رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل الثامن عشر 18
“شـعرة، قسمت ظهر البعير.”
____________________________________
في بادئ الأمر فاجئها تواجدهِ هُنا، وليس علمهِ بشأن خطّ سيرها اليوم. استغرق الأمر منها ثوانٍ معدودة، حتى تأهبت لتلك المواجهة مستجمعة رباطة جأشها. تثنت في مشيتها حتى بلغت الطاولة المقابلة للأريكة، وضعت عليها كأس مشروبها وثغرها مُزينًا ببسمةٍ عابثة، وأجابت دون تفسير واضح :
– شـعري.
برزت ثنايا جبهتهِ وتعابيره الحانقة، وهو يردف مستهجنًا :
– نـعم ؟!.
داعبت “سُلاف” خُصلاتها، وهي تُشير بصورة غير مباشرة :
– كنت بعمل شعري، إيه رأيك؟!.
حنى بصره عنها هنيهه، وقد تعلق بصرهِ بذلك الكأس – الغريب -، لكنه لم ينتبه له كثيرًا وكأنه ينظر للفراغ ، ثم أردف بغير اقتناع :
– المفروض إني ساذج وهصدق الكلام ده!.. من بين كل البيوتي سنتر اللي في مصر هو ده اللي روحتيه رغم إنه بعيد جدًا عن هنا!. وكمان تختاري الفرع ده مخصوص!.. كلها صُدف مش كده؟.
قطبت جبينها وقد شكلت على ملامحها تعابير الإستنكار من حديثهِ، وكأنها شخص برئ يتعرض للظلم وسوء الظن منه :
– مش فاهمه تقصد إيه بالظبط، بس تقريبًا في حاجه قلقتك.
تبسمت بفتورٍ وتابعت :
– وإلا مكنتش ربطت الأحداث دي كلها واستنتجت منها إني بعمل حاجه!.
مال “حمزة” بجسدهِ للأمام، واستند برسغيهِ على ركبتيهِ وهو يحدق بعيناه فيها، نظرةٍ أشعرتها بالقشعريرة من فرط عُمقها ومعناها المرعب، كأنه يتوعدها وعيد حقّ :
– أنا مش من مبادئي الفرصة التانية، لكن هعمل ليكي إستثناء.. ولأول مرة في حياتي هسأل السؤال للمرة التانية.. عايزة إيه مني ومين اللي وراكي؟.
لم يرجف لها جفن، لم ترمش أو تُبدي اهتزازه واحدة، وهي تُجيب بنفس الفتور المتعمد :
– مش عايزة منك حاجه يابيبي، اللي عايزاه إنت عملته خلاص، ودلوقتي هنعيش مع بعض في سلام.
نهض عن جلستهِ، يكافح بأضنى جهدهِ لئلا تنجح هي في استثارة أعصابهِ :
– أنتي كذابة، واستنفذتي فرصك كلها بكل غباء، أوعي تفتكريني عبيط ولا باخد على قفايا ومش شايف اللي حواليكي.
حنى ظهرهِ حتى اقترب وجهه من وجهها، وتبادلت النظرات بعضها لبعض وهو يتابع :
– أنتي مش صُدفة، أنتي كنتي خطة قوية أوي واترسمت عليا صح، مش معنى كده إنك هتفضلي تكسبي على طول!.. الرجالة اللي حطاهم حواليكي ، الفلوس اللي بتصرفيها على الرشاوي اللي بتخلص أمورك!.. كل ده مش هيعدي من دماغي، ده أنا حـمزة.
وانتصب واقفًا وهو يبتسم هازئًا ليقول :
– البت اللي سربتلك تحليل الأبوة من المعمل عرفت أجيبها، قطعت عيشها وخربت بيتها كمان، وأي حد هيساعدك ويقف معاكي كأنه وقف في وشي أنا.. وأنا مش هتهاون أبدًا.
مشى بإتجاه الباب منصرفًا عنها، فـ استوقفهُ صوتها وهي تسأله :
– مش عايز تسأل عن حاجه تانية؟.
لم ينظر حتى تجاهها، فقط وقف بمحلّه منتظرًا أن تلقي بما في بواطنها، حتى هتفت بـ :
– إبنـك، مش عايز تسأل عنه؟.
– مش عايز، كفاية عليه انتي.
وعبر الباب دون أن يجتاحهُ ذرة من الحنين، كمن تُغطي عيناه الغشاوة، تركت “سُلاف” ابتسامة تلوح على ثغرها، وهي تستذكر في ذهنها مشهد الصباح، حينما علمت – مُسبقًا – إنها مُحاطة بمُراقبة حريصة…
(عودة بالوقت للسابق)
فتح “عِبيد” باب السيارة لها كي تستقر بالخلف، ثم جلس هو بالأمام وهو ينظر للمرآة الجانبية، ثم أردف بـ :
– خلي بالك إحنا متراقبين.
نزعت “سُلاف” نظراتها الشمسية ذات اللون الفاتح، ثم ضحكت وهي تقول :
– حمزة بدأ يتحرك يعني!.
فعرض عليها “عِبيد” التخلص من ذلك الحصار فورًا إن شائت :
– لو عايزانا نعديهم هيحصل.
تعالت ضحكتها، وأردفت بـ :
– ضحكتني ياعِبيد بجد.. سيبهم، خلي حمزة يفتكر نفسه جامد أوي وعرف يراقبني.
(عودة للوقت الحالي)
دخل “عِبيد” عليها بعدما سمحت له بالدخول حاملًا عربة “زين” في يده، أخرجهُ منها وناولها إياه، ثم أغلق العربة ووضعها جانبًا وهو يسألها :
– تؤمري بحاجه؟.
نهضت “سُلاف” وهي تضم “زين” لأحضانها، وهتفت بـ :
– متنساش بكرة هنروح نجيب أم علي من المستشفى.
– أوامر، أقفلي الباب ورايا.
غادر وأغلق الباب من خلفهِ، فـ أغلقتهُ “سُلاف” بالمزلاج وتوجهت نحو الفراش، وضعت صغيرها النائم بعمقٍ أعلاه، وجلست بجوارهِ تمسح بلين عطوف على بشرتهِ، ثم تحدثت إليه بخفوت كأنه يفهمها ويشعر بها :
– بابي لسه في صدمته، انشغاله بيا خلاه مش شايفك.. لحد دلوقتي مبصش في وشك مرة واحدة ولا عرف ملامحك.. بس معلش، هو عنده حق، أنا كفاية عليك.
انحنت عليه تُقبّل جبينه، ثم تابعت بـ :
– أنا هكونلك الأم والأب والعيلة، عمرك ما هتحس إنك اتولدت من غير أب يازين، اللي أنا حسيته عمري ما هخليك تحسه أبدًا، هعوضك عن كل حاجه أول ما نخلص من المكان ده.. صدقني.
وضعت سبابتها بين أصابعهِ، فـ أطبق عليها بيدهِ الصغيرة في عفوية شديدة منه، أفتر محياها بإبتسامةٍ لم تكن ترغبها، وأطبقت جفنيها المرهقين وهي تسحب لصدرها شهيقًا مُعبأ برائحتهِ الناعمة.
**************************************
– هو ده بالظبط اللي كنا عايزينه.
قالها “مصطفى” بصوتٍ منتصر گالذي حِيزت لهُ الدنيا في لحظة واحدة، تجلّت معالم السعادة على وجهه المُشرق، كأنه لا يُصدق أن إبنة أخيهِ قد فعلتها حقًا :
– سُلاف عملت خطوة كانت هتاخد مننا مجهود طويل أوي، عملتها في يوم واحد.
لم يكن “نضال” راضيًا عما يحدث، خاصة مع عملهِ بما حلّ عليها من تلك الخبيثة “أسما”، وأن “سُلاف” مُحاطة بسياجٍ سامة حتمًا ستؤذيها :
– أنت عرفت أسما عملت إيه معاها؟؟.
تغيرت تعابير “مصطفى” لأخرى حانقة، وأجاب ممتعضًا :
– عرفت، وعرفت كمان إن سُلاف قدرت ترد عليها الرد المناسب.
هزّ “نضال” رأسهِ بالسلب، رافضًا الإقتناع بتلك الحجة الواهيه :
– كان ممكن متلحقش ترد من أصله ياعم مصطفى، من الأول وأنا بقولك نخرج سُلاف من اللعبة دي.
– مكنش ينفع، سُلاف أحق واحدة بالحق ده.. هي وإبنها اللي هيورثوا صلاح وإبنه.
اتسعت عينا “نضال” مدهوشًا من تلك الخطة التي لم يسمع عنها من قبل، واختنق صوته بصدرهِ وهو يهتف بـ :
– تـورث!!.. لكن أنت أقسمت إننا مش هنلوث إيدنا بدمهم.
حزمّ “مصطفى” صوتهِ لإنهاء عن تلك المسألة :
– وأنا لسه عند قسمي، أنا مش هلمس حد فيهم.. هما اللي هيموتوا نفسهم بنفسهم.. وسُلاف الوحيدة اللي هتورث.
تلوت شفتي “نضال” بإستهجان، وهو يُذكّره بأمرٍ قد نساه :
– أنت نسيت إن في وريثة تانية! يُـسـرا القُرشي !.
*************************************
مصمص ذلك الغريب شفتيهِ وهو يتمعن بأنظارهِ فيها، ثم هزّ رأسه بالسلب وهو يردف بـ :
– ولا عمري شوفت الوش ده قبل كده!
كان “حمزة ” جالسًا على رأس مكتبهِ، يرمقهُ بترقبٍ وهو يدقق فيها بذاكرتهِ قبل عيناه، حتى اعترف إنه لم يراها من قبل، فـ اعتدل “حمزة” في جلستهِ وهو يردف بـ :
– أمممم، أنا عايز أصل وفصل البت دي، تعرف ياحسنين؟.
فأجاب “حسنين” بثقة بالغة :
– طبعًا ياباشا، أبعتلي الصورة دي بس وأسمها كامل، وأنا هقلب عليها السجل المدني كله.
فرك “حمزة” ذقنهِ، فأحس بطول خصلاتها بعدما تركها لمدة طويلة دون اهتمام وتهذيب؛ لكنه أصرف عقلهِ مؤقتًا عن التفكير بذلك وهتف بـ :
– كويس أوي.. مش محتاج أفكرك إن الموضوع سري جدًا ومش عايز حد يعرف عنه حاجه.
فضرب “حسنين” على رقبته وهو يعدهُ بذلك :
– عيب ياباشا الكلام ده، ده انت جمايلك مغرقاني أنت والحج صلاح.
—على جانب آخر—
دلفت لساحة الإستقبال بخطى مغترّة، واثقة، شامخة. نظارتها الشمسية تحجب نصف وجهها تقريبًا، حقيبتها ذات (الماركة المشهورة) على ذراعها. التقطتها عيني موظفة الإستقبال، تشبهت عليها كأنها رأتها مُسبقًا، نهضت عن مكانها ووقفت تستقبلها :
– أهلًا يافندم، أساعدك إزاي ؟.
نزعت “سُلاف” نظارتها وتحدثت إليها بشئ من الغرور :
– عايزة أدخل لحمزة، مكتبه فين؟.
– في معاد سابق؟.
أحادت “سُلاف” بنظراتها عنها وهي تتطلع للمكتب الراقي وتفاصيله كلها، وهتفت بغير إهتمام :
– قوليله مراتك هنا وعايزه تشوفك.
توترت الموظفة وقد فطنت لهويتها، فـ الأخبار منتشرة بكل مكان، وأصبح التعرف على “سُلاف” من خلال رؤيتها أمر مفروغ منه، فـ حمحمت وهي تردف بـ :
– آ… ممكن ترتاحي وأنا هبلغه؟.
فـ نظرت “سُلاف” لساعة يدها وهي تردف بـ :
– بسرعة.
حضرت “رضوى” أثر صوتهم، وما أن رأتها حتى تعرفت عليها ورحبت بها بشكلٍ متودد غير متوقع :
– أهلًا أهلًا يامدام، أتفضلي.
وأشارت للموظفة قائلة :
– أنا هبلغ الأستاذ بنفسي وهاخد المدام مكتبي لحد ما يخلص مقابلته.
أومأت الموظفة رأسها بتفهم، وكأنها ارتاحت من مُهمة كانت صعبة عليها، في حين أخفت “سُلاف” ذهولها من استقبال “رضوى” الحافل لها وكأنها تعرفت عليها مسبقًا وبينهم علاقة وطيدة أو ما شابه، بينما – المفترض – “رضوى” تراها للمرة الأولى. سارت معها حيثُ مكتبها، وأجلستها وهي تردف بـ :
– مستر حمزة معاه حد جوا، بس أنا هبلغه حالًا إنك هنا.
رفعت “رضوى” سماعة الهاتف وطلبت الرقم السريع، لكنه كان مشغولًا، فـ قوست شفتيها وهي تقول :
– رفع سماعة التليفون عشان محدش يزعجه، گالعادة.
ثم ضحكت وهي تتابع :
– أنا هدخله بنفسي، ثانية واحدة.
والتفتت لتنصرف، كل ذلك و “سُلاف” مازالت متعجبة من تملقها الغريب، بدت لها على سجيتها بشكلٍ مفرط، ليست مُتصنعة أو ما شابه. خرجت “رضوى” فـ سمحت لـ “سُلاف” بإلقاء نظرة سريعة على الملفات الموجودة على المكتب، نهضت وفتشت بالملفات بعجالة، كان من بينهم ذلك الملف الذي كُتب عليه باللون الأحمر (مرفوض). تلألأت عينا “سُلاف”، وبدون حتى أن تنظر لمضمون القضية وتفاصيلها كانت تحتفظ بصورة على هاتفها من أوراق القضية حتى تتسنى لها الفرصة بأن تتطلع عليها بالتفصيل في وقت آخر. عادت تجلس بمقعدها كأن شيئًا لم يكن، وتنفست بأريحية كي تستعيد هدوئها وثباتها.
-جانب آخر –
تأفف “حمزة” منزعجًا بعد دخول “رضوى” إليه، وأردف بسخطٍ :
– مش قولت مش عايز حد يدخل عليا!.
تحرجت “رضوى” وهي تبرر دخولها :
– آسفة يامستر حمزة، بس المدام هنا وحبيت أبلغك إنها عايزة تدخلك.
ارتفع حاجبيه وهو يسألها – كأنه يرفض تصديق ما جال بخاطرهِ – :
– مدام مين؟؟؟.
– مدام سُلاف!. مرات حضرتك.
هبّ “حمزة” واقفًا و :
– ودي بتعمل إيه هنا؟.
وبرح مكتبه وهو يأمرها بـ :
– خليها عندك أنا جاي.
أومأت “رضوى” رأسها بتفهم :
– حاضر.
أشار “حمزة” لـ “حسنين” كي ينهض و :
– قوم أخرج من الباب ده ياحسنين.
نهض “حسنين” وانتقل نحو الباب الآخر :
– ماشي ياباشا، هكلمك لو جدّ جديد.
أخرجهُ “حمزة” وأوفض بخطاه للخارج، تلقائيًا كان يسير بإتجاه مكتب “رضوى” كأنه حدسهِ أخبره إنها هناك، فـ تفاجأ بها تتحادث مع “رضوى” گالتي تعرفها منذ زمن، فـ ظل واقفًا يستمع لحديثهن، وصدرهِ يغلي گعادتهِ كلما يراها. ضغط على فكيهِ ليكتم مشاعر الغضب التي يعتريه كلما سمع صوتها المثير لأعصابه، وقبل أن يهمّ للدخول كان يسمع “رضوى” تهتف بـ :
– بس أنا متأكدة إني شوفتك قبل كده!.
فلم تدخر “سُلاف” وسعها لنقل خبر گهذا، خاصة إنها كانت تعلم بتواجدهِ أمام الباب، مما عزز رغبتها في إضرام نيران جديدة، تحرقهُ هو أولًا :
– إحنا تقريبًا اتقابلنا قبل كده، في محكمة النقض.
جمد “حمزة” مع سماع ذلك، وتشجّع أكثر لأن يسمع البقية، بينما شُدهت “رضوى” وقد تذكرتها بالفعل :
– آآآه، صـح!.. بس انتي كنتي هناك مع آ…..
تبسمت “سُلاف” بملء شدقيها، وهي تعترف بإعتزازٍ :
– مع عناني الحكيم.. أنا سُلاف السُني المحامية، وبشتغل في فريق المحامي عناني الحكيم…
لو كانت قُنبلة وانفجرت في وجهه، لـ كان وقعها أسهل وأهون من سماعهِ خبر گهذا، خبر سيقلب كل المـوازين، خبر بمثابة الشعرة التي قسمت ظهر البعير…
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية