رواية حبيسة قلبه المظلم كاملة بقلم سارة علي عبر مدونة دليل الروايات
رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل الخامس عشر 15
لا يعرف لماذا عاد إليها مجددا بعدما تركها منذ ساعات غائبة عن العالم بأكمله تحتضن جسدها داخل سريرها وكأنها تحصن نفسها بنفسها من الغدر والألام ..
منذ أن تركها وعقله لا يكف عن التفكير بها وقلبه يؤلمه بقسوة كلما تذكر ما أصابها بين ذراعيه …
وعندما يأس من تجاوز ما رأه وفشل في التوقف قليلا عن التفكير بوضعها وجد نفسه يقرر العودة إليها راغبا برؤيتها بوضعها الساكن كي يهدأ قلبه قليلا رغم إدراكه إن قلبه لن يهدأ حتى تعود كما كانت وهذا شيء مستحيل ..!!
فتح باب الشقة ودلف الى الداخل بخطوات هادئة ليجد الشقة مظلمة تماما لا يضيئها سوى الضوء المنبعث من النوافذ في ساعات الفجر الأولى …
سار بخطوات رتيبة نحو غرفتها وفتح الباب بحذر ..
دلف الى الداخل بتردد لينصدم عندما وجد سريرها فارغا فسارع بالتوجه نحو الحمام الملحق بغرفتها ليجده خاليا ..!!
ركض بسرعة خارج غرفتها متجها الى غرفة خديجة كي يوقظها متأملا أن تكون عندها لكنه توقف أثناء مروره من جانب المطبخ ليميل برأسه قليلا فيتجمد مكانه مما يراه ..
تقدم أخيرا بخطوات مترددة نحوها ووقف أمامها وهو يراها تميل بجسدها على الحائط خلفها لا يعلم اذا ما كانت تغط في نومها أم فاقدة للوعي ، ذراعيها تلتفان حول جسدها والسكين مرمية داخل حضنها …
دار بصره حول جسدها يتأكد من عدم وجود أي إصابة ليزفر أنفاسه براحة من فكرة أن تكون تسببت بأي أذى لنفسها رغم وضوح حقيقة إنها كانت تنتوي فعل ذلك ..
مال بجسده نحوها يبعد السكين ويرميها جانبا قبل أن يفك ذراعيها اللتين تحيطان جسدها ثم يحملها بين ذراعيه فتتململ قليلا بإنزعاج ليدرك إنها نائمة بالفعل وليست فاقدة للوعي …
سار بها عائدا نحو غرفتها ليضعها على سريرها بعناية قبل أن يجذب الغطاء نحو جسدها يغطيه بالكامل …
تأملها بنظرات لا تصدر منه مطلقا .. نظرات مليئة بالحنان الشديد الممزوج بالألم ..
نظرات نالتها جيلان فقط ولن ينالها سواها وكيف لا وهي قطعة ممن كانت روحه .. قطعة من والدته …
غامت عيناه بذكرى سوداء وما كانت تنتويه جيلان ذكرته بما فعلته والدته …
ذكرى بشعة لا يود تذكرها وهو يرى والدته غارقة في دمائها بعدما قطعت شرايينها …
تلك الصورة التي لا يمكن أن تختفي من عقله .. صورة تزوره بين الحين والآخر تذكره ببشاعة ما رأه وعاشه ..
والدته وهي تلتقط أنفاسها الأخيرة بين ذراعيه توصيه على أخته بما تبقى منها من أنفاس متقطعة ..
ترجوه أن يحميها وكأنها كانت تشعر بما سيصيب ابنتها يوما ما ومع هذا تركتها بكل أنانية ورحلت …
أغمض عينيه بقوة محاولا السيطرة على تلك الدموع الحارة التي تكونت داخلهما ..
كانت المرة الوحيدة التي بكى فيها وأقسم بعدها ألا يبكي مهما كلفه الأمر وهاهو اليوم يقف أمام أخته التي كادت أن تفعل بنفسها كما فعلت والدته مسبقا ..
كاد أن يخسرها كما خسر من قبلها بنفس الطريقة البشعة ..
إعتصر قبضتي يديه بقوة وفتح عينيه اللتين بدتا شديدتي الإحمرار متأملًا جيلان النائمة بسلام متمتما بوجع :-
” لماذا يا جيلان ..؟! لماذا يا صغيرتي ..؟!”
ثم انحنى بوجهه مجددا نحوها متأملا ملامحها الرقيقة الهادئة متذكرا كيف كانت تنتفض جزعا بين ذراعيه منذ ساعات مرددا بينه وبين نفسه بوعيد :-
” سأنتقم ممن فعل بك هذا يا جيلان .. سأذبحه بين يدي كما ذبحك يا صغيرتي .. سأخذ حقك كاملا يا أختي …”
ثم طبع قبلة طويلة على جبينها قبل أن يعتدل بوقفته مجددا يلقي عليها نظرة أخيرة وقبل أن يهم بالرحيل كانت يدها تمسك يده وصوتها المنخفض الضعيف يرجوه وقد تغضنت ملامحها كليا رغم إنغلاق عينيها :-
” عمار .. لا تتركني ..”
وأمام أنينها الخافت ورجائها المؤلم لم يستطع سوى الإنحناء نحوها مجددا يهمس لها بنبرة مطمأنة :-
” انا هنا يا جيلان .. بجانبك يا صغيرتي .. لن أتركك مهما حدث ..”
………………………………………………………………….
في صباح اليوم التالي ..
فتحت حياة الباب لتجد حنين أمامها ترمقها بنظرات خجلة لتبتسم حياة بهدوء وهي تفسح لها المجال لتدخل …
دلفت حنين الى الداخل ثم إلتفتت نحو حياة التي أغلقت الباب خلفها واتجهت نحوها فهتفت حنين تسألها :-
” كيف حالك ..؟!”
ابتسمت حياة وهي تجيبها :-
” بخير .. وانت ..؟!”
ردت حنين بهدوء :-
” بخير الحمد لله ..”
أضافت بتردد :-
” ترددت بالمجيء إليك .. فكرت ربما تكونين منزعجة مني ..”
قاطعتها حياة بسرعة وجدية :-
” لست منزعجة منك يا حنين .. ربما إنزعجت قليلا وقتها لإنك تصرفت من تلقاء نفسك ووضعتني في موقف لم أرغبه ولكن إنزعاجي منك إنتهى منذ ذلك الحين ..”
قالت حنين برجاء :-
” والله انا لم أقصد إزعاجك .. انا فقط رغبت أن ينصلح الوضع بينك وبين ماما .. رغبت أن نكون عائلة واحدة سويا …”
رغم الألم الذي سيطر على حياة مما تسمعه لكنها أخفت ذلك وهي تبتسم وترد :-
” لا بأس يا حنين .. أتفهم رغبتك جيدا لكن أرجوكِ لا تضغطي علي .. الأمر أصعب مما تظنين يا حنين .. صدقيني لو كان بيدي ..”
صمتت تبتلع غصتها داخل حلقها لتسمع حنين تسألها بحزن :-
” ألهذه الدرجة يا حياة ..؟!”
سارت حياة نحو الكنبة وجلست عليها وقالت بألم ظهر جليا في نبرتها :-
” أنتِ لا تدركين ما عايشته ولا تدركين إحساس الوجع والخذلان الذي لطالما شعرت به بسبب ما فعلته والدتك .. ”
تقدمت حنين نحوها وجلست بجانبها تخبرها بتوسل :-
” لكنها ندمت وحاولت إصلاح الوضع مرارا .. أدركت خطأها في حقك منذ أعوام ..”
قاطعها حياة بنبرة متألمة :-
” وماذا عن خطأها في حق أبي ..؟! كيف ستصلحه يا حنين ..؟! ”
حاولت حنين التبرير قائلة :-
” كانت صغيرة وغير مدركة ..”
قاطعتها حياة بقوة :-
” كانت زوجة تخلت عن زوجها بسبب فقره وطمعها .. كانت أم تخلت عن ابنتها لأجل نفسها ورغباتها … مهما حاولت التبرير لن تجدي مبررا واحدا يخفف من سوء تصرفها .. ”
أضافت وهي تبتلع شهقة مليئة بالعذاب داخل صدرها :-
” انا تعذبت كثيرا بسببها يا حنين .. تعذبت لدرجة إنني كنت أتمنى لو كانت ..”
توقفت عن الحديث ولم تستطع التفوه بالمزيد لتسمع حنين تكمل نيابة عنها :-
” لو كانت ميتة .. أليس كذلك ..؟!”
أومأت حياة برأسها وهي تكتم شهقاتها بصعوبة لكن دموعها أبت أن تصمد فهطلت على وجنتيها بغزارة ..
شاركتها حنين البكاء وهي تدرك مدى صعوبة ما عايشته أختها ومدى الألم الذي تعاني منه …
كانت المرة الأولى التي تدرك بها كم العذاب الذي مرت به وأدركت إن معها كل الحق في عدم غفرانها خطأ والدتها في حقها ..
مسحت حياة دموعها بأطراف أناملها وهمست لأختها :-
” حسنا توقفي عن البكاء .. ”
توقفت حنين عن البكاء بصعوبة ثم قالت أخيرا بصوت ضعيف :-
” ولكن أنا لا دخل لي بكل هذا .. انا أختك ولا ذنب لي بما فعلته .. ”
أضافت وهي تقبض على كف حياة :-
” أنتِ لن تنفري مني بسببها .. ”
هتفت حياة بسرعة وصدق :-
” أبدا لن أفعل ذلك .. انا احبك حقا يا حنين وأشعر بالسعادة لوجودك في حياتي ..”
ابتسمت حنين رغم ألمها لتنهض حياة من مكانها وهي تهتف بها :-
” تعالي معي هيا لنجهز الطعام لنا سويا فأنا لم أتناول فطوري بعد ..”
نهضت حنين وسارت معها وقد عادت السعادة تكسو ملامحها وبدأت تشارك حياة في إعداد طعام الفطور لكليهما ..
…………:………………………………………………..
خرج من مكتب سكرتيرته وهو يتأفف بضيق فعمار الخولي مختفي منذ أيام ولا أحد يعرف سبب إختفائه …
لولا إنه يعلم جيدا مدى جديته في عمله وسمعته التي تسبقه في مجاله لشعر إنه تورط معه لكن عمار لا يغيب هكذا فجأة إلا إذا كان هناك ما يستحق ..
وأثناء مغادرته مكتبه بنية الخروج من الشركة تذكرها فلمعت عيناه بشقاوة تناسبه وهو يتوجه نحو مكتبها الذي يعلم طريقه جيدا …
وأمام باب مكتبها ووقف للحظات قبل أن يطرق على الباب بخفة ليأتيه صوتها تسمح له بالدخول ..
فتح الباب ومد رأسه قليلا قبل أن يتجه الى الداخل متأملًا إياها وهي منكبة على مجموعة من الملفات قبل أن ترفع رأسها أخيرا ما إن بادر بالتحية ..
” أنت ..”
همست بها غالية بضيق ظهر جليا على ملامحها ليمنحها فراس إبتسامة صافية أبرزت أسنانه البيضاء المتراصة قبل أن يقول بهدوء ظاهري :-
” نعم انا .. كيف حالك يا آنسة غالية ..؟!”
بدا رسميا في حديثه على غير العادة لكنها تجاهلت سؤاله وهي تبادره بسؤال آخر :-
” ماذا تفعل هنا ..؟!”
إختفت إبتسامته فجأة وكست الجدية ملامحه وهو يقول بنفس الهدوء :-
” جئت خصيصا لرؤيتك .. كي أعتذر منك ..”
عقدت حاجبيها تسأله بقليل من الإستغراب :-
” تعتذر مني ..؟! لماذا ..؟!”
أجابها مبتسما بخفة :-
” أعتذر عن تصرفاتي معك وطريقة حديثي الغير لطيفة إطلاقا في المرتين اللتين تحدثت فيهما معك .. تصرفت بقليل من الوقاحة ..”
قاطعته بنزق :-
” بل الكثير من الوقاحة وقلة الحياء يا سيد فراس ..”
تجاهل ما قالته على مضض وهو يردف بنفس الإبتسامة :-
” وها أنا أعتذر منك يا آنسة غالية وأود أن تمنحيني فرصة لأصحح نظرتك نحوي والتي بالطبع ستكون سيئة للغاية بعد تصرفاتي تلك ..”
تأملته للحظات قبل أن ترد بإقتضاب :-
” إعتذارك مقبول سيد فراس …اما عن نظرتي نحوك فلا أظن إنها مهمة بهذا القدر كي تسعى الى تصحيحها ..”
قاطعها بلهفة ظهرت صريحة في عينيه :-
” بل أهم مما تظنين …”
صمتت ولم ترد فأكمل بجدية :-
” آنسة غالية .. هل تسمحين لي بدعوتك على الغداء ظهر اليوم ..؟! ”
فوجئت بطلبه ورغم إنزعاجها الواضح منه ومن تصرفاته السابقة إلا إن داخلها كانت هناك رغبة سخيفة بقبول طلبه وهو الذي رغم تصرفاته الوقحة عديمة الحياء احتل تفكيرها عدة مرات منذ أن إلتقت به ..
” وما سبب هذه الدعوة ..؟!”
سألته بتردد ليجيب بصدق :-
” فرصة للتعرف على بعضنا .. انا حقا معجب بك وأرغب في التعرف عليكِ ولا أظن إن هناك مشكلة اذا ما إلتقينا وتحدثنا على الغداء في أحد المطاعم .. ”
أرادت أن توافق لكنها شعرت إنها بالفعل تخون مبادئها خاصة وهو يبدو لها غير مريحا وحديثه السابق يمنحها شعورا بعدم الأمان معه فهتفت بجدية ترفض طلبه بصرامة :-
” أعتذر حقا سيد فراس لكنني لست معتادة على الخروج وتناول الطعام مع الغرباء ..”
وللغرابة وجدته يبتسم بتحفظ وهو يردد بنفس الهدوء :-
” يحق لك بالطبع .. أكرر إعتذاري عن تصرفاتي السابقة … عن إذنك .. ”
وخرج بهدوء كما جاء فشعرت بالضيق يغزوها لا إراديا وهي التي كانت تتوقع إصراره على دعوته لها لكنه فاجئها بتصرفه الغير متوقع ..
………………………………………………………..
أنهى مكالمته مع وسام وهو يغمره شعور السعادة الذي إفتقده لزمن طويل ..
كل شيء في هذه الأيام يسير لصالحه .. موافقة حياة كانت أكثر ما أسعده ومشروعه مع صديق عمره قيد التنفيذ. .. كل شيء يتقدم بشكل جيد ..
ابتسم بخفة وهو يعود برأسه قليلا الى الخلف مغمضا عينيه للحظات وشعور الراحة الذي يسكنه يروقه كثيرا ..
عاد يفتحهما مجددا وهو ما زال محتفظا بإبتسامته فحمل هاتفه يقلب به قبل أن يتوقف للحظات أمام منشور تظهر به فتاة شقراء جميلة تبتسم للكاميرا وهي تحمل باقة من الزهور البيضاء بين يديها ..
لا يعرف لماذا ذكرته تلك الفتاة بها بجمالها الناعم وإبتسامتها التي عشقها لزمن ..
غامت عيناه بالعديد من الذكريات التي جمعتهما سويا والحنين ملؤه إجبارا عنه لها ولأيامهما وعشقهما الذي لا يماثله عشق ..
مر في ذاكرته مشهدا لهما منذ أعوام عندما كانا في بداية إكتشاف مشاعرهما حيث كان هو في العشرين من عمره وهي لم تتخطى عامها السادس عشر بعد ..
حينما كان ينظر إليها وكأنها الكون بأكمله وبين يديها بدايته ونهايته ..
سألها بقلب أدرك العشق معها وبها :-
” أخبريني ماذا تريدين وسأنفذه حالا …”
منحته إبتسامة عاشقة وهي تحرك رأسها بتفكير قبل أن تجيب :-
” أريد منزلا كبيرا يطل على البحر .. حديقته واسعه تملؤها زهور التوليب المفضلة عندي …”
ابتسم وهو يهز رأسه موافقا ويتسائل مجددا :-
” أكملي ..”
توقفت للحظات تتأمل إبتسامته الشغوفة لتقول وهي تتنهد بحرارة :-
” أريدك أن تحبني للأبد وحتى ما بعده .. أريدك أن تحبني الى ما لا نهاية ..”
أحاط وجهها بكفيه يخبرها وعيناه تحاصران عينيها اللامعتين :-
” سأحبك دائما وأبدا والى ما لا نهاية ..”
كان وعدا قطعه على نفسه يوما وأوفى به لسنوات …
وعدا كلما تذكره كلما شعر بروحه تتمزق وحسرة شديدة تلازمه لخسارته عشقا كهذا ..
تنهد بنفس الحسرة التي ما زالت تسكنه محاولا إبعادها هي وذكرياتهما عن رأسه …
نهض من مكانه يحمل هاتفه معه واتجه نحو الشرفة يأخذ نفسه عدة مرات وكأنه يفضي بمكنونات قلبه الى الليل بظلامه وقمره ونجومه اللامعة ..
فتح هاتفه مقررا الإتصال بها وقد قاده قلبه وعقله إليها فهي وحدها من تستطيع إخراجه من حالته تلك وتعيد إليه توازنه وكأنها باتت مسكنا لآلامه التي لا تعد ..
سمع صوتها الرقيق يجيبه بهدوئه المحبب فأخذ نفسه مجددا وهو يخبرها :-
” اشتقت إليك ..”
يكاد يرى إبتسامتها الخجلة وهي ترد عليه بتساؤل خجول :-
” ماذا يفترض أن أقول الآن ..؟!”
ابتسم وهو يرد :-
” أخبريني كم إشتقتِ إلي .. ”
ضحكت بخفة وقالت :-
” كف عن طريقتك هذه يا نديم .. ألم أخبرك إن هذا لا يجوز الآن ..؟!”
قال بضيق :-
” وماذا أفعل يا حياة ..؟! أين الخطأ في أن أعبر لكِ عن شوقي ..؟! هل سأنتظر خطبتنا أيضا لقول هذا ..؟!”
هتفت بصوت منخفض على إستيحاء :-
” يفترض هذا .. ”
تنهد وهو يردد :-
” حسنا يا حياة .. سأنتظر حتى تمر الأيام القادمة وأخطبكِ رسميا وحينها لا شيء سيمنعني من قول بل وفعل ما أريد ..”
لم تجيه فقرر تغيير الموضوع متسائلا :-
” ماذا تفعلين ..؟!”
أجابته بجدية :-
” أشاهد التلفاز مع حنين ..”
” حنين تبيت معك الليلة ..؟!”
سألها بإهتمام لاجيبه :-
” حنين تبيت معي أغلب الليالي منذ وفاة والدي ..”
هتف بجدية :-
” أرى إنك سعيدة بوجودة معك ..”
ردت بعفوية :-
” كثيرا يا نديم .. أنا سعيدة بوجودها حقا .. لأول مرة أكون ممتنة هكذا لوجود شخص ما بحياتي ..”
هتف بضيق مصطنع :-
” ألم تكوني ممتنة لوجودي في حياتك إذا بهذا الشكل يا حياة ..؟!”
قالت ضاحكة تمازحه :-
” أنت من المفترض أن تكون ممتن لوجودي في حياتك يا بك وليس العكس ..”
رد بجدية :-
” وانا كذلك بالفعل ..”
” أنت ماذا ..؟!”
سألته بصوت متحشرج قليلا ليجيب بصدق وهدوء :-
” أنا ممتن حقا لوجودك في حياتي … أنت لا تدركين ما تمنحينه لي بوجودك يا حياة .. ”
صمت قليلا يأخذ نفسه ثم يضيف بصوت متهدج :-
” أنت أفضل شيء حدث لي منذ سنوات ..”
هتفت بصوت ضعيف متقطع :-
” نديم توقف …”
سألها بدهشة :-
” لماذا تريدين مني التوقف ..؟!”
أجابته بخفوت :-
” لإنك عندما تتحدث عني بهذه الطريقة تجعلني أشعر بأشياء كثيرة .. أشياء أخشى أن لا تستمر طويلا ….”
سألها متعجبا حديثها :-
” ماذا تعنين ..؟!”
ردت محاولة تغيير الموضوع :-
” ليس مهما .. أخبرني عن مشروعك وإلى أين وصلت به …؟!”
عاد الحماس يغزوه من جديد وهو يحدثها عن آخر تطورات مشروعه مع صديقه وما يفعلانه وهي تستمع له بنفس الحماس محاولة إزاحة أفكارها السلبية بعيدا …
………………………………………………………………..
بعد مرور عدة أيام ..
وقفت أمام المرآة تتأمل مظهرها للمرة الأخيرة قبل أن تبتسم برضا ..
حملت حقيبتها واتجهت بخطواتها الأنيقة خارج غرفتها لتمر أثناء سيرها نحو الطابق السفلي بغرفة شقيقتها ..
توقفت للحظات تطرق على باب غرفتها فيأتيها صوت مريم يسمح لها بالدخول ..
فتحت الباب ودلفت الى الداخل تبتسم بخفة قبل أن تبهت ملامحها لا إراديا وهي ترى حالة أختها بمظهرها الكئيب المتعب ..
” هل أنتِ بخير يا مريم ..؟!”
سألتها ليلى وهي تتقدم نحوها بقلق لتمنحها مريم إبتسامة ضعيفة وهي تجيب :-
” انا بخير .. لا تقلقي ..”
” كيف تكونين بخير وأنتِ بهذه الحالة ..؟!”
سألتها ليلى بعدم تصديق خاصة إنها المرة الأولى التي ترى بها مريم بهذا الوضع المزري لتجيبها مريم بصوت مرهق :-
” إنها موجة اكتئاب طبيعية لا أكثر وسأخرج منها بخير قريبا جدا ..”
عادت ليلى تسألها بتوجس :-
” ماذا يحدث معك بالضبط يا مريم ..؟! الفترة السابقة لم أكن بمزاج يسمح لي بالتواصل مع أي أحد لذا لم أنتبه لوضعك هذا ..”
ردت مريم بجدية محاولة رسم إبتسامة مصطنعة على شفتيها :-
” أخبرتك ألا تقلقي بشأني .. انا حقا بخير ..”
” هل تشاجرت مع أكرم ..؟!”
لم تدرك ليلى إن سؤالها ضاعف من ألم شقيقتها التي ردت بمرارة :-
” لقد فسخت خطبتي من أكرم يا ليلى ..”
صاحت ليلى بدهشة :-
” ماذا تقولين أنت ..؟! لماذا فعلت هذا ..؟!”
أطلقت مريم تنهيدة متعبة وهتفت برجاء :-
” اتركيني الآن من فضلك يا ليلى .. لا رغبة لي بالتحدث نهائيا .. ألم أتركك مسبقا عندما طلبتي مني ذلك ..؟! امنحيني بعض الخصوصية من فضلك وأعدك إنني سأخبرك بكل شيء فيما بعد ..”
نظرت ليلى لها بتردد لكنها لم تستطع فعل شيء سوى الموافقة فأومأت برأسها ثم قالت :-
” حسنا انا سأذهب الآن .. متى ما إحتجتني ستجدينني معك ..”
سألتها مريم بإستغراب :-
” إلى أين ستذهبين ..؟!”
أجابتها ليلى بعد تردد دام للحظات :-
” سأذهب لنديم..”
سألتها مريم مجددا بدهشة :-
” لماذا ستذهبين إليه ..؟!”
أجابتها ليلى بعدما أطلقت تنهيدة طويلة :-
” سأخبر نديم بكل شيء يا مريم .. سأخبره بالحقيقة كاملة .. ”
ثم أضافت بتصميم وعزيمة :-
” لقد آن الأوان لنتحد سويا ونقف في وجه عمار وشره اللا محدود ..”
تأملتها مريم بعدم تصديق وهمت بالتحدث لكن ليلى لم تمنحها فرصة للحديث حيث خرجت بسرعة عاقدة العزم على رؤية نديم وإخباره بكل شيء تاركة مريم تتابع آثرها وهي تفكر اذا ما كان تصرف أختها في هذا الوقت تحديدا صحيحا أم خاطئا ..
………………………………………………………………..
اندفع الى داخل مكتبه بملامح غاضبة مخيفة لينتفض عمار من مكانه متأملًا مظهره هذا بدهشة قبل أن يصيح وقد تملكه الغضب هو الآخر :-
” ماذا يحدث هنا ..؟! كيف تقتحم مكتبي بهذا الشكل ..؟!”
صاح راغب بالسكرتيرة التي تبعته محاولة إيقافه :-
” اخرجي حالا من هنا فهناك حديث مطولا يجمعني مع مديرك ..”
نظرت السكرتيرة الى عمار بقلق ليشير راغب إليه بحزم وغضب :-
” أخبرها أن تخرج حالا فهناك شيئا هاما يجب أن تعرفه ..”
أشار عمار الى السكرتيرة أن تخرج بينما تقدم راغب نحوه بملامح متحفزة قبل أن يرمي بمجموعة من الصور في وجهه ..
التقط عمار احدى الصور ليتجمد مكانه وهو يرى أخته عارية تماما في الصورة ..
رمشت عيناه للحظات غير مصدقا ما يراه قبل أن يهبط ملتقطا بقية الصور ليراها عارية بوضعيات مختلفة …
شعر براغب يقترب منه وعيناه تشتعلان بوميض حارق يهدر به :-
” هل هذه هي الأمانة التي كلفك عمي برعايتها يا بك ..؟! هل هذه أختك التي صرحت بأعلى صوتك إنك المسؤول الوحيد عنها وعن رعايتها ..؟! انظر الى صورها جيدا .. انظر الى الفضيحة التي تسببت بها أختك المصون بسببك وبسبب رعايتك المثالية لها .. ”
رفع عمار أنظاره الجامدة نحوه ليسمعه يردف بإنفعال مخيف :-
” بسببك أنت سمعة عائلتنا ستتدمر تماما .. بسببك وبسبب أختك هددني شاب حقير لا يساوي دينارا واحدا بفضيحة من العيار الثقيل عن طريق هذه الصور … ”
ألقى عمار الصور جانبا وإستند على مكتبه بأنفاس مقطوعة قبل أن يسمع راغب يقول أخيرا بصوت متسلط قوي :-
” اسمعني جيدا يا عمار .. سأقول ما عندي وأنت مجبر على تنفيذه .. لا خيار آخر أمامك .. ليس لأجلي ولأجل عائلتي فقط بل لأجل سمعة أختك المصون والتي ستنتهي تماما إذا ما إنتشرت هذه الصور ..”
نظر له عمار بصمت للحظات قبل أن يهمس متسائلا :-
” ماذا تريد ..؟! ”
أطلق راغب تنهيدة صامتة قبل أن يخبره :-
” ستنتقل وصاية جيلان إلينا .. وستنتقل هي بدورها للعيش معنا في منزل العائلة تحت رعايتي أنا شخصيا … ”
” وإذا لم أوافق ..؟!”
سأله عمار بتجهم ليرد راغب بقوة :-
” لا خيار آخر أمامك .. تلك الصور انا من سيدفع ثمنها لتختفي تماما والمقابل هو إنتقال وصاية جيلان بكل ما تملكه لي ..”
صمت عمار لوهلة يوازن الأمر داخل عقله قبل أن يهتف بعد لحظات :-
” إذا اسمعني جيدا يا راغب .. كي ننهي هذه المهزلة تماما ونحافظ على سمعة جيلان وصورة عائلتك المصون سأقدم لك عرضا ذهبيا .. عرضا يحفظ لك سمعة عائلتك من جهة ويمنحك ملكية شركة عمك التي أردتها مسبقا من جهة ..”
سأله راغب متعجبا مما يقول :-
” عرض ماذا ..؟!”
تأمله عمار للحظات قبل أن يقول بحسم :-
” تتزوج أنت أو أحد أبناء عائلتك من جيلان لمدة محددة وبشروط معينة وفي المقابل ستحصل على ملكية الشركة لك وبدون أن تدفع دينارا واحدا حتى بها ..”
الجزء الثاني
كان يجلس على احدى الطاولات ينتظر قدومها وهي التي اتصلت به مساء البارحة ترجو لقائه لسبب هام رفضت ذكره في الهاتف ..
ورغم ضيقه من هذا اللقاء الذي لم يرغب به فهو لا يريد أي تواصل معها في هذه الفترة على الأقل إلا إن نبرتها المتوسلة أجبرته على الموافقة وهاهو ينتظرها في المقهى الذي اتفقا على اللقاء به ..
دلفت ليلى الى المقهى تحرك بصرها في ارجاء المكان تبحث عنه قبل أن تجده يجلس على احدى الطاولات الموضوعة في أحد أركان المكان ..
أحاطته بنظرات مليئة بالحنين والشوق قبل أن تسيطر على مشاعرها المتدفقة نحوه وهي تسير اتجاهه بخطواتها الأنيقة …
رفع نديم عيناه نحوها عندما شعر بقدومها فتأملها لا إراديا بخصلاتها الشقراء التي تلتف حول وجهها وملامحها الذي شعر بالشوق لها رغما عنه …
فستانها الزهري الرقيق بتصميمه الأنيق المعتاد والذي يغطي جسدها النحيل بأناقة غير متكلفة …
حاول السيطرة على مشاعره التي ثارت رغما عنه وحنينه الذي سيطر عليه للحظات بينما سحبت هي كرسيا وجلست أمامه تبتسم برقتها المعهودة ..
” كيف حالك ..؟!”
سألته بنبرتها الأنثوية الرقيقة ليجيبها بصوته الجاد الثابت :-
” بخير .. وانتِ كيف حالك ..؟!”
ردت وهي تتنهد بصوت منخفض :-
” أحاول أن أكون بخير …”
صمت ولم يرد بينما شملته هي بنظراتها الناعمة قبل أن تتنهد بصوت مسموع مجددا وتشبك أناملها على الطاولة ثم تتحدث بجدية :-
” نديم انا أحتاجك .. أنت أكثر من يستطيع الوقوف بجانبي وإنقاذي من عمار …”
حدق بها مستغربا قبل أن يسأل :-
” ما به عمار ..؟! ماذا فعل مجددا ..؟!”
أجابته بملامح مضطربة :-
” لقد تراجعت عن دعوة الطلاق بسببه .. بسبب تهديداته ..”
لوى فمه يسألها ساخرا :-
” بم هددكِ مجددا ..؟!”
أجابته بضيق تتجاهل سخرياته :-
” يملك شيكات تحمل مبالغ طائلة ضد والدي ويهددني بحبسه إذا لم أتراجع عن دعوة الطلاق …”
توقفت عن حديثها لتجده صامتا فأضافت بلهجتها الناعمة الحزينة :-
” انا لم أعد أستطع التحمل يا نديم .. لا أطيق البقاء على ذمته لحظة واحدة بعد الآن .. أريد الإنفصال عنه بأي ثمن ..”
سألها أخيرا متوقفا عن صمته :-
” وماذا تريدين مني أن أفعل ..؟! كيف يمكنني مساعدتك مثلا ..؟!”
هتفت بعينين مترجتين :-
” انا بحاجتك يا نديم .. أرجوك ساعدني … كل ما حدث معنا وعانيناه بسببه .. بسبب عمار .. يجب أن نضع حدا له يا نديم .. يجب أن نتحرر من قيوده التي فرضها علينا .. نحن سويا بإمكاننا الإيقاع به .. إذا تخلصنا منه ستنتهي جميع مشاكلنا وحينها من الممكن أن نعود سويا .. سوف تساعدني يا نديم .. سوف نواجه عمار سويا .. ”
قاطعها بتمهل يخبرها بما جعلها تتجمد مكانها لفترة طويلة :-
” انا خطبت حياة يا ليلى ..”
جمودها اللحظي انتهى أخيرا فأخذت ملامح وجهها ترتجف كليا وشعرت بجفاف شديد في حلقها ..
همست ببحة تنذر ببكاء شديد :-
” نديم ..”
كان نداؤها له توسلا منها وكأنها تريده أن ينفي ما قاله .. أن ينكر ..
رؤيته لها بهذا الوضع المزري ألمه بشدة..
لم يرغب يوما أن يتسبب بألمها رغم تسببها بألمه لمرات …
لم يرغب يوما أن يراها بهذا الوضع الموجع فمها حدث تظل هي ليلى .. ليلاه …
همس بصوت متهدج يعكس مشاعره المثارة في هذه اللحظة :-
” ليلى .. انا اسف حقا ..”
لكنها بدت وكأنها لم تسمع ما قاله .. إعتذاره لم يصل الى مسامعها حتى .. بدت وكأنها في عالم ثاني ..
نهضت من مكانها تجذب حقيبتها بيدين مرتجفتين .. تسير بخطوات سريعة رغم تعثرها خارج المكان …
أراد أن ينهض من مكانه ويتبعها لكن شيئا ما منعه ..
خوفه من إنكشاف مشاعره نحوها مجددا يخيفه ..
ليس بعدما جاهد كي يخفي مشاعره تلك داخل قلبه بعيدا عن مرأى الجميع ..
ليس بعدما استطاع تجاهل ما يحمله نحوها ..
ضغط على أعصابه المتعبة وبقي مكانه يطالع خروجها من المقهى منهارة بثبات ظاهري بينما قلبه يخفق بعنف مؤلم ..
اما هي فلا تعرف كيف ركبت سيارتها وكيف قادتها رغم إنهيارها المفزع ..
لا تعرف كيف وصلت الى منزلها وركضت الى غرفتها منهارة قبل أن تسقط بين ذراعي والدتها التي لحقتها بفزع تشكو لها ألامها ومدى خذلانها ممن ضحت بكل شيء لأجله ..
……………………………………………………………….
دلف الى قصر عائلته بملامحه الجامدة كالعادة ..
صعد درجات السلم متجها الى جناحه ليجد زوجته هناك تلعب مع طفليها على أرضية المكان وقد بدت له كطفلة صغيرة تشاركهما اللعب بملامح طغت عليها الطفولية البحتة …
ألقى التحية ببروده المعتادة لتنهض هي من مكانها ترمقه بنظراتها الفارغة المعتادة بينما يركض طفليه نحوه بفرحة لقدوم والدهما …
انحنى نحويهما يقبلهما بالتساوي قبل أن يرى زوجته وهي تتقدم نحويهما وتطلب منهما الخروج وترك المجال لوالدهما كي يغير ملابسه ويستريح قليلا …
خرج الثلاثة من الجناح ليتابع آثرها بملامح ساخرة مفكرا إنها لا تتعب نفسها وتبقى معه للحظات حتى تساعده في تجهيز حمامه او تحضر له ملابسه كما يفترض أن تفعل أي زوجة مكانها ..
تجاهل أفكاره تلك وقد إعتاد على جفائها معه ..
سحب له ملابسا أخرى مريحة واتجه نحو الحمام الملحق بجناحه ..
خرج بعد مدة وهو يجفف شعره بالمنشفة ثم أخذ ينهدم ملابسه ويسرح شعره قبل أن يضع عطره رجولي المفضل ..
حمل هاتفه وأجرى إتصال بأحدهم بشأن العمل ثم هبط الى الأسفل متجها الى مكتبه وأثناء مروره الى هناك طلب من احدى الخادمات أن تطلب من والده أن يأتيه الى مكتبه ليتحدث معه …
دلف الى مكتبه وجلس على الكرسي الرئيسي عائدا بظهره الى الخلف مفكرا مجددا بحديث عمار معه وما توصل إليه بعد حديثه …
لقد فكر كثيرا في عرضه ولم يجد أمامه حلا أفضل من القبول …
وبعد أن قرر قبول عرضه كان عليه أن يفكر بمن يتزوج ابنة عمه ..
وبعد تفكير طويل لم يجد أمامه سوى واحدا فقط يصلح لهذه الزيجة …
بل ليكن صريحا فالزيجة نفسها هي من تصلح له ..
دلف والده إلى المكتب لينهض بسرعة من مكانه مستقبلا إياه مرحبا به بحرارة قبل أن يطلب منه الجلوس مكانه على رأس المكتب لكنه رفض وجلس على الكرسي الجانبي ليأخذ راغب مكانه على الكرسي المقابل له ..
” ماذا هناك يا راغب ..؟! أنت لا تطلبني هنا في المكتب إلا إذا كان هناك شيئا مهما …”
سأله والده بإهتمام لمعرفة ما يريده منه ولده الأكبر وكبير العائلة من بعده ..
ابتسم راغب وقال بصوته الجاد الصلب:-
” هناك أمر هام يجب أن تعرفه .. هو بالأحرى قرار إتخذته .. قرار سيكون لصالحنا جميعا …”
سأله والده بدهشة :-
” أي قرار يا راغب ..؟!”
صمت راغب قليلا ثم هتف مجيبا :-
” كنت عند عمار الخولي منذ يومين .. تحدثت بشأن وضع جيلان .. هناك العديد من الأمور التي تجددت بيننا .. ”
ظهر الإهتمام بوضوح على ملامح أبيه الذي عاد يسأله بتحفز :-
” وماهي هذه الأمور ..؟! ”
رد راغب بتمهل :-
” لقد وافق عمار الخولي على بيع شركة عمي لي لكن بمقابل .. يعني هناك إتفاق حدث بيننا يناسبنا نحن الإثنان ..؟!”
سأله الأب بنفاذ صبر من إسلوب ابنه المراوغ :-
” علام إتفقتما يا راغب ..؟!”
أجابه راغب بهدوء وتروي :-
” يجب أن يتزوج أحدٌ منا من جيلان مقابل الحصول على الشركة .. ”
بهتت ملامح الأب غير مستوعبا ما يتفوه به ابنه قبل أن يسأل بتوجس :-
” عمار عرض عليك هذا يا راغب …؟!”
زفر راغب نفسه ثم قال :-
” نعم يا ابي والمقابل حصولنا على ادارة الشركة .. وانا وجدت عرضه مناسبا لنا من جميع النواحي .. من جهة تعود الشركة لنا ومن جهة تصبح جيلان مسؤولة منا وتبقى أمام أنظارنا حتى تكبر وتستطيع حماية نفسها والحفاظ عليها ..”
نظر إليه والده بعدم إقتناع قبل أن يهتف بترقب :-
” هناك شيء خاطئ في هذا الأمر .. مالذي يجعل عمار الخولي يطلب شيئا كهذا بعدما أصر على تولي مسؤولية أخته كاملة بل رفض أن يتواصل أيا منا معها ..؟! ماذا يحدث يا راغب وأنا لا أعلمه ..؟! أخبرني يا بني ..”
” ألا تثق بي يا أبي ..؟! ألا تثق بأي تصرف يصدر مني ..؟!”
صمت الأب ولم يجب بينما تنهد راغب بقوة وقال مصرا على سؤاله :-
” أخبرني يا أبي .. هل تشك بأن أتصرف بشكل خاطئ أو يسيء لأي منا …؟!”
هز والده رأسه نفيا ورد بصدق :-
” ابدا لا شك لدي بهذا …”
” اذا ثق بي يا أبي وامنحني موافقتك على قراري فأنا لن أتخذ أي خطوة دون موافقتك …”
تأمله والده قبل أن يهتف بنبرة ذات مغزى :-
” أدرك جيدا إن هناك شيء ما يحدث في الخفاء وأتمنى ألا يكون نفس الشيء الذي أفكر به ولكنني سأمنحك موافقتي يا راغب لإنني أثق إنك ستفعل ما هو لصالح الجميع وأولهم ابنة عمك اليتيمة …”
ابتسم راغب براحة بينما عاد يسأله والده بفضول :-
” ولمن ستزوجها يا راغب ..؟!”
أجابه راغب بجدية :-
” لقد إخترت مهند يا أبي .. مهند أخي هو من سيتزوجها …”
جحظت عينا الأب وهو يردد تصديق :-
” مهند يا راغب .. ألم تجد سواه ..؟! مهند لا يصلح لها يا راغب … ”
” على العكس يا أبي هو أكثر من يصلح لهذه الزيجة ..”
قالها راغب بثقة ليهتف الأب بجدية :-
” مهند بكل جموحه وتمرده لا يصلح لها يا بني .. الفتاة صغيرة جدا وبريئة ولن تستطيع تحمل أخيك بكل تصرفاته وأنانيته المفرطة .. وماذا عن تلك الفتاة التي يحبها ..؟! هل نسيتها ..؟! كيف سيتزوج من جيلان وهو مغرم حد الجنون بها ..؟!”
ابتسم راغب بخبث وقال :-
” أساسا تلك الفتاة هي أحد الأسباب التي جعلتني أختار مهند لهذه الزيجة .. صدقني يا أبي كل ما أفعله هو لصالح الجميع وتلك الفتاة سأعرف جيدا كيف أتخلص منها تماما لكن بعدما يتزوج مهند من جيلان .. ”
” وكيف ستقنعه بقبول هذه الزيجة ..؟! أخوك لن يوافق يا راغب .. ”
ابتسم راغب بنفس الثقة وقال وهو يتراجع الى الخلف بإسترخاء :-
” دع هذا الأمر لي .. انا أعرف جيدا كي أجعله يوافق على هذه الزيجة .. اطمئن انت ..”
” ما يهمني هو ابنة عمك يا راغب .. الفتاة أصغر من أن تتحمل جنون أخيك وتطرفه … ليتك إخترت أحدا غيره …”
صمت راغب ولم يرد مفكرا في مهند والذي سيحتاج الى اقناعه بهذه الزيجة إضافة الى معرفة شروط عمار التي ينوي عليها قبل الزيجة …
عاد يتحدث مع والده مجددا محاولا طمأنته بشأن هذه الزيجة مقنعا إياه إنها ستكون الأفضل للجميع ..
…………………………………………………………….
خرجت من منزلها أخيرا بعد إنعزال تام دام لأيام …
لقد إعتزلت الجميع محاولة التركيز مع نفسها ومراجعة أفكارها جيدا قبل أن تجد حلا لكل تلك الفوضى المحيطة بها ..
يكفي إنها فسخت خطبتها من أكرم خوفا من ذلك المجنون وتصرفاته المتطرفة ..
فضلت أن تحافظ على حياة أكرم حتى تجد حلا للآخر الذي تستغرب صمته الفترة السابقة ..
كل شيء يحيط بها يبدو فوضويا وحالة أفراد عائلتها تثير قلقها رغم إنها من اختارت الإنعزال عنهم ..
ليلى معتكفة داخل غرفتها كالعادة ووالدها مسافرا كما أخبرتها والدتها التي تبدو في مزاج متعكر بشكل دائم …
ركبت سيارتها واتجهت نحو المطعم الذي قررت لقاء صديقتها به ..
اختارت أن تقابل صديقتها المقربة كمحاولة منها لتبديل مزاجها السيء قليلا ..
أوقفت سيارتها بجانب المطعم وهمت بالنزول عندما توقفت وهي تراه يخرج من المطعم مع تلك الفاتنة يبدوان كزوجين حميميين ..
تابعتهما بعينيها وهما يركبان سيارته ذات الطراز الحديث لتحسم أمرها وتقرر اللحاق بهما …
تبعتهما حتى توقفت السيارة أمام إحدى العمارات الفخمة الموجوده في أرقى أحياء البلاد ليهبط الإثنان منها ويدلفان الى داخل العمارة ..
ركنت سيارتها جانبا وسارعت تدخل العمارة لتتوقف للحظات تسأل بواب العمارة عن رقم شقته فيخبرها عنه …
اتجهت الى هناك وبعد مدة كانت تقف أمام باب الشقة تتنازع أفكارها بين الضغط على جرس الباب والهروب من هنا حالا ..
حسمت أمرها بعد لحظات طالت قليلا لتضغط على جرس الباب …
عندما لم يفتح احد الباب لها عادت تضغط على الجرس مجددا بإصرار اكبر ..
ظلت ترن جرس الباب حتى فتحت الباب فجأة لتشهق بفزع وهي تتراجع الى الخلف قبل أن تتطلع إليه وهو أمامها بوجه متجهم وقميصه مفتوح الأزرار بالكامل يثبت ما كان يفعله في الداخل وقطعته هي بمجيئها ..
تلاقت النظرات …
عيناها الزرقاوان بدتا مليئتين بالكره والنفور … أما عيناه فكانتا جامدتين كعادتهما لا توحيان بأي شيء مما يدور داخله …
تحدث أخيرا بصوت هادئ بطيء قليلا :-
” ماذا تفعلين هنا وفي هذا الوقت يا مريم ..؟!”
أردف متسائلا بنظرات غامضة ونبرة جامدة :-
” هل تراقبينني يا مريم …؟!”
نقلت نظرها بينه وبين بوسي التي أتت خلفه بملامح تسيطر عليها الدهشة وقليل من الفزع ثم عادت تحاوطه بنظراتها المحتدة تهتف بصوت هازئ وإبتسامة متهكمة تعلو ثغرها :-
“أبدا .. لست مهما بالنسبة لي كي أفعل شيئا كهذا بالطبع لكن حظك العاثر أوقعك معي وجعلني أراك بالصدفة البحتة معها وأنتما تخرجان من ذلك المطعم …”
لم يرف له جفن وهو يتسائل من جديد :-
” وما المطلوب الآن …؟! ”
تقدمت الى الداخل تمنح بوسي نظرات مترفعة حيث وقفت بينها وبين عمار الذي يشملها بنظراته المستفزة ..
عادت تنظر إليه فزاد غيظها منه ومن إستفزازه ولا مبالاته …
” أنت تخون ليلى يا هذا وتسألينني عن المطلوب ..؟!”
صاحت به بعدم تصديق لتسمعه يستفهم ببرود :-
” وما علاقتكِ أنتِ بالأمر ..؟! لماذا تتدخلين فيما لا يعنيكِ لا أفهم …؟!”
” إنها أختي يا هذا ..وأنت للأسف الشديد زوج أختي ..”
خرجت منها منفعلة لتجده يردد بنفس البرود مصححا بسخرية صريحة :-
” زوج أختكِ ولستُ زوجك يا مريم … ”
سألته بغضب مكتوم :-
” المعنى ..؟!”
” إخرجي حالا من شقتي يا مريم ومرة أخرى لا تحشري أنفك فيما لا يعنيكِ …”
رفعت حاجبها تردد بإستخفاف :-
” يبدو إنك لم تستوعب بعد ما يحدث … أنا كشفت خيانتك لأختي يا عمار …”
” جيد … هل نمنحك جاهزة ذهبية لإكتشافك أمرًا مهما كهذا عزيزتي مريم …؟!”
إشتعلت نظراتها بشدة بينما تشكلت إبتسامة متسلية على شفتيه وهو يميل نحوها هامسا لها :-
” غريب … رغم إنني أعرفك منذ سنوات إلا إنها المرة الأولى التي ألاحظ فيها مدى جمال عينيكِ وخاصة حينما تغضبين ..!!”
همت بضربه على وجهه لكنه كان أسرع منها وهو يقبض على كفه ويسحبها خلفه خارج الشقة ..
دفعها قليلا ثم مال نحوها يخبرها بملامح متحفزة راغبة :-
” انا لم ألمس إمرأة منذ عدة أيام وهذا أمر جديد علي تماما .. رغبتي كانت في أوج لحظاتها إثارة عندما أتيت أنتِ وقاطعتني .. إذا لم تذهبي من هنا حالا فسأفرغ كل رغبتي بكِ بدلا من تلك التي تنتظرني في الداخل وسأكون أكثر من سعيدا بهذا … ”
ارتجفت ملامحها من مجرد التخيل فسارعت تبتعد عنه وهي تزمجر برفض فيصرخ بها بقوة جعلتها تقفز بمسافة كافية بعيدا عنه :-
” اذهبي من هنا حالا ..”
منحته نظرة حادة متوعدة أخيرا وهي تهتف داخلها بنفس التوعد :-
” نهايتك ستكون على يدي يا عمار .. أعدك بهذا ..”
ثم سارعت تهبط درجات السلم تاركة إياه يتابعها بملامح متهكمة ورغبة شديدة بالضحك تسيطر عليه بسبب منظرها وهي تبتعد عنه كفأر مذعور منذ لحظات ..
…………………………………………………….
دلف الى الصيدلية ليجدها تعمل كالعادة عندما رفعت وجهها لتتفاجئ به أمامها ..
أضائت الإبتسامة وجهها الجميل وهي تسأله بفرحة :-
” ماذا تفعل هنا ..؟!”
تقدم نحوها يبادلها إبتسامتها وهو يقول :-
” جئت لشراء دواء للصداع من هنا .. ”
سألته بقلق ظهر بوضوح على محياها :-
” هل انت مريض ..؟!”
رد بسرعة :-
” كلا لست مريض .. في الحقيقة جئت لرؤيتك وإخبارك إنني سأنتظرك في نفس المطعم القريب من هنا كي نتناول الطعام سويا بعد انتهائك من عملك وفي نفس الوقت وجدتها فرصه لشراء دواء الصداع الذي أحتاجه بعض الأحيان ونفذ من عندي ..”
سارعت تجلب الدواء له حيث وضعته أمامه وقالت :-
” لا تستعمل الدواء بإستمرار فهذا يضرك ..”
ابتسم وهو يأخذ الدواء منها ويدفع ثمنه قائلا :-
” أعلم ذلك ولكن أحيانا يكون الصداع شديد فلا أطيق تحمله ..”
سألته بقلق عاد يكسو ملامحها مجددا :-
” هل يتكرر دائما ..؟!”
ابتسم مرددا بخفة :-
” لا تقلقي يا حياة .. إنه أمر طبيعي ويحدث كثيرا ..”
أضاف وهو يحمل كيس الدواء :-
” سأنتظرك في المطعم ..”
أومأت برأسها وعادت تبتسم له ليودعها ويخرج من المكان ..
انتهت من عملها وخرجت من المكان تتجه الى المطعم حيث ينتظرها هو …
دلفت الى هناك واتجهت الى نفس الطاولة التي جلسا عليها المرة السابقة ..
جلست أمامه و تحدثا قليلا قبل أن يأتي النادل ويأخذ طلباتهما ..
أخبرها بعدما ابتعد النادل عنهما :-
” عيدميلاد غالية الأسبوع القادم .. سيكون يوم الثلاثاء .. هي ستتصل بك بالطبع وتدعوكِ بنفسها … ”
” كل عام وهي بخير لكنني لن أستطيع المجيء ..”
قاطعها بجدية :-
” بل ستأتين يا حياة .. هذه فرصة لكي تتعرفي على والدتي عن قرب .. أساسا الحفلة صغيرة والضيوف محدودين .. ”
توترت ملامحها وهي تهتف :-
” ألا ترى إنك تستعجل قليلا ..؟!”
تجاهل توترها وهو يقول بجدية :-
” على العكس تماما… انا أساسا فكرت في أن نعلن خطبتنا في نفس اليوم ..”
هتفت بدهشة :-
” بهذه السرعة ..؟! ”
أضافت تسأله بقلق :-
” ووالدتك ..؟! ماذا عنها ..؟!”
أجابها بجدية محاولا إزاحة قلقها جانبا :-
” والدتي لديها علم مسبقا بما يجمعنا وهي لم تمانع إطلاقا .. ”
صمتت ولم تعرف ماذا تقول فوجدته يكمل بجدية :-
” في حفلة العيدميلاد ستجدين الفرصة للتعرف على أقاربنا .. انا واثق من كونهم سيحبونك وأنتِ الأخرى ستفعلين .. ”
ابتسمت بإرتباك دون رد لتسمعه يسألها بإصرار :-
” ستأتين ، أليس كذلك ..؟!”
أومأت برأسها ثم أجابت بعدما تنهدت بصمت :-
” سآتي يا نديم ..”
ابتسم براحة بينما فكرت هي لا إراديا إذا ما كانت ليلى ستكون من ضمن الضيوف أم لا ..
حاولت أن تبعد أفكارها هذه جانبا وتتجاهل أمر الحفلة حتى يحين وقتها ..
هم نديم بالحديث عندما رن هاتفها فحملته لتجدها حنين من تتصل بها ..
أجابتها حياة وهي تبتسم لا إراديا ما إن رأت إسمها لتختفي إبتسامتها وهي تسمع حنين تنتحب على الهاتف مرددة إسم والدتها من بين بكائها فتتجمد الحروف على شفتيها بعدم إستيعاب لما يحدث ..
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية حبيسة قلبه المظلم ) اسم الرواية