رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل الثامن و الخمسون 58
“ذكرى گالنار في الهشيم، لا الذكرى تُنسى، ولا الهشيم ينطفئ”
____________________________________
على بُعد مسافة معينة، استطاعت عيناه أن تلتقط سيارتها المصفوفة بالخارج، ورغم يقينهِ بإنها هي سيارتها، إلا أن الشك قد ترعرع في أغوارهِ، وبدأ ينكر تصديق ذلك، حتى انقطع الشك باليقين، ولمح “عِبيد” واقفًا بالداخل أمام البوابة، فـ طرد زفيرًا طويلًا من صدرهِ وهو يسترق النظر لغرفتها ذات الإضاءة المفتوحة، وعبر البوابة بعدما فتحها له الحارس، ليترك سيارته في منتصف الطريق ويترجل عنها، وتقدم بخطواتهِ نحو المنزل. مع أول خطوة يخطوها بالداخل كانت رائحة الطعام المشوي تفترس أنفهِ، وتضرب معدتهِ بالجوع بعدما تناسى أمر نفسه طوال اليوم. بحث عن مصدر الرائحة ليجدها قد تسربت من المطبخ، فـ خطى نحوه ليراها من الخارج جالسة على الطاولة وتتناول وجبتها ببطءٍ، تطفل بدخوله عليها، وتلك الإبتسامة الساخرة تلوح على مبسمهِ مستنكرًا :
– يعني رجعتي!!.
تركت الشوكة ثم التقطت الملعقة كي تدسها في كريمة الفِطر الساخنة، أثناء إجابتها الموجزة، التي ذكّرته فيها بملكيتها الحُرة في المنزل :
– ده بيتي.
صحح لها معلوماتها الواثقة للغاية قائلًا :
– انتي مجرد واصية على المالك.
ابتسمت بفتورٍ متعمد وهي تذكره بصفته هو أيضًا :
– وانت مجرد ضيف هنا.
نهضت تاركة خلفها الكثير من الطعام، ومسحت شفتيها بالمنديل الورقي وهي تسير في إتجاهه حينما سألها :
– الولد فين؟.
ملأت كأسها بالماء البارد و :
– مع الـ nanny بتاعته.
حزم صوتهِ معقبًا على هذا الأمر :
– تجيبيها تقعد بيه هنا، ده لو لسه عايزة تقعدي في البيت ده.
حانت من رأسها التفاته، بالكاد رأت وجههِ بها، وقبل أن تتمكن من الرد كان الجرس يقرع بالخارج، فـ أسرع “حمزة” بفتحهِ غير متوقع تلك الزيارة المُفاجئة، حتى إنه وقف في مكانهِ مترددًا لبعض الوقت، حينما أردف “صلاح” بـ :
– هفضل واقف عـ الباب كتير ولا إيه يا حمزة!.. ولا عشان البيت بقى بأسم ابنك آ….
أفسح “حمزة” الطريق أمامه وهو يسارع بالقول :
– إيه اللي بتقوله ده يا بابا!.. أنا بس اتفاجئت إنك جاي متأخر كده.
دلف “صلاح” وعيناه تُمشّط الوسط كله، حتى رآها تخرج من المطبخ ناظرة حيالهِ، وقفت بمكانها، حينما تقدمت منها خطوات صلاح، وسألها بفضول عن مصاب ذراعها المغلف بغلاف الحماية الأزرق :
– ماله دراعك؟.
لم تتحرك عيناها عنه، وهي تُجيب على مضض :
– حاجه مش مهمة بالنسبالك.
تلوت شفتيه بسخرية، ثم نظر حيال “حمزة” الواقف جواره وقال بتلميح صريح :
– أكيد حاجه ليها علاقة بالجرح اللي في بطن الأفندي التاني.
وزعت “سُلاف” نظراتها بين الأب وولدهِ، قبل أن تُقرر الإنسحاب من بينهم وتسلك الطريق نحو الأعلى، حينئذٍ كانت عينا “صلاح” تتأملها، لم يجد بينها وبين “حُورية” أدنى تشابه، لم تحتفظ بأي ملامح منها، على النقيض تمامًا، تشكلت تعابيرها بشكل يُقارب “إسماعيل”؛ ومع هذا لم يكشف هذا الشبه الضئيل يومًا. طال تحديقه في أثرها، مما زرع الريبة في نفس “حمزة”، ودفعه للتساؤل :
– في إيه يا بابا؟.
انتبه “صلاح” واستعاد تركيزه ليتحدث إلى ولده :
– عايزك بخصوص موضوع أختك.
تنهد “حمزة” وهو يدعوه للخروج من هنا، من أجل التحدث بإستفاضة أكبر من ذلك :
– تعالى نتكلم برا، أوضة المكتب فاضية ومش هينفع نقعد فيها.
خرج “صلاح” برفقة ولدهِ، ووقف في منتصف الحديقة يوجه نظرات مغزية نحو ولدهِ الوحيد، وكأنه يتعطش لفتح الحديث عن ذلك الأمر المؤرق الذي يخفيه عنه، ينظر إليه بنظراتٍ لمح فيها “حمزة” خيبة الأمل، حتى إنه تشكك في إنه قد يكون علم بشأن من يخفيه هو، فـ “صلاح” ليس برجلٍ سهل على الإطلاق، وإنما ورث عنه الدهاء الخبيث. حمحم “حمزة” وهو يخفي عيناه عن والدهِ، فـ سأله “صلاح” بوضوح :
– مالك ياحمزة، بتخبي عينك عني ليه؟؟.
تدارك “حمزة” تصرفه التلقائي على الفور، وعاد ينظر إليه بثقةٍ أكبر :
– أبدًا يا بابا، أنا مستني أسمع منك هتقول إيه عن حوار يسرا المرة دي.
فسأله “صلاح” مباشرة :
– لأ، نظرة عينك دي بتفكرني لما كنت بتعمل المصايب وتيجي تكذب عليا وتقولي معملتش.
حاول “حمزة” تغيير مسار الموضوع، لكي لا يُساق الأمر لما هو أكبر من ذلك :
– لو جاي تقولي يسرا مش هتطلق من حاتم فـ هضزر أعارضك وأقولك إني هطلقها منه غصب عن عينه.. ولو رفض هخلعها منه.. اللي حصل ملهوش غير رد واحد، أختي مش هتعيش مع النـ ×× ده.
– ولو قولتلك إن حياة يسرا مرهونة بـ وجودها مع حاتم!.
استشاط صدرهِ حتى بلغت حرارتهِ بشرة وجهه المتوهج، وهتف بـ عصبية مفرطة :
– اللي يلمس شعرة من يسرا هوسخ إيدي بدمه هو وأهله واحد واحد.
زفر “صلاح” بقنوط، محاولًا إيجاد الحل الجذري لتلك المعضلة، من أجل استخراج “يسرا” من ذمة ذلك اللعين بأقل خسائر ممكنة :
– أفهمني يا حمزة.. إحنا هنخليه يطلقها من غير تدخل مننا.. يسرا قادرة تكره حاتم في عيشته وتخليه يـ….
قاطعه “حمزة” بغير اقتناع، متجاهلًا ذلك الحل الضعيف الذي لن يُجدي نفعًا مع شخصية مثيل “حاتم” :
– ولا هيأثر فيه، هيخليها على ذمته عشان يذلها بس.. وكل اللي هو عايزه هيلاقيه برا عادي جدًا.. وانا مش هسمح بـ ده.
تجول “صلاح” بتوترٍ حول نفسه و :
– طريقتك دي هتخلي حاتم دماغه تعند أكتر يا حمزة.
لمح طيفها يمر من الردهه، فـ نظر بإتجاهها ليراها تستعد للخروج في هذه الساعة، فـ قطب جبينه وهو يردف مستنكرًا :
– مراتك رايحة فين دلوقتي؟؟.
التفتت رأس “حمزة” على الفور كي يراها، فإذا بها تستعد للخروج بالفعل، فـ سعى نحوها راكضًا وهو ينادي بـ :
– سُــلاف!.
وقفت عن السير والتفتت برأسها لتراهم مُقبلين عليها، فـ تنهدت بنفاذ صبر وانتظرت حتى وقف أمامها وسأل بـ حِدة :
– انتي رايحة فين؟؟.
ارتفع حاجبيها قليلًا مستنكرة سؤاله :
– يفرق معاك في إيه؟.
فـ تدخل “صلاح” بدوره قائلًا :
– يعني إيه يفرق في إيه؟؟.. انتي مراته ولازم يسألك!.
لم تُطيل الأمر وتخلصت من الإجابة لكي تنتهي تلك الأدوار التي تقمصها كلا زوجها وحماها :
– رايحة أقابل يسرا، مستنياني عشان نتكلم عن قضيتها.
انسكب الصمت في فمه، ولم ينطق حرفيًا واحدًا، بالرغم من رغبته الجامحة في الإهتمام بقضيتها بنفسه، بينما اعترض “صلاح” على ذلك الوضع و :
– إحنا مش عايزين ولا قضية ولا غيره، خرجي نفسك من الموضوع ده إحنا هنحله يا بنتي.
تخضبت بشرتها بالدماء، ونفرت عروق عيناها الجانبية، وهي تردف بنبرةٍ انبثقت منها الكراهيه الشديدة :
– أنا مـش بنتـــك، مـتقولـيش الكـلمة دي تانـي ولو كـان آخـر يوم في عـمرك.
وقف “حمزة” أمامها مباشرة، وعيناه تُطلقان شررًا حامية :
– أتـكلمي عدل مع أبـويـا يا سُلاف!.
فـ زجرته بنظراتٍ قاسية وهي تصيح بـ :
– لما أبوك يقول كلام عِدل هرد رد عِدل.
وانتقلت نظراتها البغيضة نحوه وهي تتابع :
– مبقاش ناقص غير واحد إيده مفيهاش غير الدم يقولي أنا كده!.
تحممت نظرات “حمزة” أكثر وأكثر، وتركها تتحرك من أمامه بدلًا من أن يرتكب معها حادثًا جديدًا، أما هو،.
ذلك الخبيث الذي تعمد من التلفظ بذلك النعت لكي يختبر حساسيتها منه هو شخصيًا، فـ بقى صامتًا مراقبًا لها، غير متفاجئ من رد فعل إنسانة أتت فقط من أجل الثأر منه ومن عائلته. التفت إليه “حمزة” ليرى ذلك الهدوء المريب في عينيه، فـ انتابه التوجس وهو يردف :
– أنا ليا تصرف معاها يا بابا بس أما آ…
– ولا تصرف ولا حاجه.. أنا ماشي والصبح نكمل كلام في المكتب عندي.
*************************************
إنه المكان الوحيد الذي يسعه، حينما تضيق الدنيا كلها بما رحبت، المكان الوحيد الذي يتنفس فيه، والذي يستطيع البوح بما يخفيه عن جميع العالمين. وقف “صلاح” أمام قبرها الذي يزوره منذ أعوامٍ طويلة، نظر للتراب الذي يضمها بين ذرّاتهِ، وتأمل الزرع الذي جفّ وذبُل، وما أن آلمته ساقهِ جلس على تلك المصطبة الرخامية، ليفيض بعدها بكل ما يجيش به صدره :
– فضلتي سنين بتحلمي بالخلفة والولاد، وانا اللي حرمتك منها لما جاتلك، ويوم ما خلفتي جيبتي بنت تبقى عدوة ليا!!.. ده مش عدل أبدًا يا حُورية!.
انقبض قلبه متألمًا، وتابع بصوتٍ مبحوح :
– مش كفاية حبيتي إسماعيل وأنا لأ؟!.. حتى لما مات سيبتيني وروحتي معاه، وانا اللي كنت مستني الفرصة اللي تكوني فيها ليا!.. ليه يا حُورية؟؟.
مسح على وجهه المتعرق بظهر يده، وزفر زفيرًا مختنقًا قبل أن يتابع :
– أنا كنت مستعد أعمل أكتر من كده بس تبقي عشاني!.. بس كنتي عنيدة حتى في الموت!.. واختارتي تموتي معاه على إنك تعيشي مع راجل كان بيعبد التراب اللي بتمشي عليه.
بدأ يستعيد رباطة جأشهِ، ويستغنى عن ذلك الضعف الذي ينتابه ما أن يُذكر اسمها، ثم نظر نحو القبر المجاور لها، والحقد جليًا في عينيه وهو يقول :
– بس دي مش بنتك لوحدك، لو كانت بنتك كنت هحطها في عيني، كنت هعوضها عن الحرمان اللي كنت السبب فيه؛ لكن دي بنت إسماعيل، وجاية عينها على روحي وروح ابني، وانا يا روح ما بعدك روح.
– أنا هسيبها تمشي، هخيرها تاخد اللي عايزاه وتنسى أي صلة بينا، لكن لو رفضت!!.. سامحيني يا حُورية، بنتك مش أغلى عندي من عيالي.
لقد مرّ دهرًا طويلًا، سنوات دعست بغبارها على روحه؛ لكنها أبدًا لم تُنسيه أيًا من جراحه، وإن تناسى نظر للأرض التي تعجز قدماه عن وطأها، فـ تصحو كل ذكرياته الأليمة. كان لرؤيته هنا الآن تأثيرًا سلبيًا على نفس “مصطفى”، بعدما منع نفسه من رؤيته لأعوامٍ مديدة، لكي يحتفظ بهيبة المقابلة الأولى بعد سنوات القحط والعِجاف؛ لكن شاءت الظروف عكس ذلك، وها هو يراه أمامه الآن، وفي مقبرة أخيه ضحية الغدر، مما دفع بالغيظ لأنحاء بدنه وعقله وأطرافه وكل شئ، وتدفقت الدماء بعروقهِ گتدفق النهر الثائر، والرغبة لإقتلاع روحهِ في ذروتها…..
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية