رواية منك وإليك اهتديت الفصل الرابع عشر 14 بقلم زيزي محمد
رواية منك وإليك اهتديت الفصل الرابع عشر 14
لم تتخيل قط أن ما تتمنى سيأتي بتلك الطريقة، ربما زيدان في أوج سعادته ولكنها ليست كذلك، لقد ساد التوتر جميع دواخلها، وألهب الخوف تفكيرها فأصبحت مشوشة بين بشاعة ما تخفيه، وحقيقة ما تتمناه، فقدت زمام الأمور وأصبحت كمن سلب منها أحقية الاختيار ولم تجد سوى ذلك الطريق حيث كان أقلهم خطرًا حتى الآن.
وقفت "مليكة " أمام المرآة وهي تميل برأسها يمينًا تمرر بصرها فوق فستانها الأزرق البسيط تتابع تفاصيله الرقيقة، لِمَ تراه باهت لا يناسب حجم هذا اليوم؟ لا تعلم..ربما بسبب اضطراب نفسيتها، أم أنها فقدت حلاوة اللحظة..مجددًا لا تعلم، فكل ما تتمناه الآن الاختفاء بعيد عن الجميع لحاجتها القوية في الابتعاد عن كل ما يؤذيها ويؤلم نفسيتها.
عادت لواقعها وهي تتنهد بعمق في ظل تحريك رأسها بنفي وكأنها ترفض الانسياق خلف مشاعرها المتناقضة، التي لن تجدي منها سوى الألم وفقدانها لِمَ يتبقى من روحها، لذا تابعت استكمال ارتداء حجابها ومع أخر لحظة هبطت ذراعيها بجانبها وفجأة دق جرس الباب فانتفضت بتوتر جام والتفتت برأسها نحو باب غرفتها..
***
بعد يوم طويل..استغرقته نهى في الانتهاء من اجراءات السفر وتأخير موعد طائرتها لأربع ساعات فقدت بهم الأمل، أخيرًا وصلت نهى للأراضي القطرية وكان في استقبلها والدها...
استقلت السيارة بجانبه تتابع الطريق بعيون خالية من الحياة بعد أن استقبلها والدها بفتور وكأن غيابه عنها لم يؤثر فيه اطلاقًا، ودت القليل من المشاعر والكثير من الكلمات الحنونة حتى لو كانت من باب المجاملة، كانت سترضى..ولكنها لم تجد سوى عناق بارد أسرى بجسدها رجفة قوية كانت السبب في افاقتها من وهم التمني.
أخيرًا بعد طريق طويل..وصلت مع والدها أسفل بناية عملاقة، هبطت من السيارة تراقب الوضع والأجواء والصمت يفرض سيطرته عليها وخاصةً مع وجوم والدها وكأن وجودها لم يكن مرغوب فيه!
تحركت معه لداخل البناية حتى وصلت للشقة وكان في استقبالهما سمير حيث رحب بها بقليل من الحبور الذي ادهشها، بعد أن كانت تتوقع استقبال باهت أو كلمات لاذعة لفكرة مجيئها من الأساس
دخلت نهى أخيرًا وخلعت حجابها تحاول استنشاق الهواء بعد هذا الكم من الارهاق ولكن كلمات والدها جعلت تقف وتلفتت بتعجب:
-نعم يا بابا؟
-بقولك متخلعيش طرحتك، معانا حد تاني في البيت.
قالها ابراهيم بإهمال وهو يتوجه نحو المطبخ يلتقط كوب المياه، أصابها التردد وهي تسأله:
-مين اللي موجود..
بترت جملتها وهي تنظر لسمير تسأله ببراءة:
-صاحبك يا سمير.
-لا خالد ابن عمتك.
أجابها سمير بلا مبالاة جعلها تندهش للحظات، ولكنها عادت تستوعب قائلة بتركيز:
-اه جاي يزورك يا بابا.
التوى فم سمير وكعادته ضخ بما لديه:
-لا وانتي الصادقة احنا اللي قاعدين في بيته زيارة.
لوهلة لم تستوعب حتى انها ظلت صامتة تتابع ملامحهما الهادئة فاندفعت الكلمات من فمها دون تروي:
-هي ماما عارفة؟
اندفع ابراهيم وسمير معًا نحوها وكأنها تفوهت بشيء غير لائق حتى انها تراجعت عدة خطوات للخلف بخوف وسقطت فوق الكرسي تتراجع فيه بجسدها الصغير، بينما كانا الاثنان يقتربان منها كأنهما يستعدان لقتلها، فكانت ملامحهما تتوعد، وعيونهما تستشيط بالغضب الممزوج بالتهديد.
- بت انتي لو أمك عرفت باللي بيحصل هنا مش هيحصلك كويس.
قالها سمير بنبرة يقطر منها الشر، بينما استكمل والده على خطاه:
-احنا خسرنا الفلوس ومفيش مكان نقعد فيه غير في شقة خالد، أي معلومة توصل لأمك هولع فيك.
جف حلقها وهي تحرك رأسها بنفي:
-م...مش..هقول حاجة، بس كنتوا عرفون..عرفوني.
داهمها التلعثم وهي تواجههما، فضحك سمير ساخرًا:
-اوعي تكوني فاكرة احنا مش فاهمين الزن والعياط اللي كنتي بتعمليه عشان تيجي، امك موصياكي تعملي دا وانتي زي المتخلفة عملتيه ومتعرفيش ايه مستنيكي هنا.
اتسعت عيناها بخوف وهي تردد خلفه:
-مستنيني ايه؟
-الشقة مش هتخرجي منها، وامك مش هتكلميها عشان تبقي تمشي وراها حلو وترضي تيجي.
حاولت اخراج جملة مترابطة تخبره أنه ما يقوله ليس سوى تكهن ساذج نابع من عقله المريض، فلم يكن بكائها تمثيل اطلاقًا ولم تكن حاجتها في السفر بناء على رغبة أحد، بل كانت رغبتها..وبكائها كان مجرد توسل لمن ظنت بهم عائلتها!
فرض التلعثم هيمنته عليها وخرجت الحروف متقطعة، فزعق بها والدها وهو يقول:
-لا بقولك إيه مش ناقص عياط ونكد، أنتي هتقعدي تاكلي وتشربي وتنضفي مكانا تليفونك دا مش هتشوفيه طالما اخترتي تيجي هنا.
في ذات الوقت عبث سمير بحقيبتها وأخرج هاتفها الذي عمل على إغلاقه ووضعه في جيب سرواله تحت نظرات الاستسلام منها.
ربت والدها بعنف فوق كتفها يدفعها للنهوض:
-قومي اغسلي وشك وافرديه مش ناقصين نكد.
كادت أن تتحرك وفقًا لرغبة والدها ولكن مجددًا عادت التنبيهات تخترق عقلها المسكين في محاولة للهرب من بوادر جحيهما.
تركتهما بعد عناء ودخلت غرفة اشار إليها والدها بدخولها:
-ادخلي يلا غيري هدومك..
ثم التفت لسمير قائلاً:
-وانت تعال اوضتنا نتكلم فيها.
تحرك سمير خلف والده، بينما هي دخلت الغرفة سريعًا تغلق الباب خلفها وانفجرت بالبكاء المخالط للندم وصوتها يتقطع بكلمات بائسة:
-إيه اللي عملته في نفسي دا.
***
جلس زيدان بجانب والدته وعلى الجانب الأخر يزن المبتسم بسعادة وكأنه العريس، رمقه زيدان باستهزاء فحرك الأخر حاجبيه بمشاكسة لطيفة منه، ولكن تنهيدات والدتهما جذبت انتباهمها وتحديدًا زيدان الذي انطلق يهمس بصوت مسموع لهما:
-في إيه يا ماما مالك؟
حركت منال بصرها في أرجاء الشقة تتابع قطع الأثاث حيث كان يظهر عليه القدم قليلاً، بينما كانت الشقة صغيرة وأجوائها تخالف وضع عائلة الشعراوي مما أثار حنق منال، وأدرك زيدان ذلك جيدًا فاندفع يقول بهدوء:
-عاجبني يا ماما ومش مهم أي حاجة تانية.
أومأ يزن مؤكدًا على حديث أخيه:
-بالظبط دي كلها شكليات يا ست الكل، المهم الجوهر.
حرك زيدان رأسه بإيجاب يساند اخيه، فتابع الأخر قاصدًا إغاظته:
-لو الجوهر حلوة ومزة زيدان عنده استعداد يتنازل.
توسعت أعين زيدان بصدمة وهو يشير نحو نفسه:
-الكلام دا ليا أنا..ليه هو أنت فاكرني صايع زيك.
-لا لا دا مش كلام ناس محترمة أبدًا.
قالتها منال بحنق وعصبية طفيفة وهي تنهرهما من ثم استكملت:
-اخرسوا أنا مقولتش حاجة لكل دا.
صمتا الأثنان للحظات قطعها يزن وهو يميل نحو والدته يهمس:
-الجوهر مزة اوووي.
رفعت منال أحد حاجبيها لوقاحته فرفع يده قليلاً يقول بأدب:
-أنا بشكر بس، أحجر على رأي يعني، فين حرية الرأي عندكم؟!
ضربته منال بقبضتها الضعيفة في ساقه وتابعت بتحذير:
-مطولش لسانك يا يزن.
خرج السيد مصطفى من المطبخ يبتسم بسعادة وهو يقول بنبرة طغى عليها الإحراج:
-معلش يا جماعة، أصل مليكة لخبطت الدنيا جوا خالص.
ضحك يزن مسترسلاً ببساطة:
-ليه مبتعرفش تطبخ ولا إيه؟
ضغطت منال فوق شفتيها من استرسال يزن البسيط في أمور لا تليق به، ولكن مصطفى تابع معه بسلاسة:
-لا دي برنسيسة أنا مبخليهاش تعمل حاجة أبدًا أهم حاجة دراستها وبس.
-ما شاء الله.
تمتمت بها منال وصمتت بعدها تراقب مصطفى في تمهل تحاول اختراق مكنوناته من أجل الاطمئنان على سلامة مستقبل ولدها، وخاصةً بعد أن صور لها الشيطان أن تلك الزيجة تخفي طمع من قبل عائلة العروس وذلك بعد أن رأت وضعها المادي.
حمحم زيدان بخشونة يسرق انتباه مصطفى وهو يشير نحو عائلته:
-معرفتش حضرتك بالعيلة، دي والدتي..
هزت منال رأسها بابتسامة صغيرة، في ظل استكمال زيدان لحديثه وهو يشير نحو يزن:
-ودا اخويا..
قاطعه يزن بالحديث وهو يتقمص شخصية سليم واضعًا ساق فوق الأخرى وبنفس نبرة الكبرياء هتف:
-سليم الشعراوي اخوه الكبير.
توسعت أعين منال بصدمة، بينما أصاب زيدان حشرجة قوية أدت إلى سعال لازمه فترة قصيرة في ظل محاولات منال بإسعافه وارتباك مصطفى في سكب المياه البارد واعطائه إياه حتى استنشق أخيرًا انفاسه وعادت روحه لصدره بعدما كاد يفقد صوابه بسبب جنون أخيه الذي سارع بالقول الممازح:
-أنا يزن اخوه الصغير..بس قولت اهزر وافك الجو شوية.
-يزن اخويا بيحب يهزر كتير.
كرر زيدان خلفه بغيظ وصوته يملك خشونة كانت نتيجة لسعاله القوي، وأخيرًا استطاع استكمال كلامه:
-في أخ ليا أكبر اسمه سليم بس هو مسافر مع مراته لظروف صحية.
هتف مصطفى بارتباك وهو يمرر بصره عليهم:
-اه اه الف سلامة وان شاء الله خير.
لم يتحدث زيدان بل اكتفى بنظرة حانقة نحو يزن الذي بدوره تجاهله، وانخرط في الحديث مع مصطفى بحبور أدهش منال هي الأخرى، ببساطة ألقى سحر جاذبيته على الجميع وبعد أن ساد التوتر على الجلسة للحظات تبخر وأصبحت الاحاديث تتناول بينهم حتى منال بعد مرور من الوقت اندمجت دون أن تشعر..
بينما كان زيدان في عالم آخر ينتظر خروج مليكة بفارغ الصبر، يلقي نظرة نحو باب المطبخ بين حين وآخر، حتى قررت الخروج وهي تحمل صينية بها أكواب القهوة الساخنة، تقدمت منهما على استيحاء تخفي وجهها بالنظر لبخار القهوة المتصاعد في ظل تركيزها بخطواتها كي لا تتعثر بشيء وتسقط كالبلهاء أمامهم.
تقدمت اولاً من يزن فرفعت عينيها وهي تقدم له القهوة ولوهلة أصابها التعجب حتى أنها عقدت حاجبيها بتركيز وهي تدقق النظر به بعدما لاح بذهنها صورته وكأنها على سابق معرفة به ولكنها لا تتذكره حتى قطع لحظة شرودها بهمس مشاكس:
-لا مش أنا.
وقبل أن تسأله عن مغزى حديثه، صدح صوت مصطفى ينبهها بلطف:
-قدمي يا حبيبتي القهوة.
استقامت بخجل وتقدمت من منال التي ما ان تقابلت نظراتهما معًا حتى استطاعت قراءة تعابير وجهها حيث كانت تنم عن تقييم شامل لجسدها وملامحها، فتلونت وجنتيها بحمرة قانية وارتفعت درجة حرارتها وهي تخفض بصرها تفسح المجال لمنال بالنظر إليها بحرية أكثر رغم أنها تكره تلك اللحظات.
-تسلمي يا حبيبتي، ما شاء الله زي القمر.
انتفخ صدر زيدان الجالس بجانبها ينتظر دوره، بعد أن شبع عينيه بالنظر إليها ولم يفلت تفصيلية واحدة منها، دافنًا العديد من المشاعر التي كانت على وشك الانفجار أمامهم، لم ينتظر كثيرًا ورأى مليكة تتقدم منه بخجل شديد تخفي نظراتها عنه بسبب شعورها وكأنها ضمن عرض مسرحي فتمنت أن تنتهي من تلك الأمور التي فاقت طاقتها للتحمل.
لم تعرف لِمَ قررت النظر إليه ربما وفقًا لنداء قلبها المطالب بإنعاشه، أم عيناها تمردت عليها وقررت التشابك مع نظراته الشغوفة في ملحمة عاطفية اعتادت عليها في الفترة الأخيرة منه بعد أن اكتسبا نضج وعمق في علاقتهما..يا ليتها لم تنظر له، لم تعد تعرف الابتعاد لقد سحبها للغرق معه كمن تسلبه المياه، ورغمًا عنها مالت أكثر بجسدها نحوه تقدم له الصينية التي لاحظ يزن أنها ترتجف بين يدها قليلاً فقرر إنهاء توترها ولم يعلم أن ما قاله كان كالكارثة عليها:
-بس القهوة تحفة تسلم ايدك.
التفتت إليه بارتباك وابتسامة مهتزة ولم تدرك أن الصينية مالت أكثر نحو زيدان فسقط الكوب كاملاً على الصينية وسقطت بعض قطرات القهوة الساخنة على زيدان الذي هب واقفًا يبتعد عنها وفي نفس الوقت كانت يداه تساعدها في الاعتدال حتى لا تسقط القهوة عليها وتتأذى.
***
هزت نهى ساقيها في وتيرة سريعة بعد أن انتهت من قضم أظافرها، مصوبة عيناها نحو الحائط تشرد بتفكير في كيفية عودتها لمصر، لم تتوقع أبدًا أنها ستشارك شقة مع خالد ابن عمتها التي لم تراه منذ زمن طويل بالإضافة إلى سوء حالة أبيها وأخيها وكأن الغربة أضفت عليهما شر وجنون.
شعرت باختناق حاد فبدت جدران تلك الغرفة وكأنها سجن يسحق ما تبقى من حريتها..مدت أصابعها نحو حاجبها تخلعه بعنف تلقيه أرضًا بعد أن احمر وجهها وكأنها تعاني من صعوبة تنفس.
لم تشعر بالوقت سوى...
**
دخل خالد شقته بعد يوم طويل ومرهق في العمل، فاقدًا الشعور بالحياة بعدما أصبح آلة تضخ الأموال لخاله وابنه المتكاسلان..جذب انتباهه حقائب سفر عقد حاجبية بتفكير ولكن بعد برهة ابتسم بسعادة قائلاً لنفسه بتهكم:
-لا مش معقول حسوا من نفسهم وماشيين، لا دا أنا ادخل اخد شاور واودعهم بنضافة.
فتح أزرار قميصه جميعها وهو يتجه صوب الغرفة يفتحها باندفاع وابتسامة واسعة تحلق فوق شفتيه ولكنها اضمحلت فور رؤيته لفتاة تجلس فوق فراشه يتناثر خصلات شعرها حولها والدموع تتساقط فوق صفحات وجهها وكأنها أسيرة في عالم لا تفقه فيه شيء...صرختها واندفاعها نحو الأرض تجذب حجابها جعله يعود للواقع يسألها بخشونة امتزج فيها الصدمة:
-أنتي..مي..
بتر حديثه وشعر بجسده يندفع نحوها بسبب تصادم جسد سمير به من الخلف وهو يقول بتلعثم:
-شوفت المفاجأة يا خالد، جبنالك نهى من مصر.
تلاقت عيونهما في لحظة لم تدم طويلاً حيث انقطعت أنفاسها بعد رؤيته عاري الصدر، فخفضت بصرها أرضًا ولم تقو على رد فعل آخر، أدرك حينها خالد ومد أصابعه يغلق أزرار قميصه سريعًا مردفًا بغيظ:
-وامك فين يا نهى مخبينها وعايزين تسرعوني.
ضرب سمير كف فوق الأخر وهو يقهقه عاليًا:
-بيحب ماما اوي.
رفع خالد جانب شفتيه وهو يقول بعبوس:
-ربنا يديم عدم القبول اللي بيني وبين امك يا سمير.
انقطع ضحك سمير بحرج وأردف محاولاً لم شتات كرامته:
-هي مجتش بس بعتت نهى تغير جو.
حول خالد بصره نحوها قائلاً بحنق وكأنه يحاول تسديد ضربة لها بعد ان تذكر مواقفها السخيفة معه:
-بعتتك عشان تكمل عليا صح، طول عمرها عقربة..
ثم حول بصره نحو سمير مربتًا فوق كتفه بتهكم:
-معلش يعني يا سمير أنت عارف غلاوتها عندي.
لم يتحدث، لم يبدي أي رد فعل، بل استحمل الاهانة من خالد وكأنه أمر عادي متقبله بصدر رحب حتى أنه تجاهل وخرج من الغرفة تحت نظرات نهى المصدومة، هي واعتادت السكوت على إهانتها لطالما تلقت الضرب لو حاولت الدفاع عن نفسها فأصبح الصمت لديها إجباري أما سمير ما به، لِمَ يتحمل هذا الوضع، لم يكن ذلك مطلقًا، فهو لم يعتاد على الضرب مثلها، لم يعتاد على الإهانة مثلها بل كان فتى مدلل لوالديها مجابة جميع طلباته وأوامره حتى صار فاسق لا يهمه سوى نفسه.
-مطولة يا نهى كتير.
انتبهت له والخجل يغزو ملامحها، كانت تود الاعتذار معطية له الحق كاملاً عن سوء استقباله وتصرفه ولكن عاندتها الكلمات وتيبست على طرف لسانها، فخرجت دون أن تتحدث مما أثار غيظ خالد الذي همس بانفعال:
-عالم جبلة جايبن البت وأنا موجود..
تحرك خطوة للأمام ثم توقف مواصلاً بحنق:
-لو سكت هلاقي ميرفت جاية، هو كان بيت أبوكوا يا ولاد ال****.
التفت نحو الباب ناظرًا إليه بغضب:
-اطلع اطردهم واريح نفسي بلا قرابة بلا زفت.
وقبل أن يتحرك خطوة عاد مؤنبًا نفسه:
-طيب و...
لم ينطق..بل احتفظ بقوله لنفسه، متعجبًا من ذاته التي تعاطفت مع حالتها البائسة وظن أن أمر مجيئها إجبار، وما أكد له هو نظراتها الضعيفة المستسلمة وهذا ما أثار الفضول نحوها وكان ذلك أمر غريب عليه.
زفر بقوة وهو يحاول استعادة هيكل ثباته بعد أن أصابه زلازل قوي عقب رؤيتها وخصلات شعرها البنية متناثرة حول ملامح وجهها التي غرقت في حزن وكأن هناك تعويذة ألقيت عليها فدفنت جمال ملامحها أسفل يأس دمر روحها.
-بس هي نهى بقت حلوة ولا أنا متهيألي؟
تساءل مع نفسه بسخرية لازمت شخصيته ولكنه عاد يؤنب ذاته :
- أنت هتتجنن على كبر ولا إيه، البت مخطوبة وبعدين دي بنت خالك اللي هتطردهم بكرة هي وأبوها وأخوها السمج.
***
انتهت مليكة من تجفيف قميص زيدان بعد أن قامت بتنظيف بقع القهوة، تحركت بخطوات مرتبكة نحو المرحاض حيث بقى فيه عاري الصدر بعد أن جذبه مصطفى لداخل المرحاض وأصر على خلع قميصه والتأكد من سلامته.
نظفت حلقها برقة ثم طرقت الباب وهمست في خجل:
-زيدان، أنت لسه جوا.
بعد ثوان فتح الباب وطل برأسه من خلفه وملامحه تميل للألم الذي حاول اخفائه عنها:
-اه.
قالها وهو ينظر لها بتعب فأثار ذلك قلقها ووضعت يدها فوق الباب تسأله بارتجاف:
-أنت اتحرقت، أنا أسفة مكنتش اقصد، في عندك مرهم حروق حط منه.
وكانت تلك الإشارة ففتح الباب كاملاً وظهر جذعه العلوي عار تمامًا وابتسامة واسعة تحلق فوق شفتيه وبعبث طال نبرته أردف:
-بجد في مرهم تعالي حطهولي.
شهقت بخجل واستدارت بكامل جسدها تبعد بصرها عنه بعد أن رأته بهذا الشكل، فاستغل زيدان حالة التيه التي وقعت بها واقترب من خلفها يمد ذراعه يلتقط القميص من بين يدها وبرأسه اقترب من أذنيها يهمس برقة داعب أوتار قلبها فأصبح خفقاته تزداد في جنون:
-بحبك وبموت فيكي.
قبضت فوق القميص بقوة وكأنها تستنجد به حتى تظل متماسكة ولا تسقط في الأرض...لا لن تسقط سوى في حضنه بعد أن اختصر المسافة بينهما أكثر وهمس بحب:
-النهاردة أسعد يوم في حياتي.
تسمرت كالصنم فجسدها فقد القدرة على الحركة رغم ابواق الحذر المتصاعدة تدريجيًا ولكن هناك شيء لا تعلمه يدفعها للتجاهل متحججة بحصاره الطاغي عليها، لم تنتبه سوى على بعض من الكلمات التي أيقظت وعيها:
-حبيبتي في حد جاي في الطرقة.
-ها؟
همست في بلاهة، فنظر للقميص وهو يحاول امساكه:
-سيبي القميص...
-زيدان؟
قطع حديث زيدان صوت يزن المنادي، فتجهمت ملامحه بغيظ ودفعها للتحرك مردفًا بحدة:
-مليكة ركزي عشان دا هيفضحنا.
همست بتوتر وهي تتحرك بينما كانت تحرك رأسها برفض:
-يفضحنا..أنا معملتش حاجة، يفضحنا ليه...
ضحك زيدان بخفة ودخل للمرحاض يرتدي قميصه أما هي قابلت يزن بالردهة الصغيرة الذي قابلها بابتسامة واسعة مردفًا بخبث:
-طرقة بيتكوا توهتني، طويلة بشكل.
هزت رأسها بإيجاب وانطلقت بسرعة من البرق من أمامه، فألقى يزن نظرة ثاقبة عليها ثم ضغط فوق شفتيه السفلية مضيقًا عيناه:
-زيدان طلع نوتي كبير..يا زيزو يا حبيبي أنت فين؟
قابله زيدان وهو يقول بتحذير:
-إيه..إيه وطي صوتك، واخد راحتك كدا ليه، أبوها يقول عليك إيه؟
-اسكت مش طلع جوز امها!
قالها يزن بمكر، فتوسعت أعين زيدان باندهاش من سرعة لتلك المعلومات، فاستكمل يزن:
-عمك مصطفى خلاص بقى حبيبي، طب تصدق شكله حبني أكتر منك.
-وأنت جاي تخطف مني الانظار!
رفع يزن يده للأعلى معلنًا استسلامه:
-ولا اخطف ولا تخطف..يلا عشان نتكلم في الامور الجد ونقرى الفاتحة.
وقبل أن يتحرك هتف زيدان بسعادة:
-ما تتصل على سليم يقرى معانا الفاتحة، عشان ميزعلش أننا متصلناش.
التفت يزن برأسه في حركة بطيئة قائلاً:
-لا ما هو ميعرفش.
-ميعرفش إيه!
همس بها زيدان في ترقب وقلق يخشى رد يزن الذي بدوره وضح ببراءة مصطنعة:
-تخيل نسيت اقوله أنك بتخطب النهاردة.
-يزن.
همس بها والشر يتقاذف من فمه، فتجاهل يزن غضبه وأردف على نفس بروده:
-سليم ميعرفش اساسًا انك بتخطب، خبينا عليه.
يتبع الفصل الخامس عشر اضغط هنا
- الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة :"رواية منك وإليك اهتديت" اضغط على اسم الرواية