رواية بيت القاسم الفصل السابع بقلم ريهام محمود
رواية بيت القاسم الفصل السابع
. الأمور كانت تسير بشكل روتيني بمنزل أكرم ونورهان.. نفس الطقوس اليومية يعاد تكرارها.. منذ أخر مرة تواجها بها معها وتركها.. وهي مبتعدة عنه.. ليس الابتعاد المادي الملموس فهي تقوم بواجباتها على أكمل وجه ملابسه مغسولة ومطوية بعناية.. أكله ونومه وفراشه المنظم دائما.. قهوته المره والتي أدمنها من صنع يديها كل صباح بنفس الموعد تكون بانتظاره لاحتساؤها..
ولكنها مبتعدة معنوياً.. نظراتها تائهة منكسرة وقد اختفى البريق اللامع بهما والي الأبد.. يشعر بأنها جسد ينبض بلا روح.. صامتة على الدوام عدا من بعض كلمات بسيطة كطلب يخص ملك ابنتهما أو شئ للمنزل.. لا ينكر أن صمتها يحيره ولكنه يثير غيظه فهو غير معتاد.. اليوم لابد وأن يعرفها بماينوي فعله.. ف هو له كل الشكر لم يقصر معها ابدا.. ولابد وأن يحيا حياته كما يريد ومع من يحب وهي ليست مضروره بشئ...
انتظر أن تجلس بعد أن وضعت الطبق الأخير لوجبة الغذاء على المائدة..
وقبل أن تبدأ قال بهدوء منافي تماما لتوتر أعصابه..
-أنا هتجوز..
.. بهدوء قالها.. هدوء ظاهري نقيض لحيرة تأكل كل شيء بداخله.. كانت تمسك بمعلقتها كي تبدأ بالأكل وبجملته الباردة تلك ألجمتها.. وضعت المعلقة بهدوء على المائدة أمامها.. وإن كان يريد منها تبدلاً أو شئ يثبت له بأنها لازالت تحيا ، فقد ناله.. ف نظرتها التي رفعتها لناظريه كانت كفيلة بالرد.. نظرتها وكأنها خاب أملها.. نظرة منكسره لجندي خسر معركته الأخيرة..
-مبروك...
من قال أن المرأه سهل فهمها فهو أحمق، أبله.. ف أكرم توقع ثورة.. انقلاب.. دموع ورجاء بألا يتركها.. ولكنها وللأمانة أفحمته بردها..
صمت قليلاً وهو يقلّب بملعقته الطعام أمامه دون أن يأكل.. ثم سألها باستغراب لم يستطع كبحه..
-متفاجئتيش يعني.. كأنك كنتي عارفه..!!
والعجيب أنها ابتسمت.. نصف ابتسامة تعلو ثغرها ، ملامحها أحتلها الحزن رأسها محني قليلاً وأمامها طبقها كما هو لم تمسه..
-كنت حاسة..
.. ثم انكسرت نبرتها أكثر.. ووجهها زاره البؤس رغم أدعائها بالنقيض.. وقالت..
- كنت حاسه بكل حاجه.. كل حاجة أنت كنت بتعملها معايا كانت بتأكدلي انك هتسيبني قريب..
عاجلها بنبرة صادقه دون شك بصوته الأجش..
-أنا مقولتش أني هسيبك.. أنا هتجوز.. وبعرفك عشان متتفاجئيش وعشان تشوفي انتي ناوية ع ايه..!!
رفعت وجهها إليه.. وتفاجئ هو بنظراتها وكأن الدموع تحجرت بمقلتيها.. لو هزها لانهمرت على الوجنتين.. ظلت تنظر إليه بجمود.. جمود غريب عليه..
ران الصمت الثقيل عليهما لحظات طوال كانت كفيلة بحرق أعصابه وهو ينتظر ردها.. ونطقت أخيراً بعد تنهيدة مكتومة حبستها بصدرها.. نهضت من مكانها واستقامت ..
- أنا هقوم أأكل ملك.. مبروك للمرة التانية..
وتركته وهو يحدق بها بذهول وحيرة وبعض من الضيق.. ضيق للأسف أكتنف صدره ولا يدري سببه..
............ ****
القهر يولّد الغضب.. والعناد يوّلد التمرد.. وبداية التمرد عند حنين تنورة رمادية ضيقة تتجاوز الركبتين بالضالّين.. إن رأها المقصود إغاظته لجنَّ جنونه وهذا المطلوب..يعلوها بلوزة زهرية اللون ضيقة للغاية مفتوح أول ثلاثة أزرر منها.. تقف أمام فراشها تنظر للبنطال والبلوزة والتي اعتادت ارتدائهم بناءً على تعليماته بغيظ تود تقطيعهم.. ولذلك ارتدت غيرهم من الممنوع عليها ارتدائهم.. وإن لم يعجبه فأمامه الجدار وليطرق رأسه اليابس به.. جمعت خصلاتها من الأمام بدبوس معدني مزّين بحبات لؤلؤية صغيرة وباقي خصلاتها الكستنائية تركتها مسترسلة علي كتفيها وظهرها.. جذبت حقيبتها المدرسية واحتضنتها وخرجت من غرفتها ثم خرجت من المنزل دون أفطار ، فمازال الجد نائماً على الأغلب..
كانت تطوي درجات السلم مسرعة وكأنها تسابق نفسها.. تنوي مغادرة البيت قبل أن يراها قاسم.. فهي حتى وإن تعمدت إغاظته فلا تفضل رؤيته حالياً.. ولكن وللأسف من لاتريد رؤيته يفصل بينهما عدة درجات بالفعل .. قلبت عيناها ما أن رأته أمامها بمدخل البيت الواسع يستند علي البوابة الحديدية بانتطارها تقريباً..!! يرتدي بنطال جينز أزرق داكن يعلوه قميص قطني رمادي خصلاته مبعثرة وذقنه غير مشذبة كعادته مؤخراً..
وما أن رآها حتى انتصب بوقفته وتبدلت قسمات وجهه من ملل الانتظار إلى الغضب بسبب ملابسها ، اتقدت عيناه ناراً تطايرا الشرر منهما وهو يراها تتجاهله وتتخطاه دون كلمة وكأنه هواء.. خطوتان خلفها وكان يمسك برسغها يجذبها إليه بغيظ فالتفت إليه دون أن تنظر إليه.. فقال مستهزئاً..
-يابنتي لو النظر عندك بعافية شويه.. عرفينا عشان نعالجك..!!
جذبت يدها من قبضته بعنف.. وقالت بحنق وهي تفرك رسغها من أثر مسكته الغليظة..
-مش عايزك أكلمك ياسيدي .. وأظن ده من حقي..
اشتد به الغيط منها فقال بحدة..
-هو إيه اللي مش عايزه تكلميني هو انا عيل بلعب معاكي.. وبعدين ايه اللي إنتِ لبساه ده ياحنين من أمته وانتِ بتلبسي كده!!
قال كلامه الأخير وهو يشير بنظراته السوداء على ملابسها..
-من انهارده ياقاسم هلبس كدة عنداً فيك ووريني هتمنعني ازاي..
رفع إحدى حاجبيه بتحدي وقد اتسعت فتحتي أنفه مال عليها بطوله وهمس. .
-أوريكي..؟
ابتعدت عنه قليلا بخوف وتراجع ، ازدردت ريقها وهي تقول بتلعثم خفيف..
-مش من حقك تتدخل ف حاجه تخصني انا بابا عايش وكمان جدي مسؤول عني.. مش انت!!
صاح بها وقد غلبه الغضب..
-اللي متعرفهوش، أو عرفاه وبتستعبطي أن جدك نفسه هو اللي وكلني أكون مسؤول عنك.. عنك كلك بلبسك بأكلك بشربك بكل حاجه.. من وانتي خمس سنين وانا كنت كل حاجه بالنسبالك وانتِ كمان..
شددت من احتضان حقيبتها وكأنها درع واقي سيحميها منه ومن فوران غضبه الدائم .. أشاحت بوجهها عنه وأغمضت عينيها وهي تهتف..
-ألغى كلام جدي انا كبرت وخلاص أنا مسؤوله عن نفسي..
-من أمته..!!
ونبرته كانت غريبة فعادت بنظراتها إليه لتتلقفها نظراته الغامضة.. وملامح وجهه لا تعبر عن شئ.. تسائلت بعدم فهم..
-هو ايه اللي من أمته..
وتلك المرة لانت نبرته ومازالت نظراته الغامضة تأسرها.. اقترب منها ونظراته مرت علي كل شبر بها بدأ من خصلاتها المنسابة مرورا بحقيبتها السوداء والتي تخفي عن عينيه جزعها العلوي إلى أن وصل لخصرها ومقدمة تنورتها الضيقة ف أعاد النظر ثانية لعيناها وهمسته الأبحه باسمها.. .
-كبرتي من أمته ياحنين..!!
ولم يكن سؤال وقح.. تلك النبرة كانت صادقة هي أحست بها..وكعادتها تهوى الهروب اعترضت ، تنهدت بضيق والحمره القانيه لونت وجهها
-قاسم.. لو سمحت..
ولكنه تجاهل اعتراضها.. فسأل بآخر ..
-كبرتي عليا..!!
-صباح الخير والعسل..
استدارا كليهما برأسيهما على صوت كمال وهي يلقى تحية الصباح عليهما بابتسامته المعهودة وملامحه الهادئة بفطرته.. أشاح قاسم بوجهه محرجاً دون رد وبادلته حنين التحية وهي تقترب منه مبتسمة..
-صباح الفل يا أبيه.. صاحي بدري ليه..
ارتفعت نبرة كمال وهو يرمق قاسم بخبث ليشير عليه وهو يقول بمكر..
-الظاهر إن مش أنا بس اللي صاحي بدري..
صاحي ياستي بدري عشان عندي شغل ضروري ولازم يخلص انهاردة عشان الحق أروح المحكمة..
تنحنح وأجلي حلقه يحاول أن يتخلص من ارتباكه.. فهو يكره أن يكون مكشوف هكذا.. ويعلم بأن كمال يفهمه وهذا يزيد من حرجه وتوتره.. قال ونظراته يوزعها هنا وهناك..
-صباح الخير ياكمال.. يللا ياحنين عشان اوصلك
ردت بِ عناد..
-لأ
جز على أسنانه.. ثم تكلم بغضب غلف نبرته..
-بقولك يللا عشان هوصلك
تدخل كمال منهياً كلامه..
-خلاص ياقاسم روح انت شوف مصلحتك انا هوصلها
اقتربت أكثر من كمال حتى صارت بمحاذاته.. ثم قالت مغيظة له كالأطفال..
-أيوة انا عايزه أبيه كمال يوصلني
فارت دماؤه حد الغليان.. زفر أنفاسه بغضب ثم قال لكمال بنبرة مكتومه
-انا بس مش عايزك تتعطل عن مصلحتك.. انا هوصلها ف طريقي يعني
ابتسم كمال بمكر.. قال بتلاعب يجيده مع قاسم..
-لا مش هتعطل ياسيدي متخافش.. يللا يانون..
أحاطها كمال بذراعه على كتفيها بعاطفة أبوية تفتقدها هي دائماً ودائماً كان يعوضها كمال بها.. وما أن رأى قاسم ذلك المنظر حتى تحول لثور هائج من سرعة أنفاسه الساخنة الغاضبه.. ظل يراقبهم الا أن اختفو من أمام عينيه المشتعلة غيظاً.. استدار وسار بالطريق المعاكس وهو يسب ويلعن ويتوعد وبقدمه يركل الأحجار الصغيرة بعنف منفساً فيها ولو قليلاً عن غضبه..
....
وبعد أن أخذا الطريق سيراً على الأقدام، متجاهلاً هو لسيارته المعطلة.. كان كمال أمام مدرستها يقف أمامها ونظراته مليئة بالحنان ، ف لطالما كان كمال بمثابة الأخ الكبير والذي عوض غياب الأب إلى حد ما..
وضع كفيه على بشرة وجنتيها بحنو صادق.. وقال بطيبته..
-حنين أنا عارف إني قصرت معاكي في الفترة الأخيرة بسبب وفاة خديجه الله يرحمها وانشغالي بالأولاد. . بس خلاص ابتدت الأمور تتظبط وريم ابتدت تشيل عني الحمل شويه.. لو عوزتي اي حاجه مني ف اي وقت.. أي وقت يانون.. تكوني مكلماني أنا.. وسيبك م الواد قاسم الغلس ده..
التمعت عيناها بالدمع ولا تعرف لما.. أومأت برأسها وهمست..
-عارفة.. أنا فعلاً محتجالك أوي يا أبيه الفترة دي..
وابتسم لها وهو يربت على وجنتيها وقال بمرح..
-وأنا ياستي هكون المارد بتاعك وقت متعوزيني.. اطلعيلي علطول وانا كلي أذان صاغية..
وضحكت بوجه مشرق له.. ثم ودعته ملوحة له بكفها ودخلت لمدرستها وهو أستكمل طريقه بعد أن استوقف إحدى سيارات الأجرة..
............****
ومن توقع بأنها رفعت عنه الحمل ولو قليلاً غارقة حتى أنفها، فريم أنثى على مشارف الثلاثين لاتجيد شئ في الحياة إلا الدلال والغنج فوالدتها كانت لاتعتمد عليها بشئ وهي أيضاً.. وبين ليلة وضحاها أصبحت زوجة وأم بديلة لأولاد شقيقتها المتوفية.. حتى وإن كانت زوجة مع إيقاف التنفيذ الا انها تقطن مع رجل غريب عنها مسؤوله عنه وعن ملابسه وأكله وما إلى ذلك أما الاولاد فحدث ولا حرج مراد الولد الأكبر يشبه والده بكل شيء منظم حد الملل مهذب معها بالحديث وهي لاتشتكي منه أبداً فولد كمراد ذو السبع أعوام بتصرفاته تلك بالتأكيد معجزة ، وزين ذو العامين ونصف العام وحمداً لله أنه نائم الآن فهو منذ أن يستيقظ إلى أن يغفو اما أن يبكي أو يريد أن تظل حاملة إياه تلاعبه وتهدهده.. وحاتم واااه من حاتم سبب عنائها بهذا المنزل ألا يكفي أنها مرغمة على العيش معهما..لا، فحاتم لايتقبلها كزوجة أبيه ولا يقبل مساعدتها بشئ ولا حتى يحدثها.. وإن صادف واجابها تكون وقاحته رداً
"انتي مش ماما عشان أسمع كلامك".. "انتي عايزة تكوني مكان ماما"
خطوات سريعة وكانت تلحق بمراد تلبسه حقيبته المدرسيه على ظهره وتضع بها شطائره والعصير الخاص به.. ثم ودعته بقبلتين على الوجنتين يخجل الولد بسببهما ولكنه يكتفي بالايماء ، يلحق به حاتم عاقد حاجبيه ممتعض الملامح منها ومن تصرفاتها لتقترب هي منه لتعدّل من قميصه البيج فينفض يدها عنه بقلة تهذيب ويقول لمراد..
-كفاية رخامة بقى.. الباص هيفوتنا..
وهي لن تحزن فحاتم مازال طفل ولن تهتم بتصرفاته الوقحة تلك فخير علاج لوقاحته معها أن تتجاهله .. هرولت إلى شرفة المنزل بعد أن ارتدت مئزر الصلاه وعدلت الحجاب على خصلاتها لوحت للصغيرين بكفها قبل أن يصعدا الاوتوبيس المدرسي ليلوح لها مراد بكفه مبتسماً والأخير هز رأسه رفضاً وصعد حانقاً..
.........
وحضور الطابور المدرسي والنشيد الوطني والشمس المشرقة على رؤوس الطلبة لأمر مكروه عند حنين وهنا.. هنا التي ما أن رأتها حتي سحبتها من كفها خلفها لتسير ورائها تسألها..
-انتي وخداني مودياني ع فين.. مش هنحضر الطابور..!!
تسير دون أن تأبه بها.. ردت بلامبالاة..
-لأ مش هنحضره.. عايزه أوريكي حاجة مهمه..
وتجاوزا البوابة الحديديه الكبيرة.. وخرجت وحنين ورائها منساقة.. وبشارع جانبي وراء المدرسة رأته.. مستنداً على مقدمة سيارته "الجيب" مكتفاً ذراعيه أسفل صدره، يرتدي بنطال ازرق فاتح و قميص قطني أبيض مفتوح أعلاه يعلوه سترة سوداء وبعنقه سلسال فضي يختفي طوله أسفل قميصه.. اعتدل بوقفته وارتسمت على شفتيه ابتسامة واسعة رائعة يجيد رسمها، ونظراته الثعلبيه لمعت بمكر عند رؤيتها..
شهقت حنين بعنف وقد تفاجأت من وجوده.. التفتت برأسها إلى هنا ورمقتها بغضب. . ولكن هنا لم تهتم تركت يدها وابتعد قليلاً وقالت ضاحكة..
-أعمل إيه.. هو كان عايز يشوفك وانتي مترددة دايماً.. قولت أدبسك..
وركضت مسرعة لداخل المدرسة وتركتها بمفردها بمواجهته..
ليتحول غضب حنين إلى خجل و ضيق فلأول مرة تكون بهذا الموقف.. استدارت سريعاً بنية العودة ولكنه كان أسرع منها ف سد عليها طريقها دون أن يلمسها.. وقال لاهثاً وهو مازال يبتسم..
-انتي رايحة فين بس.. أنا ماصدقت أن وأخيراً شوفتك وهنتكلم..
حبيبات عرق نبتت على جبهتها وارتباكها ورجفة أطرافها كانا دليلين على خوفها.. هتفت وهي تتلاشي النظر إليه بصوت بالكاد يُسمع..
-أنا خايفة حد يشوفني.. وبعدين أنا أول مرة أقف مع شاب..
والثعلب أقترب والخطوة الأولى كانت جرأةً منه، واقترابه زاد من إصراره ليقول بنبرة صادقة زائفة وهو يضع يده على صدره..
-طب أعمل إيه.. حطي نفسك مكاني بقالي مدة نفسي اشوفك واكلمك وانتي بتماطلي
وارتباكها ازداد وارتجف خافقها وقربه الجرئ تسبب بصدمتها .. لتبتعد خطوة وتلون وجهها بالحمرة.. تردف بتلعثم..
-انا مش بماطل.. وابعد شويه لو سمحت..
وجنتيها متوردتين أكثر من السابق.. تبدو شهية للأكل.. نفذ طلبها فوراً وابتعد ولكن ليس كثيراً.. همس بأسف مصطنع ..
-آسف.. بس بجد انا تعبت م الانتظار، وحابب يكون كلامنا وتعارفنا face to face من غير هنا ماتكون بينا..
تسائلت بضيق..
-طب وبعدين.. أخرة تعارفنا ايه..
صمت برهة وكأنه تفاجئ بسؤالها.. تدارك صمته سريعاً وقال مؤكداً
-طبعاً لازم هاجي أخطبك.. انا كلمت ماما عليكي وهي نفسها تشوفك فعلاً وتتعرف عليكي..
ثم أخرج من جيب بنطاله الضيق ورقة بيضاء مطوية واعطاها لها مستطرداً..
-عموماً ده رقمي.. انا خدت رقمك من هنا.. سجليه عندك عشان لازم نتكلم..
وأثناء حديثه كانت هي تتأمله بصمت.. طويل جداً يفوق قاسم بسنتيمترات قليلة.. خصلاته الفحمية الناعمة بتسريحة عصرية تليق به كثيراً على عكس قاسم لا يمشط شعره الا بالأعياد.. ولحيته السوداء الخفيفة وبابتسامته المذهلة ليس كعاقد الحاجبين دائماً.. نفضت رأسها تنفض تفكيرها بقاسم ف أكيد ليس وقته.. ابتسمت بخجل وتوترت ما أن لامسها بأطراف أنامله وهو يعطيها رقمه..
-حاضر.. ممكن تعديني بقى؟!
وكان مطيع.. فانزاح عن طريقها..
-اتفضلي ، خلي بالك من نفسك عشان خاطري..
ظل يراقب ظهرها وابتسامته الثعلبيه ازدادت مكراً .. حدث نفسه وهو يتوجه لسيارته
"على عيني أسيبك بس الجايات أكتر ياقطة"
............ **
بشركة عاصم النجار"
أتاه صوت زياد من خلف باب مكتبه المغلق يطلب الأذن بالدخول وهو مامنحه له على الفور ، ليدلف زياد للداخل بهدوء ويجلس أمامه دون كلمة..
تسائل عاصم بحاجبين مرفوعين مندهشاًاً..
-زياد جاي بدري الشركة.. لأ دنتا تتحسد أنا هندهلك أماني تبخرك..
وزياد ليست تلك طبيعته.. فكان جالساً بهدوء يناقض صخبه المعتاد يزفر بضيق وهو ينقر بأصبعيه على المكتب..
عاود سؤاله باستغراب..
-مالك..
تنهد زياد ومازال يضرب بأصبعيه سطح المكتب..
-نيرة عايزه بيبي..
ورد عاصم ببساطة..
-طب ماتجيب لها بيبي..!
رمقه بنظرة حانقة.. ثم تحدث من بين أسنانه..
- ولاه احنا هنستظرف..
والآخر قرر مناوشته وزيادة عبوسه..
-هو ايه اللي هنستظرف.. زياد انت تمام يااض!!
ونال الضحكة وعاد العابث لشقاوته ليهز كتفيه بمشاغبة..
-أنا زي الفل واسأل عليا..
ضحك عاصم بشدة وهتف بنبرة سمجة ..
-لأ معلش أتأكد ..
ليجيبه زياد غامزاً وقد تعدّل مزاجه وأخيرًا..
-لأ انا مليييش ف الخشن.. انا ف الناعم وبس..
-اتفضل دي العقود اللي حضرتك طلبتهم مني
انتفضا كلاً منهما على صوت ارتطام الملفات بسطح المكتب وصوت مدام أماني العالي الحانق دوماً..
قال عاصم وهو يرمقها بغل يحاول التقاط أنفاسه..
-بسم الله.. ف ايه ياحاجه.. قطعتيلي الخلف..
التفت زياد إليها برأسه وصاح بها..
-والله مااعارف هو انتي عدوة البيبان ياست أنتي .. نفسي مرة أشوفك بتخبطي..
قالت وهي تتجاهل النظر إليه.. وقد امتعضت ملامحها فصارت كالجورب المقلوب..
-بلاش انت تتكلم معايا.. روح ربنا يهديك!
اتسعت حدقتاه مندهشاً ليسأل بحنق..
-إييييييه ده!! عاصم انا مش عارف مين شغال عند مين؟
وهي مازالت تتجاهل بمنتهى الوقاحة والبرود قالت بتقرير..
-لو سمحت يامستر عاصم.. قول لمستر زياد الست ال Rubbish اللي بتجيلو هنا الشركة متجيلوش تاني.. حفاظاً على سمعة الشركة..
مال عاصم بصدره على المكتب وهمس بصوت مسموع نسبياً..
-أنت تعرف rubbish من ورايا!!
وارتفع صوتها واستنكرت تصرفاته الغير مسؤولة..
-لا بجد يافندم انا ملومش ع مستر زياد بقى.. إذا كان ربُ البيت بالدف ضاربُُ..
ثم خرجت من المكتب وهي تضرب الأرض بكعبي حذائها المتوسط غاضبة..
وما أن صفقت الباب خلفها حتى كادت أن تخلعه.. ليلتفت زياد لعاصم مستفسراً بذهول..
-أنت سايب الست دي تخبط فينا كده ليه؟
ليجيبه عاصم ببديهيه وهو يعدد على أصابعه مميزاتها..
-شايفه شغلها صح.. محترمة مواعيدها تظبط عليها الساعة ومنظمة وبتفهمني ودي أهم حاجه..
ثم استطرد مستنكراً
-وبعدين إيه موضوع الست اللي بتجيلك هنا دي أنا مرضتش أحرجك أودامها.. بس لو عايز تعط تعط برة مش ف شركتي يالا..
زفر زياد وعاد العبوس لملامحه مرة أخرى
-صدقني انا عايز اخلع منها.. اساسا انا حاسس ان نيرة شاكة فيا
ورد عاصم كان ملئ بالشماتة..
-احسن تستاهل.. يارب تعرف واسيبك..
-حرام عليك.. لا انا خلاص هنهي الموضوع الشمال ده.. انا قلبي مش مرتاح..
اعتدل عاصم على كرسيه.. وهتف بجدية..
-يبقي احسن.. نخلينا ف الشغل بقى.. أخبار الصفقة ايه..
أجابه واثقاً..
-متخافش انشالله هترسي علينا
وعاصم توجس.. عقد حاجبيه وقال بشك..
-هو انا ليه لما انت بتقولي متخافش بخاف!!
-و العابث غمزته حاضرة ورده ثقة ليشاغبه..
-عشان انت خفيف ياحلو..
........ **
"... علموني أندم على الماضي وجراحه.. واللي شوفته قبل ما تشوفك عنياا عمر ضايع يحسبوه ازاي عليا.."
صدح المذياع بتلك الكلمات المُلحّنة للست أم كلثوم.. وبصوتها الذي يروقه دائماً ويعدّل من مزاجه قام برفع صوت المذياع أكثر ، ثم عاد ليجلس كما كان جالساً عكس الكرسي الخشبي يستند بذراعيه على ظهره بفمه سيجارة وأسفل كرسيه وبجواره العديد من أعقاب السجائر التي قام بحرقها.. لم يكن مدخناً شرهاً من قبل ولكن اليوم شياطين الكوكب تتلبسه.. كان ممسكاً بهاتفه يضغط علي شاشته عدة ضغطات ثم رفعه على أذنه.. يهز ساقيه بعصبية ، ينفث دخان سيجارته بضجر وهو بانتظار الرد.. وقد أتاه ليلقي سيجارته بالأرض وهو يهتف بتهذيب غير معتاد عليه.
-السلام عليكم.. إزيك ياعمي عماد..
وعلى الجهة الأخرى جاؤه رد ليجيب كاذباً ..
-وإنت كمان والله.. لقيتك واحشني قولت أتصل أطمن عليك
صمت قليلاً ريثما يأتيه الرد من عمه.. حك عنقه بكفه وهو يقول بحرج..
-إيه ده.. هو أنا للدرجادي مكشوف.. طب بما أنك عارف ياعمي.. فأنا شايف إن مفيش داعي للتأخير وتنزل الأسبوع الجاي نكتب الكتاب..
كاد أن يستمع ولكنه قاطعه..
-كل ده ومستعجل حرام عليك ياعمي.. ده تقريباً أنا الوحيد ف العيلة اللي لسه متجوزتش ..
عبست ملامحه وقال بضيق..
-طب ولا حتى تقدر تنزل خلال الشهر ده!!
وانتظر أن ينتهي عمه ثم قال وهو يزفر أنفاساً مشتعلة..
-طيب خلاص.. اللي صبرني كل ده هيصبرني للشهر الجاي
صمت مرة أخرى.. ثم قال منهياً قبل أن يغلق الهاتف..
-تنزل بالسلامة.. لا إله إلا الله..
............ **
"لو ياستي عايزة تتأكدي أن جوزك بيخونك تعالى المكتب بتاعه الساعة 9 وانتي هتتأكدي بعينك"
.. لن تكون تلك الرسالة هي الأولى فقد سبقها الكثير من الرسائل من أرقام مجهولة وبالتأكيد لن تكون الأخيرة إذا قررت التجاهل ككل مرة .. ولكن تلك الرسالة لا تستطيع تجاوزها هكذا.. فتلك بها ميعاد محدد.. وأمام التجاهل أو الحذف وقفت كالصنم.. والغريب أن ولأول مرة قررت نيرة المواجهة وتركت الرسالة دون حذفها
يتبع الفصل التالي اضغط هنا
الفهرس يحتوي على جميع فصول الرواية كاملة: "رواية بيت القاسم" اضغط على أسم الرواية