رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل الثاني 2
“وكُل ذي حقٍ سـ يؤتى حقهِ.. ولو بعد حين”
____________________________________
ظل صوت صنبور المياة مستمرًا لفترة من الزمن، حتى استيقظت على صوتهِ المزعج، فـ تأففت وهي ترفع رأسها من أسفل الغطاء، ونظرت نحو دورة المياة بنظراتٍ محتقنة لتهمس بـ :
– إيه كل ده!!.. ده انا معرفتش أنام ساعتين على بعضهم!.
توقف صوت المياة فجأة، فـ تنهدت وهي تترك ثقل رأسها من جديد على الوسادة، وأطبقت جفونها وهي تتآوه بتألمٍ بالكاد شعرت به في أنحاء من عظامها :
– آه!.. منه لله هدّ حيلي.
دقيقة واحدة، وكان “حمزة” يخرج من دورة المياة مرتديًا ثيابهِ النظيفة. مسح الماء عن شعرهِ الفوضوي، ثم وقف أمام المشجب ليضع المنشفة، قبل أن يدنو من المرآة العريضة. فتح مجفف الشعر وبدأ يُخلص رأسه من برودة المياة المنعشة، فـ سرق ما بقى من عيناها من بقايا النعاس. همّت تعتدل من نومتها، واستندت على ركبتيها وهي تردف بـ :
– مش كنت تستني لما أصحى ياكوكي عشان تعمل كل الدوشة دي!!.. ده انا منمتش طول الليل بسببك!.
لم ينتبه لها، ولم يُعيرها أدنى اهتمام، فـ تلوت شفتيها بإنزعاج وغمغمت بـ :
– هو أطرش ولا إيه؟.
أغلق “حمزة” مجفف الشعر وتركه جانبًا، ثم بدأ يمشط شعره بشكلٍ متميز. ترك الفرشاة، أغلق زرّ القميص، تأكد من حزام الخصر، ثم مسح على بشرة وجههِ الحليقة حديثًا، والتفت ليقول دون النظر إليها :
– يلا عشان تنزلي معايا يابسبوسة.
قطبت جبينها بإستفهام، وتسائلت مرتابة :
– هو انا مش هقعد استناك هنا ولا إيه؟.
رفع بصره نحوها أخيرًا، بعد وقت طويل من التجاهل المتعمد، ثم ابتسم وهو يرد بثباتٍ غير متشكك :
– أكيد لأ.
ثقتهِ في الإجابة دفعتها لأن تسأل دون تروٍ أو تفكير :
– ليه؟؟ مش أنا بقيت مراتك و المفروض استناك هنا لحد ما ترجع؟.
كأنها نزعت فتيل قنبلة موقوتة، كانت تتأهب للإنفجار بأية لحظة. ارتكزت عيناه الثاقبة عليها، وحملت تعابيرهِ الغامضة معاني بثت الرعب في نفسها دون أن يتفوه بكلمة، فـ تداركت الأمر فورًا وعادت تُصحح خطأها فورًا :
– آ.. حت لو عرفي يعني، قصدي إني بقيت على ذمتك و……
– ششششش.
قطعت صوتها في الحال، ورأتهُ يخرج وثيقة الزواج العرفي من جيب بنطالهِ، مزق ورقة الزواج العرفي لـ قصقوصات صغيرة، ثم نثرها في الهواء وتلك الإبتسامة المُريبة تتراقص على محياه، وهتف بـ نبرةٍ أقرب للعدائية :
– كده خلاص، أنا معرفكيش، ولا كأني شوفتك ولا عرفتك.
كتمت شهقة متفاجئة من صنيعهِ المباغت، واتسعت أحداقها حينما كان يتابع حديثه العنيف، قاصدًا التحقير من شأنها، لئلا تنسى من تكون ومن أين أتى بها :
– أوعى تكوني نسيتي نفسك يابت!. مرات مين؟؟، أنتي مرات حمزة القرشي!!.. مش عشان ضربنا ورقتين عرفي في الضلمة تخلي أحلامك تسرح بيكي، أصحي.
سحب هاتفهِ وأشار لها كي تنهض :
– فزّي (أسرعي) قومي خلينا نخلص، أنا مش فاضيلك.
هرعت من مكانها وهي تستر عُريها بقطع من الثياب، بعدما رأت منه وجهًا مُظلمًا قد يحطّ عليها حطّ الكوابيس المرعبة، وسرعان ما دلفت لدورة المياة لتنفيذ أمرهِ. جلس “حمزة” على حافة الفراش، وغمغم بسخطٍ منزعج :
– قال إيه… مراتي !؟.
**********************************
تراكمت عليها الأعمال، بعدما تغيبت أمس عن عملها في مكتب المحاماة الخاص بـ “عناني الحكيم”، وحينما عادت، وجدت ما تركته قد تضاعف لملفات أخرى أكثر وأكبر. رفعت “سُلاف” تلك الملفات الغير مهمة سطح مكتبها، وخرجت كي تُلحقهم بالأرشيف الخاص بالمكتب، كي تتخلص من هذا التكدس المُزاحم على مكتبها، فـ تصادفت بـ أستاذها في طريقها يقول :
– عملتي إيه امبارح ياسُلاف؟؟.. خلصتي إجراءات جواز السفر اللي أخدتي عشانه أجازة ؟.
فـ أجابتهُ برسمية منضبطة :
– آه يامستر عناني، شكرًا لحضرتك.
فـ أشار نحو مكتبه وهو يقول :
– لما تخلصي عايزك في مكتبي.
فـ أومأت برأسها :
– حاضر.
استبقها نحو غرفتهِ، فلم تتأخر عن اللحاق به، مستشعرة بذلك وجود أمرٍ يهمها. أغلقت الباب كما أمرها، وجلست قبالته تسأل :
– خير يامستر عناني؟.
لم يدخر “عناني” سؤاله المرتاب، بعدما لاحظ بنفسهِ تبدل حالتها منذ يومان :
– عايز أسألك، ليه اعتذرتي عن القضية بتاعت أشرف مع إنها مضمونة ١٠٠٪.
برعت في إخفاء ذلك التوتر الذي تسلل لنواجذها، وبدت فاترة أكثر من اللازم وهي تجيب :
– مش عايزة أدخل قضية ممكن تكون تقيلة عليا وأنا لسه في بداية حياتي، أنا سمعت إن اللي ماسك القضية دي حد تقيل جدًا، تقريبًا صلاح القرشي!.
أومأ “عناني” رأسه بالإيجاب، وأصرّ على إظهار نقاط القوة مشيرًا لـ :
– آه هو، بس أنا قولتلك القضية مضمونة، الولد إبن النائب أتمسك متلبس، يعني القضية في جيبنا.
ابتسمت “سُلاف” بتكلفٍ، وقد منعت بصعوبة نفسها من أن تنفعل أو تخضع لغضبها الأهوج، الذي سرعان ما يتفشّى بكامل حواسها لمجرد ذكر “صلاح القرشي” أو ولدهِ أو أمرًا يخصهم، وأزالت خصلة انسالت على وجهها بالخطأ، لتقول بإصرارٍ لم يتزحزح عن مكانه :
– آسفة يافندم، أعفيني من القضية دي، في محامين كتير غيري وأفضل مني، أنا لسه متدربة.
لكنها واجهت إصرار مستميت من “عناني”، محاولًا إقناعها برأيه :
– بالعكس، أنتي أثبتي نفسك خلال فترة قصيرة جدًا، لكني مندهش من إصرارك المرة دي رغم بساطة الأمر.
نهض “عناني” عن مكانه متابعًا :
– صلاح من أقوى منافسينا ياسُلاف، وأنا حابب واحدة زيك في قوتك وذكائك تكون ضمن الفريق اللي جمبي، مش كفاية تكوني مجرد محامية في مكتب عناني، الأهم تكوني من الفريق الخاص بيا.. فهماني!.
وتابع توضيحاته بتصريح خطير للغاية، قلما اعترف به :
– هقولك حاجه مش كتير بقولها لأي حد.. صلاح أغلب طرقه شمال، وإبنه زيه.
دنى “عناني” منها، انحنى قليلًا عليها، وتابع مخفّضًا صوته قليلًا :
– إبنه طلع أوسخ منه كمان، عارفه التلميذ اللي بيغلب أستاذه؟؟.. ده بالظبط اللي حصل مع صلاح وإبنه.
انتصب “عناني” في وقفته، وختم حديثه عنهم بـ :
– حمزة ألعن في الشر من أبوه، على الأقل صلاح ليه حدود، إنما حمزة لأ.
تظللت عيناها بلمعانٍ متحفز، وكل مشاعرها المتقدة التي تخفيها لأعوامٍ طويلة كانت تتضاعف يومًا بعد يوم. أحست وكأن صدرها الذي حمل كل تلك المشاعر لسنوات لم يعد قادرًا على الصبر لأكثر من ذلك، كأنه يعلم أن الوقت قد حان للقاء، ولكي يدفع كُل مُدانٍ دينهِ.
***********************************
تنهدت وهي تترك مشروب الفاكهه جانبًا، وجلست باديًا على ملامحها التحيّر. نظرت نحو تلك السيدة التي تجاوزت الخمسون من عمرها، لكنك حين تنظر من هناك ترى سيدة لم تتعدّى الثلاثين، حافظت على لياقتها ونضارتها فـ بقيت گالغصن اليانع. ابتسمت “أسما” بتوددٍ وهي تسألها :
– مالك ياميان؟؟.. شكلك بيقول في حاجه عايزة تقوليها!.
داعبت “ميان” أظافرها الصناعية (أكليرك) وهي تسأل بترددٍ مختنق :
– هو حمزة حياته كلها ضايعة في الشغل كده ياطنط؟؟.. ده فاضل أيام على الفرح وهو حتى مش مكلف نفسه ييجي معايا نتفرج على القاعة بعد ما اتجهزت!.
بررت “أسما” انشغال ولدها الدائم بدفاعٍ مستميت :
– حمزة بـ يبني نفسه ياميان، وعمل أسم عظيم خلال فترة قصيرة، دورك تقفي جمبه وتدعميه، أكيد مش هيفضل جمبك طول الوقت.. ماانتي شايفة أونكل صلاح، على طول مش معايا وأنا عمري ما أيدتهُ ولا وقفت في طريقه زي الستات الزنانة.
استنكرت “ميان” مطلب “أسما” الغير مباشر بتحرير ولدها قليلًا :
– بس إحنا بنمر بفترة أهم حاجه فيها الإهتمام!.
قطبت “أسما” جبينها بغير رضا، وأردفت بـ :
– ده كلام تافه جدًا ياميان، كبري دماغك شوية وبلاش تنكدي على حمزة.. بلاش كمان تفضلي مكشرة كده لما ييجي!.
بدت حازمة بعض الشئ، وهي تلفت انتباهها لتجاعيد وجهها وثنايات بشرتها الحزينة، والتي لم ترق لها، فـ سرعان ما انتبهت “ميان” وتنازلت عن تلك التعابير والإيماءات الموحية، لتستمع إلى صوتهِ يأتي على مقربة منها :
– مـيان!.. وحـشتيني.
التفتت لتراه ينحني صوبها، يُقبل وجنتها قبل أن يردف بـ :
– كنت هكلمك حالًا.
ثم نظر لوالدتهِ :
– مساء الخير ياست الكل.
تبسمت “أسما” في وجهه :
– مساء الخير ياحبيبي، غير هدومك عقبال العشا ما يجهز.. ميان هتقعد معانا على العشا النهاردة.
– حالًا.
أسرع ليصعد إلى غرفته، كي يتخلص من تلك الأمسية التي أُجبر عليها، بينما كانت “أسما” تحثها على ضرورة التقرب منه، لئلا يحس فتورًا منها :
– قومي أسأليه عايز يشرب إيه بعد العشا، أنا مش هفهمك كل حاجه بنفسي ياميان، لازم تكوني أذكى من كده.
هزت “ميان” رأسها بتفهمٍ، ونهضت لتلحق به، حينما كانت “أسما” تنتقل للمطبخ، كي تعطي أوامرها للطباخ بتجهيز العشاء.
دخلت “ميان” غرفتهِ بعدما أذن لها، فـ وجدته بالفعل قد أنهى تبديل ملابسهِ خلال لحظات قليلة، تبعثر شعرهِ فـ شكلّ ملامحًا أخرى أكثر وسامة، ابتسمت مُطيلة النظر إليه، وعبرت عن إعجابها بـ :
– أول مرة أشوفك منعكش!.. شكلك حلو.
ضحك “حمزة” وهو يمسح على شعره بكلا كفيّه، ثم نظر إليها وهو يدنو ببطءٍ ماكر ليقول :
– مش حاجه جديدة عليا، أنا حلو في كل حالاتي.
طالت ذراعهِ خصرها، فـ شهقت فجأة وهو يجتذبها لصدرهِ، اضطربت مشاعرها وهي تحس بأصابع يده التي تلمس جلد ذراعها، واقشعرت مع استشعارها لملمس شفاهه على وجنتها :
– أنا صابر بالعافية، لو عليا أخلي الفرح دلوقتي مش بعد أسبوع.
ذمّت على شفتيها بتحرجٍ شديد، وهي تحس بسخونة هائلة تنبعث من حشاياها :
– حمزة آ… مينفعش كـ….
لم يوليها فرصة الرفض، قطعت شفاهه طريق لسانها، وأخرس صوتها بقُبلةٍ فريدةٍ سرقت شتاتها المضطرب، لتقع مستسلمة بطواعية كاملة، غارقة في حُب ذلك الرجل الذي تعشقهُ، ذائبة گذرة من السكر في الماء، ضاع أثرها وبقى حلو مذاقها.
************************************
مدفأة ضخمة قديمة للغاية، تعود لأزمنة قد ولّت ومضت، حتى إنها لم تعد متواجدة إلا بشكلٍ نادر. كان يجلس أمامها على مقعدهِ المتحرك، يُغطي نصفهِ السُفلى بغطاء أسود خفيف. عقله شاردًا بشكل ملفت للإنتباه، حتى إنه لم يشعر بقدومها إلا عندما وقفت أمامه، وحجبت عنه رؤية نيران المدفأة، فرفع بصره نحوها فجأة :
– سُلاف!.. جيتي أمتى؟.
– دلوقتي.. اتعشيت؟.
حرك المقعد خاصته ليتراجع للخلف، ثم أجاب بنفس الجمود المعتاد :
– مستنيكي.. عملتي إيه النهاردة؟.
كانت تعلم إلام يشير سؤاله بالتحديد، فأجابت عليه دون تطويل :
– رفضت القضية نهائيًا، أنا مش هغامر دلوقتي بظهوري قدام صلاح وإبنه.
تفهم “مصطفى” رغبتها، وأكد على صحة خطواتها التي تخطوها نحو ذلك المصير المجهول :
– صح، خليها تمشي زي ما اتفقنا.
استمعت لصوت نهنهه لرضيع يأتي من الداخل، فـ سألت على الفور :
– زين أخد الرضعة بتاعته؟.
فأجاب “مصطفى” وهو يقود مقعده نحو غرفته :
– آه.
أحست بشئ غير طبيعي به، فـ لحقت به ووقفت أمام مقعده، لتسأل بإسترابة :
– مالك ياعمي؟؟ فيك حاجه متغيرة؟.
كأن غليان صدره قد طفح على وجهه، فـ احمرت بشرته فجأة وهو يجيبها بصراحة مطلقة :
– مش قادر أتحمل، صبر السنين اللي فاتت كوم وصبر أيام كوم تاني ياسُلاف، قلبي بيتقطع جوايا كل يوم يابنتي!.
جلست أمامه القرفصاء، ووضعت كفها على كفهِ قائلة بتوعدٍ :
– كله هيمر ياعمي، اللي جاي إنتصار وبـس، عـهد عليا.. بس أصـبر عشان تيجي زي ما رسمتها.
تعالى صوت بكاء الصغير “زين”، فـ أنهى “مصطفى” ذلك الحوار مؤقتًا :
– شوفي إبنك وبعدين نكمل كلام، أنا مستنيكي في أوضتي.
فـ استقامت بوقفتها وأسرعت تدخل لصغيرها، كان يتحرك بعشوائية شديدة بداخل فراشهِ الصغير، وبكاءهِ لم يهدأ قطّ إلا بعد رؤيتها، بدأ يسكن رويدًا رويدًا، فتمكنت “سُلاف” من رؤية عيناه الحمراء ووجنتيه المتوهجة أثر البكاء، حملته لحُضنها، وضمت ذراعيها عليه برفقٍ ليّن وهي تهمس بـ :
– خلاص أهدا، أنا جيت خلاص.
سكن الرضيع بين ذراعيها، فـ مسحت الدموع عن وجهه الصغير وهي تبتسم له بحنانٍ لا يراه منها غيرهِ وحده، وهمست له بوعدٍ صادق :
– هانت يازين، كل حق هيترد لأصحابه، وأنت كمان لك حق هيجيلك.. مامي عمرها ما هتنسى حقك أبدًا، حتى لو كان تمن حـقك ده.. المـوت….
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية