رواية حي البنفسج " رمضان الزمن الجميل " بقلم نور بشير
وبعد مرور ثلاثة أيام فى منزل " فتوح " حيث يجتمع الجميع فاليوم هو ثالث أيام الحداد كما يقال.
تجلس " صفية " مرتديه لجلبابها الأسود ووشاحها من نفس اللون واضعه رأسها بين راحتها وعبراتها تسقط من عيونها دون إرادة منها فهتفت " عزيزة " بتألم على حالتها تلك.
- يا بتى حرام عليكى نفسك يا حبيبتى بزياداكى اللى أنتى بتعمليه ده..
أستغفرك ربى وأتوب إليك..
يا بتى ده أنتى حالتك بقت تصعب عالكافر، أدعيله بالرحمة يا حبيبتى ده مكانته كبيرة أوى عند ربك واللّٰه..
" صفية " ببكاء.
- مش قادره يا خالتى..
مش عارفة أمنع نفسى من البكا عليه، ده كان أبويا وحمايا وونسى ما أنتى عارفة أنا لا حيلتى عيل ولا تيل وهو الوحيد اللى كان واخد بحسى ورادد بنفسه عليا..
" عزيزة " وهى تجذبها إلى أحضانها بحنان.
- ربك كريم واللّٰه وهيكرمك من فضله وهيطعمك صدقينى محدش معاه ربنا وينضام أبداً..
بكرا هتجيبى بدل العيل عشرة وهتنجبرى بحق خدمتك للراجل العجوز اللى كان عامل زى حتة العيل ومتشعلق فى رقبتك..
ربك لا يضيع أجر من أحسن عملاً وأنتى أحسنتى إليه يا بنتى وأحسنتى فى حق عمك الحاج اللّٰه يرحمه عشان كده بقولهالك وأنا واثقة أنك هتنجبرى..
" صفية " بمرارة وهى تضرب بيديها ساقها فى قهره وحزن مندبه على فقيدها التى هو بمثابة أبيها الروحى أن لم يكن أبيها حقاً فهى دوماً ما أعتبرته كذلك وليس مجرد حما لها كما يقال.
- آاااه يا أبويااا آااااه يا غالى..
هروح فين من بعدك يا حبيبى..
عدمك خسارة يا جسر بين بلدين..
أحترت من بعدك أنا أروح فين..
مالقيت حيلة بكيت بدمع العين آاااااه..
" عزيزة " بحكمة.
- يا بنتى حرام اللى أنتى بتقوليه وبتعمليه ده، أدعيله..
أدعيله هو محتاج الدعا دلوقتى لكن نواحك وبكاكى ده مش هيفيده يا حبة عينى..
وهنا دلفت " صبا " برفقه " زينب " و " زينه " محملون بأوانى الطعام وهى تردد بمحبة وود والحزن يكسو ملامحها.
- يلا يا جماعة تعالوا الفطار جهز والمغرب هيأذن أهو..
" صفية " بحزن ونبرة ممتنة.
- تسلمولى يا بنات محدش يجلكم فى حاجة وحشة أبداً، أنا واللّٰه ما عارفة هرد جميلكم ده أزاى، جمايلكم بقت كتيره أوى يا خالتى ربنا يقدرنى وأردها..
" عزيزة " بتوبيخ.
- أخس عليكى يا بنتى وهو أحنا فى بينا الكلام ده..
ده أنتى بنت من بناتى زيك زى " ثريا " و " دنانير " و " مجيدة "..
أحنا أهل يا بنتى ومفيش بينا جمايل..
" صفية " بإمتنان.
- ونعم الأهل واللّٰه يا خالتى..
ده أنتم اللى باقيين ليا فى الدنيا من بعد الغالى اللّٰه يرحمه..
" عزيزة " بحب بعدما أستمعت إلى صوت المؤذن وهو يُأذن لأذان المغرب عبر مكبر الصوت.
- أهو أنتى قولتى بنفسك أحنا أهل أهو يعنى بلاش الكلام الفاضى ده ويلا عشان نشق ريقنا يا حبيبتى..
" صفية " بحزن.
- ماليش نفس يا خالتى واللّٰه كلوا أنتم، أنتم صايمين..
" عزيزة " وهى تجذبها من يديها مجلسه إياها أعلى مقعد السفرة.
- كلنا صايمين يا حبيبتى، أقعدى بس كده وشقى ريقك ده أنتى مدقتيش الذاد من أمبارح..
كلى يا أمه..، كلى اللّٰه يراضيكى...! فأطاعتها " صفية " وبالفعل بدءت فى تناول القليل من الطعام بعدما أرغمتها " عزيزة " بمحبة على تناول الطعام برفقتهم.
وفى صباح اليوم التالى فى منزل الحاج عمران حيث يجتمع الجميع فى غرفة الإستقبال يقوم كل منهم بالتحضير لطعام الإفطار وجزءاً منهم يقوم بتجهيز أنفسهم للذهاب للتسوق وجزءاً آخر يقوم بإعداد الطعام من أجل إرساله لمنزل " صفية " و " فتوح " فتلك هى عادتهم يحملون مسؤلية بعضهم البعض فى الأحزان قبل الأفراح وتلك الموقف عصيب للغاية يحتاج أن يشد عضدهم بعضهم ببعض..
" كريم " بهدوء وجدية.
- هنعمل إيه يا حاج فى موضوع البت " صبا "..
أنا قابلت " صبرى " أمبارح وأنا بحاسب الراجل بتاع الصوان ولقيته بيكلمنى فى الموضوع، فعرفته أن عندنا حالة وفاة وكده فعزانى وإعتذر بس من الواضح أنه مستعجل وأنا مش عارف أحير ولا أدير ده عمى " عسران " مابقلهوش أسبوع لسه وهتبقا عيبه أوى لو عملنا أى حاجة دلوقتى..
" عمران " وهو ينقل أبصاره بينهم جميعاً وبين " سليم " المتصلب الوجة الذى يبدو على معالم وجهه العبوس والغضب الشديد الذى يحاول كظمه.
- يا أبنى الراجل لسه مربعنش حتى وهتبقا عيبة كبيرة أوى فى حقنا لو فرحنا والراجل لسه دمه دافىء ده حتى يحشم فينا..
ملحوظة: ( يحشم فينا ) يعنى يزعل مننا أو لقدر اللّٰه نفقد حد عزيز بسبب زعله ده واللّٰه أعلى وأعلم..
" كريم " وهو يهز رأسه بتفهم.
- عندك حق يا أبا..
أنا هقوله نأجل كلام فى الموضوع لبعد الأربعين عالأقل، وأهو البت تكون فكرت برضو وأخدت وأدت مع نفسها لأحسن مش عجبانى وحاسس أن الموضوع مش لادد عليها..
" عمران " بتفكير.
- أوعى يكون فى حد تانى يا أبنى عشان كده مش موافقه..
" كريم " بتهذب.
- ولا تانى ولا تالت يا حاج..
الموضوع كله أنها بتحب تفكر بتأنى وبتحب تاخد وقتها وأنت عارف يا أبا " صبا " محدش فينا بيقدر يأكلها لقمة مش على هواها..
" عمران " وهو يهز رأسه بإيجاب مستنداً على عصاه بهيبة.
- بتك مستقلة يا أبنى..
والبت اللى بتشقى وتكافح من صغرها بتبقا عمليه وبتبص للراجل من منظور مختلف مش زى غيرها بيقول ضل راجل ولا ضل حيطة وتتستر وخلاص..
بتك عقلة ورأسيه وعارفة هى عايزه إيه كويس..
غيرها رجالة بشنبات مش عارفين غايتهم ولا حتى هما عايزين إيه...! قالها وهو يقصد بها " سليم " فشعر الأخير بالحرج ومن ثم هب واقفاً وهو يردد بنبرة مهزوزة.
- طيب أنا هطلع أشوف " فريدة " وهنزل تانى..
" عمران " بنبرة حازمة.
- أستنى يا " سليم " أنا عايزك..
" سليم " بغرابه.
- خير يا جدى فى حاجة...؟!
" عمران " بهدوء ونبرة حاسمة.
- عايزك فى كلمتين يا أبنى حصلنى على الأوضة جوه...! قالها وهو يهم بالوقوف ذاهباً إلى غرفته وسرعان ما لحق به " سليم" والقلق ينهش قلبه نهشاً.
" سليم " وهو يجلس إلى جوار جده بتهذب.
- أتفضل يا جدى سامع حضرتك..
" عمران " بنبرة ذات مغزى.
- فيك إيه يا أبن أبنى...؟
شكلك مش عاجبنى وكأنك متغرب عن نفسك من سنين..
" سليم " بتنهيده حارة موضعاً من خلالها كل ما يرهقه ويُآرقه.
- أنا فعلاً متغرب من سنين يا جدى مش جديدة عليا الغربة..
" عمران " بحكمة.
- أنك تتغرب عن أهلك ده كوم وأنك تتغرب عن نفسك ومتعودش تعرف أنت مين ولا عايز إيه ده كوم تانى..
ثم تابع وهو يعطيه قطعة صغيرة من الزجاج ( المرآه ) ليرى نفسه من خلالها.
- أمسك..
أمسك شوف نفسك فى المرايا دى..
شوف هتعرف نفسك ولا لا يا " سليم "..
فمد يديه وهو يمسك المرآه من بين يديه ناظراً بها بشرود وتسهيم ومن ثم تابع الجد حديثه بهيبة.
- شايف إيه يا أبنى...؟
عرفت نفسك ولا متغربه عنك زى ما جدك الراجل العجوز قالك من شوية..
" سليم " بتوهان وتشويش وأعينه حبيسة الدمع وهو لايزال ينظر إلى هيئته بالمرآه.
- أنا ضايع يا جدى..
أنا مش عارف أنا فين ولا بعمل إيه ولا أنا صح ولا غلط ولا إيه حكايتى..
كل اللى أنا حاسة أنى موجوع وموجووووع أوى كمان بس مش عارف ليه وعلى مين...؟
" عمران " برزانه وحكمة وهو يتكأ على كل حرف يتفوه به.
- والوجع ده سببه " مراتك " ولا " صبا "..
" سليم " بفزع وهو ينظر إلى جده بإرتباك.
- " صبا "..
وإيه علاقة " صبا " بالموضوع يا جدى..
" عمران " بحكمة ورزانة.
- يا أبنى أنا مش صغير ولا بريالة وشوفت كتير لحد ما شعرى شاب وضهرى أنحنى..
أنت بتحب " صبا " يا " سليم "..
أنت بتحبها يا حبيبى والحب مدهولك..
" سليم " بإرتباك ونبرة مهزوزة.
- أنا...! فقاطعه الجد دون الإستماع له وهو يردد بحزم وإبتسامة ذات مغزى تداعب ثغرة بحنان.
- مهما تنكر وتقول لأ..، عيونك فضحاك وقايله اللى أنت رافض تصدقه..
عيونك مليانة حب ودفىء يا " سليم " والغريب أنه مش لمراتك وده اللى أنا واثق منه..
" سليم " بخجل من حديث جده.
- يا جدى أنا مش عارف ده حصل أزاى وأمته بس حصل..
صدقنى أنا مش خاين ولا قليل الأصل..
أنا عارف كويس أنى وجعت " صبا " وأذيتها من غير قصد بس أنا مكنتش أعرفها..
أنا مشيت وأنا سايبها عيلة بضفاير عمرها ١٤ سنة، يعنى كانت طفلة ولما أتجوزت كنت شايف فى " فريدة " كل حاجة ممكن الراجل مننا يتمنى أنه يلاقيها فى أى بنت وكنت منبهر بيها بشكل صعب حضرتك تصدقه..
عارف لما تشترى علبة شوكولاتة غالية أوى على أنها بالمكسرات وأول ما تروح وتيجى تفتحها عشان تأكل منها تلاقيها مخززه وطعمها وحش حتى المكسرات فيها قليلة أوى..
أهو ده بالظبط اللى حصل معايا لما شوفت " فريدة "..
أنبهرت بشكلها ومع الأيام أكتشفت أن اللى جوه مش زى اللى بره خالص وده للأسف شوفته منها لما رجعت هنا وشوفت أسلوبها وتعاملها معايا ومع عيشتى اللى هى ناقمة عليها وشايفة أنها مش منسباها..
لقيت نفسى غصب عنى بوقع فى حب " صبا " من غير ما أحس..
لقيت نفسى فجأة بتشد ليها ومش عارف أعمل إيه...؟!
" عمران " بنبرة فى الصميم.
- وليه متقولش أنه إنبهار بيها زيها زى " فريدة "...؟!
" سليم " بتهذب.
- ده مش إنبهار يا جدى صدقنى ده حب وحب قوى جداً أنا مش قادر عليه..
أنا اللى حسيته ناحيتها عمرى ما حسيته مع " فريدة " ولا حتى أى واحدة خلقها ربنا غيرها، وبعدين حضرتك بنفسك لسه قايل أنك شايف الحب فى عيونى لـِـ " صبا " يبقا أزاى ده إنبهار..
" عمران " بحكمته المعهوده.
- أنت عارف يا " سليم " أنت بتفكرنى بإيه...؟
ثم تابع وهو يستند على عصاه برزانة.
- أنت عامل زى اللى قعد عمره كله يجمع فى خيول لحد ما ضيع منه الأصيلة..
أنا مش عايز أقولك أنها كانت فى إيدك وأنت اللى أتبطرت بس هقولك أن ده نصيب ومقدر ومكتوب وأنا عذرك برضك عشان البت كانت صغيره عليك أيامها أوى وزى ما قولت كانت غريبة عنك..
" سليم " بتنهيده يملؤها الألم والوجع.
- أنا مش عارف أنا بعمل إيه يا جدى ولا هكمل حياتى أزاى خصوصاً أن " فريدة " كل يوم مشاكلها بتزيد وكل يوم بتخلق حوارات جديدة والغريب أنها حطه " صبا " فى دماغها بشكل مش معقول..
" عمران " بحكمة.
- حقها يا أبنى..
حقها يا " سليم "..
واحدة شايفة فى عيون جوزها الحب بس مش ليها عايزه تعمل إيه...؟!
أوعى تظلمها يا أبنى ولا تيجى عليها دى ولية وأحنا عندنا ولايا مش عايزينه يترد فيهم..
" سليم " وهو يضغط على عيناه بألم وحيرة من أمره.
- صدقنى يا جدى أنا عمرى ما هظلمها أبداً ولا حتى هظلم " صبا "..
أنا كل اللى عايزه أن أفصل شوية من مشاكلى مع " فريدة " لأن حرفياً علاقتى أنا وهى متوترة بقالها فترة ومش مستقرة محتاج أخد هدنة من كل الضغوط دى يمكن أقدر أسيطر على علاقتى بيها وترجع تقوى من تانى..
بس مش عارف هعمل كده أزاى و " صبا " حبى ليها كل يوم بيزيد وبيطاردنى أكتر من اليوم اللى قبله..
" عمران " بعقلانية.
- أفتكر دايماً يا " سليم " أن اللى بيطارد أرنبين فى نفس الوقت مش بيمسك ولا واحد فيهم يا حبيبى..
أفتكر الكلمتين دول وحطهم حلقة فى ودانك عشان خاطر لا تظلم مراتك ولا بت عمك ولا حتى تيجى على نفسك..
عيش يا أبنى وراضى مراتك وسيب بت عمك تعيش زى ما أنت إخترت طريقك وعشت على كيفك..
وأصبر شوية على مراتك يا أبنى وأعذورها عشتنا غريبة عليها ومتعودتش عليها وخد بالك أن العلاقات أخد وعطا تحب وتتحب تسند وتتسند تعدي ويتعدالك هي دي العلاقة اللى بجد، اللى كل واحد فيها فاهم إيه الحقوق اللي له وإيه برضو الواجبات اللي عليه وزي ما بيطالبو بحقوقهم ما بيقصروش كمان في واجباتهم يعني ما ينفعش ترمي حمل العلاقة على طرف واحد وتقول له يلا نجحها ساعتها مُستحيل العِلاقة دى هتنجح، العِلاقات بتحب المجهود، والمرونة، والمودة، والرحمة..
القسوة والجفا بيقصروا عمر العلاقة مهما كانت قوتها..
" سليم " وهو يحتجز عبراته بصعوبة بالغة.
- عندك حق يا جدى..
عندك حق، عشان كده أنا بفكر أبعد فترة أنا و " فريدة " يمكن أقدر أسترد حبى ليها من جديد وأدى فرصة لعلاقتنا عشان نقدر نكمل، وعشان كمان ما كونش حاجز قصاد " صبا " فى أى قرار ممكن تاخده بخصوص جوازها..
" عمران " وهو يربت على كتفه بحنان ولكن من داخله يتألم من أجل ألمه هذا.
- عين العقل يا حبيبى..
ربنا يكملك بعقلك يارب ويراضيك زى ما هتراضى مراتك كده..
بس متغبش علينا..
يتبع الفصل الرابع و العشرون 24 اضغط هنا