رواية جبر السلسبيل الجزء الثاني 2 الفصل الثاني عشر 12 بقلم نسمة مالك
رواية جبر السلسبيل الجزء الثاني 2 الفصل الثاني عشر 12
من هنا بداية كل شيء، داخل منزل "سلسبيل" الثاني بمحافظة القاهرة الذي أهداه إليها طليقها "عبد الجبار"، تقف "عفاف" المرأة التي أرسلها الله لتكون السند و الداعم القوي ل "سلسبيل"، ممسكة بيدها دفتر المواعيد الخاصة بمن أتخاذتها أبنه لها..
تنظم لها يومها بالدقيقة و الثانية بدقة متناهيه، تُدير لها مواعيدها كاملة داخل و خارج المنزل، جميع العاملين بالمنزل يأخذون الأوامر منها هي، بسبب انشغال "سلسبيل" الدائم بأخذ الكثير من الكورسات الخاصة باللغة العربية و الإنجليزية، كورس تصميم لتنمية مهاراتها في الرسم، و حتي أنها تتعلم أصول الاتيكيت أيضًا ..
"عايزه الكل يركز معايا لأن انهاردة يوم مهم بالنسبة ل سلسبيل هانم و إحتمال تتأخر في الشغل عشان كده كورس الانجليزي هيتأجل لبكرة و هيكون في نفس معاده الساعة 8 أصبح و هيخلص 9 و نص ، و طبعًا عارفين إن الهانم بتصحي 6 بالدقيقة بتخلص تمارينها 6 ونص، 7 إلا ربع يكون الفطار جاهز لأنها كده هتروح تطمن على الشغل بعد ما تخلص فطار و ترجع على معاد الكورس"..
صمتت لبرهةً و نظرت للدفتر بيدها مكملة ..
" متنسوش كمان انهارده معاد كورس الرسم هيكون الساعة 6 مساءً و هيخلص الساعة 8 يكون العشا جاهز لأن الهانم بتكون 8 ونص في السرير ده ميعاد نومها المعتاد"..
أبتسمت لهم وتابعت بود..
" أنا بفكركم كل يوم بمواعيد مدام سلسبيل عشان تثبت في دماغكم و محدش منكم ينساها.. و دلوقتي تقدروا تتفضلوا على شغلكم "..
أنهت حديثها، و أمسكت هاتفها طلبت إحدي الأرقام، و رفعت الهاتف على أذنها تنتظر الرد..
" صباح الخير يا دكتورة ..أنا عفاف والدة سلسبيل القناوي.. طمنيني يا دكتورة سلسبيل عاملة أيه معاكي؟ "..
" اهلاً وسهلاً يا مدام عفاف.. مش عارفه أقول لحضرتك أيه بس لازم أكون صريحة معاكي.. الحالة النفسية ل سلسبيل هانم سيئة جدًا بل من أسوء الحالات اللي مرت عليا، و برغم أنها دلوقتي بتمثل القوة لكنها أضعف مما هي نفسها تتخيل، عشان كده لازم يكون في رقابة عليها طول الوقت لأن جدار القوة المزيف اللي رسماه على شخصيتها ده ممكن ينهار في أي لحظة عشان كده أنا كنت برجح تفضل في المصحة على الأقل شهر تحت الملاحظة "..
ترقرقت العبرات بأعين" عفاف" و تحدثت بصوتٍ تحشرج بالبكاء قائلة..
" معقولة يا دكتورة حالتها متحسنتش خالص.. دي بقالها أكتر من 5 شهور متابعة معاكي و مفوتتش ولا جلسة واحدة! "..
" للأسف العلاج النفسي بياخد وقت و مجهود من المريض و من الطبيب المعالج كمان.. و حالة مدام سلسبيل عانت من الظلم و العنف لسنين طويلة مش هتتعافي من كل اللي عاشته ده في شهور قليلة"..
تنهدت" عفاف" بحزن و هي تقول..
" بس سلسبيل مستحيل توافق أنها تدخل مصحة نفسية خصوصًا بعد ارتباطها الشديد بشغلها "..
" يا مدام عفاف المصحة عندنا ليها فروع في كذا مكان جوه و برة مصر و مدام سلسبيل لو وافقت أنا هحجزلها في فرع المالديف أو في تايلند .. تعتبر نفسها في فترة استجمام، و هيكون عندها وقت كافي تستغل موهبتها في رسم المناظر الطبيعية الخلابة اللي هتكون حواليها و اللي هتساعدها كتير و تصفي ذهنها قبل ما تدخل في شهور الحمل الأخيرة "..
.............................. سبحان الله وبحمده...........
" عبد الجبار "..
ترك كل شيء حتى ثيابه تركها و أكتفي بأرتداء جلبابه، هذا الجلباب الذي كانت تختبئ بداخله" سلسبيل "من ينبض قلبه بأسمها، غادر الغرفة دون النظر ل" خضرا " التي لم تكف عينيها عن البكاء، تسيل عبراتها على وجنتيها بغزارة، و ما أصعب دموع الحسرة، تعرضت لأبشع موقف لا يمكن أن تتحمله أي أنثى..
"قومي معايا يا أمه خلينا نمشي من أهنه"..
قالها و هو يناولها عكازها يحثها على النهوض..
تطلعت له "بخيتة" بأعين متسعة على أخرها، لتنصدم بنظرة الضياع و الانكسار الطاهرين على وجهه الحزين..
"نمشي من أهنه نروح فين؟!.. أيه اللي حُصل.. مالك يا ولدي؟!"..
أطلق "عبد الجبار " زفرة نزقة من صدره و هو يقول "هقولك بعدين يا أمه.. بس أحب على يدك خلينا نمشي دلوجيت .. مطيقش أفضل أهنه"..
أطبق جفنيه و اصطك على أسنانه بقوة كاد أن يهشمها حين وصل لسمعه صوت ابنتيه الباكي..
"هتهملنا لحالنا و تمشي يا أبوي!!"..
جملتهما كانت كالسكين الحاد انغرس بمنتصف صدره، ركضا اثنانتهما نحوه و أرتموا داخل حضنه يبكيان بنجيب..
"أمي مهتزعلكش تاني واصل بس متهملناش يا بوي"..
"ما تفهمني أيه اللي حُصل يا عبد الچبار؟!"..
صاحت بها "بخيتة" و هي تضرب بعكازها على الأرض بغضب..
" أني هقولك يا أمه و متعشمة فيكِ تساعديني لخاطر البنته الصغيرين المعلقين بأبوهم و إني خابرة زين إنك تطيقي العما و لا تطقيني".. قالتها "خضرا" التي هبطت الدرج للتو، و وقفت أمامها تحاول السيطرة على حدة بكائها مكملة بغصة مريرة يملؤها الأسى..
" عبد الچبار طلقني"..
زادت حدة بكاء الصغيرتان، و تمسكوا بثياب والدهما بكل قوتهما، شعر" عبد الجبار " بالندم الشديد حين رأي مدى الخوف الظاهر بأعينهما..
"متهملناش يا عبد الچبار و إني أوعدك هنفذ اللي قولت لي عليه قبل سابق.. هعيش لبناتي بس سيبني على ذمتك عشان خاطرهم"..
أردفت بها "خضرا" بجمود مفاجيء ظهر على ملامحها المتألمة، بعدما توقفت عن البكاء بشق الأنفس..
"كلامها صُح ياولدي.. ردها على ذمتك لخاطر لحمنا يتربوا في حماك".. قالتها" بخيتة " رغم نظرات الغيظ و الكرهه التي ترمق بها" خضرا "..
رفع" عبد الجبار " يده و مسد على جبهته صعودًا لخصلات شعره الفاحم كاد أن يقتلعه من جذوره بسبب غضبه العارم ود لو أنفجر في "خضرا" و والدته بأنهما سبب أساسي لما وصل إليه الآن ، نظرته لهما كانت كفيله بأن يتفهموا ما يريد أخبارهما به، لكنه تمالك أعصابه لخاطر أبنتيه حتى لا يزيد خوفهما أكثر..
"بكفياكم بكى عاد.. أني عندي شغل مهم هخلصه و هعاود طوالي".. قالها و هو يزيح دموعهم بأنامله، و مال عليهما طبع قبله على وجنتهما مكملاً..
"أني مقدرش استغني عنك يا فاطمة و لا أقدر أعيش يوم واحد من غيرك يا حياة"..
ضمهما لصدره من جديد، لتهمس ابنته "فاطمة" داخل أذنه بتقطع من بين شهقاتها..
" يعني هتخلص شغل و تعاود طوالي صُح يا بوي؟ "..
ربت على ظهرهما بحنان و هو يقول..
"هعاود.. أطمني هعاود يا فاطمة"..
ظل محتويهما بين ذراعيه حتى هدأت نوبة بكائهما تمامًا، و من ثم بعدهما عنه برفق، و رمق" خضرا " و بخيتة" بنظرة أخيرة قبل أن يغادر المنزل بأكمله بخطي واسعة.
هرول إحدي حراسه بفتح باب السيارة الخلفي له، لكنه صعد بمقعد السائق مغمغمًا بأمر..
"معوزش حد معايا.. خليكم أهنه و فتحوا عنيكم زين، لو حُصل أي حاچة حدتني طوالي"..
لم ينتظر سماع رد على حديثه هذا، انفجر هدير محرك السيارة عاكسًا غضبه عليها، ليطير الغبار من الخلف بقوة لحظة إنطلاقها..
يسير بلا هوادة لا يعلم أين يذهب، يشعر لأول مرة بحياته بمعني كلمة الضياع، عاجز عن إتخاذ قرار صحيح منذ ابتعاد" سلسبيل " عنه، حياته بأكملها انقلبت رأسًا على عقب، لم و لن يستطع التأقلم مع غيابها..
يقر و يعترف أنه الآن أصبح ظالم، ظلم الجميع و أولهم نفسه..
و مع كل ما يمر به إلا أنه يشعر بالاشتياق الشديد لها، مهوس بها و بعشقها الذي استحوذ على قلبه، مال على ياقته و أخذ نفس عميق يمليء رئتيه بعبقها، فجلبابه مازالت معبأة بعطرها، المرأة الوحيدة التي حاكت من غضبه هدوء، ومن صخب شرقيته عزفت لحنًا حنون..
شوقه لها كالشمعة تذوب حتي تحولت لجمر شظاياه تجن كل مساء، بقي حديثها القليل معه عالقًا بروحه، أنفاسها تقيد نبضه، أما هو حزنه المهذب خلف ابتسامته يخجله، كم كان رجلًا يتباهى ولا يبالي، بذاك المساء الكئيب سكب الماء براحتيَّها، ضممته هي بقوة كي لا يضيع، و حين رفعت رأسها كانت كل أحلامها التي لم تقبض عليها يومًا ظنًا منها أنها لن تغيب ...تسربت، اختفت بعدما اتهامها بأن مشاعرها تجاهه لم تكن حُب من الأساس ، و أنه لن يردها لعصمته حتى بعد علمه بحملها، فعلته هذه كانت القشة التي قسمت ظهر البعير..
لن ينسى نظرتها له التي كانت تملؤها الخيبة، خيبة أملها فيه، تركته هذه المرة يواجه غروره بيدين خاويتين، يا متاهته لم تتركه هنا رجلًا يملك العالم كما كان معاها، بل تركته فأرًا يقضم الحيرة بمتاهة الشوق اللعين، يعاد بذهنه سؤال واحد يتردد بلا توقف، كيف يمضى الى حال سبيله و قدميه عالقة بأرضها؟..
فهو على يقين أنّ حتى لو اعتذرت الرياح، الغصن سيبقى مكسوراً..
أخرج هاتفها من جيبه، و ظل يتأمل صورتها به بأعين هائمة و قلبًا تحرقه نار الإشتياق ..
"اتوحشتك.. اتوحشتك قوي قوي يا سلسبيل يا بنت جلبي"..
صدح صوت رنين هاتفه، برقم شخص ينطبق عليه مثل ما محبه إلا بعد عداوة..
"أيوه يا چابر"..
أتاه صوت الأخر يقول بغيظ مصطنع..
"وآخرتها أيه يا عبد الجبار في عمايلك دي يعني؟!"..
"اممم.. أكده تبجي عرفت"..دمدم بها و هو يضحك باستفزاز مثير للأعصاب، استشاط" جابر"غيظًا و صاح به قائلاً..
"يعني فعلاً أنت شريك أساسي في كل الشركات اللي سلسبيل اتعاقدت معاهم من أول ما فتحنا الشركة؟!"..
أجابه" عبد الجبار "ببرود قائلاً..
"و الشركتين اللي هيحضروا الاچتماع معاكم انهاردة كمان"..
"كده بقى هتتكشف يا حلو لأن سلسبيل هتحضر إجتماع انهارده و مش هقولك هي بقت ذكية و لماحة إزاي الفترة اللي فاتت دي.. و مش بعيد أبدًا ترفض التعاقد مع العملاء بتوعك".. أردف بها" جابر " بثقة..
ضيق "عبد الجبار " عينيه و هو مازال يتطلع لصورتها عبر الهاتف، و تحدث بخبث قائلاً..
" حيث أكده يبجي اچي أحضر معاكم الاچتماع بنفسي لاچل ما أسمع وأشوف رفضها بعيني"..
....................................سبحان الله العظيم....
" سلسبيل"..
قضت وقتًا ليس بقليل منهمكة في مراجعة تصميماتها، طرقات على باب مكتبها يليها دخول "صفا" بخطي مهرولة، وقفت أمامها تفرك يديها ببعضهما..
" خير يا صفا.. و ايه الدوشة اللي بره دي؟! "..
قالتها "سلسبيل" دون النظر لها، ظلت تتابع شغلها بتركيز كبير ..
أجابتها "صفا" بأسف.. "في واحد برة مصمم يقابلك دلوقتي حالاً يا سلسبيل، و الإجتماع فاضل عليه ربع ساعة بس.. يعني العملاء على وصول"..
"اعتذريلوا و بلغيه ياخد معاد يجي فيه "..
قالتها" سلسبيل " و هي تعتدل بجلستها، و تخلع نظارتها الطبية، ليزداد صوت الشجار بالخارج أكثر، و بلحظة كان الباب انفتح عليهما و اقتحم المكتب أخر شخص تريد رؤيته الآن..
" مش هتحرك من أهنه المرادي قبل ما أشوف بنتي"..
كان هذا صوت" قناوي" الذي دب الرعب بأوصالها "سلسبيل "..
- يتبع الفصل التالي عبر الرابط (رواية جبر السلسبيل الجزء الثاني) اضغط على اسم الرواية