رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل التاسع و الستون 69
“ستأتيني بعد ندمٍ، و والله لن ينفعك حينها العويل.”
____________________________________
لم تشعر بنفسها إلا وقد امتلأت المنفضة ببقايا أعقاب سجائرها، مُنساقة خلف تآكل بالها وانشغال عقلها بما حدث في المنزل المجاور بين “يسرا” و “حمزة”. تناولت قداحتها على أمل إشعال سيجارة أخرى، فتفاجئت بإنتهاء العُلبة الثانية لها على التوالي، فـ ذمّت على شفتيها ونهضت كي تخرج من غرفتها الغارقة في الدخان، وترجلت على الدرجات وهي تنادي :
– عــبيد؟
لم يكن بعيدًا عنها، خرج من المطبخ يحمل كوبين من الماء البارد بشرائح الليمون، وأجابها أثناء المُضي نحوها :
– أنا هنا أهو.
– عايزة علبة سجاير، بتاعتي خلصت.
نظرات مشدوهه بعث بها إليها، قائلًا بنبرة مستنكرة :
– علبة إيه؟! أنا لسه جايبلك علبة من ساعتين بس!.. أنا طلبت أكل وزمانه جاي أحسن من كل الدخان ده.
ناولها كأس المياه قائلًا :
– أشربي أحسن.
بدأت ترتشف منه رشفات بجرعات كبيرة، بينما كان يتابع هو :
– يسرا سابت اخوها من شويه ومشيت، الشباب لسه مبلغيني.
لم ينحدر الكأس عن فمها إلا وهو فارغًا، وبنظرة ثاقبة كانت تُخمن إنه في الطريق إليها :
– يبقى هتلاقيه هنا بعد شويه.
حينها كان “عِبيد” يقرأ الرسالة التي أتته توًا، فـ ذمّ على شفتيه وهو يردف :
– هو فعلًا في طريقه على هنا.
ضحكت “سُلاف” ضحكة ساخرة وهي تناوله الكأس فارغًا :
– مفيش مرة يخيب ظني أبدًا.. أنا فوق يا عِبيد، أبقى سيبه يطلعلي.
وعادت تصعد للغرفة العلوية من جديد، مستعدة للقائه كي يُفرغ فيها غضبه گالعادة؛ لكنها قد أعدّت له خطابًا تأديبيًا عساه يتحمل سماعه حتى نهايته. فتحت النافذة ووقفت تنتظر رؤيته، لم يمر سوى دقيقتين تقريبًا وكان يمر من البوابة، وقبل أن يدخل كانت عيناه ترصدها وهي تراقبه، فـ بعث إليها نظرة فاترة ناقضت حجم الجحيم الناشب بين ضلوعهِ. أغلقت النافذة وغطتها بالستار، وجلست بأريحية وهي ترفع ساق على أخرى وعيناها على الباب حتى انفتح بغتة دون أي استئذان، وما أن دخل حتى اختنق صدره برائحة الدخان التي أغرقت الغرفة ولم تزُل بعد، فتقلصت تعابيره وهو يدفع الباب فأغلقه، وسألها مباشرة :
– عايزة إيه من ورا اللي بتعمليه؟ مالك انتي ومال يسرا؟
هزت كتفها وهي تجيبه :
– ولا حاجه، يسرا طلبت مساعدتي وأنا ساعدتها، طلبت تتكلم معاك على انفراد وانا سيبتكم، طلبت نصيحتي وانا اديتهالها، كل خطوة مني ليها كانت بطلب منها هي.
نبرته الصارمة وهو يأمرها، وتعابير الحزم في ملامحه تجلّت وهو يقول :
– شيلي نفسك من أي حاجه تخص الحوار ده.. مش بتاعك.
تلوت شفتيها مستهجنة ما يقول :
– يعني انت شيلت إيدك وأنا كمان أشيل إيدي!! والبنت المسكينة دي هيفضلها مين؟.. مش كفاية إنك أخت واحد معندوش إحساس زيك!
أنفجر صوته عاليًا بعدما أحس في لهجتها بوادر نُصرتها لها ولتصرفها الخائن :
– وانتي بقى جاي على هواكي أوي الحكاية مش كده؟ مش بعيد تدافعي عنها قدامي، ماانتي واحدة مـ××× وجيالي من الشارع، هستغرب ليه من بجاحتك و ×××××× وانتي بتدافعي عن الخيانة.
كلماته أثّرت عليها بشكل كبير، شكل لم تستطع هي السيطرة عليه حتى خرجت عن طور الهدوء ذلك وهي تضربه بسياط كلماتها :
– انت جاحد ومعندكش قلب، اللي يرمي أخته عشان غلطة غلطتها ويمسحها من حياته من غير حتى ما يسمعها يبقى واحد غبي زيك.
ضحك ساخرًا واللمعة المحتقنة تبرق في عيناه :
– لأ كنت خدتها في حضني وطبطبت عليها وقولتلها ولا يهمك يا حبيبتي مش كده!.
قبضت أصابعه على مرفقها وهزّها هزّة عنيفة وهو يصرّ على أسنانه بغيظ شديد :
– أسمعي يا بت انتي، قدامك يومين عشان تختفي من حياتي، خدتي اللي خدتيه وكسبتي زي ما كنتي عايزة، أكتر من كده قسمًا بالله ما هسمّي عليكي ولا انتي ولا شويه الكلاب اللي بتتحامي فيهم تحت.. اختفي أحسن تندمي يا سُلاف.
غرزت كعب حذائها في قدمهِ حتى آلمته، وتملصت من قبضته وهي تمارس عِنادها من جديد :
– لسه يا حمزة، لسه كتير عشان أقدر أقولك إني اكتفيت.
دفعها بغضبٍ ثائر حتى يُنهي الألم الذي تسلط على قدمه، فـ ترنحت گبداية سقوط على ظهرها، وقبل أن تسقط كانت تتشبث فيه كي يسقطا معًا، فوقع كلاهما على الأرض، لتنفجر ضحكة “سُلاف” التي أشعلت فتيل قُنبلة موقوتة، فـ لم يدري “حمزة” إلا وهو يمارس معها أسوأ أشكال الإهانة التي قد تحطّ گالنائبة على كرامتها. كادت تنهض لولا يداه التي اجتذبتها عنوة لتقع جواره من جديد، وبثقلهِ كله كان يثبت حركتها لينال منها بتوحشٍ لا ينتمي للرغبة، وإنما أراد أن يوجعها فـ سلط عليها غريزته الحيوانية كي يثأر لنفسه على الأقل. قاومته بكل ما أوتيت من قوة، وهو يطبع بصمات شفاههِ على وجهها وعنقها عنوة، حتى نجحت في الإنسحاب من أسفله وزحفت حتى بلغت الإبتعاد عنه، وأقرب ما كان ليدها كان كأس الماء الذي تناولته وقذفته كله في وجهه صائحة :
– حـــيــوان.
ضرب بساقهِ ساقها قبل أن يجذبها منها فتسقط من جديد، فـ صرخت صرخة صادحة مستغيثة :
– عـبيـد.
وقف “حمزة” ونزع عنه معطفه، ألقاه أرضًا وانحنى ليحملها بين يديه، بينما هي ترفصه مستخدمة قبضتيها وساقيها، ثم سار بها نحو دورة المياة دون أن يأبه بمحاولاتها الواهيه للتخلص منه. تركها في المسبح الصغير وفتح عليها الصنبور عن آخره بمياهه الباردة في هذا الجو الشتوي، ولم يترك لها فرصة كي تنهض بعدما ثبتها بكلتا يداه صائحًا في وجهها :
– تاني مرة متلعبيش بالميا لأحسن تغرقي يا شاطرة.
ابتعد عنها بعدما غرق هو أيضًا بالماء، وبخطوات متعجلة كان يبرح دورة المياه والغرفة كلها بعدما أخذ معطفه، ليُصادف “عِبيد” لدى الباب بحالته المزرية هذه، فـ حدق فيه “عِبيد” بعدما انتابه القلق، فـ هتف “حمزة” بإحتدامٍ :
– أدخل شوف اللي مشغلاك جوه متبحلقش فيا أنا.
كان “عِبيد” أسرع من لمحة البرق، ركض للداخل كي يطمئن على سلامتها، فـ رآها تخرج من دورة المياه منكمشة على نفسها من شدة البرد، وقد أصيبت بالغرق الكامل والشديد أثر فعلته الوحشية معها. اصطكت أسنانها وارتعش بدنها، فـ أسرع “عِبيد” يناولها غطاء مبطن ثقيل وغلفها به، ثم صاح بإنفعال :
– قولتلك ١٠٠ مرة مينفعش أسيبك مع الـ×××××× ده لوحدك مبتسمعيش كلامي وتنفذي اللي في راسك برضو.. مش هترتاحي غير لما أفتح راسه.
أمسكت به “سُلاف” قبل أن يتحرك للخروج، وبشرتها قد شحبت تمامًا :
– مش وقته يا عِبيد، هاتلي شنطة هدومي بسرعة أرجوك هموت من البرد.
خرج راكضًا لتلبية طلبها، فـ ظلت “سُلاف” متجمدة بمكانها وهي تهمس بصوت ضعيف متقطع :
– أصبر عليا يا حمزة، ده أنا هغرقك في الطين مش في الميا بس.
*************************************
كانت متوترة بدرجة كبيرة، لم تجلس في فراشها او ترتاح فيه حتى بضع دقائق، ما بين الذهاب والعودة من الغرفة لباحة المنزل لغرفة المكتب وحتى الشُرفة، لم تهدأ أبدًا، حتى لاحظ “صلاح” حالتها تلك بعد وقت طويل مضى ليسألها مرتابًا :
– في إيه يا أسما؟؟ مش طبعك يعني تفضلي رايحة جاية قلقانة كده!.. حصل إيه؟
ترددت “أسما” ما بين إخباره من عدم إخباره؛ لكنها وجدت نفسها في النهاية تبوح له بما يُضيّق عليها صدرها :
– يسرا، نزلت من بدري والساعة داخله على ٣ الفجر وهي مرجعتش.
زجرها “صلاح” بنظرة حازمة، وظهرت عليه بوادر الإنفعال وهو يهتف :
– ومين خلاها تنزل؟ أنا فاكرها كل ده في أوضتها!
وهرع نحو غرفتها عساه يجدها فيها، كآخر أملٍ قبيل أن يستشيط غضبه؛ لكنها كانت بالفعل فارغة تمامًا منها، فأحس بسخونة تتسلل عبر صدره وكأنها حُمم بركانية اندلعت فـ حرقت، وخرج مندفعًا وهو يهدر بصوته :
– يعني إيه يعني كل ده برا؟؟ اتصلي بأخوها شوفيها عنده ولا لأ.
– تليفونه مقفول مش عارفه أوصله.
– يـــعـــنـي إيــه ؟
استخدم هاتفه كي يُجري مكالمة هاتفية وهو في حالته العصبية تلك :
– أيوة يا راغب، أديني صاحبك.
تلك النبرة كانت كفيلة بزرع الفزع في نفس “راغب” الذي تبرأ من تواجد “حمزة” معه :
– أنا في البيت لوحدي والله حمزة مش معايا.. حصل حاجه ولا إيه!
لم يصدق “صلاح” تلك التي اعتبرها كذبة، وهو على يقين بتواجد “حمزة” أغلب الوقت -بل وكله أحيانًا- برفقة “راغب” :
– بقولك اديهوني عايزه في حاجه ضرورية.
– طب والله ما معايا ولا أعرف هو فين، فهمني بس آ…
قاطعه “صلاح” لإنهاء جدال لن ينفع بشئ :
– خلاص خلاص، مفيش حاجه، سلام.
وأغلق الهاتف متذمرًا :
– بس لما أشوف وشهم، محدش من عيالك مريحني الأتنين كأنهم معاندين معايا.
تناول مفاتيح سيارتهِ و :
– هلف كمان في الشوارع أدور على بنتي في أنصاص الليالي، ده اللي كان ناقصني.
خرج “صلاح” بعجالة بعدما تمكن القلق منه، وفي أعقابهِ كانت “أسما” تعدو ركضًا للحاق به، مُصرّة على ألا تتركه حتى تطمئن على ابنتها الوحيدة التي اختفت في ظروف غامضة، خشية أن تكون قد وقعت أسيرة اختطاف گالمرة السابقة.
***************************************
ارتدى ثيابًا ثقيلة، وحصّن مناعته -حسب ظنهِ- بتناول أقراص لعلاج أعراض البرد والأنفلونزا، بعدما أحس بسيلان أنفهِ وارتفاع طفيف في درجة حرارة جسده. أغلق “حمزة” سحاب الطاقم الرياضي الأسود الذي ارتداه، وتحرك بإتجاه النافذة لكي يغلق ستائرها فيمنع تسرب الإضاءة الصباحية لغرفته، فإذ به يرى “راغب” وهو يمر من بين حرس البوابة، لـ تتدفق الدماء في عروقهِ، وتثور ثائرته من جديد. انتفض “حمزة” وهو يوفض للأسفل، حتى لقاه خارج المنزل وصاح فيه :
– بتعمل إيه هنا يا خـاين؟
تقدم منه “راغب” بشجاعة غير قابلة للتردد وهو يقول :
– أنا مش جايلك ياحمزة، أنا حاس ليسرا، هي فيه خليها تيجي أقولها كلمتين.
دفعهُ “حمزة” بقوةٍ همجية، بعدما وصلت عصبيته لذروتها :
– يسرا مين اللي تقولها كلمتين يا روح أمك!.. لـيه وبأمارة إيـه ؟.
دفع “راغب” ذراعه عنه وقد بدأ يتخذ موقفًا معاديًا منه :
– أحترم نفسك يا حمزة، أنا لحد اللحظة دي لسه عامل حساب الصحوبية اللي بينا.
ضحك “حمزة” ساخرًا وهو يرمقه بنظرات مهينة و :
– لأ الواد أصيل أوي أوي، أنا جسمي قشعر من كتر التأثر.. حقيقي.
وأشار له نحو تجاه بوابة الخروج :
– يلا وريني خطوتك البهية على برا مش عايز أشوف وشك قصادي.
انفعل “راغب” بصورةٍ غير عادية، وهو يحاول الدخول للداخل بأي شكل :
– غصب عنك هشوفها، ولو عايز تقصر المجهود عليا وعلى نفسك ناديها.
لكز “حمزة” كتفهِ لكزةٍ مؤلمة وهو يمنعه الدخول :
– مش هــنــا، هي كمان متلزمنيش بعد اختارتك انت عننا.
– انت كــذاب.. يا يــــــســــرا!!.. أطــلـعـي كـلمينـي.
فقد “حمزة” آخر ما تبقى من صبره النافذ، فـ لكمهُ وتعدّى عليه بالضرب فاقدًا أعصابه بالكامل :
– آه يا و ××××××
لم يكن “راغب” أقل منه عدوانية، بل إنه كان أضعافه وحشية وهمجية، بعدما استدعى تلك الدوافع المتعصبة بداخله، وأحيا بداخل نفسه الأسباب الحقيقية التي جمعته به، فـ بدأ يسدد له ضربات جمّ مُوجعة، حتى انطرح كلاهما أرضًا وبدأت حرب قاسية شرسة، والحرس عاجزين عن التدخل بينهما. دحره “راغب” عنه وانتصب واقفًا، ثم صرخ في وجهه بعصبية كادت تُنهي حياتهِ أو على الأقل تؤدي لإنفجار في شرايين دماغه التي برزت بوضوحٍ :
– بقولك عـــارف إنــــهـــا عـنـدك وشايــف عربيتـها على الشـارع بـرا.
أسرع “راغب” بالدخول وهو ينادي :
– يسرا!.. يا يــــــســــرا ردي عـليـا انتـي بتـعملـي كـده لـيه!.
استقام “حمزة” في وقفته، مستشعرًا آلام متفرقة، وقد أذهلهُ ذلك الغباء الذي رآه من “راغب” أثناء مبادلته الضرب؛ ولكن ما استرعى انتباهه أكثر هو إصرار “راغب” على إنها هُنا، وإنه رأى سيارتها بالخارج، فـ ترك إشارة استفهام احتاجت لجوابٍ حاسم وقاطع. تعرج “حمزة” على ساقه وهو يخرج مسرعًا من حدود المنزل، متحسسًا وجههِ المتألم أثر الضرب، ثم نظر يمينه ويساره بحثًا عن سيارتها المصفوفة فلم يرى شيئًا. مشى أقصى اليمين فلم يلمحها، فعاد مرة أخرى ومشى نحو اليسار، فترآى له سيارة بالفعل مصفوفة خلف الشجرة الضخمة التي تُظلل عليها، اقترب منها بعجالةٍ وهو يتحسس ببصرهِ إن كانت هي أم لا، حتى تيقن من إنها سيارتها. دنى منها والقلق يتراقص على حواف قلبه، ونظر عبر النافذة المغلقة ليرى هاتفها وحقيبتها بداخل السيارة، أما هي.. فـلا أثـر لـها ولا دلـيـل…..
****************************************
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية