رواية بيت القاسم الفصل الخامس عشر بقلم ريهام محمود
رواية بيت القاسم الفصل الخامس عشر
.. بعد قليل..
دخل كمال شقته والإرهاق بادي على صفحة وجهه ، يزفر بتعب وضيق وقد أرهقه الوضع بالأسفل.. وهياج قاسم وبكاء حنين الصغيرة جعله ممزق وتفكيره مشتت ولا يعلم بما حدث والأدهى أنه لايهمه.. كل مآ يهمه ألا يرى قاسم بتلك الحالة ثانيةً .. يخلع عنه جاكيته الأزرق يضعه بهدوء على كرسي جانبي..
استقبلته ريم وقد كانت بالمطبخ حين عودته... بقلق سألته ...
- هو ايه الزعيق اللي كان تحت ده؟! انا وقفت ع السلم بس معرفتش كانو بيتخانقو ليه!!
أفلت من بين شفتيه زفيراً متعباً .. تمتم بخفوت بدا غير مهتم..
- مفيش.. تقريباً حنين وقاسم كانو بيتخانقو...
أردفت بنفاذ صبر تريد المعرفة ..
- أيوة كانو بيتخانقو ليه يعني؟!
ولم ينتبه إلى اللهفة بصوتها.. فرك جبهته بارهاق..
-تقريباً والله اعلم هي رافضة الجواز منه..!!
هتفت باستنكار آثار تعجبه دون أن تنتبه على حالها..أو نبرة الدفاع بكلامها..
- ايه ده.. رافضة قاسم وهي تطول واحد زي قاسم ف أخلاقه وأدبه!! ..
عقد حاجبيه متسائلاً باستغراب.. وقد تسلل لقلبه شعور بغيض لا يعلمه..
شعور كـ 'الغيرة'..!!!
-وانتي تعرفي قاسم منين عشان تتكلمي كده؟!
شُحب وجهها وانفرجت شفتاها عن بسمة صغيرة لا تخفى توترها الذي لاحظه..بلسان ثقيل أجابته..
- خديجة .. خديجة الله يرحمها كانت بتحكي عنه وكانت بتشكر فيه وف أخلاقه....!!
واستطردت وقد لمعت حبيبات عرق على جبينها..
- أحضر الغدا دلوقتي؟ .....
حدجها بنظرات حارقة وزاغت عنه بعينيها تنظر لكل شئ عداه.. يتفحص وجهها وماترتديه.. توقفت أنفاسه للحظة وهو يرى قميصها القطني.. يظهر بكرم بياض ذراعها والذي يناقض سواد القميص فيبدو المشهد للعين مغري كاغراء التفاحة لـ آدم..
ازدرد ريقه بخشونه .. يسألها بنبرة غريبه وملامح جامدة..
-انتي كنتي واقفه ع السلم كدة!!!
- لأ كنت لابسة الاسدال....
رمقها بصمت ثقيل ليس بقصير ، ختمه وهو يتحرك تجاه غرفته. يهتف من خلف ظهره بضيق..
- حضري الغدا..
.....................
...." رجلٌ شهم "
تلك أول جملة نطقتها وهي تراه يهتم بحالها وحال والدتها.. بعد أن نقلها لمشفى خاص وتكفل هو بكافة المصاريف ووضعها بغرفة عناية خاصة بها .. ثم أخذ شقيقها الصغير بعد أن أقنعه بأن وجوده لاداعِ له وأوصله لإحدى جيرانهم...
لم يظهر عليه الضجر أو الضيق.. كان يتصرف وكأنها والدته هو.. يتصرف وكأن الأمر يهمه فعلاً دون إجبار أو تمثيل...
....." رجلٌ شهم"
تراه أمامها وقد نال التعب والإرهاق من ملامحه.. يقف أمام غرفة العناية الخاصة بأمها .. وملابسه غير مهندمة كعادته فكان يرتدي قميص قطني قصير الاكمام أخضر على سروال أزرق وكأنه لم يرى مايرتديه ولكنه وسيم إلى مالانهاية بنظرها...
..... "رجلٌ شهم"
مهتم..!! كان من قبل لايهتم ولا يراها من حال الأصل ... جاء يجلس بجوارها على كرسى معدني شبه ملتصق بها .. وقتها خجلت من مظهرها بجانبه.. ليتها لم ترتدي تلك العباءة ولا ذاك الحجاب الذي يظهرها بجانبه كمسنّة بائسة..!
ناولها كيس به طعام له ولها وكوبين من الورق بهما قهوة سريعة..
-كتر خيرك...
قالتها نورهان بامتنان حقيقي ووجنتين توردا من وجوده في محيطها.. وقد أخجلها بكرمه فعلاً..
- ع ايه! يللا ناكل لأن انتي أكيد مكلتيش حاجة من امبارح..
.. والنبرة مهتم.. والهيئة كذلك، فتحت الكيس بهدوء على استحياء تحت نظراته الفاحصة لها.. ماله ينظر إليها هكذا..!!
عدة شطائر أحضرها، ناولته واحدة ولها الأخرى ، وبالفعل كانت جائعة وهو أيضاً.. أكلا دون كلام عدا عن صوت أنفاسهما وضوضاء المشفى ونظراته لها،
وحين ولاها ظهره، يستند بمرفقيه على فخذيه بوضعية متعبة.. فوراً انتبهت على حلقة فضية تزين بنصره...
غصت العبرة في حلقها، وشعور أمل سكن قلبها الملكوم ولكنه تم وأده..
.... "رجلٌ شهم، ولديه طفلة.. ومرتبط بأخرى"..!!
.. الجملة وقعها على الأذن غريب وبه خلل..
... "نصف رجل شهم"...
هكذا أدق وأفضل... وليذهب للجحيم هو وشطائره وماله واهتمامه الزائف... ورائحة عطره..!
-مبروك...
.. لم تستطع كبحها، قالتها بنبرة جامدة غلفتها المرارة.. أجفل من الكلمة.. فرمقها باستغراب عاقد الحاجبين يرى نظرتها مركزه على أصبعه.. فتلقائياً رفعه أمام ناظره ، يدقق بالحلقة الفضية ببنصره وكأنه تفاجأ من وجودها، وقد غفل عن خلعها، بالأساس لم يشعر بها.. رغم ثقلها على أصبعه بتلك اللحظة..
تأوه بداخله.. وقد بان عليه الحرج من لغة جسده.. ليس وقته، ولا يملك حجة للشرح،
خرج الطبيب من غرفة الأم.. فاندفع باتجاهه وكأنه نجدة من السماء أخرجته من موقف محرج..
يتكلم مع الطبيب بمفرده.. ومن قسماته المتجهمه يبدو أن الوضع صعب..
تتسائل بعينيها وقد نبّه عليها ألا تقف مع أي طبيب هنا بما أنه موجود..
تركه الطبيب ، وعاد إليها ينظر بمواساة وابتسامة جامدة لم تصل لعينيه..
-قالك ايه؟!!
يربت على ركبتها يطمئنها وقد جاورها ثانيةً بمشهد يبدو للبعض حميمي..
- خير بإذن الله.. ادعيلها...
أنفعلت..
- انا عايزة أعرف الدكاترة قالولك ايه.. انت من امبارح مش راضي تقولي..
هز رأسه بأسف.. ستعرف لامحاله.. فاقترب بوجهه منها وقد دمعت عيناه بالفعل، بخفوت قال مايعرفه دُفعة واحدة..
-مفيش أمل.. جسمها مش بيستجيب.. الدكتور قال مجرد وقت وخلاص...
.. وكأن الدم سُحب من وجهها .. جمدت ملامحها عدا عن دموع لم تستطع حبسها أكثر من ذلك.. واحتضن هو وجنتيها بكفيه داعماً.. وقد زاد حزنه لحزنها.. يواسي بنظرته، مشفق عليها... وبالوقت الحالي لايملك سوى ذلك..
............. وبعد مرور الوقت.. لازالت تجلس مكانها بجواره، نفس جلستهما باستثناء رأسها التي مالت على كتفه من التعب والحزن،واستقبله هو بكل سرور ومال هو الآخر برأسه على رأسها.. شكلهما يبدو للغريب زوجين متحابين وليديم الله بينهما الود والتفاهم...
في انتظار خروج الطبيب وقد تأخر بداخل غرفة العناية الخاصة بوالدتها،
والدقائق تمر عليهما وكأنها دهراً ،
اعتدلا فور أن خرج الطبيب من الغرفة واستقاما معاً.. سبقته هي للطبيب تسأله عن حالتها بلهفة..
-طمني يادكتور!
بملامح أسفة ولهجة عملية أعتادها قال لها وقد جاورها أكرم...
-البقاء لله.. شدي حيلك..
.. صدمة رغم المعرفة تحولت لصراخ ونحيب، وختمت باغماءة على صدر زوجها احتضنها هو يربت على ظهرها ، يسندها بكل جوارحه ..
وذلك أول موقف يتعامل فيه أكرم من تلقاء نفسه كرجل.. كرجل حقيقي معها دون أن يأخذ الأمر أو المشورة من جده....!
..............
... "بـ غرفة قاسم" ليلاً..
غرفة رجولية بجدارة ، منظمة جداً، جدران رمادية وكم لا بأس به من صور للنادي الأهلي ، يعلو سريره الأسود بوستر كبير للاعبه المفضل أبو تريكة وعلم من قماش أحمر للنادي.. وعلى عكس بهجة الصور كانت حالته...
كان يجلس على فراشه وأمامه ألبوم صور قد نفض عنه التراب لتوه .. عابس.. غاضب لا.. بل الغضب لا يصف عشر مابه ، والأمّر أنه يشعر بـ بركان في صدره على وشك الانفجار،
يقلب في الصور، والصور أمامه لم تكن لسواها..
حنييين .. صوره لها وهي طفله ذات أسنان مفقودة وابتسامة بلهاء احتفظ بها من باب مضايقتها ولكنه وقت ان شب وكبر وكبرت هي أيضاً أحب الصورة وتجاهل عن معايرتها به، وصورة أخرى لأول يوم لها بالمدرسة الإعدادية وكانت تنظر له نظرة خاصة وابتسامتها واسعة تخصه هو بها ووقتها كتبت على جدران الدرج بحياء فتاة على أعتاب المراهقة أول حرفين من اسميهما..
وأخرى وأخرى والعديد من الصور، نثرها حوله في فوضى.. وغضب!
غاضب وبشدة.. في أمر كوابيسه لم يتخيل أن يهان هكذا.. وبسبب حنين!!
يشعر بأن رجولته جُرحت بسكين تلم ، وقد قرر أنها لن تخرج من المنزل مرة أخرى إلا وقدمها على قدمه ، وسيوصل للأخر وسيأخذ بحق رجولته ومشاعره من بين عينيه..
واستعاد كل تفاصيلها أمام مرأى عينيه تغير ملابسها وتبدل حالها وعجرفتها معه وقلة تهذيبها مع الجميع.....
كيف لم يشعر بأنه مرفوض؟!
قطعت خلوته دخول نيرة لغرفته بعد طرقة خفيفة..
-جدو برة.. عايزك..
أومأ لها.. يعلم أنه سيأتي أو يطلبه .. سيناقشه في الأمر عله يتراجع..
بخطى متعجلة غاضبة تبعهاا، ونيران سوداء تشتعل بعينيه وقلبه..
لحظات وكان يجلس بمقابل جده.. جده والذي كبر بالعمر اليوم ضعف عمره، وتهدلت كتفاه بوهن لا يخفيه مهما كابر وعاند ، يسأله بصوت مرتعش..
- حنين عملت ايه خلاك تعمل اللي عملته تحت..
خُفت غضبه وقل من حدته خوفاً من تدهور صحة جده سحب نفساً عميقاً لصدره وقال..
- غلطة بسيطة ، وكمان أنا خلاص زهقت من الوضع ده..
سأله بشك..
- غلطة بسيطة ايه اللي تخليك تفضحها وتزعقلها اودامنا كدة وكأني مت!
تدارك كلمته..
- بعد الشر عليك ياجدي..
ثم أستكمل حديثه وقد عادت صورتها وهي مع آخر بعقله فتقافزت الشياطين أمامه.. صك على أسنانه من الحقد والغضب..
- حنين عايزة تتربى من أول وجديد ومش هتتربى غير أما أكتب عليها..
قال الجد بصرامة..
- بس أنا مش راضي ياقاسم.. وطول ماهي رافضة انا كمان رافض..
رد عليه قاسم بأحرف مشددة تحمل نيراناً حاول اخمادها وفشل..
-الكلمة تفضل دين ف رقبتك ياجدي لغاية ماتخليها فعل.. والفعل إنك تنفذ وعدك وتجوزني حنيين..
وفجأة وقف أمام جده.. يدور حول نفسه كـ أبله، يستعرض جزعه وطوله وقد مسه خبل.. وقد تحولت تعابير وجهه لصخرة منحوتة من الجمود..
- وبعدين هتلاقي زيي فين؟ . داانتا حتى بتقول عليا أحسن واحد ف أحفادك..وعشان كدة مخلتنيش أكمل بعد الثانوي و مسكتني الورش ..
أخذ عدة أنفاس، وبطوله مال على جده بمجلسه.. يواجهه بتحدي عيناه.. وبجرأة متأصلة به..
-خلااص ياجدي أبوها نفسه موافق ونازل مخصوص عشان كتب الكتاب.....
وقبل أن يقف الجد ويصفعه على قلة تهذيبه ووقاحته .. دخلت نيرة ممسكة بـ هاتفها وبنبرة حزينة أردفت..
- ماما نورهان ماتت ، أكرم كلمني وقاللي عشان أعرفكو ..
...........
- ياساتر ياارب.. ايه اللي عمل فيك كدة...!!
قالها زياد بدهشة حقيقية بعد أن دخل على عاصم بمكتبه ممسكاً ملف بيده.. وكان عاصم يضع أعلى رأسه قطن طبي ولزقة بيضاء عريضة شوهت خصلاته الكستنائية وأفسدت تسريحه الثابته دائمآ ،
وما حدث ليلتها لا يتذكره.. كل مايتذكره أنه أفاق بمشفى خاص بالمجمع السكني الذي يقطن به ، وأحدهم كان قد أتصل باستقبال المشفى واخبرهم بوجوده فاقد الوعي، وأخبرته الممرضة التي كانت تتابع حالته بعد أن ارتسمت القلوب بعينيها فور تبسمه لها بوجود فتاة حسناء صغيرة بالسن تبعته إلى هنا وفور أن اطمأنت على حالته لم تجد لها أثر....
اعتدل عاصم بجلسته و رد عليه متهكماً يشير بعينيه إلى لازقة طبية يضعها زياد أعلي أنفه..
- وإنت إيه اللي عمل ف وشك كدة؟
سريعاً أجاب بغيظ..
- شورتك المهببه ياسيدي...
ثم تابع باهتمام...
- سيبك مني انا.. إيه اللي حصل بجد!!
أوعى تكون واحده..!!
قالها بتحذير فـتجهمت قسمات عاصم وزادت حدة نظراته، لا يرد بل حتى لا ينظر إليه
يوزع نظراته بأرجاء المكتب يبحث بهما عن اللاشيء سوى أنه يريد الهروب من السؤال ..
ومن هيئته المزرية حصل على تأكيد لسؤاله.. فارتسمت على ثغره ابتسامة متسلية..
-أوباااا.. شكلها واحدة فعلاً .. لأ انزل بالتفاصيل بسرعة..
أخبره ببرود ينافي موقفه المخزي .. يتلكأ بكلامه..
-أمنية.. البنت اللي حكتلك عنها..!!
لم يكمل وقد توقفت باقي الكلمات بحلقه.. لا يعلم ماذا يقول فصاح به الآخر بنفاذ صبر..
- هاا كمل يارزل..
باتت أنفاسه متسارعة وقد عادت له ألم الضربة وصدمة هروبها..
-كانت عندي وشدينا مع بعض.. وزي منتا شاايف..
مط شفتيه متعجباً.. يسأله بفضول شديد
-شديتو مع بعض ازاي .. وإيه اللي وصل الأمور لكدة؟
هدر به بحنق.. وقد ضاق ذرعاً من أسألته..
-إنت بقيت متطفل كدة ليه يازياد موقف وعدا... إنسى. .
هز زياد منكبيه بلامبالاة ، وهتف بخبث غامزاً ..
- براحتك اما تعوز تحكي أنا موجود ف الخدمة..
.. مد عاصم يده للملف أمامه يلتقطه بنزق.. لا يهتم بفحواه.. ولا يهتم بالجالس أمامه ولا حديثه.. كل ما بباله هي.. وقد اقسم بداخله أن يسترجعها مهما حدث...!!
.........................
.. "بعد ثلاثة أيام"
.. كان أكرم يقف بجزعٍ مائل يستند بظهره على جدار منزل نورهان ينتظرها،
جدار قديم كحال المنزل مطلي بالجير الملون وكان بوقفته منافي للمنظر العام بهيئته الكلاسيكية وملابسه الأنيقة المهندمة كان أشبه بلوحة لفنان عالمي موجودة بمحل للخردوات...!
ينظر كل دقيقتين بساعة يده، يزفر بقوة و هو يشعر بالملل والقلق عليها،
يريد رؤيتها وبشدة فخلال الثلاثة أيام الماضية لم يراها سوى مرات تعد على الإصبع وكل مرة لاتتجاوز الدقيقتين رغم أنه لم يتركها لا هي ولا مجد شقيقها سوى ساعتين أو ثلاث على أقصى تقدير يومياً ، وقد أثبت لها ومن قبلها جده أنه رجل ويعتمد عليه حين وقف بالصوان بجوار خالها يأخذ العزاء بحماته وقد تكفل بكل شئ من مصاريف الجنازة والعزاء وما إلى ذلك،
استقام بوقفته ينفخ بضيق وقد استاء من انتظارها وقرر الدخول..
درجات سلم بسيطة متهالكة وجدران متساقط طلائها تُغطيها الرطوبة ومدخل منزل باهت للعين، منزل قديم آيل للسقوط بأي لحظة..
كان باب شقتها مفتوحاً على مصرعيه.. تجلس أمامه شاردة بعالم آخر تحتضن ملك صغيرها وقد أتت مع نيرة أول أمس كي تعزيها وتمسكت نورهان بالصغيرة بأن تظل معها ووافق أكرم دون أدنى اعتراض بل ورحب بالفكرة ..
يجاورها بعضاً من النسوة تلتحفن السواد ، ولم تنتبه عليه.. فتنحنح هو بحرج واستحى الدخول بوجودهم، فلكزتها سيدة كانت تجلس جوارها ففاقت من شرودها مرغمة لتراه أمامها.. تنهدت بضيق داخلها وتحركت من مكانها مرغمة بخطى متثاقلة تحمل الصغيرة على ذراعها..
وقفت أمامه فاقترب منها.. اقترابه كان لدرجة التلامس أدار حدقتيه على تقاسيم وجهها الحزين،يتأملها عن قرب؛ بياض بشرتها والذي أظهره الحجاب الأسود وزاده فتنه رغم شحوب وجنتيها، أنفها الصغير وأهدابها البنية المبتلة إثر البكاء.. ولم ترتاح هي لوقوفهما هكذا فتراجعت خطوتين للوراء لم تنظر له.. بها شئ متغير لم يفهمه.. شعر بتباعدها وانطوائها عنه،
فسأل بهدوء نبرته..
- عاملة إيه؟..
أجابت بخفوت..
-الحمد لله..
وصمتت لم تزد وكأنها لاتريد محادثته.. وهو قد توقع شكر ورجوع وحضن وأحلام لاحصر لها...!!
فقرر الحفاظ على ماتبقى من ماء وجهه.. فأردف ولازالت نبرته هادئة عدا عن ضيق خالطها..
-طيب أنا همشي دلوقتي.. لو محتاجة أي حاجة كـــ.....
ولم يستطع تكملة الجملة.. فقد قاطعته بجفاء..
-مش محتاجة منك حاجة ياأكرم.. ويوم مااحتاج هتبقى انت آخر واحد..
أجُفل من الرد، ضيق عينيه بعدم فهم يشعر بالذهول، وقد نفذ صبره وكفى، بغرور قال..
-انتي بتكلميني كده ليه؟..
ونبرتها كانت جامدة كملامحها..
-بكلمك زي مابكلم أي حد غريب..
-بس انا مش غريب..!!
قالها باندفاع وكاد أن يتابع لولا رنين هاتفه الذي جاء بوقت غير مناسب له..
فرمقت هي الهاتف بفتور تعلم من المتصل.. قالت ببرود تشير بعينيها على الهاتف.
-رد ع موبايلك ..
دون أن يحيد بنظرته عنها أغلق الهاتف بوجه من يتصل ولم يهتم بمعرفة من يتصل به من الأساس..
أطبق فكيه يقول بحدة لا تخلو من الازدراء والتعالي وقد عاد أكرم القديم..
-ماشي.. عموما بكرة هبعتلك نيرة عشان تاخد ملك... مينفعش تفضل هنا أكتر من كدة..!!
وختم كلامه بإشارة عينيه لجدران المنزل والرطوبة الواصلة لسقفه..
ومضت عيناها ببريق دمع.. وقد وصلتها الرسالة..
شعور الآهانه حارق.. والخزي موجع ، ولديه حق..
وولاها ظهره، وكانت خطواته غاضبه.. يكتم نار شبت بصدره ولا يريد أن يبدو منهزماً أمامها..
وقبل أن يخرج من البيت هتفت بإسمه منادية..
-أكرم...
كور قبضتيه يحاول تخفيف غضبه، زفر ناراً واستدار ببطء..
يفصلهما عن بعضهما عدة درجات .. كانت تقف أعلى الدرج ترفع رأسها باعتداد ومن هيئتها علم أنها ستتفوه بما لايرضيه..
-بالنسبة لفلوس المستشفى والجنازة اللي دفعتهم.. أنا هردهملك..
انحنى جانب ثغره ببسمة سخرية.. سخرية من الموقف ككل... قال بمرارة وكأنه يشير لما هو أبعد من كلامهما الحالي..
-بجملة اللي دفعته.. هتردي إيه ولا إيه يانورهاان؟!!
يتبع الفصل التالي اضغط هنا
الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة: "رواية بيت القاسم" اضغط على أسم الرواية