رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل السادس و الثلاثون 36
“ولكُلٍ حسبتهِ، وعلى كُلٍ حسابهِ.”
_____________________________________
كان لقائًا حارًا، بقدر الأشواق التي يحملها الجميع إليها، دون السؤال أو الإستفسار أو حتى التشكيك، في تواجدها هنا بـ مِصر – وبمفردها -. ضمها “حمزة” في عناقٍ أخوي مشتاق، ثم أبعدها عنه قليلًا والبسمة المبتهجة تعلو ثغرهِ معبرًا عن شوقهِ الجارف إليها :
– وحشتيني أوي يا يسرا!.. مقولتليش إنك جاية كنت جيت بنفسي أستقبلكم.
هُنا انتبه “حمزة” لتواجدها وحيدة بينهم، فسألها بتلقائية شديدة :
– هو جوزك فين؟.
بُهت وجهها، وحلّ الصمت عليها بعدما كانت الفراشات تتطاير على قلبها المتفائل. ذلك السكوت جعل “أسما” ترتاب من أمرها، وتسألها مباشرة :
– أنتوا اتخانقتوا ولا إيه يا يسرا؟.
رفع “حمزة” رأس شقيقتهِ التي حنت فجأة، وقد تغيرت معالم وجهه كثيرًا وهو يسأل بجدية :
– في إيه يا يسرا؟؟.. ما تتكلمي.
ازدردت “يسرا” ريقها، قبل أن تدفع بذلك الخبر على مسامعهم على حين غُرة :
– أنا هربت.
صاحت “أسما” صيحةً مرتفعة، مستنكرة تصرف ابنتها المتهور والخطير :
– إيــــه!!.. هـربتـي؟..
أنزل “حمزة” يداه عنها، وابتعد للخلف خطوتين تعبيرًا عن استهجانهِ لموقفها :
– يعني إيه هربتي يا يسرا؟؟ حاتم ميعرفش إنك هنا؟؟.
تقلصت عضلات وجهها، وبدت حازمة بعض الشئ وهي تجيب بإندفاعٍ :
– لأ ميعرفش.. ولو مش عايزيني أكون هنا ممكن أمشي حالًا، لكن رجوع هناك مش هرجع.
أيقن “حمزة” أن الموقف متأزم بينهما، وأن المشكلة قد تكون تجاوزت الحدود المسموح بها، لاسيما وصولها لتلك الحالة المتعنتة – والتي تناقض شخصيتها السلسة اللينة -، فـ أرخى حبال الإستجواب قليلًا، علها ترتاح من رحلتها أولًا ثم البقيّة من الحديث آتيه :
– خلاص أهدي.. نتكلم لما ترتاحي.
ثم نظر لوالدته وهو يتابع :
– حتى مش لازم نقول لبابا إنك هربتي من حاتم، هنفهمه إنها زيارة عادية وخلاص.
لم ترضى “أسما” بذلك الوضع بتاتًا، خاصة إنها كانت من أنصار تلك الزيجة المُربحة :
– إزاي يعني يا حمزة!.. صلاح لازم يفهم عشان يحل المشكلة اللي بينهم.
– مش وقته يا ماما.. مش وقته خالص.
قالها وهو ينظر ناحية الباب الذي دلفت منه “سُلاف”، وبعيناه كان يرسل المغزى من السكوت الآن لوالدته، فـ تفهمت الأخيرة واعتنقت الصمت، نظرًا لتواجد غريبة بينهما. انتبهت “يسرا” لتلك التي تدخل بحرية هكذا، ومن خلفها رجلًا يدفع عربة أطفال، قطبت جبينها بإستغراب ، ونظرت حيال أخيها وهي تسأله بإستفهام :
– مين دي ياحمزة؟.
نصف ابتسامة ساخرة قفزت على محيا شقيقها، وهو يردف بـ :
– دي المصيبة اللي وقعت على راسنا كلنا.
فـ ظنت “يسرا” كل الظن في أبيها، وبذلك تفشّى الذعر على وجهها وهي تسأل :
– بابا أتجوز!.
كتمت “أسما” شهقة مفزوعة عقب تصوّر ابنتها المخيف :
– بس أسكتي، هو أبوكي يقدر يعمل كده!!.
كانت “سُلاف” قد قطعت المسافة إليهم، وتأملت الجميع بنظراتٍ مختطفة إلا هي، دققت فيها جيدًا وهي تقول بلطافةٍ مُبطنة بالخبث :
– مساء الخير.
لم يأتيها الرد سوى من “يسرا”، بل كان رد لطيف ممزوج بإبتسامة محببة :
– مساء النور.
نظرت “سُلاف” بإتجاه زوجها نظرةٍ ذات مغزى واضح وصريح، فـ تأفف “حمزة” وهو يتولى أمر تعريفهم ببعضهم البعض :
– دي يسرا أختي.
ثم نظر صوب شقيقتهِ وهو يقول على مضضٍ :
– دي سُلاف.. مراتي.
حدقت عينا “يسرا” بذهولٍ مصدوم، وهتفت متسائلة بغير تصديق :
– إنت اتجوزت من غير ما أعرف!؟.. طب ومـيان ؟؟!.
تداركت “يسرا” خطئها العفوي، وسرعان ما نظرت بطرفها نحو “سُلاف” وهي تعتذر :
– I’m sorry.
تجاوزت “سُلاف” ذلك الشقّ، ولم يعنيها الأمر برمّته، حتى إنها تأهبت لمغادرة جمعِهم :
– عادي.
مشت دون أن تهتم بتفسير أي شئ حول تواجدها هنا أو ظهورها في حياة شقيقها، تاركة الأمر كله لـ “حمزة” ، فـ ليحلّ أمورهِ بنفسهِ. صعدت ومن خلفها “عِبيد”، ومن خلفها علامة إستفهام ضخمة ومُحيرة، تتبعتهم “يسرا” وما زالت الصدمة آخذه كل حواسها، ثم تسائلت بفضولٍ شديد :
– إيه اللي بيحصل ده يا حمزة!!.. مراتك من أمتى وإزاي؟؟.. ومين اللي طلع وراها بسهولة كده ده!.
نفخ “حمزة” بإنزعاجٍ شديد، مستثقلًا فكرة شرح الأمر لها وتذكير نفسه بالورطة التي هو واقعًا فيها منذ أشهُرٍ، وفي الأخير اختصر لها حكائتهِ البائسة :
– مش بيقولو إن اللي بيعيشها بالطول والعرض في الآخر بياخد أكبر مقلب في حياته!!.
وتلوت شفتيهِ ممتعضًا في الأخير، وهو يصف كارثتهِ :
– أهي دي أكبر وأعظم مقلب في حياتي!!.
*************************************
بضع ساعات قليلة، فصلت بينها وبين الصبيحة المبكرة. لم تهتم بشئ سوى انقضاء ساعات النوم براحةٍ استعدادًا لليوم التالي، والذي سيكون مليئًا بالأحداث المثيرة التي ستستحق كل عنائها. ارتدت “سُلاف” ثيابًا كلاسيكية أنيقة، تغلب عليها لونها الأحمر المفضل، وتركت شعرها على أكتافها وظهرها ليتمايل معها كلما تحركت. تركت مكانها أمام منضدة الزينة بعدما وضعت بعضًا من مساحيق التجميل – لا سيما طلاء الشفاة الأحمر القاني -، وانتقلت نحو حقيبتها لتضع هاتفها به وتتناول مفاتيح سيارتها. هُنا دقّ أحدهم على الباب دقتين متتاليتين، فـ سمحت بالدخول وهي تتجه صوب دورة المياة :
– أدخل يا عِبيد.
دلفت دورة المياة، بللت يداها ثم خرجت على الفور وهي تقول :
– خد زين و……
تفاجئت بـ “يسرا” أمامها، تبتسم إليها بتملقٍ متودد، ضاعف ذلك من ذهولها بعدما ظنت الطارق “عِبيد”، فـ هي على يقين أن العائلة كلها تقتحم الغرفة دون استئذان مسبق، ولذلك سمحت بالدخول دون تشكك في هوية الطارق. مسحت بيداها المبتلتين على عنقها، حينما كانت “يسرا” تقول :
– صباح الخير يا سُلاف.
بادلتها “سُلاف” إبتسامتها بأخرى غير حقيقية، ولم تنبع أبدًا من أعماق مشاعرها :
– صباح النور.
نظرت “يسرا” بإتجاه الصغير، وقلبها المتشوق يتطلع لاحتضانه والتعرف عليه :
– هو ده إبن حمزة؟.
استشعرت “سُلاف” بعضًا من القلق والأنانية، كأنها لم ترد لأحدٍ أن يتعرف على طفلها أو يتبنى حُبه من تلك العائلة، فـ مضت نحو طفلها وحملته عن الفراش، ضمتهُ إليها وهي تجيب بشئ من الإقتضاب :
– آه.
دنت منها “يسرا” وهي تفتح إليها ذراعيها :
– طب هاتيه أشوفه.
ترددت في بادئ الأمر، محاولة ألا تبدي ذلك التردد المشتت على وجهها؛ لكن بالأخير رضخت لمطلب “يسرا”، ووضعت الرضيع بين يديها مراقبة إنفعالات “يسرا” العاطفية :
– أتفضلي.
هدهدتهُ “يسرا” بين ذراعيها بدفءٍ مُحبب، وتعمقت بعيناها في ملامحه معقبة :
– ده عسول خالص!.. واخد كتير من حمزة وهو صغير.
تلوت شفتي “سُلاف” بغير رضا، ونفت ذلك قائلة :
– مش أوي!.. هو واخد مني أنا أكتر.
ضحكت “يسرا” بعفويةٍ وهي تقنعها بعكس ذلك :
– إنني بس تلاقيكي مشوفتيش حمزة وهو صغير، هبقى أوريكي صورهُ بعدين.
حنت “يسرا” رأسها نحو الصغير، قبّلت جبهتهِ برقةٍ وسط عيون “سُلاف” المتعجبة لأمرها، ثم ناولتها إياه :
– مش هعطلك عشان شكلك نازله، لما ترجعي نتكلم مع بعض.
تغضن جبين “سُلاف” بإستغراب من تلك الحميمية الغير مبررة، ولأول مرة من أحد أفراد تلك العائلة السامّة؛ لكنها لم تعقب على ذلك، وأنهت الحوار بشكل تقليدي لعدم إطالة الأمر :
– طيب.
ربتت “يسرا” على ذراعها و :
-عن أذنك.
شاهدت “سُلاف” إنصرافها وهي في غاية الدهشة!.. غير مصدقة أن تلك الرقيقة الناعمة تنتمي لعائلة القُرشي، بل الأحرى إنها تحمل دمهم اللعين لكن قلبها بدا عليه النقاء السوي. تنهدت “سُلاف” وهي تضع الصغير في عربتهِ، لتراه قد بدأ يستيقظ من نومهِ للتو، فـ تكلمت وكأنها تُحدثه :
– في حد هنا ممكن يحبك، ويمكن تكون دي حاجه مخيفة بالنسبالي.
***************************************
ترأس “صلاح” مائدة الطعام على الفطور لأول مرة منذ فترة طويلة تجاوزت الشهرين، فقط من أجل أن يجلس برفقة “يسرا” التي ألحت عليهم برغبتها في تناول إفطار جماعي وصحي برفقة العائلة، لإشتياقها الجارف لتلك العادات المصرية التي افتقدتها بالآونة الأخيرة. سحب “حمزة” قطعة خبر ووضع عليها شريحة من لحم الرومي المُدخن، ثم قطع صغيرة من الزيتون الأخضر، ونهض عن المائدة وهو يقول :
– كان نفسي أكمل الفطار معاكم بس ورايا جلسة.
واختفى من بينهم خلال ثوانٍ معدودة، متجاهلًا نداء “يسرا” له :
– استنى ياحمزة!.
سكب “عطا” الشاي المُخمر أمام “أسما” حينما كانت تقول :
– سيبي أخوكي وراه شغل، لما يرجع اتكلموا براحتكم.
فتسائلت “يسرا” حول تلك الزيجة التي لم يفيدها أحد منهم حول تفاصيلها منذ الأمس :
– حمزة أتجوز سُلاف وخلف منها كمان أمتى؟؟.
ضحكة هازئة تراقصت على ثغر “صلاح”، وهو يختصر تلك الحكاية السخيفة بكلمتين :
– أخوكي غلط معاها وهي جت شايلة عيل في إيدها عشان يصلح غلطته.
شهقت “يسرا” بفزعٍ، غير مصدقة تطور خطأ گهذا لحدثٍ عظيم قلب العائلة كلها رأسًا على عقب :
– مـعقـول!!.
ألقت “أسما” بالشوكة على المائدة، غير راضية عن سماع تلك القصة التي تشعل النيران في مسامعها :
– أنا مش عايزة أسمع الكلام ده!.. عشان كده هقوم من هنا خالص!.
لم يكترث” صلاح” بزوجته كثيرًا، وتابع حديثه مع ابنته قائلًا :
– أمك لسه مش متقبلة إن ليها حفيد، حتى أخوكي مشافش الولد لحد دلوقتي.
ترك “صلاح” كوب الشاي خاصته وهو يهمس بـ :
– لازم كلنا نتقبل العيل ده يا يسرا، ده دمه دم القُرشي، أمه كده كده هنخلعها من وسطنا خالص، إنما الولد ده إبننا.. وده اللي عايزك تزرعيه في راس أمك.
حدقت “يسرا” فيه بتوجسٍ، وسألت بفضولٍ مضطرب :
– يعني إيه هتخلع أمه من وسطنا!!.
لم يبين” صلاح” أيًا من نواياه المُبيتة لـ “سُلاف”، وادخر ذلك لنفسه، خوفًا من تهور ابنته رقيقة القلب :
– أقصد يعني هي وأخوكي مش متفقين وممكن نخليها تسيب الولد وتمشي وتاخد اللي فيه النصيب.. وساعتها إبننا هيفضل معانا.
استنكرت “يسرا” تفكير والدها في أمر گهذا، معتبرة ذلك ضمن طائلة القسوة الغير مبررة تجاه أم :
– مش من حق حد يحرم أم من إبنها يابابا!.. الولد ده إبنها هي قبل ما يكون من نسل القرشي.
تغاضى “صلاح” عن أفكار ابنته وآرائها الغير مفضلة بالنسبة له، ولم يتجادل معها مُعتقدًا إنها ستقضي يومان العطلة وتغادر على الفور، فلن يحتاج لتبرير أيًا من تصرفاته وأفكاره المنحرفة :
– آه أكيد، المهم تكلمي أمك عشان تقبل حفيدها.. أنا غلبت معاها.
نهض “صلاح” عن جلسته و :
– أنا كنت عايز أقعد أتكلم معاكي لكن ورايا شغل كتير في المكتب.. لما أرجع نتكلم.
ختم عبارتهِ وهو يبرح قاعة الطعام، فـ بقيت هي بمفردها هنا، ويا حبذّا أن تنعم بذلك الشعور المريح في هذا المنزل، على الأقل لم تحن ساعة المواجهة بعد، وذلك ما جعلها هادئة بعض الشئ. تناولت هاتفها عن المائدة وبدأت في كتابة رسالة نصية، تراقصت ابتسامة مرتاحة على ثغرها حينما وجدته نشطًا على حساب التواصل الإجتماعي ويتحدث إليها عن مُجريات اليوم، وهذا الحوار الإفتراضي جعلها تُبشر بيومٍ سعيد، حتى إنها بدأت تُعد للقائهٌ أيضًا.
****************************************
كان هدفها الأول طمأنتها، أن تبث الهدوء في نفسها المضطربة وتنقل إليها أخبارًا سارّة حتمًا ستفيدها، ولكي تدعمها للوقوف بشموخٍ أمام النيابة وأمام هيئة المحكمة، وذلك كان له عليها تأثيرًا ساحرًا بالفعل. حررت “إبتسام” تنهيدة مرتاحة من صدرها، وكأن حجرًا قد سقط عن روحها فـ تنفست قليلًا، وسألتها غير مصدقة إحتمال إنها ستنجو :
– بجد ؟؟.. يعني مش هيعدموني ؟.
نفت “سُلاف” تخمين گهذا بكل ثقة :
– مستحيل، أنا هقدم الڤيديو ده للنيابة وهيترفق بملف القضية، ده الدليل اللي هيضمن لنا البراءة بجانب تقرير الطب الشرعي اللي أثبت تأذيكي من عنف المجني عليه وضربه ليكي.
ترقرقت الدموع من جفنيها بتأثرٍ، مستشعرة عناية الله التي حاوطتها وأنقذتها من الموت حرفيًا، كفكفت دمعها وهي تواجه بعض الشكوك التي مازالت تراودها لتُعكر عليها صفو تلك الأخبار السعيدة، فـ تسائلت من جديد وكأنها تخشى التأمل الفارغ :
– طب أحلفي، أحلفي إني مش هتعدم ولا هاخد مؤبد!.
ابتسمت “سُلاف” بتكلفٍ قبل أن تجيبها :
– والله مش هتتعدمي، ولا هتاخدي مؤبد.
مسحت “سُلاف” بلسانها على شفتيها، ثم قالت في ترددٍ محتار :
– بس في حاجه تخص دفاعي عنك لازم أقولك عليها، عشان متكونش مفاجأة ليكي.
توترت “إبتسام” بعض الشئ، وسألتها بتوجسٍ خشية أن تتخلى عنها” سُلاف”، بعدما كانت الوحيدة التي ساندتها وساعدت بشكلٍ كبير في إظهار برائتها :
– حاجه إيه ؟!.
***************************************
بالطبع شخص مثلهِ لا يترك عملهِ أبدًا للحظ، بل أن عيونهِ الكُثر في كل مكان لضمان أن يكون أول العالمين بأي أخبار تخصهُ. هذه هي الطريقة التي علم بها “صلاح القُرشي” بشكل غير قانوني عن ماهية البلاغ المُقدم ضده، وأن النيابة أصدرت قرارها بالفعل لبدء التحرّي حول الأمر قبل إتهام رجل بحجم “صلاح القُرشي”، وإقحام رأس الجميع في قضية تعويضات ضخمة سيكلفها لهم ذلك الطير الجارح. علم “صلاح” بشأن القضية التي أُعيد فتحها والنظر فيها، فـ بدأت الأجواء المريبة تأخذ مجراها في أقسام المكتب كلها، بعدما أثار “صلاح” ربكة غير مبررة من حوله ولم يفهم أي أحد ماذا أصابهُ حين غرة.
وصلت في الوقت المناسب تمامًا، كما أرادت بالضبط. استقبلت موظفة الإستقبال “سُلاف” وقد علمت بهويتها فور رؤيتها :
– أؤمري حضرتك، أساعدك إزاي؟.
نظرت “سُلاف” من حولها وهي تجيب بتلقائية متعمدة :
– عايزة أقابل حمايا.. آ… Sorry أقصد صلاح القُرشي.
تبسمت الموظفة بتكلفٍ وهي تسألها :
– هو عارف إن حضرتك جايه تقابليه؟.
– لأ، بس بلغيه إني هنا.
وقع ذلك المشهد أمام “راغب”، والذي صُدمّ بذهولٍ مع رؤيتها هنا، فـ لم يفوّت الأمر هكذا دون أن يتدخل، وهمّ نحوها متعجلًا وهو يسأل بشئ من التحقير :
– إنتي بتعملي إيه هنا؟؟؟.
بطرفها نظرت إليه نظرةٍ، وكأنه ذرّة من الغبار مرت، ثم وجهت حديثها للموظفة من جديد :
– أبقوا تحرّوا الدقة عن الموظفين قبل ما تشغلوهم، أول حاجه لازم يكون موظف عنده زوء عام.
تقلصت تعابير “راغب” بإمتعاضٍ كتمهُ، ودّ لو إنه يكسر رأسها الآن بتلك المزهرية الضخمة الموضوعة بالزاوية؛ لكنه تحكم في نفسه وهو يقول :
– أحسن ما أكون مـ ×××.
ضرب لفظهِ القاسي أعماقها، وجعل عيناها تُطلق شُررًا قد يحرق الأخضر واليابس، لأول مرة تعجز عن الرد، ولسانها يتحجر مصدومًا؛ لكنها لن تترك أمرًا گهذا دون رد، وفي لحظتها على الأقل. طالت يدها كأس الماء من على طاولة الموظفة، وبغتةً كانت تقذف الماء بوجهه في حركةٍ لم تكن متوقعة منها أبدًا، وهنا تداخلت أصوات الشهقات المتفّرقة، مما أكد إطلاع العديد من الموظفين على المشهد ومتابعتهم له. جمد “راغب” مكانهِ، غير مستوعب جرأتها الصادمة، تكاد عينيهِ تلتهمها بشراسةٍ فتّاكة، لولا تدخل الأمن بالفصل بينهما :
– مينفعش اللي بيحصل ده ياجماعة!.. المكتب فيه عملاء!.
ازدردت الموظفة ريقها بترقبٍ و :
– مستر صلاح معاه تليفون مهم!.
أصرفت “سُلاف” بصرها عنه أخيرًا، وهتفت بـ إصرارٍ قاطع :
– هيكون خلصه عقبال ما أوصل مكتبه.
ودون إنتظار ردّها كانت تشقّ طريقها فعليًا نحو السُلم القصير المؤدي للطابق العلوي، وقبل أن يمنع فرد الأمن طريقها كان “راغب” يتدخل بمنعهِ :
– سيبـها!.. سيبها تاخد نصيبها من الكبير.
والتفت “راغب” مبتعدًا عن مكانه بعدما شعر بإهانة شديدة، ليتفاجأ بنظرات الجميع المسلطة عليه، فـ صرخ فيهم بلا هوادة :
– في إيـــه!.. ما كل واحدة تتنيل تشوف اللي وراهـا!.
فرّت جميعهن من أمامهِ، حينما أوفض هو بالصعود لمكتبهِ، علّهُ ينسى تلك الإهانة الشنيعة التي لم يلقاها أبدًا في حياته.
في الوقت الذي كان “راغب” يختفي من أمام الأعين، كانت “سُلاف” تقتحم مكتب “صلاح” بلا سابق إنذار، مما دفعهُ لإبعاد الهاتف عن أذنهِ ليصيح بغضبهِ الأعمى فيها :
– إزاي تدخلي عليا كده!.
– عايزاك في موضوع مهم.. ميستناش.
لحقت بها السكرتيرة الخاصة، بعدما فشلت في إيقافها ومنعها من الدخول. وبدت آسفة للغاية وهي تحاول تبرير ما حدث فجأة:
– والله يافندم حاولت و……
هبّ “صلاح” واقفًا، وصدح صوتهِ المجنون :
– حسـابك معايا بس مش دلوقتي، بـرا.
انسحبت على الفور من بينهم حريصة على إغلاق الباب من خلفها، بينما أنهى “صلاح” مكالمته على عجالة :
– شوف حل وكلمني، أنا ورايا حوار هخلصه واكلمك.
وأغلق الهاتف، نظر بإتجاهها، وهو يدنو منها بخطواتٍ مندفعة، وصوتهِ المنفعل يكاد يهز الأرجاء هزًّا :
– إنتي زودتيها على الآخر.. أوعي تفتكري عشان اتجوزتي إبني غصب عن الكل إني هعديلك تصرفاتك معايا!.. تبقي متعرفنيش كويس يابت إنتي.
قبض على رسغها بعنفٍ، يكاد يُفجر عروق ذراعها من فرط اعتصارهِ، وهتف بنبرةٍ شعّ الغيظ منها :
– أنا لو عايز أسحقك هسحقك.. لولا إبني اللي صابر عليكي أنا كنت نهيت قصتك من أول يوم.
دفعت يدهِ عنها بكل قوة، فلم تجد منه مقاومة، بل ترك يدها وهو يتابع :
– أنا مش حمزة، حمزة عنده خُلق إنما أنا روحي في مناخيري.
تظاهرت وكأنها لم تعاني من أي مشاعر، رغم كل الغوغاء التي تعالت بصدرها. بدت له غاية في الهدوء والرزانة والثبات الإنفعالي المُهلك، وهي تقول بفتورٍ :
– أنا كنت جاية أساعدك، أديك براءة موقّعة مني في القضية اللي اتفتحت تاني.. بس الظاهر إنك مش محتاج.
گالسهم الذي أصاب سُمهِ مركز الجرح، تصلب عقلهِ بالكامل للحظات، حتى أدرك أن الأمر كله خرج من يديها هي، هي التي تسببت في هذه الكارثة، والآن أتت لتلوّح له. لم تترك له فرصة كي يتفوه بأي كلمة، وقطعت عليه تفكيرهِ وهي تسأله :
– ها؟.. هتسمعني ولا أمشي؟.
ضاقت المسافة ما بين حاجبيه، وهو يسأل بترقبٍ :
– إنتي عرفتي منين؟.
أجابتهُ بإبتسامةٍ خبيثة ، فـ أعاد صياغة سؤاله المتشكك :
– إنتي اللي وراها!.
أومأت رأسها بالإيجاب، قبل أن تدور حول مكتبه و :
– أيوة أنا.
سيطر الجنون على عقلهِ، وطاردتهُ فكرة مجنونة وخطيرة بالتخلص منها، خاصة وإنها بدأت تُشكل خطرًا حقيقيًا على الجميع :
– آه يابنت الـ ×××× ـة
استنكرت “سُلاف” ألفاظه البذيئة قائلة :
– لأ لأ لأ!.. ده أنا جاية أساعدك تقوم تقولي كده!.
ترأست المكتب، جلست على مقعدهِ في حركة متعمدة منها، وكأنها تُبلغه رسالة معينة، بأن ذلك المقعد لن يدوم له، وإنه سيكون لها يومًا ما. أشارت له كي يجلس، وهي تغريه للإستماع لها :
– أقعد يا حمايا.. إنت برضو جدّ زين وميرضنيش إبني يكون له جد سوابق.. أنا هديك دليل برائتك عشان لما تروح النيابة تروح مرتاح.. بس إسمعني.
لم يطاوعهُ كبريائهِ أن يجلس أمامها، بينما هي تترأس مكتبهِ بكل تبجحٍ وحرية، فظل واقفًا يستمع إليها بذهولٍ مسيطر عليه العجز في التفكير :
– كل حاجه وليها تمن.. وأنا هخرجك زي ما دخلتك، بس هتدفع التمن الأول.
صرخ “صلاح” بعدما فقد بقايا صبرهِ عليها :
– إخــلـصـي إتكلمي!..
– أنا أقدر أثبت إنك كنت في مكان تاني وقت الحادث.
ضحك هازئًا بفكرتها المبتدئة، وأصرف عيناه عنها وهو يقول بسخريةٍ واضحة :
– صحيح إنك تلميذة عناني!.. بس تلميذة فاشلة زي أستاذك!.
عادت عيناه الصارمة تزجرها بحزمٍ و :
– مين قالك إني مش عارف أثبت ده!.
لم تجد سوى مصارحته بالدليل القوي الذي تملكه، والذي بدورهِ تستطيع الزج به للسجن مباشرة، لعل غرورهِ ذلك ينكسر أمامها :
– ومين قالك إني مش هعرف أثبت العكس!.
قطب جبينهِ بدون أن يفهم مقصدها تحديدًا، فـ جلجلت ضحكتها قبل أن تستطرد :
– أنا معايا اللي يثبت إنك انت اللي عملتها.. إنت اللي سلطت الحرامي عشان يهجم على شقة موكلي ويسرق الدليل اللي كان هيسجن موكلك.
منع “صلاح” نفسه من تسريب أي إيحاء بالإرتباك أو التوتر إليها، ونفى عن نفسه ذلك فورًا :
– محصلش.
– حصل.. حصل والتسجيل عندي صوت وصورة.
كركرت ضحكتها السخيفة، والتي أوصلتهُ لذروة امتعاضهِ وهي تتابع :
– أصل الحرامي اللي انت أجرتُه ده راجل من رجالة كتير بيشتغلوا تحت أمري.
كانت صاعقة بالنسبة له، كارثة حقيقية، أن يقع أمره كله بيد تلك اللعينة، فيصبح بإمكانها أن تحرقهُ، تسجنهُ، تنهي مسيرته المهنية بالكامل. جلس في النهاية؛ لكنه جلس رغمًا عنه، بعدما شعر بجسدهِ يتراخى رويدًا رويدًا، وعيناه الحاقدة المحدقة عليه لا تتحرك، ولم يجد بُدًا من سؤالها السؤال الذي انتظرتهُ طويلًا :
– إنتي عايزة إيه بالظبط؟؟؟. واضح إن التمن اللي هتطلبيه غالي أوي!.
أومأت رأسها بالإيجاب، قبل أن تهتف بثقةٍ حازمة، وتعابيرٍ جامدة گالجليد :
– أوي.. أنا عايزة البيت.
كان حلقهِ قد جفّ تمامًا بعد جوابها، حتى عقلهِ عجز عن تقبّل التصديق :
– بيت إيه؟.
ابتسمت بوداعةٍ لا تليق أبدًا مع هذا الموقف، ولا تتماشى مع كل ما يجري بينهما الآن :
– بيتك يا حمايا.. البيت اللي لامم عيلة القُـرشي كلها!!..
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية