشل في اقناع اي قاضي بدفاعها وبكلامها ذو الحجج القوية .. استطاعت إقناعه بالحصول على ذلك الطرف واعتبار ثمنه سُلفة يسددها بدعاءه لوالدها وباستخدامه لذلك الطرف في السير في طريق الخير وتوفير المأكل والمشرب لعائلته حتى لا يُوضعوا تحت رحمة أمثال جمال الذين يستغلون حاجة الضعفاء والمحتاجين .. يقف الآن بشموخ وفرحة ويُسلم على هذا وذاك بسعادة وفرحة تقفز بين حدقتيه ليقترب منه الحاج سالم المنياوي الذي ظهر بأبهى صوره حين ارتدى جلبابه البيچ الفاتحة ووضع على كتفيه العريضين عباءته البنية ذات الخياطة الذهبية وأكمل إطلالته الساحرة بتلك العمامة ذات اللون البيچ وعصاه الأبانوس ذات اللون البني المُماثل لعباءته والتي ازداد رُقيها حين زينها ذلك المقبض الذهبي على شكل النسر ليصبح مظهره جذاباً رغم سنه .. ابتسم سالم وهو يربت على ظهر عزت مردفاً بنبرة اخوية
سالم(بابتسامة): مبروك يا عزت
عزت(بابتسامة وامتنان): الله يبارك فيك يا كبير .. ربنا ما يحرمنا منيك
سالم: ورد بتي يا عزت واني كنت واخد على خاطري منيك بس خلاص المسامح كريم
عزت: ماتزعلش مني يا كبير .. اني لما استلفت من چمال كنت فاكره اخوي وهيجف چنبي علشان اكمل تچهيز ورد كيف ما اي اب بيعمل مع بناته .. كنت عايز احس ان لسة ليا عازة
سالم(بعتاب): وهو انت لو كنت اخدت الفلوس مني كنت هتبجها خالها عاد؟! .. ما كنت برضك هتكون ابوها وتكمل جهازها
عزت(بحرج): كفاية اللي انت عملته معانا يا كبير .. دا الحاچة صالحة كملت شوار ورد كلاته وانت چيبتلها ياما, ديه غير الفرح اللي صممت يكون في الدار عندك .. أني كنت محروچ منيك
سالم: انت إكده هتخليني اخد على خاطري منيك تاني .. احنا عشرة عمر يا عزت وورد اتربت في البيت إهنه من زمان وكبرت مع زين ودعاء يعني كيف بتي تمام , فيه اب بيبخل على بته بحاجة؟
عزت(بامتنان وعيون لامعة): ربنا ما يحرمنا منيك يا كبير ويخليلك ولادك وتفرح ب ولدك زين زينة الرجالة كلها وتشيل احفادك عن جريب جادر يا كريم
ابتسم سالم بسعادة ورفرف قلبه فرحاً بتلك الدعوة التي أمن وراءها بكل جوارحه .. انتقلت عينيه تلقائياً ناحية ابنه الذي يراه يتحرك هنا وهناك يسلم على هذا ويحتضن ذاك بكل تواضع ولكن مازال مظهره وشخصيته يُضيفوا هيبة وحضور لا يليقوا سوا به هو .. زين المنياوي
//////////////////
بداخل السرايا وبتلك الغرفة بالتحديد التي تجتمع بها النساء والتي يصدح منها صوت الغناء والزغاريط الفرحة مازالت تجلس تلك القاهرية التي سمعوا عنها اهل البلد وعرفوا ما فعلت بالسوق وكيف وقفت امام ذلك المدعو جمال وكأنها جيش من الرجال .. فعلت ما لم يستطع الكثير من الرجال فعله لتُرسم لها صورة بالاذهان تختلف كلياً عن تلك الفاتنة التي تجلس أمامهم بأبهى زينتها مرتدية تلك العباءة السوداء ذات الطابع الصعيدي والمُطعمة ببعض النقوشات الملونة التي تزيدها جمالاً و رقة لتجعلها تستحق ان توضع فوق جسد حفيدة عائلة المنياوي .. تنظر صفاء بعيون سعيدة ناحية ابنتها التي تراها ولأول مرة منذ فترة تضحك من قلبها بحق ؛ فقد أثر موت عبد الرحمن والد إيمان عليها كثيراً بل يمكن القول ان روحها قد انطفأت بموته ولكنها الآن ترى تلك الروح تُضئ من جديد رويداً رويدا .. تصفق السيدات لتلك البنات اللاتي توسطن الغرفة متمايلات بأجسادهن على إيقاع الاغاني التي تشغلها رحمة على هاتفها .. تصفق إيمان بحفاوة حين انتهت الاغنية مشجعة تلك البنات اللاتي ابتسمن بخجل .. اما في احد اركان الغرفة وعلى احدى الارائك كانت تجلس هي وعينيها تشع غل وحقد بل وغيرة من تلك التي سرقت الانظار دون اي مجهود منها .. وقفت هي اكثر من ثلاث ساعات امام مرآتها لتختار عباءتها وتضع مساحيق التجميل على وجهها وتصفف شعرها راغبة في سرقة الاضواء كعادتها في اي مناسبة ولكن كل ذلك ذهب في مهب الريح حين وقعت اعين النساء على العروس الجميلة وتلك التي ترافقها وكأنها أختها ليتفاجأوا جميعاً انها حفيدة عائلة المنياوي التي لا يرون فيها اي ذرة من التكبر مثلما يرون بتلك المغترة بنفسها والتي ترمي الكلام هنا وهناك ان ابن خالتها سيكون من نصيبها وانها حتماً ستكون من عائلة المنياوي .. عم الصمت لدقائق لتردفت سيدة كبيرة لحد ما في السن وهي تنظر لقمر الجالسة وتنظر بازدراء للجميع وخاصة لتلك التي كرهتها ما ان وقعت عينيها عليها
احدى النساء الحاضرات: ما تجومي يا جمر يا بتي تفرجينا رجصك
لمعت فكرة خبيثة برأس قمر لتردف بنبرة حاولت بث البراءة بها
قمر(بابتسامة ذات مغزى): لاه احنا نتفرچوا عالمصراوية
قالتها وهي تنظر لإيمان التي اختفت الابتسامة من على وجهها ورفعت حاجبها مردفة بنبرة حادة
إيمان(بحدة): تتفرجوا عليا؟!! ليه هو حد قالك اني فُرجة؟!!
دعاء(بنبرة قوية): مالهوش لزوم حديتك الماسخ ديه يا جمر .. بلاش عكننة عاد
قالتها دعاء وهي ترمق قمر بنظرة تحذيرية وقد فهمت ما يدور برأسها الخبيث والتي لم تكن لتدع الفرصة لها لتنفذه .. اكتسبت شجاعة مفاجأة منذ ان تعرفت على ابنة عمتها .. لم تفعل إيمان لها شيئاً ولكنها اعطتها فقط احساس انها ليست وحدها .. انها الآن لديها اخت وصديقة .. ذلك الاحساس الذي لم تُعطيه قمر لها أبداً
صابرة(وهي تنكز ابنتها بتحذير): اكتمي يا جمر اومال
قمر(مُدعية البراءة): وهو اني جولت ايه عاد .. احنا ياما حضرنا افراح ورجصنا ياما شوفناه .. يعني الرجص الصعيدي حافظينه وعارفينه انما رجص المصاروة ماشوفناهوش غير في الافلام عالتلافزيون ف اني جولت نشوفه عالطبيعة بس الظاهر ان المصراوية ماتعرفش ترجص
قالتها بنبرة فيها تحدي لتنظر لها إيمان بنفس النظرة قبل ان تقف وتقترب منها .. العيون مُعلقة عليهما لتقف إيمان امامها وتفرد يدها دون ان تنطق بكلمة .. نظرت لها قمر قليلاً قبل ان يشوب نظراتها عدم الفهم لتنطق إيمان بكلمة واحدة
إيمان: طرحتك
نظرت لها قمر باستغراب يشوبه الغيظ من قوة شخصيتها والتي وضحت بنبرتها .. ظلوا على تلك الحالة لثواني قبل ان تردف إيمان بنبرة استهزاء يشوبها التحدي القوي
إيمان: ايه؟ .. مش كنتي عايزة تتفرجي على رقص المصاروة؟ .. طرحتك علشان افرجك
ضغطت قمر على اسنانها بغيظ قبل ان تسحب طرحتها من حول رقبتها وتضعها بين يدي إيمان التي تحركت خطوتين باتجاه دعاء المجاورة لرحمة والتي جلست بجانب صفاء المذهولة بابنتها التي سترقص الآن .. ضغطت إيمان على هاتفها بضع مرات قبل ان تُعطيه لدعاء بعدما غمزت بعينيها لها مخبرة إياها برسالة مبطنة انها الآن ستُلَقِي تلك الأفعى الخبيثة درساً لن تنساه .. صدح صوت الاغنية التي اختارتها والتي كانت اغنية "أما براوة" بصوت حسين الجسمي الذي أضفى صوته الجميل مع موسيقى الاغنية ايقاعاً مميزاً .. بدأت موسيقى الأغنية في ملأ ارجاء الغرفة لتبدأ إيمان تمايلها على ذلك الايقاع الطرب بعدما عقدت طرحة قمر على خصرها مبرزة تقاسيم جسدها الجذابة .. ظلت إيمان ترقص بحرافية فغرت افواه النساء الجالسات واشعلت الغيرة بقلوب البعض وعلى رأسهم تلك التي تراقبها بعيون تضج بالحقد والغل .. بدأ صوت حسين الجسمي العذب في الظهور مضيفاً لمسات جمالية لتلك الأغنية لتبدأ إيمان في تمايل جسدها والتحرك هنا وهناك متعمدة الاقتراب بين كل دقيقة وأخرى من قمر لتزيد من اشعال نار غيرتها ولكنها لم تشعل تلك النار فقط بل هناك ناراً اخرى اشتعلت بجسد ذلك الواقف امام الباب بأنفاس محتدة .. نعم ومن غيره .. هو ذلك العاشق الذي يدق قلبه الآن بقوة بين أضلعه وكأنه سيُغادره ويهرع لعند تلك الفاتنة الجميلة المتمايلة بإغراء كفيل بجعل اعتى الرجال يخر صريعاً مستسلماً مُسلماً قلبه لها ليكون تحت رحمتها .. هدأ الإيقاع قليلاً لتقوم إيمان بدورها في التمايل بهدوء مغري جعل حلقه يجف وكأنه بصحراء جرداء .. يكاد يقسم انه لو صام عمره كله لما احس بالظمأ مثلما يشعر الآن .. هو ليس عطشاً للماء وإنما لها هي .. يريد ان يرتوي من شهدها هي .. اغمض عينيه بقوة وعقله يردد اللعنة عليه وعلى ذلك القلب الذي يدق بقوة وكأنه ساعة عملاقة يضوي صدى صوتها بالسبع قارات .. بل اللعنة على ذلك المأذون الذي كلفه بأخذ الدفتر للداخل حتى يُعطيه لأمه او اخته ويُحضر توقيع العروس لتتم تلك الزيجة .. استوعب عقله فجأة احتمالاً لم يكن ليتصوره .. ماذا لو لم يُرسله المأذون .. ماذا لو ارسل غيره .. ماذا ان رآها غيره تتمايل بذلك الشكل المثير .. فارت دماءه بشرايينه لينظر لها مرة اخرى من ذلك المقدار القليل الواضح من فتحة الباب لتلين ملامحه ما ان وقعت عيناه عليها تتمايل بهدوء وابتسامة رقيقة مرتسمة على شفتيها .. يراها تقترب من والدته الجالسة بجوار والدتها التي تلمع عينيها بدموع الفرح والسعادة فإبنتها كبرت حقاً .. لم تعد تلك الطفلة الصغيرة بل اصبحت فتاة جميلة في ريعان شبابها المزدهر .. ترتسم ابتسامة على شفتيه وهو يرى والدته ترفع تلك المبخرة فوق رأس إيمان ولسانها يردد بهمس بعض آيات الله الحافظة من الحسد فهي ترى عيون النساء تكاد تأكل إيمان أكلاً .. ظل على تلك الحالة حتى انتهت الاغنية وتوقفت تلك الساحرة عن تمايلها الآسر والفاتن والمهلك له ولرجولته .. علت زغاريط النساء لتنظر إيمان لقمر نظرة الانتصار قبل ان تُلقي بطرحتها نحوها دون ان تسألها رأيها فهي ليست بحاجته فها هي ترى رأي الجميع حولها ومن قبلهم رأيها هي بنفسها .. لم تكن بحاجة لإثبات اي شئ لها ولكنها كانت بحاجة ان توقفها عند حدها وتخبرها انها الآن في مواجهة خصماً قوياً لن تقدر على تحديه ومواجهته وهذا ان تنازلت هي وواجهتها
/////////////////
مرت دقائق وصدح صوت الرصاص بالأرجاء مُعلناً إتمام تلك الزيجة لتخرج الفتيات للشرفة وتشاهد الفرحة العارمة التي ارتسمت على وجه العريس الواقف بجوار صديقه زين المنياوي والذي أسعده حين قبل ان يشهد على عقد زواجه .. ابتسمت ورد بسعادة يشوبها الخجل وهي تنظر لمحمود لتبتسم إيمان وهي تراقب فرحتها وتسأل نفسها هل ستحظى بتلك السعادة يوماً ما حين يجمع القدر بينها وبين نصفها الآخر .. فوراً وبدون مقدمات قفزت صورته بعقلها لتتبعثر دقات قلبها .. خرجت من شرودها على صوت التهليلات التي صدح بالأسفل لتنظر وتجد ان تلك الاصوات لم تكن إلا تهليلات مُشجعة لزين المنياوي الذي توسط حلقة كبيرة من الرجال مُمسكاً بعصا والده ليقوم بركلها فجأة حين بدأ صوت المزمار الصعيدي يعلو في الأرجاء ليبدأ هو الرقص بتلك العصا بحرافية شديدة .. ينضم له شباب تلك القرية من هنا وهناك مشاركينه رقصة التحطيب لينتهي الأمر بانسحابهم جميعاً عداه ؛ فهو أمهرهم .. استمر بتحريك العصا بطريقة تجمع بين الاستعراض والثقة والحضور الصعيدي الساحر .. كل ذلك امام عينيها التي لمعت وهي تتطلع له .. لم تره منذ اول اليوم ولم تلمحه سوا عندما احضر دفتر المأذون ووقف امام الباب واضعاً عينيه بالأرض رافضاً التطلع لأي من الجالسات بالغرفة إلا انه استغل انشغال السيدات بإمضة ورد وألقى عليها نظرة ليُمسكها بالجرم المشهود وهي تنظر له .. تعلقت انظارهم ولم يقطعها وقتها سوى صوت والدته التي اعطته الدفتر داعية ان تفرح بزواجه هو الآخر ليبتسم وينظر لإيمان نظرة اربكتها قبل ان يتحرك .. يدق قلبها بقوة وهي تراقب حركاته لتزداد قوة دقاته حين تلاقت أعينهم مرة اخرى حين حاول استراق النظر لها .. ظل يحرك العصا بيده وعينيه معلقة بعينيها في لقاء يقول الكثير والكثير .. كلام لا يسمعه غيرهم ولا يرى جماله غيرهم .. كلام جعل زوج من العيون تشتعل كالنيران وهي تتوعد بقطع تلك العلاقة .. تدق قلوبهم بشئ اقسم قلبها على قتله قبل ان يولد وبالأخص بعد ما فعلته إيمان بالداخل .. تحديها الذي جعلها تعقد العزم اكثر على ما اسررته بنفسها و نوت تنفيذه .. فهي لن تهدأ حتى تصير من عائلة المنياوي حتى وإن كانت ستتحالف مع الشيطان من أجل ذلك فهل ستنجح ام ستنتصر تلك القاهرية العنيدة لترفع رآية الانتصار على اراضي قلبه هاتفة عشقت من الصعيد
كاااااااااااااااااااااات .. كفاية لحد كدا النهاردة .. إلى اللقاء في الأحداث القادمة
- تابع الفصل التالي عبر الرابط: "رواية عشقت من الصعيد " اضغط على أسم الرواية