رواية سمال الحب الفصل العشرون 20بقلم مريم محمد
رواية سمال الحب الفصل العشرون 20
_ و لكنّي أحببتك ! _ "١"
أمام قبر الفقيد، الأقرب و الأحب إلى قلبه رغم جرائره و آفاته النفسية المعقدة، لم يُخيّل له أبدًا أن يأتي هذا اليوم، الذي يقف فيه أمام قبره، فقد توقع أن الأبناء هم الذين يدفنون أبائهم
و ليس العكس ...
-أباه !
أتى ابنه الأوسط، بينما كان يجلس فوق كرسي خشبي يسقى بيده العشب و الصبّار المتراص حول مقبرة البِكر الراحل ...
-قول ! .. نطق "رضوان السويفي" بفتورٍ و دون ان يلتفت له
إنبلجت ابتسامة متشفّية على وجه المدعو "حسين" و هو يبشّره شامتًا :
-مش هاتصدق الخبر ده. سالم الجزار... مات يابا !
توقف "رضوان" للحظة، ثم أدار وجهه إليه و سأله مباشرةً :
-حد منكوا إللي عملها ؟
هز "حسين" رأسه أن لا و قال :
-كل إللي عرفته إنه وقع و مات في فرشته.. بس إيه المهم يعني. أهم حاجة إنه طب و غار في داهية
اتقدت عينا "رضوان" فجأة إلى حد أرهب ابنه و رد منفعلًا و هو يضرب بقبضته فوق فخذه :
-طالما أجله ماجاش على إيدي و لا إيد واحد من عيالي يبقى لسا بيعملوا علينا. من اللحظة دي مش هاسمح لنفر من الجزارين يموت موتّه المكتوباله. مافيش نقطة دم هاتنزل منهم غير بسلاحي أنا. سامعني ؟ نهايتهم على إيدي أنا.. أنا رضوان السويفي !!!
اومأ "حسين" و قال يوافقه بلا أدنى شك :
-هايحصل يابا.. هايحصل !
_______________
ألـف عيــارٍ نــاري
تم إطلاقهم من الأسلحة على مختلف أنواعها، إلى سماء "حي الجزارين" حدادًا و كمدًا على كبيرهم، منذ إعلان الخبر قبل بضعة سويعات و الجميع في حالة من الانكار و الجنون
من الصغير إلى الكبير، و في ساعتها حضر كبار الشيوخ و زعماء القار قاطبةً، و صار الحي فجأة مكتظًا بالوافدين من كل حدبٍ و صوب، جميعهم جاءوا لتأدية واجب العزاء و السير بجنازة "سالم الجزار".. متى تخرج الجنازة ؟
لقد أدلى ولي العهد بألن يخرج جثمان أبيه من بيته في جنح الليل، إنما سيكون موعدهم الصبح، تمامًا كما حدث مع أخته الراحلة قبل أشهر
و ما أكثر أحزانهم أتراحهم مؤخرًا.. ما أكثرها ...
°°°°°°°°°°°°°°°°°°
لم يسمح لأحد، فقط هو.. "رزق الجزار" الذي اطَّلع على سوءة أبيه
هو لا غيره الذي بقى معه بغرفة النوم و حمله على خشبة الغُسل و غسَّله بيديه، ثم كفّنه و وضعه بالفراش لا يكشف سوى عن وجهه النائم الشاحب و قد خلا من الاحمرار الذي كان عادةً ما يسبغ على وجنتيه في جميع الأوقات
الآن
أبيه هو مجرد جثة
جثة هامدة
هكذا فجأة و ببساطة... سقط الجبار !!!
كان "رزق" يجلس في هذه اللحظة في كرسي بجوار رأس أبيه، مطرقًا مصدومًا و تائهًا، و إذ سمع بغتةً صياح الرجال بالخارج، و قد ميّز من بينهم صوت "مصطفى" الصارخ و الذي بيّد بأنه خرج من جحره أخيرًا :
-أبوياااااااااااااا.. اوعوااااا من قدامي. لازم أشوفه. لازم أشوف أبوياااا.. يابااااااااااااااااااااااأااااااا. سامحني ياباااااااااااااااااااا. سامحني ...
و ظل يرددها مرارًا و تكرارًا و هو يقاوم أذرع الرجال، بينما صوت "النشار" ينهاهُ بصرامة :
-انت كنت واقف ساعة ما أبوك وصّى يا مصطفى. لا هاتدخل على غسله و لا هاتمشي في جنازته.. إنتهى !
تطلب الوضع بعض الوقت حتى هدأت الأصوات في الخارج قليلًا، و لم يعد هناك أوضح و أنقى من صوت المقرئ الشجي الذي راح يتلو ما تيسر من سورة "القيامة" :
"لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ *وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ *يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ * لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ..."
حالة متضاربة من الخشوع و الضعف و اليتم و الخوف.. كلها ألمّت به
كلمات الذكر الحكيم على قدر بلاغتها و وعظها، لكنها رسمت أمام عينيه مصيرًا محتمل لروح أبيه، صحيح أنه الآن بين يدي الله و تحت رحمته، إن شاء عذّبه على ذنوبه و إن شاء رحمه
كم هو فزعًا لأجله، لا يعرف هل حتى تاب قبل موته أم لا، و إن لم يتب فكيف إذن وفقّه الله لنطق الشهادتين !
اصابته رجفة مفاجئة تزامنًا مع رفعه لرأسه حتى ينظر أخيرًا في وجه أبيه، لم يعد يتحمل أكثر الصمود أكثر من ذلك، و انهار باكيًا كالأطفال و هو يرتمي فوق صدر "سالم" محتضنًا إيّاه بقوةٍ ...
-بابا !
إنه الآن "رزق" الآخر، إنه "رزق" الولد، ابن "كاميليا" و حفيد الباشا، الصبي الرقيق النبيل، يتحدث بلسانه و يتصرف بأخلاقه ...
-بابا. أنا عارف انك سامعني. بابا.. أنا بحبك. بحبك دايمًا و لآخر يوم في عمري. أنا عمري ما كرهتك. أي كلمة قولتها بيّنت لك كده مش حقيقة. انت مهما عملت فيها و فيا عمري ما كرهتك. انا عارف انك حبيتها و حبتني. عارف انك ماحبتش غيرنا.. و انا كمان. و الله و انا كمان.. انا مسامحك في حقي. مسامحك يا بابا. مسامحك ...
و غصت الكلمات بحلقه مانعةً إيّاه عن التحدث أكثر؛
و بعد ثوانٍ إلتقطت أذنه صوت قرعٍ على الباب، ما لم يمنعه و هو يزمجر بصوته ذي النبرة الباكية :
-قلت محدش يخطي الناحية دي الا الصبح. مش عاوز أشوف حد هنا.. الكل يمشي !!
لكنه بدل أن يلقى اذعانًا لأمره، سمع القفل ينفتح، يعقبه صوت اغلاق الباب و دخول أحدهم
لم يتزحزح من مكانه، ليُفاجأ بذراعيّ طريين، ثم تعرف فورًا على رائحة زوجته، حبيبته، و ابنة عمه.. "ليلة الجزار" ...
يعانق أبيه، بينما تنحني هي و تعانقه من الخلف، أحست بتصلّبه و تشنجاته تحت لمساتها، مهدت طريقًا لمواساتها قائلة بصوتها الخفيض الرقيق :
-النشار وصل من شوية. أنا قبلها لما كلمته و بلغته الخبر وصيته مايجبش سيرة لنور على الأقل دلوقتي.. انا عارفة انك مش مركز. بس ماتقلقش. انا هنا جمبك يا حبيبي ..
و طبعت قبلة مطوّلة على رقبته تبث فيها قوة و حنان يربط على قلبه المكلوم، لكن ما فعلته ضاعف مشاعره الحزينة أكثر، فلم يشعر بنفسه إلا و هو يجهش ببكاءٍ جديد مطلقًا العنان لنفسه أكثر بين ذراعيها ...
-أبويا ! .. غمغم "رزق" متأوهًا بمرارةٍ
-أبويا يا ليلة.. أبويا ...
أخذت تهدئه مشددة عناقها من حوله :
-إشششششش. إهدا حبيبي. إهدا.. أنا هنا. أنا جمبك.. حبيبي
- تابع الفصل التالي عبر الرابط :"رواية سمال الحب" اضغط علي اسم الرواية