رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل الثالث و السبعون 73
“كُنتِ أخذتِ قلبي معك، بدلًا من أن تهجريهِ قتيـلًا.”
_____________________________________
خيوط رقيقة من إضاءة الشروق، بدأت تُنير الشُرفة لينبعث ذلك الطيف البرتقالي الناعم الدافئ. فتحت “سُلاف” عيناها ببطءٍ لتلمح الإضاءة الخافتة التي أنارت الغرفة، فـ استشعرت آلام بظهرها وكأنها غفت بوضعية خاطئة تسببت في تيبس عظامها. فـ تلوت من أجل تفكيك هذا التحجر الذي أصاب عضلاتها، فـ أحست ثقلًا يجثو على أنفاسها، فأخفضت بصرها نحو صدرها كي تتفاجأ برأسه النائمة عليه، مستكينًا هادئًا هدوءًا شديدًا، ذلك المشهد كان كفيلًا ليُفجعها، ليدب الذعر في بواطنها لتهبّ من نومتها على الأرض وهو ملتصقًا فيها هكذا؛ لكنها تحاملت لئلا تفعل ذلك، ولكي لا توقظه فيرى ما رأته هي. سحبت أنفاسها ببطءٍ حسيس، وكافحت بمجهودٍ مُضني أن تسحب نفسها من أسفله، انسحبت رويدًا رويدًا وهي تُبعد رأسه عن صدرها وتركتها أرضًا برفق، ثم سحبت ذراعها الأيسر من أسفله وبدأت تنتصب في وقفتها دون أن تثير أي صوت من حولها. تسحبت على أطراف أصابعها، وغادرت غرفته، فـ تنفست الصعداء حينئذٍ، ثم أسرعت نحو غرفتها وهي تتحسس ملابسها، لتكتشف دمائه التي جفت على كنزتها بالكامل، فـ تأففت بإنزعاجٍ وهي تنتزع ملابسها وتدلف لدورة المياة، واستخدمت الماء الساخن في إنعاش دورتها الدموية وتحفيزها، من أجل أن تبدأ يومًا عصيبًا آخر.
لم تمر سوى نصف الساعة، وكان “حمزة” يستعيد وعيهِ بعد ساعات قليلة من النوم العميق، شاعرًا بوخزات تضرب رأسه بإيلام. تقلصت تعابيره بحنق، واستند بمرفقيه على الأرض كي ينهض عنها، فـ تضاعف عليه الألم، خاصة ما شعوره بشئ ما يضغط على رأسه، فتحسسها ليجدها بالفعل مربوطة برباط طبي محكم، واقتاده الفضول للوقوف أمام المرآة كي يراها، فإذا ببقعة الدم التي تحولي للبني القاتم تنتصف الرباط. لم يذكر كثيرًا من تفاصيل ليلة أمس، گأنها مرت گالريح المُحملة بالغبار، وكل ما استعادته ذاكرته هو إنها غلفت رأسه بنفسها، بعدما طهرت جرحهِ ونظفته بالمحلول المعقم -بيتادين-، أما ثيابه التي تلوثت بدماءه ما زالت على جسده، فـ حرر الأزرار وأسرع بإنتزاع ملابسه وهو يخطو متعرجًا نحو الخزانة، متأثرًا بإندمال حطّ على ساقيه، وأسرع كي يفرغ مما يفعله ويخرج من هنا. أخيرًا نزع عن رأسه ذلك الرباط ونظر لجبهتهِ، فإذا بآثار الندوب متورمة بيّنة، فقذف الرباط وخرج من دورة المياة ليراها تدخل الغرفة في كامل أناقتها بالزيّ الأسود الرسمي، وشعرها معقودًا للخلف، دون أن تضيف على وجهها سوى تلك الطبقات الخافية للشحوب. تركت رباط طبي نظيف على الطاولة بجانب القطن والمحلول المعقم، وبجدية لازمت صوت هتفت بـ :
– ده بيتادين وقطن وشاش عشان تغير على دماغك.
استنكر تصرفًا إنسانيًا گهذا منها بسخرية :
– من أمتى الحدّاية بتحدّف كتاكيت؟!
رمقته بحِدة ردعته عن متابعة سخريته :
– ده من رحمتي، حاجه كده اللي زيك ميعرفهاش.
كان فظًا غليظًا وهو يجيبها :
– ومش عايز أعرفها، أطلعي برا.
أولاها ظهرهِ كي يسحب معطفه الأسود، وقرر الإنسحاب من هنا وهو يردف :
– ملهوش لزوم الأسود اللي لبساه وشويه الحزن اللي رسماهم في عنيكي، يسرا عمرها كانت حاجه بالنسبالك غير وسيلة كنتي بتضايقيني بيها، كفاية تمثيل عشان مش هستحملك.
مرّ من جوارها وخرج وهو يرتدي معطفهِ على الدرج، وأسرع بالخروج كي يجد “زيدان” في انتظاره بالخارج، فـ حدجه الأخير مذهولًا وهو يسأل :
– سلامتك إيه اللي في راسك ده ياابو البشوات؟؟.
تجاهل “حمزة” سؤاله :
– عرفت أبويا فين من امبارح ولا جايلي إيد ورا وإيد قدام ؟؟.
– مش هتصدق لو عرفت.. من ساعتها وهو في بيتهم مخرجش.
قطب “حمزة” جبينه مستهجنًا تصرف والده الغير طبيعي، وهمّ ليركب سيارته وهو يزمجر قائلًا :
– يعني إيه الكلام ده!! سايب بنته في المشرحة وهو في البيت بدل ما يسعى معايا نستلمها!..
فغمغم “زيدان” بهمسٍ :
– إيه العيلة دي!.. عندهم حُرمة الميت عادي كده وقاعدين في بيوتهم ومتشيكين وحاطين ريحة، ده انا مناخيري اتخرمت من الريحة الأبهه اللي حاططها.
بدأ “حمزة” قيادته بنصف عقل فقط، أما النصف الآخر فـ معها، أغرق نفسه عطرًا من ذلك العِطر السويسري الذي جلبته له “يسرا” وكانت تُحب أن تشم رائحته فيه، كأنه يستعيد لحظات من الماضي الذي سبقه وأقتنص روحها، هو لم يتقبل بعد حقيقة إنها غادرت بلا رجعة، وإنها ذهبت دون أن يسامحها، دون أن يعفو لها أثمها، ذهبت وسرقت منه راحة عقله وقلبه، كأنها أقسمت أن تجعله يذرف دمًا ودموعًا. مسح “حمزة” دموعهِ الصامتة التي تنساب على صدغيهِ، غير قادر على التحكم في ذلك الفيض الذي لم يتوقف منك أن اختلى بنفسه في سيارته، قلبهِ گالذي مُزق لأشلاء حتى ضاعت أجزاءهِ، شريدًا غير قابل للتجميع مرة أخرى، وكل ما يراه أمام عينيه صورتها البشعة التي رآها عليها في المشرحة، وكأنها حُفرت في ذهنه ولن ينساها ما حيا. وصل أمام منزل والدهِ، فـ ترك سيارته مصفوفة وصعد متعجلًا، طرق بعدوانية بينّة حتى فتح له الخادم “عطا”، فـ تجاوزه ليدخل وهو ينادي :
– بابا، بـابـا انت فين؟؟.
أتت “أسما” أثر صوتهِ مهرولة، وهتفت بصوت مرتفع :
– إيه ياحمزة طمني لقيت أختك؟.
وحتى والدته لم تعلم من الأمر شيئًا حتى الآن، لم يدري كيف يبلغها أمر گهذا أو يعطيها خبر قد يكون فيه موتها أكلينيكيًا، وفي النهاية كان قرارهِ دسّ الأمر عنها لبعض الوقت، على الأقل حتى يحين موعد استلام جثمانها بعد التشريح، فـ لفقّ أمرًا كي يتملص من حصار استجوابها :
– لسه يا ماما، لسه.. بابا فين ؟
زفرت بحنق وهي تتركه وتدخل لغرفتها، فـ تنهد “حمزة” وهو يبحث عنه بنفسه حتى وجده في غرفة مكتبه، فدخل إليه ليجده يتحدث في هاتفه :
– ماشي يا شافعي، هستناك ترد عليا.
أغلق المكالمة ونظر لولده بنظراتٍ مستنكرة وهو يهتف بـ :
– أخيرًا الباشا جه، من امبارح وانا عمال أدنّ “أبحث” عليها لوحدي وانت ولا انت هنا.
لم يستوعب “حمزة” أنا والده ما زال متأثرًا بالصدمة، حتى إنه لم يصدق حقيقة إنها ماتت حتى الآن، ويبحث عنها مستميتًا وكأنه سيجدها. تنفس “حمزة” بصوتٍ مسموع وأردف بـ :
– بابا، يسرا ماتت خلاص يا بابا.
تهجّم عليه “صلاح” وأطبق على قميصه بأصابعه وهو يهزّه هزًا عنيفًا :
– أخــرس، أخــتك عـايشـة وانا هـلاقـيها.
لم يتحمل “حمزة” ذلك الرفض المتعنت، فـ انفجر في وجه أبيه بصراخٍ هادر، امتزج بدموع القهر المكلومة التي عجز عن كتمانها :
– بقـولك مــاتت خــلاص، مـاتت ولــقـيــوا راســـهـا، ســامـعنـي، يـــســرا مـــاتت يا صــلاح !.
تصلبت “أسما” في مكانها دون حراك، بعد سماع تلك الحقيقة البشعة المميتة، گالحجر الذي بدأ يتفتت أثر ريحٍ عتيّ، بدأت قواها تخور بعدما تلقت أسوأ خبر في حياتها كلها، وتمكن العجز من أطرافها قبل أن تنهار ساقيها لتسقط أرضًا، فـ لفتت انتباههم لتواجدها بعدما غفلوا عن ذلك، وبسرعة البرق كان “حمزة” يلحق بها.
***************************************
تبادل “نضال” و “سُلاف” النظرات بعضهم لبعض، قبل أن ينظروا صوب “مصطفى” الذي كان يتحدث في هاتفه، وما أن أنهى مكالمته أردف :
– زمان الڤيديو وصل لأيد وكيل النيابة، النهاردة راغب هيبات في بيته ان شاء الله.
ذمّت “سُلاف” على شفتيها بضيقٍ، وسألته مباشرة :
– من أمتى وانت بتراقب يسرا يا عمي؟؟
– من ساعة ما عرفت إن ابني ضعف وحبها، كان لازم عيني تكون عليها.
لحظات من الصمت المريب، قبل أن تسأل سؤالها المتشكك :
– انت اللي بعت صور راغب ويسرا لحمزة يا عمي مش كده؟؟
ازدرد “نضال” ريقه وعيناه تسقط أرضًا، حينما أجاب “مصطفى” بنفس الصراحة :
– آه أنا.
هبّت “سُلاف” من مكانها واقفة وهي تصيح بإنفعال لم تستطع السيطرة عليه :
– ليه يا عمي؟؟ لـيه كده!
فهدر “مصطفى” قائلًا :
– أنا مش هسمح نسبي يختلط بالأنجاس دول.
دافعت “سُلاف” عن تلك البريئة عن عائلتها دفاعًا مستميتًا :
– يسرا مش زي أبوها وأخوها يا عمي.. يسرا كانت بتحب راغب فعلًا.
لم يحبذ “مصطفى” ذلك الدفاع الغير مبرر، وفضّل الإعتراف بالحقيقة المهينة :
– طبع الغدر بيجري في دمها زي أبوها بالظبط، خانت جوزها مع ابني.. دي أنا مدخلهاش بيتي ولا تبقى مرات ابني لو آخر يوم في عمري.
وقبل أن تستكمل “سُلاف” وصلة دفاعها كان “مصطفى” يستوقفها متابعًا :
– اسمعي يا سُلاف، إحنا صحاب حق يا بنتي، دخلنا بينهم عشان ناخد حقنا ونشفي غليلنا وبس.. أي حاجه تانية ممنوعة.
طرقت “أم علي” الباب فـ سمح لها “مصطفى” بالدخول، دلفت وفي يدها “زين”، وقبل أن تناوله لها كانت “سُلاف” تمدّ ذراعيها لتاخذه بين أحضانها، ربتت عليه قبل أن تُقبّله، فسألها “مصطفى” مرتابًا :
– انتي ناوية تعملي إيه مع زين يا سُلاف؟
تحولت نظراتها لموقف دفاعي على الفور، وقبل أن يفكر “مصطفى” في تجريدها من طفلها الذي تبنتّه أعلنت موقفها الحاسم :
– زين ده ابني انا واتولد على إيدي، مش هفرط فيه لو فيها روحي ياعمي.
شبك “مصطفى” أصابعه معًا وهو يحاورها برزانة :
– أنا معنديش مانع تربي القُرشي الصغير يا سُلاف، بس لو أبوه متخلاش عنه!!.. هتعملي إيه؟.
فـ هدرت “سُلاف” بإندفاع دون تروٍ أو تفكير :
– مش هيحصل، حمزة فقد الحق ده لما رفض يعترف بإبنه من الأول، دلوقتي ملهوش حق فيه ولا هياخده من حضني.
واستدارت لتبرح ذلك التجمع العائلي الذي انتهى بنهاية لم ترضاها، غير راضية عن التفكير في مصير الصغير حال إنهاء ما بدأو به من رحلة انتقام دامت لسنوات، بينما “مصطفى” يظن عكس ما ظنت هي، لن يترك “حمزة” طفله لها، حتى وإن كان يبغضه، لن يتركها تهنأ بهذا الظفر تحت أي ظرف، وحينها ستبدأ بينهما جولة جديدة أكثر شراسة.
****************************************
اتطلعت النيابة على الدليل الجديد الذي وصل إليها، مقطع ڤيديو حي وصريح يوضح مقتل “يسرا” وعملية ذبحها كاملة على يد أثنين من الرجال، أحدهم تم الكشف عن وجهه في المقطع وتعرف عليه وكيل النيابة شخصيًا، حيث إنه أحد مُسجلي الخطر الذي تم رصده مسبقًا في أكثر من قضية، وحُكم عليه بالإعدام شنقًا، وهو الآن هارب من تنفيذ حكم العدالة. بجانب إثبات كسر في باب شُقة “راغب” وذلك أكد دخول غريب لمنزله، وإيجاد بصمات لا تعود له على الصندوق الخشبي. خرج “راغب” من سراي النيابة بعدما أنهى كافة الإجراءات القانونية وقد تم الإفراج عنه بموجب ما أُثبت لصالحه. خرج “راغب” ليجد “عِبيد” في انتظاره بالخارج، فـ مشى نحوه دون أن يهاب أي شئ، دون أن يفكر حتى في التدابير الإحترازية التي عاشوا يتقنوها لأعوام، وأول ما سأل عنه :
– يسرا اتدفنت ولا لسه؟؟
– أخوها بعت فتح المدفن الصبح وزمانه في المشرحة عشان يستلمها.
– وديني على هناك.
****************************************
إنها واحدة من أقسى المشاعر على الإطلاق، أن تنتظر نعش إنسان كان يومًا قطعة حية منك، والآن قد فارقت روحه الحياة مخترقة السماوات السبع. كم كابد العناء لكي يبدو بهذه الصلابة، والتي تُكلفه أضعافًا مضاعفة حين يترك نفسه للإنهيار بعدها؛ لكنه مجبر على ذلك، على الأقل أمام والده الذي لم يقل عنه في تجسيد دورٍ زائف. خرج نعشها أمام ناظريه فـ ارتجف بدنهِ كله، حتى مرّ النعش من جوارهِ ووضعوه في سيارة الموتى. جمد “حمزة” في محلّه غير قادر على الحراك، بينما أخرج “صلاح” بضع ورقات نقدية تركها لهم، وسار مُضيًا نحو السيارة كي يقودها من خلفهم، بينما “حمزة” في مكانه، عينه لم تترك النظر للسيارة التي تحملها، حتى صدرت أبواق سيارة والده المزعجة، فـ انتبه على الفور وأسرع لكي يلحق بسيارته هو أيضًا، متجهين نحو مقابر العائلة من أجل دفنها، بعدما رفض “حمزة” إبلاغ أي شخص من العائلة أو نشر الخبر بين المعارف، لم يُرد حتى أخذ التعزية فيها، حتى لا تتكاثر حولها الأسئلة والإستفسارات، عن كيفية وقوع الحادث لها وما إلى غير ذلك، فـ يثير الشُبهات ضد شقيقته المتوفاه؛ ولكن وسائل الإعلام كان لها رأي آخر، فـ بمجرد خروج جثمانها من المشرحة كانت الأخبار تُمطر گالسيول على كافة المواقع، كونها حادثة بشعة مريعة ستجلب آلاف المشاهدات والمتابعات والتعليقات.
وصل سيارة نقل الموتى أمام المدفن، حيث كان (التربي) ومساعديه في انتظارهم، وعلى الجانب الآخر كانت سيارة “سُلاف” مصطفة، مرّ “حمزة” بجانبها وقد لاحظ وجودها ولم يكترث، وترجل عن سيارته مهرولًا نحو سيارة الموتى لئلا يحملها أحدًا غيره. استقبل التربي نعشها وحمله للداخل برفقة “حمزة” و “صلاح”، ثم تركوه أرضًا وقد أوصى “حمزة” بإبتعاد الجميع :
– أتفضل انت ياابو حسن.
تراجع التربي للخلف تاركًا لهم مساحة من الخصوصية، بينما حضر قُراء القُرآن من الكين يتوافدون على القبور للقراءة على الميت والدعاء له مقابل تصدق أهل المتوفي، وبدأوا يرتلون آيات القُرآن الكريم :
”وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي* فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ* يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي*“
كانت هيبة شديدة، وهو أضعف من أن يتحملها، حملها بين يديهِ لئلا يمسّها غريب، فـ عاونه “صلاح” والدموع تهطّل بغزارةٍ على وجنتيه، خاصة حينما أحس بيدهِ انفصال الرأس عن الجسد في كفنها، والذي تبين بوضوحٍ أثناء حملها. وهبطا بها أسفل الأرض، حيث مكان عودة كل البشر، تناولها “حمزة” منه دون أن يترك والده ينزل معه بعدما تدهورت حالته المنهارة، وبدأ يضعها في مكانها وأطرافه كلها ترتجف، حتى شفتيه وأسنانه التي تصطك بعضها البعض، تحشرج صوته الباكي وهو يحلّ وثاق كفنها، وخرج أنينه موجوعًا وهو يهمس لها :
– أنا آسـف.. سامحينـي ، آسـف يا يـسرا.
رفع ذراعه عنها وأراد لو يرى وجهها لمرة واحدة، مرة واحدة قبل يتركها للأبد؛ لكن قلبه لم يطاوعه لكشف الساتر، فيرى مالا يستطيع تحمله. تحامل على نفسه ليقف، وقبل أن ينظر إليها لمح ذلك الظل الواقف أمامه مباشرة، فرفع عيناه الغارقة في الدموع ليراها هي واقفة قبالته، بنفسها وجسدها ووجهها، تقف وكأن روحها بُعثت في جسدها من جديد. كانت تبكي بحرقة وهي تنظر إليه بعتابٍ، فـ دبّ الذعر في أوصاله، وابيضت بشرتهِ بشحوبٍ واضح، وجحظت عيناه عن آخرها وهو يهمس بخوفٍ شديد :
– بسم ا.. ا.. الله الـ… الرحمـن الرحـ… يـم!. سلام قولاً من ربٍ رحًيم.
ركضً للخروج من هنا بأقصى قوة لديه، فرارًا من رؤية شبحها الذي ظهر له وهو في أسوأ حالاته، صعد من المقبرة وكل ملابسه ملوثة بالتراب، ومنها ركض ركضًا هرعًا للخارج دون أن يتحدث لأي أحد، جليًا عليه تعابير الفزع الشديد. راقبه الجميع بذهول حتى “سُلاف”، التي لم تجد مبررًا لحالته تلك سوى إنه رأى شيئًا عظيمًا. تتبعته عيناها بفضول وهو تهمس :
– إيه اللي جرالك يا حمزة!.
غطت عيناها بالنظارة السوداء الضخمة، وخرجت بسرعة كي تستقل سيارتها وتغادر من هنا لحاقًا به، بعدما تمكّن القلق من عقلها، خاصة وإنها تعرفه جيدًا، ليس هينًا أو سهلًا عليها أن تراه في حالٍ گهذا.
***************************************
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية