رواية منك وإليك اهتديت الفصل الحادي عشر بقلم زيزي محمد
رواية منك وإليك اهتديت الفصل الحادي عشر
رنين متواصل لعب فوق أوتار تماسكه، فبدا كالشارد تمزقه الحيرة إربًا، لا يجيد اختيار الخطوة التالية يخشى تصرف مجنون نابع من عاطفته المتأججة التي باتت تتدفق بشكل لا يمكنه فرض سيطرته عليها، حتى الشوق لم يتركه في حضرتها ورسم خيوط الهيام والغرام فوق ملامحه وخاصةً حين تتقابل نظراتهما للحظات تبدو وكأنها معركة من الحنين، زفر بخفة يفكر مع نفسه بتروٍ، هل يستمع ليزن خبير الفتيات، أم يترك نفسه لعاصفة الحب تفعل به ما تشاء ولكنه يخشى فقدانها بالأخير، لن يسمح بذلك حتى ولو في مخيلته، لقد سكنت خلاياه وتمكنت من فرض نفسها على كيانه حتى أصبح منساق خلف كل رد فعل يصدر منها يهيم بها حبً حين تبتسم ويعبس بقلق حين تطلق تنهيداتها الحزينة للهواء ناهيك عن عينيها الجميلة التي لم تفارقه حتى في أحلامه تصاحبه دومًا تذكره بصاحبة أجمل عينين،...آه منها ومن كل تفصيلية صغيرة بها، هل يعقل جاذبيتها تصل لهذا الحد؟ هل يعقل اجتذابه نحوها وكأنها مغناطيس تسلب إرادته وتعقله دون عناء منه؟
-أنت يا بني، اتصل تاني.
صدح صوت يزن الحانق من أخيه وشروده الدائم، فهتف زيدان بحيرة مزقت تفكيره:
-اروحلها أحسن؟
ضغط يزن فوق أسنانه في غيظ:
-يعني بذمتك عايز تروحلها بأنهي وش، بعد ما ركبتها البوكس يا قادر.
زفر زيدان بنزق قائلاً:
-يووووه، قولتلك يا ابني محمود فهمني غلط والشبكة قطعت..
بتر يزن حديثه في حزم مردفًا:
-خلاص عرفت، بس دا ميمنعش انك غلط، وبعد كدا اسمع كلامي ومتجودش من دماغك.
استدار زيدان بكامل جسده نحوه ودفعه نحو باب السيارة قائلاً بعصبية امتزج فيها الغيظ لوقوعه تحت رحمة ذلك الوقح عديم التربية:
-انزل ياله من العربية، أنا أساسًا غلطان أني بحكيلك.
تشبث يزن بالمقعد هاتفًا بمزاح مشاكس:
-انزل واسيبك تعك الدنيا، يا ابني احنا هنعمل فرح يوم ما تتجوز وتغور في داهية من البيت.
قبض زيدان فوق مرفقه جاذبًا إياه نحوه والتهديد يملئ حروفه:
-عارف لو محترمتش نفسك هعمل فيك إيه؟
ابتسم يزن بسماجة:
-إيه؟
وقبل أن يجيب صدح رنين هاتفه سارقّا انتباههما معًا، فمال زيدان بنصف رأسه يطالع اسم المتصل وجدها هي..أيعقل؟! مليكة تجري اتصال به بهذه البساطة، لقد ظن أن طريق الوصول إليها طويل وسينقطع أنفاسه به ولكنه كان مستعدًا بكل حماس رغم أخطائه الفادحة، ترى ما الذي حدث حتى يقتصر بينهما بهذا الشكل؟
استفاق من شروده اللحظي على أصابع يزن المتحركة أمامه بينما صوته يعلو بحماس:
-رد على المزة بسرعة.
وقبل أن يجيب زيدان رمق أخيه بنظرة محذرة فهمس يزن وامتهن صفة التهذيب عاقدًا ذراعيه أمامه وكأنه طفل في السابعة من عمره:
-قصدي أبلة مليكة.
هز زيدان رأسه بيأس وابتعد عن يزن المقترب منه يحاول استماع الحديث، فهمس زيدان بشراسة:
-ابعد يا حيوان.
-بتقول حاجة يا زيدان؟
جاءه صوتها المتسائل بعدم فهم، فتراجع يقول بخشونة:
-لا دا عيل مالوش لزمة بهزقه.
رفع يزن حاجبيه معًا بضحك والتزم الصمت بينما غرق زيدان في الحديث معها حين سرقت انتباهه بنبرة حزينة خالطت الانكسار وهي تسأله:
-اتصلت عليا؟
استدار برأسه نحو يزن، فشجعه الأخر محركًا شفتيه بهمس:
-اعتذر يا ابني.
حمحم زيدان بخشونة ثم أردف بنبرة حاول إظهار فيها الندم:
-أنتي لسه زعلانة مني؟
-لا.
إجابة مقتصرة سريعة عقبت بها ومن بعدها صمتت ولكن أنفاسها السريعة أثارت القلق لديه فسألها برفق ولطف:
-مالك أنتي كويسة؟
صمت طويل أشعل حواسه والجم لسانه ولكن تنبيهات يزن بحديث ما بالقرب من أذنيه جعله يردد دون وعي:
-ينفع اقابلك ونقعد مع بعض شوية؟
بعد ثواني أدرك زيدان ما قاله فتوسعت عيناه بصدمة ضاغطًا بيده فوق ذراع يزن، تزامنًا مع إبعاده للهاتف عنه:
-يا حيوان هترفض، ليه قولتلي كدا؟
ولكن صوتها الذي اخترق مسامعه رغم ابعاد الهاتف عنه اصابه بانشداه:
-تمام.
زحفت الصدمة فوق ملامحه حتى أنه خانته كلماته ولم يستطع تجميع جملة مفيدة وبعد محاولات باءت بالفشل استطاع أخيرًا استعادة استيعابه ورد بعدها بثبات:
-خلاص هقابلك في *****.
أغلق الهاتف بعد أن تأكد من موافقتها ولم يعقب بأي جملة، بقي صامتًا لفترة حتى قطع شروده يزن الهادئ:
-بعد اذن سعادتك نتحرك ورانا معاد.
التفت زيدان برأسه يرمق أخيه باندهاش بات واضحًا ثم كرر بعدها:
-ورانا..حرف النون دا جه منين؟
سأل بسخرية فرد يزن بتهكم:
-هو أنا اهبل عشان اسيبك تعك الدنيا، لازم اكون موجود الحقك.
-تلحق مين، هو أنت هتاخد عليا ولا إيه؟!
أومأ يزن بإصرار مردفًا:
-هروح معاك، أنت احتمال تنيمها في الحجز النهاردة، والله مش مضمون وتعملها.
حدجه زيدان بشر، فسارع يزن بالحديث:
-بص مش هتحس بيا، هقعد بعيد خالص.
بعد لحظات من التفكير زفر زيدان بقوة ثم تحرك بسيارته نحو الكافية المقصود، وبعد عدة دقائق متواصلة وصلا أخيرًا معًا في إحدى الكافيهات المطلة على النيل مباشرةً، وقف يزن بجانب زيدان وأردف من خلف نظارته الشمسية:
-انهي واحدة فيهم، عشان القمرات هنا كتير.
جذب زيدان أنفاسه محاولاً التمسك بأخر ذرة صبر لديه لتحمل يزن بتصرفاته الوقحة:
-اللي هناك دي.
دقق يزن بعينيه ومن ثم أبعد نظارته للخلف قليلاً قائلاً بمزاح قصد به إثارة غيرة أخيه:
-لا قمر..طلعت بتفهم زي أخوك.
تغاضى زيدان مشاكسته تلك وقال بتهديد لاذع:
-بقولك عارف الترابيزة اللي هناك دي روح واقعد عليها ومشوفش وشك خالص.
اندفع يزن بقوة لأمام وكاد أن يلتفت يستكمل حديثه مع زيدان الهمجي ولكن وجده قد تحرك نحو فتاة بسيطة في ثيابها تجلس بانكماش داخل مقعدها تخالف الأنثى التي رسمها بخياله، فمن خلال أحاديث زيدان عنها ورغم أنها مقتضبة إلا أنه استطاع تخيل أبعاد شخصيتها توافقًا مع شخصية أخيه صعبة المراس فهو يحتاج لأنثى تملك من القوة والصبر مقدار كافي كي تستطيع التعامل معه ورغم ذلك ملامحها الأنثوية جذابة بشكل يسلب لب الرجال وخاصةً نظرات الحزن الممزوج بالضعف التي استقبلت بها زيدان.
وجد يزن نفسه يتابع بخطواته اتجاههما دون أدنى اهتمام لتنبيهات زيدان الصارمة، حقًا قصة حب أخيه استطاعت سلبه قليلاً من عالم الفتيات وكيفية الايقاع بهن في شباكه والغريب في الأمر أنه لم يفشل مرة واحدة معهن فبدا كصياد ماهر يحالفه الحظ في كل مرة، ولكن الدور الذي وقع فوق عاتقه يجعله سعيدًا للغاية وهو يقدم مساعداته لأخيه وتحديدًا زيدان، دائمًا يشعر نحوه بمسؤولية رغم أنه يصغره.
***
حرك "زيدان" رأسه يمينًا تارة ويسارًا تارة أخرى في ملل يتابع حالتها الساكنة، ورغم أنها نجحت في سجن ملامحها خلف قضبان البرود إلا أن عيناها تكشف عما يدور بداخلها..هي تعاني في صمت لذا وافقت على لقائهما دون عناء منه.
نظف "زيدان" حلقه عدة مرات في محاولة لجذب انتباهها، ولكنها كانت تغوص في عالم أخر يتمنى سبر أغواره معها، خرجت تنهيدة ثقيلة منها ولانت ملامحها من الجمود إلى الحزن فبدت وكأنها تتحول بشكل تدريجي حتى امتلأت مقلتيها ببعض الدموع وهذا الأمر اقلقه فقال بنبرة قلقة:
-مالك يا مليكة؟
حولت بصرها نحوه وردت في صوت متحشرج:
-مفيش، أنا كويسة.
حرك العصير أمامها وهتف بنبرة حانية:
-طيب خدي اشربي العصير دا.
لم تتحرك ساكنًا بل ظلت على نفس موضوعها بذات النظرة المنكسرة، فزفر في حنق:
-قولي إيه اللي مضايقك؟
-أنت.
أجابت باندفاع تحاول الهروب من حصاره المفروض حولها، حتى أنها استكملت قائلة في هجوم شرس:
-أنت عايز إيه مني؟، خليك في البنات بتاعتك، راجع تاني بعد إيه؟
ثبت بصره عليها لثوان يحاول استيعاب غضبها غير المبرر:
-أنتي بتكلميني أنا؟
أجابت في استهجان:
-أيوا.
ومن بعدها ثبتت بصرها المتهكم فوق خاتمه، وبعد لحظة من الادراك صاح بابتسامة واسعة مشيرًا نحوه قائلاً:
-اه قصدك دا؟
اكتفت بالصمت حتى عيناها ساندتها ولم تعبر عن أي شيء أخر، فخلعه زيدان سريعًا وألقاه بجواره في المياة ببساطة أدهشتها فيما بعد:
-لو دا اللي مضايقك يبقى بلاش منه.
فتحت فمها وحاولت التحدث:
-أنت..أنت قولت أنه..
-ثواني حضرتك انتي؟
قطع حديثها شاب لم تعرفه من قبل كان يجلس بالطاولة المجاورة لهم حيث أن مقعده كان يقع خلف مقعد زيدان، والغريب في الأمر أن زيدان كان يتعامل ببرود أدهشها فتنقلت ببصرها بينهما في تعجب، وذلك حينما أردف الشاب في غيظ:
-أنت رميت حاجة في المياه دلوقتي؟
رد زيدان في تبجح:
-بجد مخدتش بالي، يمكن.
عض يزن فوق شفتيه السفلية وقد احمر وجهه في غيظ تزامنًا مع نظرات تهديد اخترقت زيدان الجالس ببرود وابتسامة لزجة تحلق فوق ثغره، فخرجت نبرة يزن حانقة خشنة:
-يعني مش هتنط في المياه تجيبه دلوقتي، يمكن حاجة غالية ولا حاجة.
حرك زيدان رأسه بنفي وأردف بسماجة:
-لا حاجة عادية، اقعد انت واهدا.
-ماشي.
قالها يزن في نبرة مكتومة والتفت بجسده يصيح للنادل:
-لو سمحت قهوة سادة.
زفر بغيظ وهمس بشر:
-هشربها على روحك يا زيدان، بس لما نروح.
اقترب زيدان بجسده نحو الطاولة، محاولاً جذب انتباه مليكة مجددًا بعد أن امتلأت عيناها بالأسئلة:
-انت تعرفه؟
حرك زيدان رأسه في نفي مجيبًا:
-لا معرفوش، سيبك منه..واحد متطفل.
هزت رأسها بتفهم وعادت تردف في تبرير:
-لا هو مش تطفل، أنت رميت الخاتم فجأة، أنا نفسي استغربت، أصل أنت قولت أنه...
بتر حديثها بنبرة يملأها الحب الصادق:
-سيبك من اللي قولته قبل كدا، أنتي أهم حاجة عندي، وأي حاجة تانية شكليات اقدر استغنى عنها.
كيف استطاع سرق كل ذرة انتباه لديها بهذا الشكل؟ أين راحت حصونها؟ هل أصبحت واهية من مجرد اعتراف بسيط لمشاعره؟
وبعد لحظات بسيطة همست بتساؤل طغى عليه الضياع وكأنه محاولة فاشلة لإيجاد سبب للعراك معه أو اثبات سوء نيته:
-أنت عايز مني إيه بالظبط؟
وقبل أن يفتح فمه استكملت حديثها بصراحة:
-لو كنت مستني نرجع زي زمان تبقى غلطان، مليكة بتاعت زمان هي هي دلوقتي متغيرتش..
-قصدك أيه؟
سألها في تريث دون أن يوضح حقيقة مشاعره، فردت في حنق من بروده وتلاعبه الظاهر لها:
-يعني السبب اللي انفصلنا عنه زمان أنا لسه متمسكة به عشان هو مبدأ..عن اذنك.
نهضت سريعًا قبل أن تنفجر به هو الأخر، يكفي ما حدث بالصباح وكتمانها لمشاعرها حتى الآن..وقبل أن تتحرك بعيدًا عن الطاولة استوقفها رده الهادئ ونظرة عينيه الشغوفة:
-شوفي معاد مناسب اجي اخطبك فيه من جوز..
حمحم بخشونة وابتسم بتهذيب:
-اخطبك من أستاذ مصطفى.
الأمر كان مفاجئًا لديها، كانت تسعى فقط للهروب من حصاره ولكنه فاجئها بطلبه ذلك، فلم تعقب لم تبدي حتى أي رد فعل، اكتفت فقط بنظرة مطولة نحوه ومن بعدها تركته وغادرت، فكاد يتحرك خلفها إلا أن يزن أردف سريعًا برزانة:
-اقعد يا ابني، رايح فين؟
-دي مشيت وسابتني كدا من غير أي رد.
قالها زيدان بتعجب، فواصل يزن حديثه بتهكم:
-أنت مستغرب كمان، في حد يا بني أدم يطلب طلب زي دا بالطريقة دي!
انفجرت الدهشة فوق ملامحه وعقب:
-لا انت فاكرني بتاع ورد وانزل على ركبي واقولها تتجوزيني تبقى أهبل، دي لو موافقتش هضربها بالنار واخلص.
كور يزن قبضتيه في غضب والشر يتقاذف من عينيه:
-دا أنا اللي هقتلك لو مجبتش الخاتم حالاً.
تحرك زيدان باتجاه السور الحديدي ينظر من خلاله على المياه في ظل انعقاد حاجبيه بتفكير امتثاله كي يلهي يزن:
-هو يا ترى راح فين؟
وقف يزن بجانبه ينظر هو الأخر بحزن وندم:
-دا أنا كنت بحبه وبتفائل به لما بنت بتعجبني، انت إيه يا أخي مبتحسش.
وضع زيدان يده فوق جيب سرواله ومن بعدها جذب هاتفه ووضعه فوق أذنه هاتفّا بجدية زائفًا:
-إيه مأمورية، عايزني ضروري لا لا ثواني واكون عندك.
تحرك متجاهلاً يزن المصدوم فحاول الأخر التحدث:
-أنت يا بني ممعيش عربية طب وصلني.
***
اندفعت ميرفت لغرفة ابنتها دون استئذان، فتحت الإنارة ووجهها العابس ينطق بالكثير وقبل أن تتوجه للفراش توقظها، فتحت نهى عينيها بهدوء مميت وكأنها اعتادت على مثل هذا تلك الهجمات.
-كويس انك صاحية يا اختي.
نظرة أخرى قصيرة رمتها نهى باتجاه والدتها، لم تستطع ميرفت تفسيرها ولكنها تجاهلت تغيرات ابنتها الجديدة وقالت بشراسة:
-رايحة تكلمي ابوكي عشان تسافريله وتتحايلي عليه؟
لم تعقب اكتفت بالصمت وكأنه طريقة جديدة مريحة اكتشفتها للتعامل مع والدتها، بالإضافة إلى نظرات الخذلان التي انبثقت من عينيها رغمًا عنها وكالعادة تجاهلتها والدتها بغرور.
-فاكرني هموت وتقعدي معايا، دا يا بركة يا جامع وابقى خلصت منك.
لم تسيطر على انفعالاتها بهذا الشكل من قبل، وكأن الصمت كان سلاح كفيلاً للأخذ بثأرها من ميرفت التي صاحت بانفعال وفقدت نبرة السخرية وأصبح الغضب يتملك منها بشراسة:
-ما تنطقي يا بت ولا دا نظام جديد عايزة تمشيلي عليه.
كما توقعت..والدتها تريدها تخر باكية تترجاها كي توافق على سفرها، لطالما كانت تتلذذ بضعفها ورؤيتها هشة لا تجيد التصرف، تعشق تخبطها، لم تذكر مساعدتها لها قط، لم تجد يدها ممدودة يومًا لها بل كانت تجد السخرية والإهانة في انتظارها وبعد تفكير طويل ومحاولة لمساعدة ذاتها لتخطي عواقبها التي اكتشفت مؤخرًا أنها لم تتمثل في زيدان فقط وجدت هذا الحل، مجرد تجاهل ظاهري وإبداء عدم الاهتمام عله يكون رد فعل مناسب لِمَ تفعله والدتها.
انتفضت بفزع حين صرخت والدتها بغضب عارم:
-انطقي يا بت، هو أنا هشحت منك الكلام بالعافية!
حاولت إخراج نبرتها ثابتة بقدر الإمكان دون إذلال نفسها حيث سئمت من ذلك الشعور المخزي والمؤلم:
-عايزة اسافر لبابا.
لم تفهم ميرفت اهو رجاء أم مجرد إخبارية تلقيها نهى ببساطة عليها، اكتفت بالنظر طويلاً لابنتها تحاول اكتشاف ما الجديد الذي طرأ عليها ولكنها فشلت حيث ابتعدت نهى ببصرها بعيدًا واكتفت بملامح مبهمة رسمتها فوق وجهها، فاستمعت لصوت اقدام والدتها ويبدو أنها تقترب فسرت رجفة في جسدها تخشى صفعة قاسية من صفعات والدتها فبدت كالجرو الصغير وهي تنكمش أكثر داخل الفراش، تنتظر رد فعل قد يقسم هيكل الثبات الواهن التي كانت تتمسك به.
-ابوكي كان رافض، بس أنا بقى وافقت عارفة ليه؟
حركت عيناها باتجاه والدتها القريبة منها حيث كانت تنحني بنصف جسدها العلوي نحوها:
-عشان عايزاكي تعرفي ابوكي واخوكي بيعملوا إيه هناك، قلبي مش مطمن.
عقدت نهى حاجبيها بتعجب لم تتوقع أبدًا ما تخبره إياها والدتها، فصاحت الأخرى بضحكة ساخرة:
-انتي فاكرة هوافق عشان سواد عيونك، لا...محدش يفرض عليا حاجة وكله بمزاجي.
صمتت ولم تجد رد مناسب على هذه القسوة فضربتها والدتها بذراعها وضغطت فوق حروفها فبدت غليظة معنفة:
-كله إيه؟
همست نهى بألم وبدأت الدموع تغزو مقلتيها بعد محاولات عديدة في منعها ولكن ضعفها فاق قوتها الزائفة:
-بمزاجك.
اعتدلت ميرفت بابتسامة واسعة شاعرة بارتياح شديد ومن بعدها قالت وهي تتجه صوب باب الغرفة:
-هبدأ اخلص الاوراق جهزي نفسك.
اغمضت نهى عيناها وحركت جسدها بالفراش استعدادًا للغرق في النوم كطريقة مريحة للهروب من واقع أصبح يزيد من خنقها، ولكنها توقفت فجأة حين صدح صوت والدتها بتساؤل:
-كلمتي زيدان ولا لسه؟
حركت رأسها بنفي ولم تستطع التحدث كي لا تواجه سخرية قاسية من والدتها يكفي ما حدث وما يحدث معها.
***
في المساء..
طرقت مليكة باب إحدى غرف تبديل الملابس بالمشفى ودخلت بعدها في صمت تلقي ابتسامة في وجوه الجالسين ثم اتجهت مباشرةً صوب خزانتها تفتحها تجذب هاتفها منها وكعادتها منذ الصباح ملامحها باهتة خالية من معالم الحياة، صامتة أغلب الوقت، تخفي مشاعرها عن الجميع أو ربما هي تريد تجاهلها مؤقتًا، فلم يعد لديها مساحة كافية لخوض صراع أخر قد يجذبها نحو الحضيض فما مرت به منذ الصباح كفيل بإدخالها حالة من الضياع النسبي حتى طلب زيدان بخطبتها لم تعطي لنفسها فرصة للتفكير به أو حتى مجرد السعادة به، بل سمعته وكأنها تستمع لنشرة أخبار عادية ومن بعدها فرت هاربة منه ومن نفسها.
انتبهت على حديث بعض الطبيبات الجالسين في الغرفة من أجل استراحة قصيرة..
-أنا متأكدة أصلاً دكتور عبد الله عارف ماجد على أيه.
اتسعت عيون الأخرى في ذهول:
-والله كنت عارفة أنه حقير ما هو الحنية دي مش جديدة على إيه.
أكدت الأخرى بثقة:
-طبعًا يا بنتي دي فلوس كتيرة يسيبها لأخواته بالسهولة دي لازم ياخدلها اجازة مفتوحة.
هنا ادركت مليكة جزء من حديثهما ولكن الفضول المتعلق بأمر ما تعانيه جعلها تستدير في ثبات رغم زعزعة ثقتها تقول في ابتسامة مهزوزة:
-معقولة اخد اجازة مفتوحة؟
عادت الاولى تردف بسعادة:
-اه ابوه بيموت وهو قاعد يطمن عليه...
صمتت قليلاً ثم عادت تضحك بصوت مرتفع:
-قصدي على الفلوس والميراث.
حركت مليكة رأسها بإيجاب وحاولت الابتسامة أكثر ولكنها فشلت وما انقاذها هو خروج زملائها من الغرفة بعدما انتهى وقت راحتهما وبقيت هي وحدها تقع فريسة لخطأ لم تقترفه حتى فكرة الهروب منه أصبحت مستحيلة بعد ان قامت منذ يومان اللجوء لأحد الاطباء وطلب مساعدته في تسهيل إجراءات نقلها لمشفى آخر ولكنه اعتذر وبرر أسبابه أن الملف الخاص بها يوجد به توصية خاصة من " ماجد" وهو لا يملك نفس سلطته.
ارتفع رنين هاتفها يجذبها من بقعة التفكير التي أصبحت مرهقة أكثر من قبل، نظرت لشاشة الهاتف بعد أن اضاءت باسم " بابا مصطفى" وهنا انتقل تفكيرها جبريًا لأمرٍ كانت تحاول منذ الصباح تجاهله، وكأنه اصابها حالة من الرفض...عدم التصديق لِمَ سمعته، بالإضافة لإحساس رهيب بالذنب يحوم حولها كاللص سارق جزء من سكينتها، لا تعلم لِمَ تشعر به من الأساس، هل ربما لوجودها معه فامتنع عن تحقيق احلامه، تخشى تلك النتيجة..تحاول رفضها وكأن مسامعها أخطأت منذ البداية ولكن نيرته حينها وهو يفكر بها وبأمر موافقتها على زواجه مزقتها..آلام غزت روحها وزادت من حيرتها ومع تواصل الرنين وقعت في بؤرة الرفض لا تريد التحدث الآن حتمًا سيدرك ما تعانيه، لم تتغير يومًا معه سيقلق كثيرًا وربما الأمر يتصاعد ويصل لمواجهة هي تخشاها.
أجابت بعد فترة بنبرة حاولت إظهار التماسك بها:
-الو.
-مليكة أنتي فين دا كله؟
امتنعت عن البكاء بصعوبة وقالت:
-روحت المستشفى...
ومع اهتزاز نبرتها رغم عنها عادت تحاول التماسك أكثر:
-مروحتش لصاحبتي.
ظهر بحة حزينة في صوتها فأقلقته ودفعته بسؤال:
-مالك أنتي كويسة؟
أصابها التلعثم لأول مرة وهي تجيب:
-آآ..اه كويسة، عايزني برة ضروري سلام.
أغلقت الهاتف دون ان تستمتع له ومن بعدها انفجرت باكية تسمح لدموعها بالتعبير عنها، فانهمرت بغزارة فوق وجنتيها تشكل أخاديد تظهر مدى الوجع التي تشعر به، لقد كان الأمر كله يشبه ضربة سكين حاد في منتصف صدرها فانشق لنصفين...نصف يتألم ونصف فقد روحه وبالنهاية بقيت هشة ضعيفة لا تجيد التصرف بطريقة سليمة في كل ما يؤرقها وكعادتها تلجأ للهروب كحل مؤقت لا تعلم متى تتخلى عنه وتواجه مخاوفها.
طرق الباب هو من منعها في استكمال مواجهة مشاعرها، مسحت دموعها سريعًا بمناديل وتأكدت من عينيها ولكن ملامحها لم تسيطر عليها بل فشلت في إعادتها لقوقعة الحزن الخفي، اكتفت بتجفيف دموعها وفتحت الباب تستقبل الطارق وما إن رفعت عينيها حتى أصابتها الدهشة من وجود زيدان أمامها، حتى أنها ظنت أنه خيال أو وهم يحاول جذبها من بقعة آلامها ولكن صوته الساخر جعلها تستفيق:
-ايه مش هتقوليلي اتفضل.
خرج صوتها المذهول يصدمه:
-زيدان أنت بتعمل إيه هنا؟
ابتسم نصف ابتسامة قائلاً بسخرية:
-هكون بعمل إيه جاي اكشف مثلاً.
تجاهلت سخريته وردت بجدية مهزوزة بها لمحة من العتاب:
-دي مش غرفة للكشف، كدا ممكن حد يفهم غلط.
اتسعت ابتسامته مردفًا بمزاح قاصدًا مشاكستها لتخفيف عنها ربما تعاني من ضغط ما:
-ياريت والله هرتاح واتجوزك على طول.
زحف الخجل نحو وجنتيها فاحمرت وبدت كحبة الفراولة في أوج نضجها:
-آآ...إيه اللي بتقوله دا، لو سمحت امشي.
تمسك بمقبض الباب واضعًا قدمه أمام الباب نفسه يمنعها من إغلاقه بوجهه ورد في إصرار:
-لا ما هو أنا مش همشي قبل ما اعرف ردك على كلامي.
تلعثمت بارتباك:
-رر..رد إيه؟
دفع الباب بقوة بسيطة منه، فتراجعت للخلف عدة خطوت في حنق طفيف واستغل هو ارتباكها بسبب حضوره الطاغي عليها ودخل الغرفة مغلقّا الباب خلفه لفرض حصاره الكامل عليها فلا مجال للهرب مجددّا:
-اممم أنا فهمت عايزني اجيب بوكية ورد او اطلع على شجرة وكلام البنات الفارغ دا صح؟!
انتهت نبرته باستهجان واضح، فاستمرت بالنظر إليه نظرات مبهمة منتقلة بينه وبين الباب المغلق خلفه، فاستكمل مشيرًا نحو عنقه:
-أنا خلقي ضاق يا مليكة من لعبة القط والفار اللي انتي مصرة عليها.
-يعني تعبت! طيب ريح نفسك وخلاص.
ردت في نزق من طريقته في عرض الزواج عليها ولكنه فاجأها برده المستفز:
-ايوا الله ينور عليكي نريح نفسنا ونتجوز.
ابتعدت خطوة أخرى قائلة بلامبالاة:
-أنا مش جاهزة للجواز اصلاً دلوقتي؟ لسه قدامي مستقبل.
-مفيش أحلى من مستقبلك معايا.
تحرك خلفها وهو يؤكد بثقة جعلها تستدير له بنصف جسدها ترمقه بطرف عيناها:
-طبعًا ظابط له وضعه وحلو وبيحبك عايزة إيه تاني من الدنيا يا جاحدة.
اقترابه منها جعلها ترتبك تحاول إيجاد طريقة للفرار من حصاره الذي أصبح يضيق عليها وكانت نتيجته انهيار حصونها واحدًا تلو الأخر وكأن قلبها يريد التحرر نحو سماء الحب فأعلن العصيان والتمرد:
-مش عايزة حاجة...أنا بجد مش عايزة حاجة غير...
قاطعها بنبرة هادئة عندما اقترب منها أكثر ينظر لوجهها مباشرةً يحاول إبعاد ذلك الحاجز الذي يعيقه من رؤية عيناها للكشف عما بداخلها:
-ايوا مالك في إيه من الصبح متغيرة.
هزت كتفيها سريعًا ببرود ظاهري بالغت فيه:
-أنا تمام يعني مفيش حاجة بس شوية ضغط.
ضيق عينيه وهو يهبط لمستواها يحرك يده أمامها يسألها في ترقب:
-يعني مفيش حاجة مضايقكي، حد عايزني اسجنه براحتك قولي..
رغمًا عنها ابتسمت فواصل حديثه بإصرار:
.-أنا بتكلم بجد على فكرة، هو اه ماليش خلق اسمع أي حاجة بس أنتي غير أي حد.
استعادت جزء بسيط من روحها المشاغبة فقالت:
-بتحاول تفرض نفسك عليا وخلاص.
أجاب بصدق أشعل مشاعرها بجنون:
-طبعًا ما هو أنتي مالكيش غيري.
رفعت رأسها تطالعه في صمت فأكد على حديثه بمكر:
-مش احنا في حكم المتجوزين.
كررت خلفه بتهكم امتزج فيه التعجب:
-متجوزين؟!
-طلبتك للجواز ولا لأ يبقى خلاص.
-وأنا موافقتش يبقى ازاي في حكمهم.
عاندته بإصرار ونست للحظات أنهما متواجدان وحدهما بالغرفة واندمجت في حديث له القدرة الكافية في بث الطمأنينة في قلبها وإخراجها من حالة الضياع التي وقعت بها:
-خلاص نمشيها مخطوبين.
سألته بغرابة وهي تحاول إيجاد سبب تغيره بهذا الشكل الكلي:
-أنت إيه غيرك كدا.
أجاب بصدق:
-عمري ما اتغيرت طول عمري معاكي غير مع أي حد.
بالفعل مشاعره دومًا معها صريحة يغدقها بالحب، يحاوطها بهالة من العشق تشعرها وكأنها فراشة تستمتع بأجواء الربيع، ها هي تشعر نفسها من جديد تحلق في ربيع حبهما ولكن عقلها لا زال يتمسك ببعض الذكريات التي رفضت التخلي عنها رغم تصديقها لمشاعره:
-بس متمسك بفكرة الارتباط الرسمي اللي انت رفضته زمان.
فبدت وكأنها تعاتبه، تلومه على تركه لها، على جراحه التي كانت تبكي بسببها ليلاً، فأجاب بوضوح ولكنه اقتصر فيه بعض الشيء كي لا يفتح جراحًا ماضية حاول تخطيها بعد لقائهما، قلن يعود لنقطة الصفر سيكمل طريقه حتى يصل لمبتغاه المتمثل بها:
-كنت فاكر ان هقدر اخلص من حبك، مكنتش اعرف أنه بيمشي في عروقي.
-يعني عايز تفهمني انك كنت عايش على ذكريات..
اقترب منها أكثر ناظرًا في عمق عيناها وهمس بنبرة يملأها عاطفة الغرام:
-عمري ما فكرت في واحدة غيرك.
عادت خطوة للخلف بضعف وهمست بخفوت تحاول استدراك نفسها قبل الاعتراف بموافقتها:
-مع انهم كتير حواليك بما انك ظابط وكدا.
-بس أنتي غيرهم كلهم، ملكتي قلبي وعقلي أسرتيني ومبقتش قادر اقاومك.
صمتت ولم تجد رد مناسب سوى الاعتراف بعاطفتها المدفونة، ولكن الخجل انقذها ومنعها من ذلك فحاولت تجميع جملة واحدة مفيدة تظهر بها تمنعها:
-أنت...عايز..
اقترب خطوة أخرى يشير بإصبعه نحوها وعيناه تفيض بحنان محبب لقلبها لطالما يظهره لها فقط:
-عايزك ومش عايز أي حاجة تاني.
أصبحت نبرتها أضعف وأرق وهي تقول بخجل:
-مينفعش هقول لبابا مصطفى أيه؟
-لا دي سيبها عليا هقولك تقوليله إيه.
يتبع الفصل الثاني عشر اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية منك وإليك اهتديت" اضغط على اسم الرواية